تصنيع نظيف وصديق للبيئة
يقف رجل يرتدي قبعة مستديرة ونظارة شمسية، في سهل رملي كبير تحت الشمس الحارقة وسماء زرقاء خالية من السحب، وإلى جانبه توجد آلة معدِنية لامعة في حجم محطة حافلات حضرية صغيرة. على سطح الآلة هناك لوحان شمسيان قاتما اللون، وبالقرب منه توجد خيمة صغيرة من النسيج المعدِني تُعَد بمنزلة مكتبه المتنقل.
ينحني الرجل أمامَ ما يبدو مثل حقيبة مفتوحة، ويفك بيديه بصبر مجموعة متداخلة من الأسلاك ذات الألوان الزاهية التي تَبرُز من داخل الحقيبة، وخلف الرجل تقبع الكثبان الرملية الرائعة التي تُبرِز اللون الأبيض اللامع لملابسه.
عندما يفرغ من ترتيب الأسلاك الخارجة من الحقيبة كما يريد، يوصل الحقيبة بالآلة. تتحد أجزاء إطار الآلة المعدِني معًا بواسطة بَكرات معدِنية مغطاة بفويل الألومنيوم؛ مما يذكِّرنا بمفاصل ركبتَيْ ومَرفِقَي الرجل القصدير في فيلم «ساحر أوز».
وبينما تبدأ الطاقة في التدفق من خلال اللوحين الشمسيين، تبدأ تروس الآلة في التحرك. هناك لوح زجاجي سميك مستطيل الشكل يتصل بالإطار المعدِني بذراع قابلة للضبط، وهذا اللوح الزجاجي ما هو إلا عدسة مكبرة عملاقة تركز أشعة الشمس، محولة إياها إلى شعاع ضوء قوي.
باستخدام الذراع المتحركة، يضبط الرجل العدسة المكبرة ويوجه الشعاع تجاه وعاء مليء بالرمال. يوصل الرجل الكمبيوتر المحمول بالآلة، ويتراجع ليراقب ما يحدث. تُحرِّك ذراع الآلة العدسةَ ذهابًا وعودة، وتبدأ الرمال التي تتعرض لنقطة تركيز ضوء لامع قوي في إصدار فقاعات والانصهار. ومثل مقطع فيديو مصور بتقنية اختزال الوقت يعرض بِركة من الحُمَم المنصهرة، تزيد حرارة الرمال حتى تصل إلى ١٥٠٠ درجة مئوية.
تحدد العدسة العملاقة بانتظامٍ إطار دائرة خارجيًّا يزيد تدريجيًّا وببطء ليصبح شكلًا مجسمًا ثلاثي الأبعاد. تبرد الرمال المنصهرة وتتصلب، وتوضع رمال جديدة فوقَها. وتستمر الآلة في عملها صاهرةً طبقات جديدة من الرمال التي تندمج معًا فوق الرمال الصلبة الباردة. وفي النهاية، يُخرج الرجل جسمًا كبيرًا على شكل قَصْعَة من سرير الرمال ليعلن انتهاء مَهمته.
تصل شاحنة بيضاء من طراز جيب، ويحمل رجال يرتدون عِماماتٍ الآلةَ بسرعة في الجزء الخلفي منها، بينما يصعد خيميائي الرمال الغامض، بقبعته المستديرة المثبتة بقوة برأسه وملابسه التي لا تزال بيضاء ناصعة لم تتلوث، إلى المقعد الخلفي. وبينما تبتعد الشاحنة في الأفق، لم يعد هناك أي أثر لعملية التصنيع التي حدثت من بضع دقائق فوق السهل الرملي.
صُوِّر المشهد الصحراوي هذا في المغرب، والرجل الذي يظهر فيه يُدعى ماركوس كايسر، بينما الآلة هي طابعة ثلاثية الأبعاد تعمل بالطاقة الشمسية، ويسمَّى مشروع التصميم الذي يعمل عليه «التصليد الشمسي». وفي مثال للتصنيع صديق البيئة، فإن المادة الخام للطابعة العاملة بالطاقة الشمسية هي الرمال، التي تنصهر وتتحول إلى زجاج بواسطة العدسة المكبرة.
وكما يصف ماركوس الأمر: «في هذه التجرِبة، تُستخدَم أشعة الشمس والرمال كطاقة ومادة خام لإنتاج الأجسام الزجاجية من خلال عملية طباعة ثلاثية الأبعاد تجمع بين الطاقة والمواد الخام الطبيعيتين وتقنيات إنتاج متقدمة.» شاهدت مقطع الفيديو عدة مرات، وقد فُتِنت بسكون الصحراء الواسعة المريح، والفقاقيع الصادرة من الرمال وضوء الشمس الذي لا يرحم.
من وجهة النظر البيئية، فإن التصليد الشمسي عملية رائعة؛ فهي تعمل بالطاقة الشمسية؛ إن «ليزر» الطابعة هو ضوء شمس مركز. تُعتبر الرمال — المادة الخام المستخدمة — إحدى أكثر المواد توافرًا ووجودًا بنحو طبيعي على ظهر كوكب الأرض. وعندما تنصهر الرمال فهي تتحول إلى زجاج، وهو مادة صلبة ومتعددة الاستعمالات لا تحتاج إلى أصماغ أو إضافات كيميائية أخرى. إذا تم التخلص من جسم زجاجي مطبوع في الصحراء، فسيعود في النهاية لأصله، ويتحول إلى رمال من جديد.
عندما شاهدت مقطع الفيديو، أدركت أن التصليد الشمسي يمكن أن يكون الحل لمشكلةٍ اعتادت أن تحيرني عندما كنتُ طفلًا. نشأتُ في إسرائيل، وهي بلاد مليئة بالسهول الرملية. ويُعتبر بناء طرقٍ فوق رمال الصحراء أمرًا مكلفًا وصعبًا؛ فالرمال لا تتيح قاعدة ثابتة؛ وبينما تتحول وتتناثر في كل مكان، تغطى الطرق وتصبح في النهاية غير صالحة للسير عليها.
عندما كنتُ طفلًا، كنت أتساءل لماذا لا تقوم الحكومة بصهر رمال الصحراء محولةً إياها إلى قطع طويلة صلبة يمكن للسيارات القيادة عليها، في نوع من الطرق يمكن أن يُسمى «الطرق الزجاجية». تخيلوا أن آلة التصليد بالشمس الخاصة بماركوس تمتلك إطارات عملاقة وموصلة بنظام تحديد المواقع العالمي، وتُستخدم في طباعة طرق في المناطق الصحراوية. ربما يمكن ﻟ «رئيس عمال» بشري الإشراف على مجموعة عاملة من آلات التصليد الشمسي. لن تصبح الرمال المتحركة مشكلة بعد ذلك، بدلًا من ذلك، ستعمل تلك الرمال كمادة خام مفيدة، وهي القطران الزجاجي. تستكشف وكالة ناسا عمليات مشابهة لطباعة هياكل بنحو ثلاثي الأبعاد على سطح القمر باستخدام رمال القمر.
