آلة يمكنها صنع أي شيء تقريبًا
ماذا تفعل لو كنتَ تمتلك آلة يمكنها صنع أي شيء؟
في إنجلترا، يمسح فنيٌّ أقدام وكواحل العَدَّائين الأولمبيين، وينقل هذه البيانات إلى كمبيوتر يقوم ببعض الحسابات السريعة، ثم يطبع الفني على نحو ثلاثي الأبعاد أحذية عَدْو جديدة، مصممة خصوصًا لتُناسب الوزن والشكل الفريدين لجسد كل لاعب، وكذلك ذوقه وطريقة عَدْوه.
على الجانب الآخر من العالم، فإن وكالة ناسا تختبر قيادة نسخة من مركبة المريخ خاصتها، التي تُدعى مارس روفر، في صحراء أريزونا. تضم هذه المركبة أجزاءً معدِنية عديدة مصنوعة خصوصًا ومطبوعة بنحو ثلاثي الأبعاد. العديد من هذه الأجزاء معقدة التصميم؛ حيث تحتوي على منحنيات وتجاويف داخلية لم يكن تصنيعها ممكنًا من دون طابعة ثلاثية الأبعاد.
وفي اليابان، تحاول أمٌّ حُبلى صنع أفضل تذكار لأول أشعة بالموجات فوق الصوتية لجنينها؛ فيحرر طبيبها صورة الأشعة خاصتها، ويطبع على نحو ثلاثي الأبعاد نسخةً دقيقة مليئة بالتفاصيل من الجنين. والنتيجة كانت نموذجًا بلاستيكيًّا متطورًا ثلاثي الأبعاد للجنين الصغير موضوعًا داخل حافظة من البلاستيك الشفاف والصلد للاحتفاظ به للأجيال القادمة.
هذه المعجزات التصنيعية المتواضعة تحدث بالفعل على أرض الواقع، وفي المستقبل غير البعيد جدًّا، سوف يطبع الناس بالتقنيات الثلاثية الأبعاد أنسجة حية، وطعامًا مخصصًا، ومكونات إلكترونية مجمعة بنحو كامل وجاهزة للاستعمال. هذا الكتاب يتحدث عن طريقة جديدة لصنع الأشياء، وفي الفصول القادمة، سنشرح تقنيات الطباعة الثلاثية الأبعاد وأدوات التصميم بأسلوب مبسط. أما بالنسبة إلى القراء محبي التكنولوجيا، فهناك عدد من الفصول سوف يتعمق في تفاصيل حاضر الطباعة الثلاثية الأبعاد ومستقبلها. بعد ذلك، سنستكشف تبعات هذه التقنية، على الأصعدة الاقتصادية والشخصية والبيئية.
تفتح الطباعة الثلاثية الأبعاد آفاقًا جديدة؛ مما سيسبب اضطرابًا هائلًا في مجالَي التصنيع والأعمال التقليديين؛ حيث إن الناس العاديين سيُتاح لهم أدوات تصميم وإنتاج قوية، وستنتهي سلطة قانون الملكية الفكرية تمامًا.
بعض الناس يتذكرون بالضبط أين كانوا عند مشاهدة أول هبوط للإنسان على سطح القمر، بينما يتذكر آخرون الأسابيع الأولى المليئة بالفوضى بعد انهيار جدار برلين. أما أنا، فأتذكَّر أول مرة سمعت فيها عن الطباعة الثلاثية الأبعاد.
كان هذا في أواخر ثمانينيات القرن الماضي. كان المكان ندوة هندسة مملة عن هندسة التصنيع. كانت درجة الحرارة مرتفعة داخل القاعة، وكان المُحاضر — لسوء الحظ — يمتلك صوتًا رتيبًا يبعث على النوم؛ مما أدخلني أنا وزملائي فيما يشبه السُّبَات الجماعي.
ثم فُتِح باب القاعة مُصدِرًا صوتًا مرتفعًا، بدد الهدوء المسالم الباعث على النُّعاس للمحاضرة التي كانت في فترة ما بعد الظهيرة، واندفع رجل غريب داخلَ القاعة. أعلن زائرنا غير المتوقع أنه مندوب مبيعات تابع لشركة تسمى كيوبيتال سيستمز. لم نكن قد سمعنا بهذه الشركة من قبلُ، التي كانت حينها واحدة من شركتين فقط في العالم تبيعان طابعاتٍ تِجارية ثلاثية الأبعاد.
وبطريقة مفعمة بالنشاط، لوَّح الرجل بجسم بلاستيكي فوق رأسه، التي اكتست بشعر غير مهذب، معلنًا أن ثورة تصنيعية كانت تختمر. وزعم بكل جرأة قائلًا: «أحمل في يدي مستقبل التصنيع، هذا الجسم البلاستيكي صنعه ليزر «طابع» للبلاستيك.»
تقلقلنا أنا وزملائي في مقاعدنا في فضول، مفتونين بما يقوله هذا الرجل، وتساءلنا عن السبب الذي أتى به إلى قاعتنا. في تلك اللحظة، وبعد شعور أستاذنا باهتمامنا بما يقوله الضيف، ترك القاعة لزائره المتحمس في تصرف حكيم منه، وعَلِمنا لاحقًا أن أستاذنا هو من دعا مندوب المبيعات ليحاضرنا.
توقف ضيفنا المتقِن لأساليب العرض لبُرهة بنحو مدروس متلذذًا بالحيرة التي بدت علينا، ثم بدد الصمت السائد بطلبه من أحد الطلاب أن يحرك ذراع الإدارة البارزة من الجسم البلاستيكي. ما زلت أستطيع تذكُّر صوت القعقعة الحاد الذي تردد في القاعة أثناءَ تحريك زميلي للذراع بكل حماس، لوقت بدا كالدهر. وداخلَ الجسم البلاستيكي، حركت مكونات متداخلة معقدة بعضها بعضًا.
