مطوقة الطوباوي يوسف ده كوبرتينو
في مطلع القرن السابع عشر، كانت أُسرة فقيرة من أُسر العمال تعيش في مدينة كوبرتينو، القريبة من خليج تارانت.
كانت الحياة عبوسة في وجه هذه الأسرة، وكان القوت الضروري يمر مذاقه في أفواه أعضائها، إذ إن الحكمة الإلهية شاءت أن تكبلها بقيود ظالمة من الشقاء والتعاسة.
كان ديزه قد استدان مبلغًا من المال، وعجز عن وفائه، فقامت عليه قيامة رجال العدالة وطردوه من كوخه، في حين كانت امرأته المسكينة تضع ولدها يوسف في أعماق مربط مظلم!
كبر الولد بين أحضان البؤس، وكان ذا جمال ينحط عن إدراكه تصورُ البشر؛ فالابتسامة العذبة كانت تطفو على وجهه الوردي، وعيناه الكبيرتان كانتا تلمعان بأشعة من أشعة الذكاء واللطف.
أما في المدرسة فكان شديد الانتباه، يصغي بدهشة وسرور إلى كلام المعلم عن الخالق وقديسيه، رافعًا نظره إلى السماء كمن يضيع في نواح بعيدة عن هذا العالم، مستطلعًا أفراح اللانهاية … وأما رفاقه الأحداث الذين لم يكونوا يستطيعون أن يرتفعوا بعقلهم العاجز إلى ما فوق هذا العالم فكانوا يسمونه «الفم الفاغر».
كان ذكاؤه الفطري يخترق بدون إجهاد أصعب المسائل العلمية التي تدور حول محور النفس، فيستغرب أهله ومعلموه هذه الفطنة النادرة، وينظرون إليه بريبة قائلين في نفوسهم: ما يكون من أمر هذا الولد؟
كانت مخيلة يوسف مثقلة بأفكار غريبة، إذ إنه كان يفكر دائمًا بخطيئة الكبرياء، وبتمرد الملائكة، وبعقاب الجِنَّة، وجبل الجلجلة ومزود البقر … وكان قلبه يخفق ويضطرب لدى دفع الرغبات المجهولة، والأشواق إلى تلاشي قواه الذاتية، وإلى التضحية في سبيل العزة الإلهية.
ذات يوم بينما كان يوسف ساجدًا أمام أيقونة العذراء، شعر بقلبه يتحطم من كثرة الحزن فهتف صارخًا: أيتها الملكة، أيتها الأم العذراء، انظري إليَّ نظرة رحمة وشفقة، فلقد وقفت للخالق نفسي وقلبي، ونذرت له كياني … لقد كابد ولدك من الآلام ما لا يطاق، أما أنا فأراني مسرورًا ومغتبطًا في هذه الحياة! لقد ضحَّى بنفسه في سبيل الإنسان، وأراني يحفُّ بي المديح من كل صوب، هو المجد الأبدي وأنا ابن العدم! …
عند هذا سمع صوتًا صادرًا من شفتي العذراء يقول: أيها الولد العزيز بُلغت ما ترغب في نيله، فسوف تشبعك الأحزان وتصبح هدفا لسخط البشر، سوف يجحدك أهلك وينكرونك، فأنا أمُّ الأوجاع! … أنا شافية المرضى! … والخالق يلذ له أن تضحِّي بذكائك في سبيله! ستحظى بمجد لا مجد بعده أيها الولد، يا فدية الكبرياء، وستمسي كاهنًا! …
بعد أيام قلائل شحب وجه الولد واصفرَّ، ولامس الذبول عينيه السوداوين، وغطَّى جسده قروح سمجة، حتى إن أُمه نفسها أصبحت لا تقترب منه إلا بتكرُّه ونفور.
بقي الولد منطرحًا على فراشه العفن، وقد ابتعد عنه الجميع، حتى أقرب الناس إليه.
ذات يوم قدم البلدة ناسك غريب، فدخل بدون أن يتلفظ بكلمة، إلى الكوخ الحقير، حيث كان يوسف ينزع نزعًا أليمًا، وعندما اقترب من فراش المريض دهنه بمرهم ثمين، فختمت القروح، وتساقطت عنها القشور الكريهة، فنهض البريء هزيل الجسم واهن القوى، وقد أصبح عاجزًا عن استرجاع ذكائه القديم.
أما روحه فكانت شاخصة إلى الله، ترتفع من يوم إلى يوم عن أباطيل هذا العالم وترَّهاته، وقد شعر بأنه يتنازع بين حياة الدير وحياة هذا الوجود، حتى دفعته النفس يومًا إلى أن يطرق باب الكبوشيين، فعُين خادمًا للمائدة في ذلك الدير.