في عالم مثالي، فإن أي عملية تصنيع ستكون صديقة للبيئة مثل التصليد الشمسي. لكن لسوء الحظ، فإن معظم التصنيع يعمل بالطاقة القائمة على النفط، وتترك المصانع وشبكات المواصلات العالمية (والتي تسمَّى سلاسل التوريد) وراءها كَمِّيةً هائلة من الكربون تساهم في زيادة غازات الدفيئة.
على الرغم من ذلك، فإن عملية التصنيع مجرد جزء من المشكلة؛ فالمخلفات تُعتبر أثرًا جانبيًّا آخر لعملية الإنتاج الواسع النطاق الذي يُعَد كارثيًّا بالنسبة إلى البيئة. المنتجات الرخيصة المتوافرة التي تُصنع بأعداد كبيرة، تُصنع فعليًّا لتُرمى في القمامة. المشكلة هي أنه لا يمكن التخلص من المخلفات بنحو نهائي. صحيح أنه يمكن إعادة تدوير الزجاج والورق — وهذا يحدث بالفعل — لكن معظم المنتجات البلاستيكية المنتَجة بأعداد كبيرة لا يُعاد تدويرها ولا تتحلل حيويًّا مرة أخرى بحيث تعود إلى البيئة؛ فهذه المنتجات تظل موجودة لعقود، وتملأ مدافن المخلفات وتُلوث المحيطات.
تتيح لنا تقنيات الطباعة الثلاثية الأبعاد طريقة أقل تلويثًا للبيئة وصديقة أكثر لها لتصنيع الأشياء، لكن ليس هناك تقنية صديقة للبيئة بطبيعتها. ما يهم هو كيفية استخدامها.
(١) حكاية لعبتين من البلاستيك
إذا سلمك شخص لُعبتين بلاستيكيتين لهما نفس الوزن والحجم — إحداهما مصنوعة بالإنتاج الواسع النطاق والأخرى مصنوعة بالطباعة الثلاثية الأبعاد — فهل سيمكنك تخمين أي عملية تصنيع منهما أدت إلى أضرار بيئية أقل؟ العديد من الناس سيقفزون لاستنتاج مباشر وهو أن اللُّعبة البلاستيكية المطبوعة بنحو ثلاثي الأبعاد صُنعت بنحو أقل إضرارًا بالبيئة، فهل توافقهم الرأي؟
تكمن الإجابة في دورة إنتاج كل لُعبة أو السلسلة الملتوية للإنتاج وقنوات التوزيع والمتاجر التي تحمل المنتج إلى جهته النهائية، وهي نقطة البيع. تُعتبر نهاية دورة إنتاج المنتج هي التخلص منه عندما يرميه المستخدم.
تخيلوا سيناريو افتراضيًّا يمكن أن تتحدث فيه اللُّعبتان. في هذا السيناريو، يمكنك سؤال اللُّعبتين عن مكان صنعهما وكيف جُمعتا، وأخيرًا، كيف وصلتا إلى الشخص الذي اشترى كلًّا منهما. دعونا نتخيل أن اللُّعبة المنتَجة بنحو واسع النطاق، هي من أجاب سؤالك أولًا.
ستخبرك تلك اللُّعبة كيف بدأت حياتها كمجموعة سائبة من الكريَّات البلاستيكية الصغيرة في حجم بيض السمك تسمَّى الحبيبات البلاستيكية. أحيانًا تهرب هذه الحبيبات البلاستيكية من التغليف وتهبط في المحيطات والأنهار؛ حيث تتسلل إلى قاعدة العوالق المغذية للحيوانات؛ مما يتسبب في اختناق وتسميم الحيوانات والطيور البحرية ببطء. هذه الحبيبات البلاستيكية المكونة للُّعْبة غُذيت بنجاح في آلة قولبة بالحقن وشُكلت على هيئة لُعبة ووُضِعت على خط تجميع.
ورغم أن هذه الألعاب المنتَجة بأعداد كبيرة ربما تبدو مملة فإن معظمها يسافر إلى جميع أنحاء العالم. تركتْ هذه اللُّعبةُ وجيوشٌ غفيرة من الألعاب المطابقة لها المصنعَ الذي أُنتجت فيه في صندوق شحن، وبدأتْ رحلةً من آلاف الأميال من انبعاث الكربون عبر المحيطات والطرق والسكك الحديدية. وكانت نهاية رحلتها مكان تنزيل بضائع خلف متجر في مركز تسوق؛ حيث فتح موظف محلي الصناديقَ وأخرج محتوياتها. بعد أسابيع من القبوع في مخزن المتجر، وُضعت اللُّعبة في النهاية على أحد الرفوف في انتظار بيعها، ووجهتها الأخيرة اليدان المتلهفتان لأحد الأطفال ومنزلُه.
دعونا نتخيل أن هذا السيناريو الافتراضي مستمر، وأنه حان دور اللُّعبة المنتَجة بالطباعة الثلاثية الأبعاد للتحدث؛ ستقول هذه اللعبة إنها الوحيدة من نوعها، كما أنها لم تُصمَّم في قسم التصميم أو التسويق في أحد المصانع، لكنْ بِناءً على شخصيةٍ بلُعبة فيديو.
تتميز اللُّعبة المطبوعة بنحو ثلاثي الأبعاد بأنها ذات ألوان زاهية، ومثل شخصية لُعبة الفيديو التي ألهمت تصميمها، فإنها تمتلك عباءة مطوية تنسدل بنحو مموج فوق الكتفين والظهر. لم تبدأ حياة اللُّعبة المطبوعة على هيئة مجموعة من الحبيبات البلاستيكية، بل ككومة من المسحوق البلاستيكي. وفي النهاية خرجت اللُّعبة للوجود عندما طلبتها إحدى العميلات عبر موقع إحدى الشركات، وحملت التصميم المراد، وأدخلت رقم بطاقتها الائتمانية.
