سيِّدة عابري السبيل
كانت النار تزفر في الموقد.
وكانت أيدي الأحداث الحمراء من شدة البرد تتزاحم مضطربة فوق المستوقد.
وفي الخارج كانت الرياح تعصف بقوة، والهواء المجنون يزمجر في الأبعاد، جارًّا خلفه أطواد الثلوج، وأغصان الأدواح من أعالي الجبال.
أما الباب المضطرب فوق رَزَّاته، فقد كان يئن أنينًا مزعجًا.
اقترب الأحداث من وردة المسنة، التي كانت تبرم دولابها تحت مئزر الداخون، وقال لها فريد، وهو أكبر الأحداث سنًّا: احكي لنا حكاية يا أُمَّ وردة، حكاية طويلة وجميلة.
كانت ليالي الشتاء طويلة كثيرة الساعات، وكان الأهل يرسلون أولادهم في أغلب الأحيان إلى الأم وردة؛ لتعلِّمَهم مخافة الله، ومحبة القريب، وتقص على مسامعهم حكايات قديمة.
فابتسمت الأم وردة لفريد وقالت له: أيَّة حكاية تود أن أقصها عليك يا بني؟ أعصفور النار … أم سيدة البحيرة الوردية؟
فأجابها الأحداث بحميَّة: لا، لا، بل حكاية مخيفة يا أم وردة.
فأردفت الفتيات الصغيرات قائلات وهن يضطربن: أجل نريدها مخيفة يا أم وردة.
فتجمعت الأم وردة، وبعد أن ترددت قليلًا تركت شفتيها تتلفظان بهذه الكلمات: أصغُوا لأقص عليكم … فريد، انظر هل الباب مغلق … فلا يجب أن يمر الروح القدس في هذه الساعة … أصغُوا لأقص عليكم حكاية بيلاطوس البنطي.
عندما سمع الأحداث هذا الاسم المخيف حدَّق بعضهم في بعض بخوف ورهبة ورسموا شارة الصليب على وجوههم.
ثم أكملت الأم وردة حديثها قائلة: أنتم تعرفون حق المعرفة أن بيلاطوس البنطي حكم بالموت على سيدنا يسوع المسيح.
هذا الرجل الملعون كان الحاكم المطاع في بلاد اليهود؛ وكان لا يحتاج إلى أكثر من إشارة يعطيها لجنوده حتى يقهر الفريسيين الكفرة، إلا أنه كان جبانًا ومتكبرًا …
أجل كان متكبرًا، أتسمعين يا سليمة؟ …
كان لا يود أن يفقد مركزه في المدينة؛ إذ إن اليهود كانوا يتهددونه بالخَلْع عن عرشه إذا عرف عاهل روما أنه لم يحكم بالموت على ملك اليهود.
عند ذلك نزل بيلاطوس عند رغائب الشعب اليهودي، وحكم على المسيح بالصلب على خشبة كبيرة بين لصَّين.
ثم غسل يديه ليوهمَ الناس أنه بريء من هذا الذنب الفظيع، وأنه لم يثقل ضميره بتلك الجناية التي لا وجه لها من العدل.
إلا أنه لم يستطع أن يضل نفسه، فلم تكدْ روح سيدنا يسوع المسيح تفيض على الصليب، حتى تمسَّك الندم بروح بيلاطوس كما يتمسك الخفاش بشباك أحد الكهوف!
وبعد بضعة أعوام طلب العاهلُ بيلاطوسَ، ووبَّخه غاضبًا، وقال له إنه لم يبقَ بحاجة إليه؛ لأنه لم يُحسن إدارة الشعب، وزاد على ذلك بأن أمَره بالرحيل عن روما، والسكن بعيدًا عنها لكي ينسى الجميع حتى اسمه.
إلا أن العاهل قد أخطأ خطًأ عظيمًا يا بني، إذ إن الشعب لم ينتبه إلى بيلاطوس ويذكر جريمته إلا منذ هجر روما.
يتأكد لنا من مصيبة بيلاطوس وأوجاعه أن الله لا يحب الأردياء، الذين يرتكبون الجرائم بجبانة وخوف!
لا تنسوا هذه العبرة يا أولادي، وأنتن يا صغيراتي، عندما تصبحن كبيرات، وتجلسن إلى أبنائكن لتقصصن عليهم حكايات الأم وردة، يجب أن تسردنها كما أسردُها أنا على مسامعكن الآن.
