كل شيء يصبح ضربًا من ضروب الخيال العلمي
المكان: حياتكِ.
الزمان: بعد بضعة عقود من الآن.
… حتى في المستقبل، يظل الاستيقاظ من النوم في الصباح أمرًا صعبًا.
تهب رائحة مافن التوت البري الطازجة المصنوعة من دقيق القمح الكامل من طابعة الطعام الموجودة في المطبخ. سُوِّقَت خراطيش هذه الطابعة التي تستطيع صناعة هذا المافن العضوي قليل السكر على أنها من المنتجات الكمالية، ونُزِّلَت الوصفات من صفحات العديد من الخبازين الماهرين البارزين التابعين لمطاعم ومنتجعات شهيرة.
في أول مرة عَرضْتِ طابعة الطعام على جدكِ، ظن أنها ماكينة أوتوماتيكية لصناعة الخبز؛ وهي جهاز يعود لثمانينيات القرن العشرين غزا مطابخ محبي الأكل على نحو كبير. ولم يقدِر على فهم لماذا تريدين الحصول على طعام معالَج باستخدام طابعة ثلاثية الأبعاد، إلى أن حان وقت الاحتفال السنوي بذكرى زواجه. وللاحتفال بهذه المناسبة، اشتريتِ خراطيش الطعام الفاخرة الباهظة الثمن، وطبعتِ لجدك وجدتك عشاءً احتفاليًّا من شرائح لحم التونة الطازجة، والكسكسي، وكعكة كريمة دوارة مصنوعة من الشكولاتة والموكا وتوت العُلَّيق، التي تختلف كل شريحة فيها عن الأخرى.
أصبحت السيطرة على مرض السكر أكثر سهولة منذ أن حَدَّثت شركة التأمين الصحي طابعة الطعام خاصتك لطراز طبي عالي الجودة؛ حيث تتلقى طابعات الطعام الطبية الجديدة الخاصة بمرضى السكر تدفقات من الإشارات اللاسلكية من جهاز صغير مزروع تحت جلدك يتتبع قراءات مستوى السكر في دمك. وعندما تستيقظ في الصباح، تتلقى الطابعة أول قراءة في الصباح وتضبط كَمِّيَّة السكر والتوازن الغذائي في طعام الإفطار المعَد رقميًّا طبقًا لهذه القراءة.
بعد الانتهاء من الإفطار، حان وقت تفقُّد الأخبار. وأهم خبر هو تحديث بشأن عملية إنقاذ للعديد من عمال المناجم الذين علِقوا تحت الأرض لأسبوع كامل بسبب انهيار نفق المنجم؛ مما تركهم في أعماقه. في البداية، حاولت فرق الإنقاذ إخراجهم عن طريق الحفر، لكنهم كادوا يتسببون في حدوث انهيار مميت للأنقاض.
لحسن الحظ فإن الشركة القائمة على المنجم اتبعت تعليمات السلامة الفيدرالية، وأتاحت لعمال المنجم معدات السلامة المتعارَف عليها. تُعتبر الطابعات الثلاثية الأبعاد الخاصة بالسلامة من الأدوات المعيارية التي يحملها عمال المناجم معهم لأنفاق المناجم العميقة. وقبل نزول العمال إلى نفق المنجم، يتأكد الفنيون أن كل طابعة حدَّثت ملفات التصميمات لكل جزء آلة من الضروري وجوده داخل المنجم. وتهبط الطابعة الثلاثية الأبعاد مع الآلات الأخرى تحسبًا لتعطل أي جزء من الآلات والاحتياج إلى تغييره بنحو سريع تحت الأرض.
تفيد أنباء اليوم عن كارثة المنجم أن طابعة السلامة المحمولة تحولت لبطل غير متوقع؛ فلعدة أيام، كان العمال العالقون تحت الأرض يتحدثون مع التقنيين على السطح من خلال وصلة لاسلكية ضعيفة؛ حيث يعمل كلا الفريقين معًا لتحسين مخططات التصميم الخاصة بالطابعة للأجزاء البديلة.
لكن عملية الإنقاذ التي كان من المفترض أن تكون قصيرة وقياسية أصبحت أكثر تعقيدًا؛ فطباعة بعض الأجزاء البديلة أمرٌ سهل، لكن السبب في تأخر مجهودات الإنقاذ هو أن تصميمات الأجزاء المعطَّلة أخذت تنبعج بعد تركيبها بسبب مستويات الرطوبة العالية غير المتوقعة داخل نفق المنجم.