عندما تلقت شركة الألعاب الطلب، عدل مهندسوها الملف الرقمي المحمَّل وضبطوه ليصبح ملف تصميم قابلًا للطباعة. كان معظم عملية الضبط أوتوماتيكيًّا؛ حيث إن الشخصية المرادة كانت موجودة بالفعل في هيئة رقمية. وأخيرًا، وافق العميل على ملف التصميم النهائي، وصنَّع محلُّ طباعةٍ صغيرٌ قريبٌ اللُّعبةَ في شكلها النهائي.
عند هذه النقطة من القصة، ستقول اللُّعبة المطبوعة إن أول بشري قابلتْه هو موظف محل الطباعة الذي أخرجها من سرير الطباعة. أزال هذا الرجل الماهر في المجال التقني المسحوق الزائد عنها وصقلها ولمعها حتى أصبحت مثالية الشكل. وفي النهاية، وضع موظف آخَر في محل الطباعة اللُّعبة مكتملة الصنع في صندوق صغير، وأرسله إلى منزل العميل بالشحن السريع.
أي من تلكما اللُّعبتين تمتلك دورة إنتاج أقل إضرارًا بالبيئة؟ من النظرة الأولى، يبدو أن اللُّعبة المطبوعة بنحو ثلاثي الأبعاد أكثر صداقة للبيئة؛ فهي صُنِعت في محل طباعة نظيف محكوم، في دولة متقدمة؛ حيث ظروف العمل جيدة، وتتحقق معايير السلامة، وتُتَّبع قوانين العمل. كما أن شحن صندوق واحد صغير بالشحن السريع يترك عوادم كربونية أقل من الناتجة عن شحن مئات الصناديق الكرتونية الضخمة. لم تَرَ اللُّعبة المطبوعة آلةَ القولبة بالحقن من الداخل في أي مصنع، أو تسافر حول العالم في شبكة تُصدر عوادمَ الكربون من السفن والشاحنات والطائرات الخاصة بعملية الشحن، كما أن الشركة التي تبيع اللُّعبة هي موقع إلكتروني بسيط لم يحتَجْ إلى التدفئة أو الإضاءة.
(٢) تصنيع أقل تلويثًا للبيئة
يكمن الوعد بتصنيع أقل إضرارًا بالبيئة، في الاستغلال الكامل للقدرات التي يتفرد بها التصنيع بالطباعة الثلاثية الأبعاد. وتمتلك تقنيات الطباعة الثلاثية الأبعاد القدرة على التفوق على نظام التصنيع الواسع النطاق بالطرق التالية: أولًا: يمكن للطابعات ثلاثيات الأبعاد صنع منتجات ذات أشكال محسَّنة سواء بالنسبة إلى استخدامها أو للبيئة. ثانيًا: يُعتبر تخزين ملفات تصميم جاهزة الطباعة — أو مخازن رقمية — طريقة أكثر صداقة للبيئة، بشكل يتفوق على إدارة مستودعات تخزين مكلفة بيئيًّا مليئة بالأجسام المادية. ثالثًا، يومًا ما، يمكن أن يتيح التصنيعُ بالطباعةِ الثلاثية الأبعادِ الموزعُ، للشركاتِ صنع منتجات محلية بالقرب من مكان إقامة عملائها. وأخيرًا، فإن تقنيات الطباعة الثلاثية الأبعاد لديها قدرة غير مستغلة للعمل بمواد طباعة معاد تدويرها أو صديقة للبيئة.
(٢-١) دراسة أتكينز والتصنيع القليل الانبعاثات الكربونية
في التصنيع، يُعتبَر تقليل الانبعاثات الكربونية أسلوبًا أكثر توفيرًا للطاقة في عمليتَي التصميم والإنتاج. وبالنسبة إلى الباحثين في جامعة نوتنجهام (التي كانت تُعرف باسم لوفبرا)، فإن التصنيع قليل الانبعاثات الكربونية يعني تقليلَ معدل الكربون الناتج عن دورة إنتاج المنتج بالكامل، من التصميم للإنتاج للتجميع للتوزيع حتى التخلصِ منه في النهاية.
كان هدف تلك الدراسة تقييم هل كانت الطابعات الثلاثية الأبعاد يمكنها تقليل مخلفات الكربون الناتجة عن التصنيع. قاس باحثو الدراسة الأثر البيئي لكل جانب من جوانب عملية التصنيع: استهلاك الطاقة والمخلفات الثانوية الصناعية وشبكات النقل. ولاستكمال تقييمهم الشامل، حسبوا إن كان يمكن للتصميم الأفضل والشكل المحسَّن للمنتج (وهما ميزتان تنفرد بها منتجات الطباعة الثلاثية الأبعاد) توفير فوائد بيئية لاحقًا في دورة إنتاج المنتج. على سبيل المثال، إن المنتجات المطبوعة المحسَّنة يمكن أن تكون أخف وزنًا أو أفضل أداءً أو أكثر تحملًا.
كانت النتائج متباينة؛ ففي المتوسط، استَهلكت الطابعات الثلاثية الأبعاد التي استَخدمت المواد المعتمدة على البوليمرات — مقارنة بآلات التصنيع التقليدية — ما يفوق عشرة أمثال الكهرباء المستهلكة لصنع جزء بنفس الوزن. وأنتَجت الطابعاتُ الثلاثية الأبعاد الصناعية التي تستخدِم الليزر (أو الحرارة) لتصليد مسحوق البوليمر، مخلَّفاتٍ بلاستيكيةً أكثر بنحو ٦٥ بالمائة عما أنتجته عملية القولبة بالحقن. وبعض الطابعات التي خضعت للتحليل استخدمت نوعًا من البلاستيك يسمَّى البلاستيك المتصلب حراريًّا، وهو غير قابل لإعادة تدويره؛ حيث إنه يفقد خواصه إذا أُعيد تسخينه أو استخدامه. وهذه النتائج تشير إلى أنه على الرغم من دقة عملية الطباعة الثلاثية الأبعاد، فليس كل أنواعها عمليات تصنيع نظيفة بالكامل.
توصلت دراسة أتكينز إلى أن عملية التصنيع القائمة على طباعة منتجات بلاستيكية مطبوعة بها الكثير من الفجوات الداخلية الكبيرة كانت منتِجة للمخلفات بنحو خاص؛ إذ تحتاج الأجسام المجوَّفة للمزيد من المواد الداعمة التي تُنتج الكثيرَ من مخلفات المسحوق البلاستيكي الزائدة. وبينما يمكن إعادةُ تدوير بعض هذه المواد الداعمة الزائدة، فإن باحثي دراسة أتكينز وجدوا أنه في المتوسط، كان ٤٠ بالمائة من المسحوق البلاستيكي الخام الزائد قابلًا لإعادة الاستخدام في مرات طباعة لاحقة، بينما أُلقي ٦٠ بالمائة منه في مدفن النُّفايات كما هو معتاد. الخبر الجيد هو أن مواد الدعم القابلة للذوبان في الماء يزداد معدل استخدامها.