فهتف حبيب وسليمة بصوت واحد قائلين: نعم يا أم وردة!
فعادت الأم إلى حكايتها فقالت: تملَّك اليأسُ من نفس بيلاطوس فذهب إلى أقاصي الأرض هاربًا من الضمير، إلا أن شبح الصليب بقي ماثلًا أمام عينيه في كل حين.
ولكي يخنق صوت ضميره أخذ يبحث عن جنوده وشعبه، فلم يجد أحدًا منهم، فهام على نفسه في مجاهل الأرض، لا يهدأ له روع ولا يقرُّ له قرار!
فعندما كان يمر أمام الينابيع أو البحيرات كان يغمس يديه في مياهها، تينك اليدَين اللتين أشارتا بالحكم على المسيح المبارك، وشفتاه المرتعشتان تتمتمان بهذه الكلمات: أنا بريء من دم هذا الصديق!
أما البشر فكانوا يرونه مجتازًا من مدينة إلى أخرى بدون أن يضطربوا منه، أو أن يوجسوا خيفةً من شرِّه.
وبعد حين عاد بيلاطوس إلى بلاد اليهود، ووقف في روما مرة أخرى … وفي أحد الأمساء رآه الشعب «مشنوقًا» بعصابة وشاحه، فنزعوه عن الشجرة، ورموه في أعماق هوة مظلمة.
أما الأرض فلم تكن ترضى به طعامًا في بطنها فبصقته، واضطر الشعب إلى إرجاعه إليها أولًا وثانيًا وثالثًا، حتى أمر عاهل روما بأن يوضع في كيس مثقَّل بحجارة ضخمة، ويُلقى في نهر التيبر، أحد أنهر روما.
إلا أن النهر لم يلبث أن هيَّج مياهَه، وفاض على شواطئه حتى غمر عدة شوارع من المدينة.
أما المراكب فشرعت تتعالى مع الأمواج المجنونة، وينقلب بعضها على بعض، فخشي البحارة هولَ العاقبة، فنزعوا الجثة من أعماق المياه، وأخذوها إلى فرنسا حيث حفروا هوَّة عميقةً في جبل قريب من مقاطعة فيانَّ رموا فيها جثة بيلاطوس بعد أن ثقَّلوها بأطواد هائلة.
إلا أن الصواعق بدأت تنقضُّ وتثور مُتلفة كل ما يتفق لها أن تجده في طريقها، حتى أحدثت أضرارًا أكثر من التي حدثت في روما.
إذ ذاك استولى الشعب على الجثَّة ورموها في الرون، وهو نهر يضارع السهم بجريانه السريع.
إلا أن النهر لم يلبث أن غضب غضبة أشد من التي غضبها التيبر والجبل القائم في فرنسا والنمسا، فأخذ يطرح الجثَّة تارة على شاطئه الأيمن، وطورًا على الأيسر، حتى دَبَّ الخوف في قلوب السكان، فعرضوا أمرهم لشارلمان، الذي كان أعظم ملك في العالم كله.
عند ذلك فكَّر الملك طويلًا يا بنيَّ، ثم استشار أساقفته وقوَّاده في الأمر.
إلا أن هؤلاء كانوا أشد تحيرًا منه.
أخيرًا عندما رأى الملك أن الشعب الفرنسي لم يبقَ باستطاعته أن يتحمَّل خوفه ورهبته أصدر أمره بنقل الجثة إلى لوزان.
إلا أن حاكم هذه المدينة لم يتردد بأن استرحم الملك بأن يبعد عنه تلك الجيفة التي أرعبت المدينة بأسرها.
إذ ذاك أشار الملك شارلمان بأن يُدفن بيلاطوس في جبلنا العالي، وأن يبقى فيه إلى ما شاء الله.
لم يكن عندنا يوم ذاك مَن يدافع عنا، يا أعزَّائي، فجاءوا بالجيفة الملعونة ودفنوها في هذا الجبل الذي أُطلق عليه اسم «جبل بيلاطوس».
وهنا توقفت الأم وردة عن الكلام، ثم قالت: لقد مضى هزيعٌ من الليل يا بنيَّ، فيجب أن ترجعوا إلى مآويكم، وغدًا، إن شاء الله، أُكمل لكم قصة بيلاطوس.