لكن الأنباء السارة هي أن الموقف داخل المنجم يبدو أفضل اليوم؛ حيث يذكر المراسل أن المحاولة الثالثة لطباعة الأجزاء البديلة تخطت اختبارات التحمل تحت ظروف تحاكي الظروف داخلَ المنجم، وذلك في مقر الشركة القائمة على المنجم. وسيَطبع عمال المنجم اليومَ التصميمَ المُحدَّث تحت الأرض، وإذا نجح هذا، فسيبدءون إعادة بناء الآلة المعطوبة الليلة.
بينما تغادرين منزلكِ متوجهة للعمل، ترين رافعة وعاملَ بناءٍ وحيدًا يعمل في جهد وصمت في قطعة أرض خالية على الجانب الآخر من الشارع. الحي كله يتحدث عن مشروع جارك لبناء بيته؛ فمنذ بضعة أسابيع مضت، هدم جارك بيته الخشبي ذا الطراز العتيق لبناء بيت جديد فخم صديق للبيئة.
يلوِّح جارك لكِ بيديه من عند صندوق البريد، ويُريكِ الكُتيِّب التسويقي الذي يُظهِر أن المنزل الجديد نموذج فاخر من شركة تُدعى فوم هوم، وسيكتمل بناؤه في غضون أسبوعين. يوضح كتالوج فوم هوم أن حوائط المنزل ستُزود بمستشعرات داخلية للطقس. أما السقف، الذي سيوضع فوق المنزل في نهاية عملية البناء، فسيحتوي على ألواح للطاقة الشمسية، كما ستحتوي الحوائط على الأسلاك الكهربائية والمواسير النُّحاسية على نحو مسبق.
تراقبين أنت وجارك رافعة البناء وهي تُحرِّك ببطء فوهة ضخمة تقبع فوق الأساس الجديد للمنزل. هذه الفوهة تمسح المكان وتضبط المخطط الأساسي، وفي نفس الوقت تُخرج خليطًا مصنوعًا من الأسمنت وبعض مواد البناء الاصطناعية. تتمثل مَهمة عامل البناء في التأكد من أن أحدًا لا يمشي فوق الموقع خلال عملية البناء، والعقل المحرك لهذه المعَدات هو كمبيوتر صغير موصَّل برافعة البناء، يوجِّه عملية بناء المنزل.
يتابع الحي مشروع بناء منزل فوم هوم باهتمام شديد، بينما تُقام حوائط المنزل ببطء. هل تتذكر الطُّرفة القديمة التي أُطلقت في الأيام الأولى لأَتْمَتَةِ المصانع التي تقول: «كل ما تحتاج إليه هذه الأيام لتشغيل مصنع هو رجل وكلب؛ الرجل لإطعام الكلب والكلب لعض الرجل إذا ما حاول لمس أي شيء»؟
حتى الآن، فإن المنزل الذي يكتمل ببطء يبدو رائعًا؛ فحوائطه منحنية في أنماط متناسقة وبها تجاويف وتقوسات عذبة المنظر. لا يمكن لأحد بناء منزل كهذا بالإطارات الخشبية، مهما كان عدد العاملين في موقع البناء. لم يَرَ أحدٌ بعدُ الجزءَ الداخلي من المنزل الجديد لكن الشائعات تقول إن جارك طلب حوائط داخلية من طراز شهير، ستبدو كما لو كانت مبنية بالطوب على الطراز القديم.
تَصِلينَ لمكتبكِ أخيرًا للاطلاع على آخر التفاصيل الخاصة بتحقيق طويل تقودينه منذ شهور؛ فقد كُلِّف فريقك بالتحقيق في نوع جديد من الأسواق السوداء يتاجر في الأعضاء البشرية البديلة. هناك عدد متزايد من المرضى الذين يبحثون بيأس عن أعضاء بديلة، ويشترونها من موفِّرين محتالين غير مرخصين لخدمات الطباعة الحيوية، بدلًا من اللجوء إلى الموفِّرين المعتمدين لهذه الخدمة الطبية. يستمر موضوع الطباعة الحيوية لأعضاء الجسم المخصصة في إثارة الجدل لدى العامة، محدثًا انقسامًا فاق نقاشات الخلايا الجِذْعية أو الإجهاض أو الاستنساخ التي كانت سائدة في جيل أجدادنا.
أصبحت صناعة أي عضو بشريٍّ بديلٍ أمرًا سهلًا للغاية، وانخفضت تكلفة المسح العالي الجودة للجسم بالكامل بنحو كبير على مدى السنين القليلة الماضية؛ مما يدفع شبابًا في العشرينيات من عمرهم إلى إجرائه، ويحتفظون بالبيانات لوقت لاحق في حالة احتياجهم لها إذا حدث أي مكروه واحتاجوا لاستبدال أي عضو على نحو سريع. في بعض الأحيان، يتعرضون لمشكلات كبيرة في المفاصل. لكن في الواقع، فإن أكثر الاستخدامات شيوعًا ﻟ «ملفات تصميم الجسد» هو في الجراحات التجميلية للحصول على بشرة مشدودة خالية من أي تجاعيد، وعلى جسم شاب.