اكتشف باحثو أتكينز أن طباعة البلاستيك لها بعض الفوائد البيئية عند مقارنتها بعملية القولبة بالحقن، وبالتحديد عملية التبريد؛ فبفضل عملية الإنتاج البطيئة، فإن الأجزاء المطبوعة بنحو ثلاثي الأبعاد لا تكون شديدة السخونة معظم الوقت بعد صُنعها. أما في عملية القولبة بالحقن، فعندما تُضغط حبيبات البلاستيك بنحو عنيف داخلَ قالب، تصبح ساخنة للغاية، وتحتاج إلى مواد تبريد. ولفصل البلاستيك من القالب فإن المصانع كثيرًا ما تستخدم موادَّ كيميائية سامة تسمَّى «موانع الالتصاق».
وبما أن هدف الدراسة هو تحديد المخلَّفات الكربونية المنتَجة عبر دورة إنتاج المنتَج بالكامل، فقد درس الباحثون الأثر السلبي للطباعة الثلاثية الأبعاد على سلسلة التوريد العالمية. يمكن أن يكونَ التصنيع أقل إضرارًا بالبيئة إذا استَخدمت الشركاتُ المخازنَ الرقْمية وعملية الإنتاج المحلي الفوري؛ وهو نموذج تصنيعٌ غير مركزي يناسب الطباعة الثلاثية الأبعاد بنحو مثالي. توصلت دراسة أتكينز إلى أن «استخدام التصنيع بالإضافة لإنتاج الأجزاء والمكونات المناسبة، وخاصة تلك التي تُنتَج بأعداد قليلة لكنها ذات قيمة عالية، يمكن أن يؤديَ إلى تقليل ملحوظ لتكاليف التخزين ومستويات المخزون.»
إن إحدى أكثر الفوائد البيئية الواعدة (وغير المستكشفة حتى الآن) للتصنيع بالطباعة الثلاثية الأبعاد كانت غير ملحوظة، ألا وهي: تحسين التصميم. تقول دراسة أتكينز إنه باستخدام الطباعة الثلاثية الأبعاد فإن المعايير التقليدية للتصميم من أجل التصنيع «يمكن تجاهلها، ويمكن للمصممين تصميم ما يريدون أو يحتاجون، وليس ما يَقدِر نظامُ التصنيع على إنتاجه». ويمكن للأجزاء البديلة عالية الأداء تقليل المخلفات الكربونية الناتجة عن تصنيعها بطرق عدَّة.
(٢-٢) الأجزاء المطبوعة العالية الأداء
يتخذ تحسين المنتَج العديدَ من الأشكال؛ فيمكن لأي جزء مصمم بعناية أن يدومَ لفترة أطول أو يوفر في الطاقة؛ بسبب أنه مصمَّم ليناسب بيئته. على سبيل المثال، فإن أجزاء المحركات المخصصة المطبوعة بنحو ثلاثي الأبعاد يمكن تصميمها لحمل كَمِّيات أكبر من هواء التبريد أو تحمُّل وزن أكبر.
طريقة أخرى لتحسين المنتَج تتمثل في صنعه بقطَع أقل أو حتى بقطعة واحدة. إحدى القواعد العامة في التصنيع هي أنه كلما زادت القطع في منتج ما، زادت الموارد التي يحتاج إليها صنعه. وكلما زادت القطع التي يجب تجميعها، طالت سلسلة التوريد وزاد المخزون.
وبفضل عملية التصنيع التي تتفرد بها الطابعات الثلاثية الأبعاد، فإنه يمكنها صنع الأشياء في مرة طباعة واحدة. وإذا استطاع مصنعو المستقبل طباعة أجزاء عُززت تصميماتها ليقل ما يُحتاج إليه لتجميعها، فإن النتيجة ستكون تكلفةً أقل من الناحية البيئية. ستتضمن عملية التصنيع الانسيابية شحن أو ربط أجزاء منفصلة أقل معًا.
وجدت شركة بوينج لتصنيع الطائرات أنه يمكنها طباعة أنبوب هوائي بنحو ثلاثي الأبعاد لطائرة نفاثة مقاتلة كان يصنع فيما مضى من ٢٠ قطعة منفصلة. وبمجرد طباعة الأنبوب كقطعة واحدة، فإنه جُمع كقطعة واحدة بالفعل. ووجدَت بوينج أنه يمكنها جعل مخازنها أكثر فاعلية؛ فتخزين ملفات التصميم وطباعة الأجزاء البديلة حسب الطلب (بدلًا من تخزين وتتبُّع مخزون من الأجزاء المادية) استهلكا مساحة تخزين أقل، وقللا التكاليف الإدارية.
(٢-٣) تقليص سلسلة التوريد
العديد من الناس الذين اعتادوا صور المصانع التي تنفث سمومها في الهواء لا يدركون أن ما هو أكثر تدميرًا من ملوثات المصانع على الأرجح هو الاحتراق البطيء لأنواع الوقود الحفري التي تستهلكها سلاسل التوريد. تُنتج عملية نقل المواد والمنتجات حول العالم كَمِّيات كبيرة من الملوثات، وتقدِّر متاجر وول مارت أن نحو ٨٠ بالمائة من المخلفات الكربونية التي تخصها تُنتجها شبكتها الضخمة والعالمية من الموردين.
تنقل سلاسل التوريد العالمية المواد الخام للمصانع، ثم لخطوط التجميع، وأخيرًا للمحطة الأخيرة وهي المستهلك. يعتمد كلنا على حركة سلاسل التوريد العالمية، وتقريبًا كل جسم مُنتَج بنحو واسع النطاق نقبله ونشتريه ونستهلكه ثم نتخلص منه — بداية من أي لُعبة بلاستيكية بسيطة حتى الجهاز الطبي الذي يُنقذ حياة البشر في الجراحات — هو نتاجُ سلسلة توريد طويلة وملتوية. يَنتُج عن سلاسل التوريد انبعاثاتٌ كربونية ضخمة؛ بسبب انبعاثات الوقود من الجيوش الصناعية من الشاحنات والطائرات والسفن التي تنقل الأشياء من مكان إلى مكان.