فتململ الأحداث لدى توقُّف الأم وردة عن إكمال الحكاية، وقالوا لها: لا تتوقفي يا أم وردة، وأخبرينا عما جرى في جبل بيلاطوس بعد أن دُفنت فيه الجثة، فما من أحد هنا يستطيع أن يقص مثلك حكايات مخيفة، هذا ما قاله لنا أمس رئيس المدرسة.
فتهدَّدتهم الأم وردة بإصبعها، وقالت لهم محدِّقة من خلال نظاراتها إلى يوحنَّا الصغير: يا لكم من ملَّاقين صغار … ولكن لا بأس فاسمعوا النهاية: عندما دُفنت جثة بيلاطوس في جبلنا هذا يبست الأعشاب، وجفَّت الينابيع، وماتت الطيور، وهربت حيوانات الجبل مذعورة مضطربة، وترامت الأشجار تحت انقضاض الصواعق، وذبلت أجساد السكان وشحبت وجوههم …
أما الحجارة فكانت تتهيَّر من البروق الزرقاء، وأطواد الصخور تتساقط من قمة الجبل وتترامى في مياه البحيرة الزرقاء، والأرض تتشقَّق عن لُجج عميقة، وكهوف سوداء تشرئب منها أعناق أفاعٍ هائلة وثعابين ذات رءوس عديدة!
أما اليوم، فيقال: إن شبح بيلاطوس يجتاز الجبل في «الجمعة الحزينة» ويمر «بمعبر الشيطان» متبوعًا بالأرواح الشريرة!
من هم هؤلاء الأرواح؟ وما شأنهم في الجبل؟ …
ما من أحد يدري يا صغاري، ولكن ويل للمسيحيين الذين يمرون بمعبر الشيطان، فإنهم يموتون شر ميتة إذا هم لم يستنجدوا بحرَّاس السماء، ولا تجرؤ العقبان أن تأكل لحومهم الدنسة!
ويلٌ للمسيحيين الخطأَة، الذين يجتازون الجبل ويلقون في مياه البحيرة حجرًا أو قضيبًا!
ويلٌ لهم من شبح مخيف، يتمسَّك بعنقهم ويرفعهم إلى الفضاء، ثم يطرحهم في أعماق اللجَّة!
لم تكد الأم وردة تصل إلى هذه الكلمة حتى قُرع الباب قرعةً هائلة، فتضعضعَ الأحداث وجمدوا في مكانهم من شدة الخوف.
فانتصبت الأم وردة أمام الباب شاحبة الوجه مضطربة الأعضاء ورسمت على وجهها إشارة الصليب.
عند هذا قُرع الباب قرعةً أخرى، وسُمع صوتٌ قائلًا: افتحي يا أم وردة! …
عرفت الأم وردة صاحب الصوت، فجذبت زلَّاج الباب واندفع رجلان إلى الغرفة، فقالا لفريد: تعال يا فريد، انهض واتبعنا! …
وفي حين كان الولد يتوارى في الظلمة المتفلعة بالبروق الزرقاء، عكف أحد الرجلين فوق الأم وردة وقال لها: اضرعي إلى الله يا أم وردة … فوالد فريد سُحق تحت صخر هائل في معبر الشيطان …
•••
لم يبق فريد ذلك الولد الضاحك، الذي أُطلق عليه فيما مضى اسم «عصفور الغابات» ففمه الحزين كان مستبقيًا طيَّة أليمة، وجبهته البيضاء كانت دائمًا منحنية إلى الأمام، وكانت عينه المغلَّفة بالدموع مرتسمةً عليها معاني فكرة موجعة، هي البحث المستمر عن مشكل لا يُدرك!
فعندما كان يذهب إلى ضفاف البحيرة الزرقاء ليرعى مواشيه حسب عادته، كان يرى الجبل صامتًا ساكنًا لا يجيب إلى أغانيه المفرحة بأغانٍ مفرحة! فالصدى كان أخرس كفريد!
كانت الأشهر الطويلة قد مرت على ذلك اليوم المشئوم، واستحمَّت الطبيعة بلهاث نَيْسان الجميل وأنفاسه العطرية العذبة، وتفتَّحت الأزهار عن براعمها لتستقبل قبلات الشمس الأولى، وأنشدت الطيور أغاني الربيع الزاحف على التلال.