عادت أدمغتنا — التي سيطر عليها النُّعاس — إلى العمل، وهمهمنا بأسئلة بعضنا لبعض: «هل قال إنه طبع هذا الجسم باستخدام الليزر؟» فحصت أنا وزملائي التروس المتحركة محاولين معرفة أين ستنتهي هذه التسلية غير المتوقعة؟
زادت حَيْرتنا أكثر عندما ألقى مندوب المبيعات قُنبلته الثانية في وجوهنا قائلًا: «كل هذه التروس والمقابض والنتوءات التي تَرَوْنها هنا لم تُجمع؛ بل طُبعت في المكان المخصص لها كمجموعة واحدة مجمعة سلفًا من الأجزاء المختلفة.»
تعالَى صوت الهمهمات الحائرة في القاعة بنحو كبير، في الوقت الذي أنهى زائرنا المفعم بالنشاط عرضه بنحو مَرِح بنقطة أخيرة، وهي أن جهاز كمبيوتر — وليس إنسانًا — كان يدير الآلة الإعجازية هذه خلال عملية الإنتاج. ثم فتش الرجل في حقيبته، وأخرج ورقة لوَّح بها في وجوهنا. أظهرت تلك الورقة صورةً لكمبيوتر تحمل شاشته ملف تصميم لنفس الجسم البلاستيكي الذي أرانا إياه.
بعد ذلك، ابتسم مندوب مبيعات كيوبيتال سيستمز، وسأل عما إذا كان لدينا أي أسئلة. أمطرناه أنا وزملائي بالأسئلة بعد هروب النُّعاس. ما الذي كان يعنيه ﺑ «طباعة» كل هذه الأجزاء البلاستيكية باستخدام الليزر؟ وما نوع آلة التصنيع التي يمكنها صنع جسم مكون من أجزاء متداخلة لا تحتاج إلى التجميع؟ وهل يمكن لتلك الآلة طباعة شيء من مواد غير البلاستيك؟ وبالطبع السؤال الرئيسي: كم يتكلف شراء مثل هذه الآلة للاستخدام الشخصي؟
شعرنا على الفور أن التصنيع التقليدي سيصبح أمرًا مهجورًا من الماضي.
ما زلت أتذكَّر ذلك اليوم؛ فالعرض التقديمي الحماسي لُمحاضرِنا أقنعني أن هذه الآلة الإعجازية ستُحدِث ثورة بالفعل في طريقة تصميمنا وصنعنا لكل شيء. لم أكن رأيتُ من قبلُ علاقةً مقرَّبة بين التصميم باستخدام أحد برامج الكمبيوتر لجسم ما — كانت برامج التصميم حديثة العهد وكانت شغفًا متناميًا لديَّ في ذلك الوقت — وتجسيده المادي.
كان ذلك اليوم منذ عقدين، ولم تحدث الثورة التي وُعدنا بها بسرعة كما كان مخططًا لها؛ فبعد بضع سنوات، أغلقت كيوبيتال أبوابها، ومثل العديد من التقنيات الرائدة، كانت عملية الطباعة الثلاثية الأبعاد الخاصة بهذه الشركة تتسم بالبطء والتعقيد الشديدين، وكانت الآلات التي تنفذها باهظة الثمن للغاية بحيث كان من غير الممكن أن تعتمد عليها شركات التصنيع الهادفة للربح.
أتساءل أحيانًا أين ذهب ذلك الرجل بعد إغلاق كيوبيتال لأبوابها؛ فقد أصاب عرضه التقديمي — الجريء والمثير — هدفه جيدًا. ولن يمر وقت طويل قبل أن ينشئ عامة الناس أجسامًا مادية، ويمزجونها بأخرى، ويدمرونها، بنفس سهولة تعديل صورة رقمية.
(١) طباعة الأجسام الثلاثية الأبعاد
مثل العصا السحرية في حكايات الأطفال الخرافية، تَعِدنا الطباعة الثلاثية الأبعاد بالتحكم في العالم المادي من حولنا؛ فهي تتيح لعامة الناس أدوات جديدة وقوية للتصميم والإنتاج، وسيتمكن أصحاب الحسابات المتوسطة في البنوك من الحصول على نفس قدرة التصنيع والتصميم التي كانت حِكْرًا من قبلُ على المصممين المحترفين وشركات التصنيع الكبرى.
في عالم المستقبل المعتمد على الطباعة الثلاثية الأبعاد، سيصنع الناس ما يحتاجون إليه وقتَما يحتاجون إليه وأينما يحتاجون إليه. لكن التقنيات تكون مفيدة فقط حسب الغرض الذي يستخدمها الشخص من أجله؛ فربما يصنع الناس أسلحة وأدوية جديدة غير مرخصة أو حتى سامَّة، وربما تمتلئ بيئتنا بالقُمامة بسبب الأجسام البلاستيكية الجديدة والمطبوعة حسب الطلب، التي يتخلص الناس منها بنحو سريع. وسوف تجعل التحديات الأخلاقية للطباعة الحيوية الجدلَ حول الخلايا الجذعية يبدو بسيطًا عند مقارنته بها. أما تجار السوق السوداء، فسيقعون تحت إغراء كسب أرباح سريعة وبطرق غير مشروعة عن طريق صنع وبيع أجزاء آلات مَعِيبة، يمكن أن يؤديَ تركيبها الرديء إلى تعطلها في لحظات حرجة.
عندما يسمع معظم الناس عن الطباعة الثلاثية الأبعاد لأول مرة تقفز صورة الطابعة التقليدية مباشرة إلى أذهانهم. أكبر فارق بين الطابعة التي تنفث الحبر والطابعة الثلاثية الأبعاد هو فارق متعلق بالأبعاد؛ إذ تطبع الطابعة المكتبية بتقنية ثنائية الأبعاد عن طريق رش الحبر الملون على ورق مسطَّح، بينما تصنع الطابعة الثلاثية الأبعاد أجسامًا ثلاثية الأبعاد يمكنك حَمْلها في يدك.