ذات يوم، في حين كان الأخ يوسف يخدم على المائدة سمع القارئ يتلفظ باسم الله والمسيح ومريم، فاضطرب اضطرابًا شديدًا، وتساقطت الصحون من يده على الأرض، حيث تحطمت إلى أجزاء عديدة.
عندئذ لبث منتصبًا على قدميه في منتصف القاعة، لا يُبدي حراكًا، وعيناه سابحتان في عالم مبهم غير مكترث لتأنيب رئيسه، ولكل ما يحيط به.
أما الرئيس، فود أن يمتحن طاعته، فأمره بأن ينقل ماء من رواق الدير إلى الكهنة القانونيين، فرضخ الأخ المسكين لأمر رئيسه، إلا أنه كلما صادف صورة قديسة يقع في ذهول لا حدَّ له، فيسهو عن واجبه، حتى غضب الرئيس غضبًا شديدًا، وما عَتَّم أن طرده من الدير بعد أن نزع عنه جبته الثقيلة.
وأخيرًا قرر الأخوة الأصغرون أن يرسلوه إلى دير صغير، حيث يتعهد البغال، فقال في نفسه: هذا خير ما يوافقني!
صرف الأخ يوسف سنين عديدة في ذلك الدير طائعًا، ورِعًا حتى اكتسب جميع القلوب، وما عتم أن رسم كاهنًا، وظهرت للوجود دلائل تُقاه وقداسته.
منذ ذلك الحين أخذ يبذر العجائب في كل مكان، ويقود الشعب إلى الإيمان الحي ومحبة الله، بالرغم مما كان عليه من الجهل؛ لأن المرض كان قد نزع من ذاكرته تلك العلوم التي تلقنها بذكائه الفطري.
•••
على مقربة من كوبرتينو تقوم بلدة ماندورة الصغيرة، تحت سماء صافية الأديم، مذهبة بأشعة وردية اللون، تنعكس على مياه بحر هادئ ذات أمواج زرقاء.
ذات يوم شاع نبأ أليم في الجبل، فلم يتردد القديس يوسف أن أسرع إلى ماندورة، فرأى جماعة من البائسين المرضى يجولون في السبل، وأبصر بعض رجال أقوياء يضعون أمام باب الكنيسة حصيرة عليها فقير غطت القروح جسده، وشاهد فتاة لا تزال في ريق صباها تقود شيخًا أصيب بالعمى، وامرأة تضم إلى صدرها طفلًا أخرس، يتراوح بين الموت والحياة!
كان هؤلاء القوم يسرعون إلى ملاقاة القديس؛ ليستمنحوه إنزال عجائبه عليهم والرأفة بمصائبهم الأليمة.
•••
هناك، تجاه قصر دوريا منزل صغير، أغلق الحزن بابه على العابرين، وتصاعدت منه أنَّات وتنهدات!
ذلك أن امرأة بائسة من المؤمنات فقدت وحيدها في ذلك المنزل، فتقاطر القوم زرافات إلى مؤاساتها، ودلائل الحزن بادية على وجوههم.
بعد هنيهة أبصروا القديس قادمًا، فهتفوا قائلين: هو ذا القديس! هو ذا القديس!
أما القديس، فتقدم عاري الرجلين من الجماعة، وقال لهم مبتسمًا: لا، لا تقولوا: هو ذا القديس، فأنا من الخاطئين، بل قولوا: هو ذا الخاطئ!
ثم اقترب من الولد الأخرس وقال له: قل معي يا بني: الأب يوسف خاطئ يستحق نار الجحيم!
فانتفض الولد وصرخ قائلًا: الأب يوسف قديس عظيم يستحق السماء!
عند هذا غرق الشعب في بحر من الهذيان، وتراموا على قدمي القديس الكاهن، وأخذوا يقبلونهما، ويحاولون أن ينزعوا عنه سبحته وجبته.
في تلك الدقيقة أجهش أحد الرجال بالبكاء، وصرخ قائلًا: إنه لقديس عظيم! إنه لقديس عظيم!
إذ ذاك حوَّل القديس نظره إلى المنزل المحزون، وقد ارتسمت الآلام على قسمات وجهه، ثم أشرقت أسرَّته بنور جميل، وقال ناظرًا إلى السماء: يجب أن تظهر اليوم عظمة الله يا إخوتي الأعزاء، فالله قد منح إيمانكم جزاء يستحقه، هيوا بي الآن! …
عند هذا فتحت الأم الثاكلة باب منزلها، فدخل القديس يتبعه الشعب الغفير، فأبصر جثة باردة ممددة على فراش طويل، وبالقرب من الفراش تابوت ينتظر فريسته! فنزع الأب يوسف صليبه وقرَّبه من شفتي الأم فقبَّلته، ثم انطرح على الأرض ورفع صوته قائلًا: باسم المسيح آمرك أن تنهض أيها الشاب!