تَستهلك المستودعات التي تحتفظ بالسلع غير المباعة وغير المستخدمة كهرباء للتدفئة والتبريد والإضاءة، واستبدال المخزون الرقمي بالمخزون المادي من شأنه أن يجعل سلسلة التوريد أقل ضررًا بالبيئة؛ فالمخزون المادي لا يحتاج إلى النقل فقط، بل يَستهلك مساحات كبيرة على الرفوف أثناءَ انتظاره للمستهلك. على العكس من ذلك، فإن المخزون الرقمي — أو ملفات التصميم لجزء آلة مطبوع بنحو ثلاثي الأبعاد — رخيص وسهل في التخزين والنقل.
يمكن لتقنيات الطباعة الثلاثية الأبعاد المساعدة في الحد من أضرار عملية التصنيع على البيئة إذا فُعِّلت قدراتها الفريدة، لكن التحدي الظاهر يكمن في نهاية دورة إنتاج المنتَج. فكِّر في المثال الافتراضي للُّعبتين البلاستيكيتين الذي ذكرناه في بداية هذا الفصل؛ فكلتاهما مصنوعتان من البلاستيك الصناعي التقليدي.
إذا تم التخلص من اللُّعبتين، فهل سينتهي بهما الحال في نفس المكان؟ الإجابة المحتملة هي نعم بكل أسًى. تكمن المشكلة في البلاستيك. تستخدم الطابعات الثلاثية الأبعاد في الأساس نفس النوع من البلاستيك التِّجاري الذي تستخدمه آلات القولبة بالحقن. ومثل أخ أصغر يأكل نفس الطعام الذي يأكله إخوته الكبار، بما أن الطابعات الثلاثية الأبعاد نشأت على أرض المصانع، فإنها احتفظت بشهية لنفس المواد الخام التي تُستخدم في التصنيع الواسع النطاق.
(٣) الطباعة الثلاثية الأبعاد لمدفن نُفايات أكثر جمالًا
تحصل المواد الخام الغريبة الخاصة بالطباعة الثلاثية الأبعاد على الكثير من الاهتمام الإعلامي؛ على سبيل المثال، الشكولاتة أو الجل الذي يحتوي على خلايا حية. ومواد الطباعة الأخرى مثل المعادن والخزف والزجاج أصبحت تُستخدم في بعض الاستخدامات الصناعية، لكن طبقًا لبيانات السوق التي تتْبع بيع مواد الطباعة، فإن البلاستيك ما زال في القمة.
لذا من المرجح أن تجد بجانب أي طابعة ثلاثية الأبعاد دِلاءً من مسحوق البلاستيك أو بَكرات بحجم غطاء إطار السيارة مغلفة بخيوط بلاستيكية زاهية الألوان. يَشيع كذلك استخدام مسحوق النايلون. ومن المواد الأخرى التي تَشْتهر كمواد طباعة بلاستيكية على هيئة مسحوقٍ البولي بروبلين (هو نفس البلاستيك الذي تُصنع منه عُلَب الزبادي) والبولي إيثلين (الموجود في أكياس القمامة).
تَختبر شركةُ ميكربوت كلَّ طابعة جديدة قبلَ شحنها لمشتريها. عندما زرتُ مبنى الإنتاج القديم الخاص بالشركة في عام ٢٠١٢، في بروكلين بنيويورك، كانت هناك صفوف من بَكرات زاهية اللون من بلاستيك الأكريلونتريل بوتادين ستايرين معلَّقة فوق الطابعات الثلاثية الأبعاد؛ مما أكسب المشهد مظهرًا بهيجًا يُذكر بصندوق جديد من ألوان الشمع من إنتاج شركة شهيرة. ومثل طابعات ميكربوت، فإن معظم الطابعات الثلاثية الأبعاد قليلة الثمن الشهيرة لدى المستهلكين تَستخدم هذا النوع من البلاستيك الموجود في مكعبات الليجو وزوارق الكنو البلاستيكية والحقائب ذات الجسم المقوَّى.
هناك عدة أسباب تجعل البلاستيك يظل أكثر المواد المستخدمة في الطباعة الثلاثية الأبعاد: أولًا: البلاستيك رخيص وسهل الاستخدام. ثانيًا: للبلاستيك تاريخ طويل من النجاح كمادة خام للأجسام المصنَّعة بنحو واسع النطاق، بدءًا من الزجاجات البسيطة حتى أجسام القوارب الباهظة وكثيرة التفاصيل.
إن قدرة أي جسم بلاستيكي على تحمُّل التعامل الخشن والظروف الصعبة هي ما يجعل البلاستيك مفيدًا للغاية، لكن نفس التماسك والتحمل يجعل الأجسام البلاستيكية كذلك أشياءَ ضارة بالبيئة؛ إذ تتحول إلى كَمِّيات ضخمة من المخلَّفات التي ترفض أن تتحلل حيويًّا مهما طالت مدةُ أو مسافةُ سفَرها. تسافر الأجسام البلاستيكية من صفيحة القُمامة حتى مدفن النُّفايات أو ينتهي بها الحال في المحيط.
في عام ١٩٩٧، وخلال رحلة بحرية لجزء بعيد في شمال المحيط الهادئ، ولصدمة ورعب تشارلز مور، وَجد قاربه محاطًا بشبكة كبيرة طافية من «النُّثار» البلاستيكي المهمَل. أطلق تشارلز اسمًا على هذه القطع البلاستيكية الكثيرة، والتي كانت تغطي مساحةً تقدَّر بمساحة أقلَّ من مساحة ولاية تكساس بقدر بسيط، وهو «رُقعة النُّفايات العظمَى في المحيط الهادئ».
إن معظم الأجسام البلاستيكية التي ينتهي بها الحال في المحيطات لا تتحلل حيويًّا، وستبقى للأبد في المياه. بمرور الوقت، تكسر حركة مياه المحيط النُّفايات البلاستيكية الطافية لقطع صغيرة — وهي ما وصفه تشارلز مور بالنُّثار — لا تُرى في الصور التي تلتقطها الأقمار الصناعية لكنها مميتة للنظام البيئي البحري. تستمر جُزر القُمامة البلاستيكية الطافية في محيطاتنا في النمو كلَّ عام؛ مما يضر بالحياة البحرية، ويتسبب في اختناق الطيور وحيوانات الفُقْمة، ويسرِّب منتجات ثانوية سامة للنظام البيئي.
يقول مور إن كَمِّية النُّثار البلاستيكي الذي تلتقطه شِباك صيد السمك يزيد عن حجم العوالق الحيوانية — القاعدة الغذائية للمحيط — بمعدل ستة إلى واحد. بالإضافة إلى هذه القطع البلاستيكية المتناهية الصغر، تَسحب الشباك أيضًا أجسامًا بلاستيكية ألِفنا استخدامها في حياتنا اليومية؛ مثل القَدَّاحات غير القابلة لإعادة الملء، وشِباك صيد السمك البلاستيكية، والمقابض البلاستيكية، وألعاب الأطفال، وبالطبع، الزجاجات البلاستيكية.