المشكلة ليست في الطباعة الحيوية؛ فمعظم الناس في الواقع يؤمنون بأنها تقنية منقذة للحياة، لكن التحدي يتعلق بنمو هذه الأسواق السوداء الناشئة. إن تنظيم إنتاج أعضاء الجسم المطبوعة الجديدة أمرٌ صعب بسبب انخفاض تكلفة الطابعات الحيوية؛ إذ يتهافت تجار السوق السوداء على الحصول على الطابعات الحيوية الطبية القديمة بأسعار تقلُّ عن سعر أي سيارة حديثة؛ حيث إن طرازات العام الفائت من الطابعات الحيوية تبيعها المستشفيات وعيادات الجراحات كلَّ عام.
خلال التحقيق، تكتشفين أن الأعضاء التي تُباع في السوق السوداء تعمل جيدًا في أغلب الأحيان؛ لكن المشكلات تحدث بسبب ملفات التصميم المعيبة أو صنَّاع الأعضاء المهمِلين الذين يقومون بعملهم بأرخص الطرق الممكنة في بيئة طباعة غير معقَّمة. وقد أدى هذا إلى موت بعض المرضى مؤخرًا بسبب شرائهم لأعضاء كمالية غير مصدَّق عليها للتحسين من مظهرهم وأدائهم البدني. وتحاول عائلاتهم تحديد من سيقاضونه؛ المصنِّع المحتال، أم مورِّد الحبر الحيوي، أم مصمِّم العضو، أم الشركة التي صادقتْ على التصميم.
يتراوح من يعملون في السوق السوداء الخاصة بطباعة الأعضاء ما بين المعالجين حَسني النية والقَتلة من تجار اللحم البشري المزيف الذين يهمهم الربح فقط. البعض يسمِّي تجار السوق السوداء أصحاب الكفاءة الذين يعملون في مجال الصحة أبطالًا؛ لأنهم يساعدون المرضى في الحصول على أعضاء جديدة حيوية بأسعار منخفضة؛ بينما يأسى آخرون بنحو كبير لسعي تجار الأعضاء للتربح من شراء وبيع الأنسجة الحية الضرورية للأشخاص المحتاجين إليها، وخاصة إذا كانت الأعضاء الجديدة المطبوعة تفتقر إلى الجودة.
في نهاية يوم العمل، تمُرِّين بمدرسة ابنتك التي تدرس في المرحلة المتوسطة. أنتِ من أولياء الأمور الرعاة لمعرض العلوم هذا العام، تخبرك معلمة ابنتك أن الطابعات الثلاثية الأبعاد تُفسد الثقافة العامة لمعرض العلوم؛ لأن الطلاب الكسالى يطبعون أجسامًا معقدة على نحو ثلاثي الأبعاد دون بذل أي جهد أو اكتساب مهارات؛ فكل ما يحتاجون إليه هو ملف تصميم جيد. ولا يمتلك العديد من الطلاب الذين ينتمون لأُسَرٍ ذات دخل أقلَّ طابعاتٍ ثلاثية الأبعاد في المنزل؛ لذا فهم لا يحصلون على الوقت الكافي للتصميم والممارسة اللازم لمجاراة الطلاب الآخرين.
هناك مفاجأة أخرى؛ تقول المعلمة إن معرض هذا العام سيشهد مشاركة الآباء في عملية التنظيف؛ ففي العام الماضي وبعد انتهاء المعرض، اشتكى القائمون على النظافة في المدرسة من أن أرضية صالة الألعاب امتلأت ببقايا العشرات من النماذج المطبوعة، والأسوأ من ذلك أن الطلاب والمعلمين ظلوا لأيام عدة بعد انتهاء المعرض يتعثرون في عشرات الروبوتات الجاهزة التي في حجم الفئران، والتي ظلت تدور هنا وهناك محدِثة قعقعة في ردهات المدرسة. كان بعض الروبوتات المطبوعة تُصدر بعض الأجزاء المناسبة والمبرمجة سلفًا من المعارف العلمية، لكن القليل من تلك الروبوتات المتجولة بدت كما لو كانت قد استوعبت وأخذت تُصدر ما هو غير مسموح لها من الحكمة التي تنبض أكثر بالحياة.