تصنع الطابعات الثلاثية الأبعاد الأشياء باتباع تعليمات من كمبيوتر وتكديس الموادِّ الخام في طبقات. لفترة طويلة من التاريخ البشري، صنعنا أجسامًا مادية بتقطيع المواد الخام أو باستخدام قوالب لصنع أشكال جديدة.
الاسم التقني للطباعة الثلاثية الأبعاد هو «التصنيع بالإضافة»، وهو في الواقع اسم يصف عملية الطباعة الحقيقية بنحو أكبر. يتيح لنا أسلوب التصنيع الفريد الخاص بالطباعة الثلاثية الأبعاد صنع الأجسام بأشكال لم تكن ممكنة من قبلُ.
الطباعة الثلاثية الأبعاد ليست تقنية حديثة؛ فالطابعات الثلاثية الأبعاد تقوم بعملها في صمت منذ عقود في الورش التصنيعية. وعلى مدار السنوات القليلة الماضية، تطورت تقنية الطباعة الثلاثية الأبعاد بنحو سريع؛ بسبب التقدم في القدرة الحاسوبية وبرامج التصميم والمواد الخام الجديدة، ووقود الابتكار والإبداع الذي يسمى الإنترنت.
تلعب أجهزة الكمبيوتر دورًا حيويًّا في عملية الطباعة الثلاثية الأبعاد؛ فمن دون التعليمات الآتية من أحد أجهزة الكمبيوتر، تتوقف الطابعة عن العمل. وهي تعمل فقط عندما تُغذى بمخطط إلكتروني مصمم بعناية، أو ما يسمى بملف التصميم، الذي يعطيها تعليمات حول أماكن وضع المواد الخام. في الواقع، فإن الطابعة الثلاثية الأبعاد من دون كمبيوتر موصل بها وملف تصميم مصنوع بعناية تصبح بلا فائدة مثل جهاز آي بود من دون ملفات موسيقى.
تسير عملية الطباعة الثلاثية الأبعاد كما يلي: تتَّبع الطابعة إرشادات ملف التصميم، وتُخرج أو تصلد المادة الخام التي على هيئة مسحوق أو مادة ذائبة أو سائلة في نموذج محدد مسطح. بعد تماسك الطبقة الأولى، يعود «رأس الطباعة» الثلاثية الأبعاد لتشكيل طبقة رفيعة ثانية ووضعها فوق الأولى، وعندما تتماسك الطبقة الثانية، يضع رأس الطباعة طبقة ثالثة فوق الثانية. وفي النهاية تبدأ الطبقات في التراكم ليتكون الجسم الثلاثي الأبعاد.
لا تقطع الطابعات الثلاثية الأبعاد الأشياء أو تصبها في قوالب مثلما يفعل البشر أو آلات التصنيع التقليدية. ويتيح صنع الأجسام في طبقاتٍ القدرة على تجسيد نطاق أكبر من المفاهيم الرقمية، فإذا كان تصميم الجسم يحوي تجاويف داخلية دقيقة أو أجزاء متداخلة، فإن الطابعة الثلاثية الأبعاد ستكون هي أول آلة تصنيع يمكن أن تنفذ هذه التصميمات على أرض الواقع.
بدأت الأجزاء والمنتجات المطبوعة بتقنية ثلاثية الأبعاد في التسلل لحياتنا اليومية؛ فلوحة القيادة في السيارة تُصَمَّم بمساعدة نماذج أولية مطبوعة بتقنية ثلاثية الأبعاد للتأكد من أن كل مكوناتها المتعددة تتوافق معًا على نحو مناسب. وإذا كنت ترتدي سماعة مخصصة لضعف سمعك، فمن المحتمل أنها طُبعت بتقنية ثلاثية الأبعاد باستخدام نتائج مسح ضوئي حدد شكل أذنك الداخلية بدقة.
تطبع معامل الأسنان تيجان أسنان مخصصة في أقل من ساعة باستخدام صور الأشعة السينية، وتحوي أجساد العديد من الناس حول العالم رُكَبًا صناعية مطبوعة، مصنوعة من التيتانيوم والخزف. أما إذا حظيت بركوب طائرة بوينج الفاخرة الجديدة، دريم لاينر ٧٨٧، فقد ائتَمنت على الأقل ٣٢ جزءًا مختلفًا مطبوعًا بالتقنية الثلاثية الأبعاد على حياتك.
يمكن تلخيص سر الطباعة الثلاثية الأبعاد فيما يلي: الطابعات الثلاثية الأبعاد أكثر دقة ومهارة من أي أسلوب إنتاج آخر — سواء كان بشريًّا أو آليًّا — في تحويل التصميمات المعقدة لأجسام مادية عن طريق مزج المواد الخام بطرق لم تكن ممكنة من قبلُ.
اليوم، يمكن لأي طابعة ثلاثية الأبعاد منزلية عادية صنع أجسام بلاستيكية في حجم صندوق الحذاء، أما الطابعات الثلاثية الأبعاد الصناعية فيمكنها صنع ما يتراوح حجمه ما بين السيارة ورأس الدبوس الذي لا يكاد يُرى بالعين المجردة. بعض الناس أنشَئوا طابعات ثلاثية الأبعاد مخصصة يمكنها إنتاج هياكل خرسانية كبيرة في حجم منزل صغير. وطبع باحثون آخرون أجسامًا على مستوًى مصغر للغاية، صانعين أجسامًا تُرى تفاصيلها بالكاد بالعين المجردة.