أما مياه البحيرة فلم تبقَ كما كانت هائجةً متلاطمة، بل إنها استعادت جمالها القديم، القديم … وهدوءها العذب حيث انعكست قمَّة الجبل البيضاء وزرقة الجلد الصافي.
وأما الأكمات الخضراء فعادت تؤلِّف زنَّارًا من الأعشاب، تحيط به تلك البحيرة ذات المياه الممتدة إلى أقاصي الخلجان الصغيرة.
هناك، كان جبل بيلاطوس نفسه يعود إلى الحياة محاطًا بأبخرة وردية شفافة، ويتبسَّم عن أجمل ما وهبته إياه الطبيعة، بعد أن كان نذيرًا ينذر الأهلين بالويل!
أما فريد فكان منصرفًا عن كل ما لا يمت إلى الحزن والألم.
أحيانًا كان يجلس على ضفَّة البحيرة فيدلِّي رجليه فوق المياه، ويأخذ بنزع طاقات من القصب الذابل المتلاعبة به تموُّجات الأمواه؛ وأحيانًا كان ينتصب على قدميه مقطَّبَ الجبين مُشتَّت الأفكار، ويصرف ساعات طويلة شاخصًا إلى جبل بيلاطوس، ثم يهزُّ رأسه المفكر، ويستسلم للنحيب والدموع! …
ذات مساء قُرع جرس الكنيسة قرعات محزنة، مذكرًا المؤمنين بموت المسيح، فلم يتردَّد فريد أن أرجعَ مواشيه إلى المزود، وسجد عند أعمدة سريره، وجعل يصلِّي أمام تمثال صغير للسيدة العذراء، ثم نهض فجأة وأخذ عصية حديدية بيده وخرج …
كان فريد يسير في عقبة ذات مسالك صعبة، فيتسلَّق المنحدرات الوعرة، والأطواد الشاهقة، ولا يلتفت إلى الحصيات المتهيرة تحت أقدامه من مرتفع العقبات إلى أعماق اللجج.
وكانت العقبة تحتجب شيئًا فشيئًا وراء السرو المنتصب في أطراف الصخور.
أما النهار فكان يضيء الأشياء بشعاع شاحب باهت، وبعد هنيهة وقف الفتى الهائم على نفسه في المفاوز الوعرة، وكان قلبه يخْفُق خفقانًا شديدًا فقال: كن عَونًا لي يا ملاكي الحارس ولا تُهملني!
ثم تقدَّم إلى الأمام بخطًى وثيقة، في حين كانت الهوَّة تفغر فاهًا عن يمينه، والسرو الشاهق يهزهز أغصانَه المستطيلة عن يساره، حتى انتهى به السير إلى مكان خطر رهيب، فخُيِّل إليه أنه يسمع «طقطقة عظام صادرة من بين الصخور»، فاضطرب اضطرابًا عنيفًا، وحدَّق بنظره إلى الشفق البعيد فتراءت له مياه البحيرة من خلال شقٍّ في الجبل تذيب عليها الشمس أشعَّتها الصفراء، كأنها قمينٌ من نحاس مذوب.
بعد فترة قصيرة زحف الضباب الكثيف في وسط أنوار بخارية، فامَّحقت تحته الأشياء، وأقبل الليل على صهوة جوادٍ أدهم، فساد السكون في مطارح الجبل، ولم يبقَ من متحرك إلا حفيف الأوراق، ورقرقة المياه المتسرَّبة من أعالي القمم.
مرَّت ساعات عديدة وفريد يضطرب وراء صخر منحن، شاخصًا إلى الظلمة بعين تائهة بلهاء.
كان يلعن تهوُّره المجنون، وغباوته التي لا وجه لها من الحكمة، وودَّ لو استطاع أن يهرب.
وإذ به يبصر مشهدًا رهيبًا تبسَّط أمام عينيه.
ذلك أنه رأى أشباحًا سوداء، مرتدية ثيابًا رهيبة، تزحف بسكون على الحضيض، كان بعضهم ينفخون في أبواق معكوفة، والبعض الآخر يحركون أذرعهم المجرَّدة من اللحم، وهم ممدَّدون في أكفان خفاقة من نسيج أبيض، وكانت شعلة مخيفة تعصب جبين أحد هؤلاء الأشباح، في حين كان تاج من الحديد يسحق بثقلِه رأس شبح يتثاقل بمشيته.