اليوم، يتضاءل حجم إنتاج الأجزاء البلاستيكية بالطباعة الثلاثية الأبعاد مقارنة بالموجة العاتية للسلع البلاستيكية المنتَجة في المصانع على نطاق واسع. وإذا وُضعت النُّفايات البلاستيكية من الطباعة الثلاثية الأبعاد بجانب رُقعة النُّفايات العظمى في المحيط الهادئ، فإن حجمها سيكون صغيرًا جدًّا كحجم فَردة حِذاء طفل مقارنة بملعب كرة قدم. مع ذلك، ومثل أي جسم بلاستيكي آخر، سواء كان مصنوعًا بنحو مخصص أو منتجًا بأعداد كبيرة، فإن معظم المنتجات المطبوعة بنحو ثلاثي الأبعاد التي تصل إلى نهاية دورة إنتاجها سيُتخلص منها في صفيحة القُمامة.
البلاستيك مادة مدمرة للبيئة، لكنها كذلك مادة رائعة مُحرِّرة، مكَّنت الجميع تقريبًا من امتلاك منتجات منزلية كانت حِكرًا على الأغنياء فقط. الأجسام البلاستيكية موجودة في جميع جوانب حياتنا تقريبًا، من الألعاب البلاستيكية البسيطة حتى الخراطيم البلاستيكية خفيفة الوزن عظيمة الأثر في إنقاذ حياة الناس التي كانت تُستخدم في نقل الدم.
تُعتبر قطع غيار السيارات البلاستيكية أخفَّ وزنًا من مثيلاتها المعدِنية في المحركات وأجزاء السيارة الداخلية، وهذا التوفير في الوزن له فوائده البيئية. ينقذ التغليف بالبلاستيك حياة الناس بحفظ الطعام، كما أن البلاستيك يخلق وظائف؛ فصناعة البلاستيك تُعتبر من أكثر الصناعات التي تُوفِّر وظائف في الولايات المتحدة. كما أن صناعة التغليف، التي ترتبط ارتباطًا شديدًا بصناعة البلاستيك، تُعتبر أكبر من ذلك؛ إذ تأتي صناعة التغليف في المرتبة الثالثة على مستوى العالم بعد صناعتَيِ الغذاء والطاقة.
بغضِّ النظر عن النتيجة، فإن اقتصادنا يقوم على السلع البلاستيكية، وبإعطاء الناس العاديين القدرة على صنع الأشياء من البلاستيك في المنزل، فإن الطباعة الثلاثية الأبعاد تفتح قناة جديدة للتصنيع بالبلاستيك. ولكي تصبح تقنيات الطباعة الثلاثية الأبعاد وسيلة تصنيع أقل إضرارًا بالبيئة، تحتاج إلى استخدام مواد خام جديدة صديقة للبيئة.
(٣-١) الطباعة باستخدام أوعية الحليب المعاد تدويرها والتراب
لمعرفة المزيد عن المواد الخام الصديقة للبيئة، تحدثتُ مع مارك جانتر، أستاذ الهندسة في جامعة واشنطن بسياتل. قال مارك إن «معظم مواد الطباعة في السوق في الواقع ليست صديقة لكوكب الأرض لدرجة كبيرة.» يدير مارك وصديقه الأستاذ الجامعي دوين ستورتي معمل سولهايم، وهو مركز للطباعة الثلاثية الأبعاد الثورية في جامعة واشنطن. منذ عدة سنوات مضت، ضحَّى مارك ودوين بمرتب شهر لشراء طابعة ثلاثية الأبعاد لمعملهما، وكانت الأولى من نوعها في حرم الجامعة، ولم يندما على هذا القرار منذ ذلك الحين.
أحد أكبر جوانب البحث في هذا المعمل هو الطباعة الثلاثية الأبعاد لمنتجات قابلة للتحلل الحيوي، ويتضمن هذا اختبار وتطوير موادَّ مُعادٍ تدويرُها وصديقةٍ للبيئة. وحسبما يقول مارك فإن الطلاب في معمل سولهايم يطبعون بنحو ثلاثي الأبعاد «كل شيء من السكَّر إلى الخشب إلى أصداف المحار». طبع أحد الطلاب على نحو ثلاثي الأبعاد مزيجًا تجريبيًّا يتضمن إضافة الدم كمادة لاصقة بسبب قدرته الجيدة على التخثر.
يفسر مارك ذلك قائلًا إن أي طابعة ثلاثية الأبعاد يمكنها صنع «أي شيء تقريبًا يمكن تحويله إلى مسحوق، بحيث تمتلك جسيماته حجمًا مناسبًا، وأعني بقولي أي شيء.» السر هو طحن المسحوق ليكون بالنعومة والتركيب المناسبَيْن اللذيْنِ يسمحان بنثره وبسطه على هيئة طبقات بنحافة الورق. وبمجرد تحويل أي مادة إلى مسحوق، يجب إيجاد مادة لاصقة مناسبة. يُخلط هذا المسحوق اللاصق بمسحوق المادة، ويوضع الخليط في سرير الطباعة، ويُفرَد على هيئة طبقات بنحافة الورق. ثم يُخرج رأس الطباعة بعد ذلك مادة مذيبة لتفعيل قدرة المادة اللاصقة على الإمساك بذرات المسحوق معًا ليشكل الطبقات.
احتلت إحدى أجرأ تجارِب العمل في مجال الطباعة الصديقة للبيئة المركزَ الثاني في سباق القوارب السنوي المحلي في سياتل، وكانت قاربًا مطبوعًا بنحو ثلاثي الأبعاد من أوعية الحليب المعاد تدويرها. صَممت المنظمةُ الطلابية التابعة للمعمل، والتي تُدعى «نادي جامعة واشنطن لمُصنعي الأجسام المفتوحة» وطَبعتْ قاربًا شاركتْ به في «سباق كراتين الحليب» وهو سباق قوارب شهير يُعتبر جزءًا من مهرجان سي فير السنوي في سياتل. يتسم السباق بقواعد صارمة؛ حيث يُسمح فيه فقط باستخدام أنواع الكراتين التالية للطفو: أوعية سعتها نصف جالون أو جالون من البلاستيك أو الورق المقوَّى التي تُستخدم لحفظ الحليب أو العصير.