(١-١) الرقمي (والتناظري)
في منتصف تسعينيات القرن الماضي، كانت التجارة الإلكترونية ووسائل الإعلام الرقمية في مهدهما. تنبأ نيكولاس نيجروبونتي — في كتابه الاستشرافي الرائع، الأعلى مبيعًا عامَ ١٩٩٥ «الكينونة الرقمية» — بزوال «الذرات الترفيهية»؛ فقبل سنوات من التحول الكبير للإعلام الرقمي، تنبأ نيجروبونتي على نحو صحيح بأن موفِّري الترفيه في هيئته المادية — ناشري الكتب الورقية ومحلات تأجير شرائط الفيديو وشبكات التلفزيون الكبرى — سينقرضون تمامًا مثل الديناصورات.
كان تراجع وسائل الإعلام ونشر الكتب الخاضعَين لإدارة مركزية مجرد بداية؛ فقد شهدت نهاية القرن العشرين تحوُّل المعلومات إلى الشكل الرقمي، وسيسعى القرن الحادي والعشرون للجمع بقوة بين العالَمين الافتراضي والمادي.
العالم الافتراضي هو عالم حر؛ حيث الجاذبية أمر اختياري؛ ففي ألعاب الفيديو، يمكن أن تقفز الشخصيات فوق الأبنية، وتنمو لها أذرع جديدة، وتتحول إلى أشكال مادية عديدة. العالم الافتراضي سهل التعديل والمراجعة؛ فمن المستحيل تغيير لون لحاء شجرة حقيقية لكن من الممكن بكل بساطة تحرير صورتها الرقمية. يمكن برمجة السلوك في العالم الافتراضي؛ فإذا حُددت تفاصيل جسم مادي في ملف تصميم، فإن «المادة الخام» الرقمية للتصميم تكون نمطية؛ أي إنها تتكون من أنماط ضوئية متمايزة بالغة الصغر على الشاشة أو ما تسمى البِكْسلات.
سوف تَسُدُّ تقنيات الطباعة الثلاثية الأبعاد الفجوةَ التي تفصل بين العالَمَين الافتراضي والمادي. بالطبع، سيبرز المتشككون ليوضحوا أن العالَمَين يلتقيان بالفعل في عدة نقاط؛ ففي نهاية الأمر، إن عمليتَي التصميم والتصنيع تقودهما أجهزة الكمبيوتر منذ عقود، وحاليًّا، أصبح الإنتاج الواسع النطاق آليًّا بنحو شبه تام (فيما عدا آخر خطوة، وهي خط التجميع الذي يُشرف عليه البشر بنحو مكثف).
ستكون عملية تلاقي العالَمَين الافتراضي والمادي بطيئةً وصعبة، وستحدث على مراحل. في البداية سنتحكم في شكل الأجسام المادية، ثم سنكتسب مستويات جديدة من التحكم في تكوينها والمواد المصنوعة منها، وأخيرًا سنتحكم في سلوكها.
التحكم في الشكل
يمكن للطابعة الثلاثية الأبعاد فهم ملف التصميم الرقمي بكل دقة؛ مما يقربنا خطوة من استغلال الكم الهائل من الحرية والإبداع المتوافرَيْنِ في العالم الافتراضي، فإذا شاهدت فيلم رسوم متحركة، فمن الواضح أن أي مشهد على الشاشة صُنع بالكمبيوتر؛ فهناك ديناصورات تتجول في محطات مترو الأنفاق الحديثة، وجنود آليُّون على هيئة صقور حوَّامة، قادرون على الطيران، ويُطلقون أشعة ليزر قاتلة على أي شيء يعترض طريقهم.
إذا تنقَّل الفيلم ذهابًا وإيابًا بين الواقع والرسوم المتحركة، فسيتضح للمُشاهد فورًا أن هناك فرقًا واضحًا بين عالم الكمبيوتر، الغني بالتفاصيل والناتج عن المُخَيِّلة الخصبة للعديد من الأشخاص، وبين الواقع. إحدى الطرق لإدراك الآفاق التي تُتيحها الطباعة الثلاثية الأبعاد والمخاطر التي تحيق بها هي تأمُّل الاستبداد والقوانين الجامدة التي تحكم العالم المادي، وبما أن الطابعة الثلاثية الأبعاد تبني الأشياء على شكل طبقات، فيمكنها صناعة أشكال كانت متاحة فقط في الطبيعة؛ إذ أصبحت المنحنيات والفراغات والفجوات الداخلية المعقدة ممكنة الصنع.
لكن التحدي يكمن في أن الذرات تجتمع معًا بطرق غير متوقعة. فيمكن لأي تصميم أن يبدوَ رائعًا على شاشة الكمبيوتر لكنه ينهار تمامًا بعد تصنيعه؛ لأنه غير قادر على مقاومة الجاذبية ومحدودية المواد الخام. على العكس، فإن العالم الرقمي يتيح لخيالنا مرونة وحرية إبداع كبيرتين، وهو يضم بحماس كبير أمورًا غير ممكنة في الواقع.
التحكم في التكوين
في ثاني مراحل التقارب بين العالَمَين الافتراضي والواقعي، ستتيح لنا الطباعة الثلاثية الأبعاد تحكمًا دقيقًا فيما تتكون منه الأشياء أو مكونات المواد الخام المصنِّعة لها. ستفتح الطابعات الثلاثية الأبعاد — العاملة بعدَّة أنواع من المواد الخام — البابَ لإنتاج أشياءَ جديدة ومبتكرة. وهذا النوع الجديد من المنتجات سيُصنع عن طريق مزيج دقيق من المواد الخام التي يتفوق دمجها في كل واحد على مجموع أجزائها معًا.
تخيَّل عُلبة ألوان مائية يمكن فيها خلط اللون الأزرق بالأصفر لإنتاج درجات لا نهائية من اللون الأخضر. في الطبيعة، يتحد ٢٢ حمضًا أمينيًّا بطرق مختلفة لتكوين أشكال مختلفة من البروتينات، والطابعة الثلاثية الأبعاد التي تعمل بمواد خام متعددة، والمزودة بتعليمات محددة عبر ملف تصميم، ستكون قادرة على دمج مواد خام تقليدية معًا لتخرج تكوينات جديدة.