عندما تعودين للمنزل بصحبة ابنتك، يخبرك زوجك بأخبار سعيدة؛ فمشروعه للتصنيع بالطباعة الثلاثية الأبعاد قد قُبل للتوِّ في شبكة تصنيع سحابي خاصة بأجزاء الطائرات. بدأ التصنيع السحابي يحل محل التصنيع الواسع النطاق كطريقة إنتاج جديدة. ومثل الحوسبة السحابية، فإن التصنيع السحابي نموذج إنتاج لا مركزي وضخم موازٍ. فتطلب الشركات الكبرى أجزاء وخدمات من شبكة منتقاة مكونة من العديد من شركات التصنيع الصغيرة التي اتحدت معًا لتصنيع هذه الأجزاء الخاصة.
بدأ التصنيع السحابي في الانتشار بنحو سريع في الصناعات الإلكترونية والطبية والخاصة بالطائرات، وهذه الشركات الكبيرة تحتاج إلى أجزاء معقدة ودقيقة جدًّا، لكن ليست بكَميات كبيرة؛ لذا فإن شركات التصنيع السحابي الصغيرة تُوفِّر لها الكثير من المال، كما تميل هذه الشبكات السحابية لأن تكون بالقرب من عملائها حتى تقل مسافات شحن الأجزاء المطبوعة، وتحتفظ هذه الشركات بتصميمات أجزاء المنتجات في سجل رقمي وتصنع تصميمًا واحدًا أو بضعة تصميمات في كل مرة. وهذه الشبكات تُعتبر نعمة كبيرة للاقتصادات الإقليمية في كل مكان؛ إذ أدت إلى خلق وظائف محلية في شركات التصنيع وتقديم الخدمات الصغيرة المتخصصة.
تتكون سحابة شركة زوجك التصنيعية من شركات صغيرة تعمل على تصنيع أجزاء حَقْن وقود متخصصة لمُصنِّعي الطائرات التِّجارية والعسكرية. وللانضمام إلى هذه الشبكة، كان على شركته إثبات براعتها في التصنيع عن طريق طباعة عينات من أجزاء الطائرة على نحو ثلاثي الأبعاد في إطار زمني محدد. أخضعت شبكة التصنيع عينات الأجزاء خاصته لاختبارات التحمل، واجتازتها بنجاح، وبعد بعض المفاوضات الخاصة بهوامش الربح وقدرة التصنيع، قُبلت شركته في الشبكة.
أخيرًا، يقترب اليوم من الانتهاء. يحب ابنك روتين ما قبل النوم؛ من غسيل الأسنان وسماع حكاية خيالية في السَّرِير. تكتشفين الليلةَ أن فرشاة أسنانه ضاعت كالعادة، ويظن أنه ربما تركها في بيت صديقه أمس. يمكنك الذهاب مسرعة للمتجر لابتياع واحدة جديدة، لكن هناك حل أكثر سهولة.
تُشغِّلين الطابعة الثلاثية الأبعاد التي تمتلكينها وتدَعين ابنك يتصفح التصميمات العديدة والمختلفة لفرش الأسنان. هناك شركات كثيرة تعرض تصميماتها للبيع من خلال الطابعة المتصلة بالإنترنت، لكن ابنك يعرف مسبقًا أنه يريد فرشاةً من نوع زي براش التي ما زالت تُعَد صفقة رابحة؛ إذ كانت بتسعة وتسعين سنتًا فقط. يحب ابنك حقيقة أن هناك العديد من شخصيات الرسوم المتحركة المختلفة متاحة لوضع صورتها على مِقْبَض الفرشاة. تضغطين زر الموافقة على شراء الفرشاة، وتمسحين المقاييس — الخاصة بحجم يد ابنك، وشكل فمه المفتوح — بعصًا صغيرة موصلة بالطابعة.
تبدأ عملية الطباعة، وتظهر أسماء المصممين على شاشة الطابعة اللامعة، كما هو الحال في مقدمة الأفلام، بدءًا باسم مصمم برنامج فرشاة الأسنان حتى الشركة التي تمتلك حقوق الملكية الخاصة بتصميمات شخصيات الرسوم المتحركة، وستصبح فرشاة الأسنان الجديدة متاحة في غضون ١٥ دقيقة.
رَيْثَما تُنهي الطابعة طباعة الفرشاة، تَرْوِينَ لابنك قصة ما قبل النوم، عما كانت عليه حياتك وأنتِ طفلة بينما يستمع إليك بتشكك؛ فهو لا يصدِّق أنكِ عندما كنتِ صغيرة كانت فرش الأسنان جميعها متشابهة، وأنكِ إذا طلبت شيئًا عبر الإنترنت فيستغرق الأمر وقتًا طويلًا — ٢٤ ساعة عادة — حتى يصل إلى عتبة باب بيتك.
يجعله هذا يقول بأدب: «يا إلهي! لا بد أن الحياة كانت عصيبة آنَذاك.»