وكان بين الأشباح دودةٌ قذرة، تعُدُّ قطعًا من الدراهم، بدون أن ينهكَها التعب، فيصعد من تلك القطع النحاسية رنينٌ مزعج مخيف!
كان شبح من هؤلاء الأشباح يزحف مضطربًا تائهًا، ويداه المرتعشتان تتجرَّدان من الجلد شيئًا فشيئًا، وقد أحاطت به أخيلة رهيبة ذات شكل وحشيٍّ.
أما هؤلاء الأشباح، فكانوا يضحكون ضحكًا عاليًا، فيتصاعد من بين أرديتهم الخفَّاقة دويُّ عظام يصطكُّ بعضها على بعض، وتنفذ من محاجرهم المجوَّفة أشعَّة حمراء جهنمية.
كانوا يسيرون ببطء على الحضيض، وفريد يتبعهم بسكون وتيهان! فمروا خلال المجاري المتحدِّرة من أعالي الذرى، واجتازوا اللجج العميقة والسهول الرحبة، فكانت السيول والجداول تجفُّ عند مرورهم، وتيبس الأعشاب، وتجمد الشجر بعد أن تعرى من أوراقها! لقد كانوا مندفعين في جولانٍ لا نهاية له ولا قرار …
بعد فترة انقضَّت صاعقة هائلة عقبها بروقٌ أنارت الجبل بلمعانها الغريب، عند هذا توقَّف التطواف الجهنمي، فأبصر فريد بحيرة سوداء ذات مياه وبائية قامت على جوانبها عُمُدٌ من الصخور الضخمة، وفي طرف هذه البحيرة حجارة ترتفع فوق قبر أسود، وقف على أحدها شبحٌ متوَّج.
كانت طائفة من البشر أو من الحيوانات — لا أدري — جاثية على جوانب تلك الحجرة، وقد فغرت أشداقًا مخيفة تطاير منها شعلات خضراء أنارت مطارح الجبل.
وكانت سحائب من الأشباح المجنحة تتطاير في مذاهب الفضاء، فوق كوم من السَّمندَر والضفادع المدملة والحراذين المنتفخة، تدبُّ على الأرض بكل ما فيها من السموم.
أما الشبح التائه، الذي كان يرتعش ارتعاش الأوراق، فصعد إلى حجر عال كأنه كرسي قضاء، وانتصبت تحته الأشباح ذات التيجان الحديدية، وأما الدودة، فقد بقيت تعُدُّ قطع الدراهم بدون أن تعي، فيتصاعد منها رنين رهيب.
في تلك الساعة المخيفة صرخت الأشباح والديدان والخلائق ذات الحناجر المفغورة والأفاعي السامة قائلة: يوداص! يوداص! يوداص! …
عند هذا رمت الدودة الرهيبة، التي أُطلق عليها اسم يوداص تلك القطع الفضية من يديها الجشعتين؛ ثم انحنت لتلتقط غنيمتها، وإذا بالأصوات الجهنمية تنطلق صارخة: يوداص! يوداص! يوداص!
عند هذا تشقق الأفق في المشرق، وانتصب الصليب بين هالة من النور، فنزع الخائن حبلًا من وسطه وأحاط به عنقه، ثم رمى بنفسه من قمة الصخر إلى الأسفل … فانشق بطنُه وتدفقت أحشاؤه على الأرض.
في تلك الدقيقة فرح الأشباح فرحًا عظيمًا، وانطلق الضحك من أفواههم، وظهر على الصليب رجل مدمى!
فأبصر فريد الشبح الكبير الذي كان جالسًا على كرسيه ينتصب على قدميه صارخًا: أنا بريء من دم هذا الصديق! …
وتراءى له طيفٌ في يده قصعة ماء، يسكب منها على يدي بيلاطوس اليائس، فيستحيل ذلك الماء دمًا على يديه …
وسمع طائفة الأشباح تهتف بأصوات مرتفعة قائلة: أيها الجبان! أيها الجبان! فيردد الصدى في الأبعاد قائلًا: جبان! جبان! …
ثم رأى الأشباح الرهيبة ذات الشكل الوحشي تعكف فوق قبر بيلاطوس، وتنزع منه بعض عظام نخرة!