عندما تتطور تقنية الطباعة الثلاثية الأبعاد، سنشهد صنع أجسام عن طريق مزج للمواد يستحيل حدوثه في الوقت الحاليِّ؛ سنرى أجزاء آلات يمكنها العمل مرة أخرى بعد تعطلها، أو شبكة يمكنها التمدد لِما يصل إلى عشرة أمثال طولها الحقيقي، وستستجيب الأجهزة الطبية لفصيلة دم المريض أو تكتشف أي تغير في درجة الحرارة.
يكمن السبيل الثاني للتحكم في التكوين في اتجاه مغاير قليلًا؛ فستصبح الطابعات الثلاثية الأبعاد قادرةً في يوم ما على صنع مواد خام يمكن التحكم فيها؛ ففي العالم الافتراضي، كل المعلومات مهما كانت معقدة تعود في الأساس إلى جوهرها المجرد، الذي يتكون من وحدتين أساسيتين: إما الواحد أو الصفر.
على العكس، فإن الأجسام المادية تتكون من دوامات غنية وغير نمطية من المواد الخام التي تتكون من الذرات كوحدات أساسية لها، والتي يصعب السيطرة عليها والتحكم فيها. وبسبب وجود هذا التنوع في المواد الخام في العالم المادي، فإن المواد «التناظرية» يصعب التقاطها في هيئة رقمية بنحو مفيد؛ ونتيجة لهذا، فإن المواد التناظرية يصعب نسخها والتحكم فيها وبرمجتها بدقة.
تُعتبر الذرات المتنافرة كابوسًا لأي مُصنِّع. هذا حقيقي؛ فالطابعة الثلاثية الأبعاد لا يمكنها تفكيك الذرات لجعلها أكثر مُطاوَعة، لكن ما يمكن لهذه الطابعة القيام به هو المزج بمهارة بين المواد الخام التي كانت متنافرة لتخرج على هيئة جسم واحد مطبوع.
من المعروف عن الدوائر الإلكترونية أنه يجب صنع أجزائها المعدِنية أولًا بنحو منفصل عن أجزائها البلاستيكية والخزفية قبل أن تُجمع لاحقًا. وفَرضت حقيقةُ أنه يجب تصنيع المواد الخام المكوِّنة للأجزاء الحساسة من هذه الدوائر بآلات تصنيعية منفصلة، أن تكون هذه الدوائر مسطحة ومصنوعة من طبقات رقيقة عدة.
لو لم تكن مكونات الدوائر الإلكترونية تعاني من لعنة التنافر، لاستطعنا صنعها بكل الأشكال والهيئات، لكن إذا كان يمكننا الدمج بين المواد الموصِّلة وغير الموصِّلة معًا في طابعة ثلاثية الأبعاد؛ فيمكننا صنع دوائر بكل الأشكال والمقاسات. ويمكننا طباعة أجهزة ميكانيكية بدوائر مضمنة داخلَها سلفًا، تنافس في تعقيدها العالم البيولوجي.
طريقة أخرى للسيطرة على تكوين المواد الخاصة بالأجسام المطبوعة هي تحويلها إلى فوكسلات، وهي المقابل المادي للبكسلات. يمكن أن تكون تلك الفوكسلات أجزاءً متمايزة بالغة الصغر من مادة صُلبة، أو يمكن أن تكون حاويات بالغة الصغر تحمل أي شيء تضعه فيها.
ما زلنا في طور تعلُّم طباعة الأجسام الثلاثية الأبعاد المصنوعة من الفوكسلات، وستتيح هذه الأجسام بديلًا للمواد التناظرية التي تُكوِّن معظم الأشياء الملموسة. وإذا كان يمكنك صنع شيء من الفوكسلات، فقد اقتربت خطوة من جعله يتصرف كما لو كان جسمًا مبرمجًا والسيطرة على ما يقوم به؛ فالتحكم في تكوين الأجسام الملموسة يفتح الباب للمرحلة التالية؛ وهي التحكم في سلوك هذه الأجسام المادية.
التحكم في السلوك
تأمَّل أي طاولة مطبخ خشبية، إذا كنت قادرًا على مسح أسطحها الخارجية باستخدام الماسح الضوئي، فيمكنك تحويل هذه البيانات لملف تصميم، وبمجرد تحويل أبعاد الطاولة المادية لصيغة رقمية بنجاح، يمكن حينها بسهولة التحكم الكامل بنحو مؤقت في تصميم الطاولة باستخدام برنامج تصميم.
يمكنك تحرير ملف تصميم الطاولة، ثم طباعة نسخة جديدة من الطاولة على نحو ثلاثي الأبعاد. على الرغم من ذلك، فإنك ما لم تطبع الطاولة الجديدة باستخدام مليارات الفوكسلات بالغة الصغر، فإنها ستظل تناظرية؛ أي إن المواد المصنَّعة منها والأجزاء والقطع المكوِّنة لها ستظل جامدة وغير ذكية وثابتة وخاملة؛ أما إذا كان يمكنك طباعة الطاولة الجديدة على نحو ثلاثي الأبعاد باستخدام الفوكسلات، فسينبثق أمامك عالم جديد من الاحتمالات.
ومع استمرار حجم المكونات الإلكترونية في الانخفاض وزيادة قدرتها الحاسوبية، سنقدر في يوم ما على الطباعة الثلاثية الأبعاد لفوكسلات تحوي دوائر بالغة الصغر. ومثل البكسلات التي يُكوِّن اتحادها المثالي والمتقن صورة رقمية جميلة عالية الجودة، فإن الاتحاد المثالي والمتقن للفوكسلات يمكن أن يصنع أجسامًا ملموسة ثلاثية الأبعاد تتميز بالذكاء والفاعلية.