بدأ فريق المنظمة الطلابية العمل على صنع القارب قبل بدء السباق بأسابيع في أحد صناديق القُمامة؛ حيث بحثوا فيه، ورجعوا منه إلى المعمل بحوالي ٤٠ رطلًا من الأوعية البلاستيكية. طحن الطلاب الأوعية البلاستيكية لمسحوق ناعم، ثم زودوا قاطع بلازما بأبعاد أربع في ثماني أقدام برأس بَثْق منزلي الصنع. ولتشغيل آلة البَثْق البلاستيكية هذه الخاصة بالطابعة، انتزع الطالب ماثيو روج محركَ مِمْسحة الزجاج الأمامي من سيارته السوبارو. وعلى مدار شهرين، وبعد العديد من تجارِب الأداء الفاشلة، اكتشف الطلاب أن مسحوق أوعية الحليب به معرَّض للانكماش في الحجم بنسبة اثنين بالمائة عند الطباعة به. وحسبما يقول مارك، وبعد بعض التعديل في التصميم، استغرق فريق المنظمة الطلابية يومين كاملين في طباعة قارب يمكنه تحمُّل وزن ١٥٠ رطلًا، والسير في المياه «كقارب كنو-كاياك».
يقول مارك إنه عندما ذهب الفريق بالقارب المطبوع إلى السباق، «تطلَّب الأمر بعض التوضيح.» وبعد بعض النقاش مع اللجنة المشرفة على السباق، تمت الموافقة على مشاركة القارب في سباقات مجموعة سن الأربعة عشر عامًا وما فوقها. وبعد الحصول على إذن في اللحظات الأخيرة من حُكام السباق، قبل خمس دقائق من بدء السباق، أنزل الطالبان مات روج وآدم كومنز القارب في المياه، وقاده مات ليفوز بالمركز الثاني في مجموعة ما فوق سن الرابعة عشرة.
ربما يوفر البلاستيك النباتي الأصل بديلًا أقل ضررًا بالبيئة للبلاستيك المشتق من النفط. عندما سألتُ مارك عن موادِّ الطباعة البلاستيكية المتاحة الأقل ضررًا بالبيئة، وصف نوعًا يسمَّى متعدد حَمض اللاكتيك، الذي يرى أنه «مادة عظيمة للطباعة الثلاثية الأبعاد بطريقة النمذجة بالترسيب المنصهر، كما أن البلاستيك المشتق من الصويا اختيار جيد كذلك.» يُعتبر متعدد حَمض اللاكتيك نوعًا من البلاستيك الحراري المشتق من الذرة شائع الاستخدام في الطباعة الثلاثية الأبعاد، وهو من أنواع البلاستيك الحراري القابلة للذوبان في الماء. ويمكن استخدامه في مواد الدعم، وبما أنه قابل للذوبان في الماء، فيمكن شطفه بالماء — وليس المذيبات — وإعادة استخدامه.
هناك طريقة أخرى جيدة لجعل طباعة البلاستيك أكثر صداقة للبيئة وهي إعادة تدوير وبيع خيوط بلاستيك أكريلونتريل بوتادين ستايرين المتخلفة عن الطباعة. يقول مارك: «أتمنى أن يبدأ شخص بيع خيوط البلاستيك المعاد تدويرها قريبًا. يُجري معملنا ومعامل أخرى تجارِب على هذه الفكرة. ماذا لو حوَّل كلُّ منزل مخلفاته البلاستيكية إلى خيوط بلاستيكية يمكن استخدامها في الطباعة الثلاثية الأبعاد؟ إنه أمرٌ رائع!»
ربما ستصبح أول دفعة من خيوط البلاستيك المعاد تدويرها متاحة للاستخدام التِّجاري عما قريب. جمع تايلر ماكناني، الطالب في كلية فيرمونت التقنية، مبلغ عشرة آلاف دولار على موقع كيك ستارتر لصنع آلة تطحن وتعيد صهر الأجسام البلاستيكية المهمَلة المطبوعة بنحو ثلاثي الأبعاد لتحويلها إلى خيوط بلاستيك للطباعة. أطلق تايلر اسم «فيلابوت» على آلة إعادة التدوير هذه ووصفها عبر موقعه بأنها «سهلة الاستخدام لكنها … صديقة للبيئة كذلك، وهي ستساعد في اكتساب الطباعة الثلاثية الأبعاد لقوة الاستدامة الحقيقية.»
إن إعادة تدوير البلاستيك بداية جيدة، لكن هناك حاجة للمزيد. يقول مارك: «لجعل الطباعة الثلاثية الأبعاد تقنية يمكن أن تساهم في تطوير الحياة، نحتاج إلى طرق لطباعة المنتجات من المخلفات؛ مثل مخلفات الطعام والزجاج المعاد تدويره والرمل وحتى التراب.» يخطط مارك للقيام بالمزيد من البحوث لاستكشاف هل كان من الممكن استخدام مسحوق المواد الغذائية كمادة خام مستدامة للطباعة الثلاثية الأبعاد. يقول مارك: «دقيق الأرز متاح في جميع أنحاء العالم تقريبًا، ويؤدي بنحو جيد جدًّا في الطباعة. كما أن المنتجات الثانوية للطعام مثل قشرة الذرة أو قش القمح تكلفتها قليلة للغاية.»
أنهى مارك كلامه قائلًا: «تبدو الطباعة الثلاثية الأبعاد الصديقة للبيئة اتجاهًا رائعًا لنسلكه، وربما تبدو إعادة تحويل المخلفات إلى أجسام قابلة للاستخدام شيئًا خياليًّا، لكنها فكرة تستحق النظر فيها بتعمق لنرى إن كان يمكننا تحقيقها.»
(٣-٢) من «التقادم المخطط» إلى «المخلفات الوافرة»
أحد الأخطار البيئية للطباعة الثلاثية الأبعاد لا يتعلق بعملية التصنيع أو المواد الخام؛ بل بأسلوب التفكير الجديد. تتيح الطباعة الثلاثية الأبعاد للناس القدرةَ على تصميم وصنع أي جسم مادي يمكن أن يحلموا به. لكن كما يقول المثل القديم: «لا شيء في الحياة بالمجان»؛ فإعطاء الناس أدوات إنتاج يخلق كذلك الإغراء لتبديد المواد الخام وإنتاج الكثير من المخلفات.