أما هذه العظام، فكانت تستحيل تحت لهاث الأشباح إلى أفاع، تحمل على جباهها هذه الكلمة: جبانة!
وتحت لهاث الأشباح الفاسد كانت عظام يوداص تستحيل إلى أفاع تحمل على جباهها هذه الكلمة: خيانة!
وتراءى له أن الأفاعي يشهر بعضها حربًا على بعض، حتى إذا استعادت العظام شكلها الأول مزَّق قيافا رداءه، وصرخ قائلًا: لقد جدَّفت!
وكانت الديدان تفترس صدره، فسقط على الخضيض دفعةً واحدة، في حين كان هيرودس يصرخ بملء شدقيه: أنا المجنون! … أنا المجنون! …
وكان بيلاطوس وهيرودس وقيافا والفريسيون والكتَبَة ويوداص «المشنوق» يتخاصمون، ويشتُم بعضهم البعض، ويوبخ كل منهم الآخر على إماتة الصديق، مستسلمين لنيران الجحيم.
لم يكن يُسمع من تلك الغوغاء المخيفة إلا أصوات الشتائم واللعنات.
بعد فترة قصيرة توارى الصليبُ، وسُمع صوت عظيم من الحجرة الملعونة صارخًا: أيتها الأرواح الساقطة، لقد لعننا الله إلى الأبد! … فقفوا عن النزاع ولنحارب تلاميذ المصلوب … إليَّ يا يوداص! إليَّ يا بيلاطوس! إلي يا هيرودس وقيافا! … إليَّ أيها الكتبة والفريسيون … إليَّ أيتها الأرواح المتسربة في أعماق الظلمات، ولنثر ضد العدالة والحرية والحقوق! ولننتقم من البشر أجمعين! … فهذا الجبل الملطَّخ بهيكلك يا بيلاطوس هو مُلكنا! فاقتل ودمِّر ولا تدع مسيحيًّا واحدًا يُفلت من يديك القاهرتين! … افرح يا بيلاطوس فدونك ضحية!
عند هذا أبصر فريد الشبح المتوَّج، يشير إليه بإصبعه النارية، ورأى بيلاطوس ينحدر إليه وفي مقلتيه أشعة ملتهبة … فاضطرب اضطرابًا عظيمًا وصرخ قائلًا: إليَّ يا سيدة عابري السبيل!
ولم يكد يتلفَّظ بهذه العبارة حتى أُغمي على الأشباح.
•••
عندما استفاق فريد على ضفَّة البحيرة الزرقاء، شعر بيد تمسح العرق البارد عن جبينه، فجلس فجأة مضعضعَ الأفكار، وصرخ صوتًا خنقته الرهبة وقال: مَن هنا؟ من هنا؟
فسمع فريد صوتًا يقول له: ألم تنادني يا بنيَّ؟ …
وأبصر سيدة مرتدية وشاحًا أبيض، ذات عينين تذوبان جمالًا سماويًّا تنظر إليه بعذوبة وحنو، وكانت نظرات السيدة، تلك النظرات الوالدية، تسير في عروقه دمًا جديدًا، وتمحق من رأسه التائه تلك الرؤى الرهيبة! فانطرح فريد على ركبتيه وصرخ قائلًا: أيتها الأم! أيتها الأم، أأنتِ؟ هل أشفقت على ضعفي، ولم تغضبي من تهوري وجسارتي؟ …
فابتسمت مريم في وجهه وقالت له: أنا عارفة يا بني أن التطفل ليس هو الذي دفعك إلى اقتحام هذه الأخطار.
فلقد رغبت في معرفة الخطر، حتى تميل إخوتك عنه … فارتعش قلبي الوالدي يا فريد وأسرعت إلى إنقاذك، وإنقاذ إخوتك …
فريد، أطلب أن يُبنى لي معبد في مدخل معبر الشيطان.
فحار الولد في أمره وأجابها: مَن أنا؟ ومَن يصدقني؟ … ومَن يجرؤ أن يصدقني؟ …
– إن قوة الله تسير إلى جنبك يا فريد … فوالدك يضرع في السماء! ثم توارت الرؤيا البيضاء.
•••
تبسم الرئيس في وجه فريد وقال له: إذن يلزمك معبد يا بني؟
– ولكن يا سيدي الرئيس، ليس أنا الذي يطلب ذلك، فسيدتنا العذراء ترغب في أن يُخصص لها معبدٌ في الجبل.