تتيح الفوكسلات صنع مواد خام ذكية ونشطة؛ فبدلًا من طباعة أجزاء ثلاثية الأبعاد سلبية كما نفعل اليوم، سنقدِر في المستقبل على طباعة أنظمة نشطة — على سبيل المثال هاتف محمول عامل — وستَصنع الطابعات الثلاثية الأبعاد أقمشةً ذكية، وأنواعًا مختلفة من الروبوتات الجاهزة، وآلات قادرة على التعلم والاستجابة والتفكير. وسنطبع أشياءَ ملموسة تملك ذكاء الأشياء الرقمية.
يومًا ما، ستتيح الطباعة الثلاثية الأبعاد نقل الذكاء الاصطناعي من الكمبيوتر إلى أرض الواقع، وستصبح الروبوتات والسايبورجات أثرًا ثقافيًّا قديمًا من تسعينيات القرن الماضي. يكمن المستقبل في المادة القابلة للبرمجة، المواد الخام التي يمكن برمجة سلوكها وطباعتها، بنحو ثلاثي الأبعاد في شكل محدد.
ربما في يوم ما تخرج روبوتات مطبوعة بنحو ثلاثي الأبعاد من الطابعة وهي تحوي بالفعل بطاريات ومستشعرات ودماغًا تتكون من العديد من الدوائر الإلكترونية. ستتحسس تلك الروبوتات الوليدة طريقها مترددة خارج عالم الطباعة، وتُشغِّل نظام دوائرها الإلكترونية لمعرفة طريقها في عالم الواقع. وربما ستعود تلك الروبوتات يومًا ما لطابعتها لإضافة سمات جديدة «لآلة الولادة خاصتها» من أجل فحص الأجزاء المطبوعة أو إعادة معايرتها أو استبدالها.
(١-٢) إرسال الأجسام المادية بالفاكس
إن التلاقيَ الحقيقي بين العالَمَين الواقعي والافتراضي سيحدث عندما نقدر بكل سهولة على تغيير الشكل بين المحسوس والافتراضي؛ عندما يمكن للأجسام المادية التحول بسلاسة من بِتَّات إلى ذَرَّات، ومن ذَرَّات إلى بِتَّات. وبنفس الطريقة التي يُطبَع بها مستند رقمي على الورق ثم يُمسَح ضوئيًّا ثم يُطبَع مرة أخرى، فستقدِر الأجسام المادية يومًا ما على التحول من بِتَّات إلى ذَرَّات والعكس.
حذر نيجروبونتي، في كتابه «الكينونة الرقمية»، من أن العالم المحسوس لن يتحول بسهولة إلى هيئة رقمية؛ فالذرات ثقيلة ونقلها مكلف، كما أن الأشياء المادية تحتاج لمساحات لتخزينها، وتصر الذرات بنحو عنيد على التمسك بعضها ببعض بطرق محددة بدقة وصرامة.
ربما تصبح الطابعاتُ ثلاثية الأبعاد يومًا أجهزةَ فاكس متميزة. إذا أصبح العالَمان الافتراضي والمادي بحق غير منفصلَيْنِ، فيمكننا نقل الأجسام المادية من مكان لآخر بأقل مجهود. منذ سنوات مضت، عندما كنتُ طالبًا حديث التخرج، كان بعض زملائي يعملون بجد لمعرفة كيفية القيام بهذا. كانوا يطورون تقنيات للمسح الضوئي، ويختبرون دقتها على طابعة ثلاثية الأبعاد قديمة.
أعجبتني رؤيتهم، والتي ما زالت حتى اليوم سابقة لزمنها بعقود. لكن بحسب علمي، فإنهم لم يقدِروا على تجاوز بعض التحديات الرئيسية. أولًا: إن الماسحة الضوئية تلتقط فقط تفاصيل أسطح الأجسام التي يحتوي معظمها على بناء داخلي مهم. ثانيًا: إن زملائي السابقين تمكنوا فقط من طباعة أجسام جامدة بسيطة مصنوعة من مادة واحدة فقط.
اليوم، يمكننا إرسال أجسام مادية بسيطة عبر طابعة ثلاثية الأبعاد تمامًا وكأنها جهاز فاكس. عملت على مشروع مع زميل لي يعمل أستاذًا للآثار، يفك شفرات ألواح مِسْمارية تعود لآلاف السنين. دائمًا ما يأخذه بحثه إلى مواقع أثرية في دول عدة في الشرق الأوسط.
عاد زميلي مؤخرًا من رحلة للخارج منزعجًا من عدم قدرته على العودة إلى وطنه بأي معلومات مفيدة. تُعتبر الألواح المِسْمارية ذات قيمة، ويقوم من يعثر عليها بتسليمها على الفور لحكومات البلد التي يستخرجها منها، ويحاول علماء الآثار التقاط أكبر قدر من التفاصيل عن طريق التصوير ونسخ شكل الحروف بمثابرة، لكن التحدي يكمن في أنه لا يوجد ما يضاهي الجسم الحقيقي.
قررنا أنا وزميلي القيام بتجرِبة لمعرفة هل كان يمكننا «إرسال» ألواح مِسمارية لا تُقدَّر بثمن من مكان لآخر عبر طابعة ثلاثية الأبعاد. اتفقنا على إمكانية إجراء تصوير مقطعي لبعض تلك الألواح التي كانت في حوزته، ثم تحويل بيانات المسح إلى ملف تصميم، وإعادة إنشاء نسخة طبق الأصل من الألواح من خلال طابعة ثلاثية الأبعاد.
تصورنا أنه إذا نجحت تجرِبتنا فإنه يمكن لزميلي عند سفره إلى الخارج في المرة القادمة أن يقنع السلطات المحلية أن يصور الألواح المسمارية الثمينة مقطعيًّا، ثم يكون عليه إرسال معلومات التصميم لطابعة ثلاثية الأبعاد — سواء أكانت قريبة منه أم بعيدة — لمشاركتها مع أي شخص آخر على سطح الكوكب. ويمكنه عرض خدمة حفظ لا تُقَدَّر بثمن للبلد المضيف كذلك، حيث إنه يمكنهم تخزين بيانات التصوير المقطعي والنُّسخ الثلاثية الأبعاد أيضًا.