عندما ظهرت طابعات الليزر القليلة التكلفة منذ بضعة عقود، لم تؤدِّ مباشرة إلى ظهور المكتب الذي لا يستعمل الورق، بل شجعت تقنيات الطباعة المتاحة على نطاق واسع والرخيصة، الناسَ على الطباعة بنحو مبذِّر وعشوائي. بالمثل، فإنه إذا وُجدت الطابعات الثلاثية الأبعاد في كل مكان، فربما تقود إلى إنتاج المزيد من المخلَّفات، وتسهِّل للناس صنع أشياءَ بنحو تبذيري من دون إدراك النتائج السلبية لأفعالهم.
يُنصح المهندسون والخياطات وحتى الجراحين بالقياس مرتين والقطع مرة واحدة. عندما يكون الإنتاج مكلفًا أو المخاطر كثيرة، فإن المصمم أو المهندس سيقيس ويخطط مرة تلو الأخرى للتأكد من أن الإنتاج المادي يسير كما هو مخطط له. إن برامج التصميم سهلة الاستخدام، ووجود طابعة ثلاثية الأبعاد قريبة، سيسهلان من عدم الانتباه لهذا الأسلوب الصديق للبيئة. لسوء الحظ، فإن الطباعة الثلاثية الأبعاد تولِّد روحًا من «التصنيع غير العقلاني» في بعض الناس الذين لديهم استعداد للقيام بهذا.
رأيت آثار التصنيع غير العقلاني بنحو مباشر. ذهبت ذات صباح لمعملي واكتشفت ٢٤ أو أكثر من الأجسام البلاستيكية مشوهة الشكل من نفس الشكل تقبع بنحو عشوائي على الطاولة التي تقع بجانب طابعة المعمل الثلاثية الأبعاد. اتضح أن صانع هذه النُّفايات البلاستيكية التي تكفي لملء صفيحة قُمامة كان أحد طلابي الذي قضى الليلَ في المعمل في طباعة نماذجَ أوليةٍ مليئة بالعيوب واحدًا تلو الأخر بنحو محموم؛ من أجل واجب دراسي كُلف به، ومِثل كاتب محبَط يمزِّق الأوراق واحدة تلو الأخرى، طبع هذا الطالب تصميمًا ثم عدَّل أبعاده بنحو بسيط في ملف التصميم وطبعه مرة أخرى؛ على أمل أن يخرج النموذج الجديد أفضل من سابقه.
ينقح مهندسو البرمجيات الأكوادَ الأولية بتجميعها واختبارها في هيئة رقمية، لكن تجميع الأكواد المعيبة وإعادة تجميعها أكثر من مرة لا يبدد موادَّ خام ثمينة، بل يبدد وقتَ وصبرَ المطور، لكنه لا يملأ صفيحة القُمامة بأجسام بلاستيكية مشوهة الشكل.
والآن، وقد سرَّعت الطابعات الثلاثية الأبعاد من عملية صناعة النماذج الأولية، فإن عملية التنقيح المادي الضارة بالبيئة أصبحت خيارًا واقعيًّا، على الأقل للأجسام الصغيرة. عندما يطبع الناس أفكار تصميم أولية بنحو ثلاثي الأبعاد بدلًا من اختبارها أولًا على مُحاكٍ إلكتروني أو القيام بعمليات القياس مرتين أو ثلاثًا، فهم يتبعون ما قد يصفه البعض بأنه عقلية تنقيح بدلًا من عقلية تصميم أثناء عملية تصميم المنتج. وحتى وقت قريب، كانت عقلية التنقيح في العالم المادي مكلفة للمال ومضيعة للوقت. تسهل الطابعات الثلاثية الأبعاد للناس اختبار ملفات التصميم خاصتهم عن طريق طباعتها، وهو شيء لم يكونوا ليحلموا به إذا كان يجب عليهم صنع هذه الأشياء بنحتها أو استخدام أساليب التصنيع الواسع النطاق.
في إشارة لما هو مقبل، إذا زرت أي متجر أو معمل يتيح للطلاب أو المهندسين وصولًا غير محدود لطابعة ثلاثية الأبعاد، فإن أي سطح مستوٍ سيمتلئ بالتجارِب الفاشلة للطباعة الثلاثية الأبعاد. على الرغم من ذلك، هناك جانب إيجابي بعيد الأمد لعملية التنقيح المادي في المواقف التي لا يمكن فيها بنحو مناسب اختبار التصميمات المعقدة باستخدام برنامج محاكاة؛ فكلما أصبحت التصميمات أكثر تعقيدًا، استحال تقريبًا — حتى بالنسبة إلى مهندس محترف — فحصها على شاشة كمبيوتر، والتنبؤ بما إذا كانت ستكون مجدِيَة على أرض الواقع. صحيح أن برامج النمذجة الجيدة باستخدام الكمبيوتر يمكنها أن تساعد في محاكاة الخواص المادية لأي جسم مصمم، لكن ليس هناك حتى الآن أي بديل لفحص الجسم المادي.
يمكن للنماذج الأولية المطبوعة بنحو ثلاثي الأبعاد سريعة الصنع أن تساعد في تقليل كَمية المخلفات على خطوط التجميع في التصنيع الواسع النطاق. فبصنع نموذج مادي من ملف تصميم رقمي، فإن المهندسين والمصممين تُتاح لهم فرصة أخيرة للتأكد من أن خططهم للمنتج ستفلح. وهكذا يمكن تصحيح مشكلات التصميم والعيوب الجمالية قبل أن تبدأ آلات التصنيع الواسع النطاق العمل لتبدد الطاقة الثمينة وتُخرج آلاف النسخ التي بها أخطاء.
تُعد تقنيات الطباعة الثلاثية الأبعاد أملًا للحفاظ على البيئة وخطرًا عليها على حد سواء، فسيكون من المثير للإحباط بعد ٢٠ عامًا من الآن أن يذهب تشارلز مور لاستخراج لعب بلاستيكية مطبوعة بنحو ثلاثي الأبعاد وحلقات ستائر حمام مخصصة، وغيرها من الحليِّ الصغيرة التافهة من رقعة النُّفايات العظمى في المحيط الهادئ. في عالم مثالي، كل التصنيع سيكون نظيفًا ومبتكرًا مثل عملية التصليد الشمسي في الصحراء، ولن تصبح الطباعة الثلاثية الأبعاد تقنية صديقة بالبيئة بطبيعتها إلا إذا سعَيْنا بنحو فعال لجعلها كذلك، فإذا أمكننا استغلال القدرات الفريدة للطباعة الثلاثية الأبعاد وصنع مواد طباعة أكثر صداقة للبيئة، فسنحصد الفوائد البيئية على هيئة سلاسل توريد أقصر وجيل جديد من المنتجات المحسَّنة.