– آه! أراك تمتزج بالأرواح السعيدة وتتحدث إليها! ألا تعلم أنه الشرف العظيم للرعية أن يكون بين أفرادها رجل مثلك؟ …
فأجابه فريد بحزن عميق: لا بأس إذا سخرت مني يا سيدي الرئيس، ولكن ثق بأنني لم أحلم ولم أكذب، فسيدتنا العذراء تريد معبدًا لها، وسيتم لها ذلك طوعًا أو كرهًا!
– لا تدع الحدة تستولي عليك يا بُني، فإذا كانت السيدة ترغب أن يُبنى لها معبد فلا بد أن تنال ما ترغب، إذن فلا تغضب وعد إلى قطيعك.
•••
شاع في القرية أن العذراء أصدرت أمرها ببناء معبد في مدخل معبر الشيطان …
أية غرابة في ذلك؟ فالعذراء يحق لها دائمًا، وفي كل مكان أن تسحق رأس الثعبان الجهنمي! هذا ما ثبَّتته الكنيسة، وتلفظ به الرئيس مرات عديدة وهو يعظ في الكنيسة أمام المؤمنين.
أليست العذراء القادرة الأم الرحيمة؟ …
ألم تظهر للقديس منراد بمجد عظيم؟
فلماذا لا تظهر لفريد، وهو ولد تقي مات والده منسحقًا تحت صخرة هائلة في معبر الشيطان؟ …
وهكذا بقيت الإشاعة تتردد من فم إلى فم …
أما السيد راغب، وهو رجل بدين لين العريكة بالرغم من تصنع في كلامه وأبهة هيئته، فقد قال يومًا لكثير من مأموريه إن هذه المسألة تزعجه وتؤلمه، وإنه لا يرى حلًّا لهذا المشكل الغريب، وزاد على ذلك بقوله إن فريدًا مع ما هو عليه من التقاوة وحسن السلوك، لم يخرج عن أن يكون ولدًا غير مدرك.
وهنا أخذ السيد راغب يضيع في تآويل شتى عن الأولاد وتهورهم وقصر نظرهم، ثم قال: إذا قدر فريد أن يمهد لي سبيلًا أستطيع به أن أُؤَمِّن حياة البنَّائين المعهود إليهم ببناء المعبد، فلا أتردد بأن أقف ما يرغب فيه للسيدة العذراء.
أما فريد فكان يعول على وعد العذراء التي قالت له: إن قوة الله تسير إلى جنبك.
فجعل يتحدث إلى راغب مدة طويلة، حتى عزم هذا أن يبني المعبد، بشرط أن يذهب فريد إلى معبر الشيطان ويعود سالمًا.
أخذ راغب البدين يحث الجماهير على الرحيل، فلم يمر وقت قصير حتى كان سكان القرية جميعهم — ما عدا الرئيس — في طريقهم إلى الوادي الملعون.
عندما بلغ الجمهور منتصف الجبل، وأطلُّوا على معبر الشيطان، تردَّدوا عن المسير خطوة واحدة، فبقي فريد يتقدم وحده إلى أن وصل إلى صخر متداع، فأمرَّ عليه عصيته ثلاث مرات، فدُهش الجميع وحاروا؛ إذ إنهم أبصروا خيوطًا واهية دقيقة تتصاعد من الأدغال، وتترامى من قمم الأدواح المرتفعة، وهي تلمع لمعان الفضة، وما لبثت هذه الخيوط الواهية الدقيقة أن شبكت الصخر المتداعي وأوثقته على كنف الجبل.
وكان فريد يذهب ويجيء، فيلامس بعصيَّتِه الصخور والحجارة والأطواد، فترتجف هذه كلها، وتمَّحق تحت شباك فضية، ثم تبين موثقة على كنف الجبل!
بعد أشهر قليلة كان معبدٌ أبيض الجدران قائمًا في مدخل الوادي، وكان على هذا المعبد تمثال العذراء المجيدة، يبارك بذراع مستطيلة جبل بيلاطوس والمضايق العميقة والبحيرة الزرقاء.
ومنذ عام ١٥٨٥ كلما مرَّ عابر مسيحيٌّ من ذلك الجبل، لا يجد بدًّا من السجود على أقدام سيدة عابري السبيل.