اكتشفنا أن إرسال تلك الألواح عبر الطابعة سهل على نحو مفاجئ؛ فقد حولنا أولًا بيانات التصوير المقطعي لملف تصميم، ثم طبعنا نسخًا طبق الأصل بنحو ثلاثي الأبعاد من الألواح النادرة والثمينة، بمقاسات مختلفة ومواد خام متنوعة.
أفضل ما في الأمر أننا اكتشفنا خلال التجرِبة ميزة إضافية، وهي أن التصوير المقطعي التقط الحروف المحفورة على الجوانب الداخلية والأسطح الخارجية للألواح. أدرك الباحثون منذ قرون أن العديد من هذه الألواح تحمل رسائل مكتوبة داخل تجاويفها الداخلية. مع ذلك — وحتى الآن — فإن الطريقة الوحيدة لقراءة هذه الرسائل هي كسر — وبالتالي تدمير — اللوح، وأحد فوائد التصوير المقطعي والطباعة الثلاثية الأبعاد لنسخة طبق الأصل من تلك الألواح، أنه يمكنك بكل أريحية كسر النسخة المطبوعة وقراءة ما بداخلها.
(٢) المبادئ العشرة للطباعة الثلاثية الأبعاد
التنبؤ بالمستقبل أمرٌ غامض، وأثناء كتابتنا لهذا الكتاب ومقابلاتنا مع بعض الأشخاص حول الطباعة الثلاثية الأبعاد، اكتشفنا بعض «القواعد» الضمنية التي ظلت تظهر لنا. وقد وصف الكثير من الأشخاص، من نطاق عريض ومتنوع من الصناعات والخلفيات ومستويات الخبرة، طرقًا متشابهة ساعدتهم فيها الطباعة الثلاثية الأبعاد في تجاوز عقبات أساسية تتعلق بالتكاليف والوقت والتعقيد.
لخصنا ما تعلمناه في العشرة المبادئ التالية، ونأمل أن تساعد الأشخاص والأعمال على حد سواء على الاستفادة بنحو كامل من تقنيات الطباعة الثلاثية الأبعاد.
- المبدأ الأول: تعقيد الصنع لا يكلف مالًا: في التصنيع التقليدي، كلما زاد شكل الجسم تعقيدًا، زادت تكلفته. أما بالنسبة إلى الطابعات الثلاثية الأبعاد، فإن التعقيد يكلف نفس ما تكلفه البساطة؛ فصنع أجسام مزخرفة ومعقدة لا يتطلب المزيد من الوقت أو المهارة أو التكلفة أكثر من طباعة مكعب بسيط. ومجانية التعقيد هذه ستُخل بتوازن نماذج التسعير التقليدية، وتغير كيفية حسابنا لتكلفة صنع الأشياء.
- المبدأ الثاني: التنوع مجاني: يمكن لطابعة واحدة ثلاثية الأبعاد صنع العديد من الأشكال؛ فمثل الحرفي البشري، يمكن للطابعة صنع شكل مختلف كل مرة. الآلات التقليدية أقل تنوعًا بكثير، وتُصَنِّع نطاقًا محدودًا من الأشكال. تلغي الطباعةُ الثلاثية الأبعاد التكاليفَ الإضافية المتعلقة بإعادة تدريب عمال الآلات أو إعادة تجهيز آلات المصنع؛ فأي طابعةٍ ثلاثية الأبعاد تحتاج فقط لمخطط رقمي مختلف، ومجموعة جديدة من المواد الخام.
- المبدأ الثالث: لا حاجة للتجميع: تُنتج الطباعة الثلاثية الأبعاد قطعًا متداخلة. على العكس، يقوم التصنيع الواسع النطاق على خط التجميع؛ ففي المصانع الحديثة، تصنع الآلات أجزاءً متطابقة يُجَمِّعها معًا لاحقًا العمال أو الروبوتات، ويحدث هذا أحيانًا في قارَّات بعيدة. وكلما زادت الأجزاء التي يحتويها الجسم، زادت تكلفة إنتاجه وزاد وقت تجميعه. لكن عن طريق صنع الأشياء بمُراكمة الطبقات، يمكن لأي طابعة ثلاثية الأبعاد طباعة باب بمُفَصَّلات متداخلة في نفس اللحظة من دون الحاجة لأي تجميع. وتقليل التجميع سيؤدي إلى قصر سلاسل التوريد؛ مما يوفر المال المدفوع للعمال والنقل، كما أن قِصَر سلاسل التوريد سيؤدي إلى تقليل التلوث المنبعث منها.
- المبدأ الرابع: لا يوجد وقت إنتاج: يمكن للطابعة الثلاثية الأبعاد طباعةُ الأشياء حسب الطلب عند الاحتياج لها، وهذا التصنيع الفوري يقلل حاجة الشركات للتخزين المادي للسلع، وسيؤدي هذا إلى ظهور أنواع مختلفة من الخدمات؛ حيث ستتيح الطابعة الثلاثية الأبعاد إمكانية صنع أجسام مخصصة عند الطلب استجابةً لطلبات العملاء. وانعدام وقت الإنتاج يمكنه تقليل تكاليف الشحن لمسافات طويلة إذا صُنِعت الأجسام المطبوعة عند الحاجة إليها، وبالقرب ممن يحتاج إليها.
- المبدأ الخامس: فضاء التصميم لا نهائي: يمكن للحرفيين وتقنيات التصنيع التقليدية صنع عدد محدود فقط من الأشكال؛ فقدرتنا على صنع الأشكال محدودة بالأدوات المتاحة لنا. على سبيل المثال، إن مِخْرَطة الخشب التقليدية يمكنها صناعة أجسام دائرية فقط، وآلة التفريز يمكنها فقط صنع أجزاء يمكن استخدامها من قبل عدة التفريز، أما آلة القَوْلَبة فيمكن فقط أن تصنع أشكالًا يمكن صَبُّ الأشياء فيها ثم استخراجها منها. وتتيح الطابعةُ ثلاثية الأبعاد القضاءَ على كل هذه العقبات؛ مما يتيح فضاء تصميم جديدًا وواسعًا، ويمكنها صنع الأشكال التي لا توجد حتى الآن إلا في الطبيعة فقط.
- المبدأ السادس: لا حاجة لمهارة في التصنيع: يتدرب الحرفيون التقليديون لسنين لاكتساب المهارات التي يحتاجون إليها في عملهم، ويقلل الإنتاجُ الواسع النطاق وآلاتُ التصنيع المعتمدة على الكمبيوتر الحاجةَ للإنتاج المعتمد على العمال المَهَرة. مع ذلك، فإن آلات التصنيع التقليدي ما زالت تحتاج إلى خبير ماهر لتعديلها ومعايرتها. تحصل الطابعةُ الثلاثية الأبعاد على معظم إرشاداتها من ملف تصميم؛ فلصنع جسم ما بتعقيد متساوٍ، تحتاج تلك الطابعة إلى مهارات تشغيل أقل مما تحتاج إليه آلة القَوْلبة بالحَقن. ويفتح هذا النوع من التصنيع نماذج عمل جديدة، ويمكن أن يتيح أساليب إنتاج جديدة للناس في البيئات البعيدة أو الظروف القاسية.
- المبدأ السابع: التصنيع مدمج ومتنقل: بِناءً على حجم مساحة الإنتاج، فإن الطابعة الثلاثية الأبعاد تمتلك قدرة تصنيعية أكبر من آلة التصنيع التقليدية. على سبيل المثال، إن آلة القولبة بالحَقْن يمكنها فقط صنع أجسام أصغر بنحو كبير من حجمها. على العكس، فإن طابعة ثلاثية الأبعاد يمكنها صنع أجسام كبيرة في حجم سرير الطباعة خاصتها، وإذا ضُبطت الطابعة لتتحرك آلةُ الطبع خاصتها بنحو حر، فيمكنها صنع أجسام تَفُوقها في الحجم. وتَجعل القدرةُ الإنتاجيةُ العاليةُ للقدم المربع الواحد من الطابعات الثلاثية الأبعاد اختيارًا مثاليًّا للاستخدام المنزلي أو المكتبي لأنها تَشْغَل حيزًا صغيرًا.
- المبدأ الثامن: المخلفات الثانوية أقل: تخلِّف الطابعات الثلاثية الأبعاد، التي تعتمد على المعادن، مخلفاتٍ ثانويةً أقل مما تخلفه نظيرتها من تقنيات التصنيع التقليدية التي تخلف كَميات كبيرة تقدَّر بنسبة تسعين بالمائة من المعادن الأصلية التي ينتهي بها الحال مُلقاة على أرض المصنع، أما الطابعات الثلاثية الأبعاد، فأقل إضاعةً للمواد الخام في تصنيع المعادن. وبتطور مواد الطباعة، فإن عملية تصنيع الأجزاء بشكلها النهائي مباشرة دون المرور بمراحل وسيطة من الممكن أن تصبح طريقة لصنع الأشياء أكثر صداقة للبيئة.
- المبدأ التاسع: هناك أنواع لا نهائية من المواد: المزج بين العديد من المواد الخام المختلفة في منتَج واحد أمر صعب باستخدام آلات التصنيع الحالية، وبما أن آلات التصنيع التقليدية تقسم أو تقطع أو تصنع قوالبَ لصنع الأشكال المحددة، فإن تلك العمليات لا يمكنها المزج بسهولة بين مواد خام مختلفة. وبتطور مجال الطباعة الثلاثية الأبعاد ذات المواد الخام المتعددة، سنكتسب القدرة على المزج بين أنواع مختلفة من المواد الخام. وهذا المزج، الذي لم يكن متاحًا من قبلُ بين المواد الخام، يتيح لنا مجموعةً أكبر بكثير — وغير مستكشفة في الكثير من الأحيان — من المواد الخام بخواص جديدة أو سلوكيات مفيدة.
- المبدأ العاشر: الاستنساخ المادي دقيق: يمكن استنساخ ملف موسيقي رقمي بنحو لا نهائي من دون فقدان جودة الصوت. وفي المستقبل، فإن الطباعة الثلاثية الأبعاد ستنقل الدقة الرقمية هذه لعالم الأجسام المادية، وستتيح تقنيتا المسح الضوئي والطباعة الثلاثية الأبعاد معًا التنقلَ عاليَ الدقة بين العالَمين الرقمي والمادي، وسنتمكن من مسح وتحرير ونسخ الأجسام المادية لصنع نُسَخ طبق الأصل منها أو تحسين الجسم الأصلي.
بعض هذه المبادئ تحقَّق بالفعل في عالمنا اليوم، وهناك مبادئ أخرى سوف تتحقق على مدار العقد أو العقدين أو الثلاثة القادمة. وبالتخلص من قيود التصنيع التقليدية القديمة، فإن الطباعة الثلاثية الأبعاد تفتح الباب لشلال متدفق من الإبداع. في الفصول التالية، سنستكشف كيف ستغير تقنيات الطباعة الثلاثية الأبعاد الطرق التي نعمل ونأكل ونُعالج ونتعلم ونصنع ونلهو بها. دعونا نبدأ بزيارة لعالم التصنيع والتصميم؛ حيث تقلل تقنيات الطباعة الثلاثية الأبعاد من السلطة الاستبدادية لاقتصادات الحجم.