فانتصب الفتى على قدميه في وسط الغرفة، وأجال نظراته المسغربة فيمن يحيط به، وكانت عيناه لا تزالان مستبقيتين آثارًا غريبة من مشاهد اللانهاية! …
عندئذ تراجع القوم مذعورين، فقالت الأم المغتبطة، والدموع تتناثر من مقلتيها التائهتين: أيها الأب! أيها القديس! …
إلا أن الكلام تردد بين شفتيها وتلاشى! فاتجهت بقدم متثاقلة إلى فسحة صغيرة، وعادت تحمل بين يديها مطوَّقة بيضاء، وقدمتها للقديس قائلة: هذا كل ما أملك أيها الآب فاقبلها مني.
فأخذ الطوباويُّ المطوقة وجعل يلاطفها قائلًا: أيتها المطوقة العزيزة، يا مخلوقة الله العذبة، يا رمز البساطة والوداعة، يا أُخت، أترغبين في أن تذهبي مع الأب يوسف؟
فشرعت المطوقة تهدل وتنحني وتصفق بجناحيها بين يدي الأب المباركتين.
•••
ذات يوم بعد أن قام القديس بلم الصدقات حسب عادته اليومية، دخل إلى كنيسة كوبرتينو، فرأى المؤمنات ينُشدن فرض الصلاة أمام الهيكل بأصوات ضعيفة متقطعة، فتأثر لدى هذا المشهد، ولم يملك نفسه من البكاء، ثم رفع ذراعيه إلى السماء وقال: رب! اغفر لهن؛ لأنهن لا يدركن ما يفعلن!
وتقدم منهن قائلًا: يا أخواتي العزيزات، أنتن تُهِنَّ الله إهانة عظمى بصلواتكن المبكية! أهكذا يكرِّمون الخالق؟ إن أحط الناس عقلًا يقومون بواجباتهم أحسن من قيامكن، مع أنكن عرائس المسيح! … احمدي الله أيتها المطوقة الصغيرة يا مخلوقة الله العذبة الوديعة …
عند هذا أخذت المطوقة التي كانت جاثمة على كتفه، تحرك جناحيها بخفة وعذوبة، وطارت إلى شباك الخورس، حيث شرعت تسجع سجعًا جميلًا أثار كوامن الدهشة من صدور المؤمنات …
فاستطرد القديس كلامَه قائلًا: يا أخواتي العزيزات! أنا تاركٌ لكن هذه المطوقة البريئة؛ لتعلِّمكن أصول التسابيح، فتعهدنها بكل ما أوتيتن من الحنان.
بقيت المطوقة طيلة سنوات خمس خاضعة لمشيئة الأب يوسف، وذات يوم أساءت إليها إحدى المبتدئات بأن علقت جلجلًا برجلها، فاختفت المطوقة ولم ترجع!
عند هذا قلق جميع من في الدير، فبعثن يطلبن الأب يوسف.
عندما قدم الطوباوي قال لهن: لقد وهبتكن موسيقيًّا بارعًا فاستخدمتنَّه قارعًا للجرس، إن المطوقة ذهبت إلى قبر المسيح، ولكنها ستعود.
•••
في أثناء ذلك كان الجحيم يثور ثورة الهول، وكان أمير الظلمات قد أُذن له من الحكمة الإلهية، بأن يعالج غضبه في خادم الله.
أما الأب يوسف، فأصبح يرى نفسه تارة على أبواب اللجج مدفوعًا إلى أعدائه الألدَّاء، وطورًا يسمع صوتًا يرن في مسمعه قائلًا: دع هؤلاء البؤساء أيها القديس العظيم، فتجلس على عرشك السامي! فيظن القديس نفسه مذنبًا بإصغائه إلى تلك الأراجيف، فيستسلم للبكاء، وينادي الله لإنقاذه، والله أصمٌّ لا يسمع كأن السماء من نحاس!
وأما الرجال فقد أصبحوا يضطهدونه، وأنكره إخوته ورؤساؤه وجميع من عرفه وآمن به.
وفي المساء كان يتراءى له أشباح مخيفة تنتصب في حجرته، وتنشد على مسمعه أناشيد رهيبة، هي أقرب إلى الصراخ منها إلى الألحان!
ذات ليلة تراءى له المسيح بمجد عظيم وقال له: اقترب مني يا أب يوسف وقبِّل رجليَّ.
فرضخ المسكين طائعًا، وعندما أدنى شفتيه من قدمي المسيح شعر بنتانة باردة! كان ملاك الشر قد تزيا بزي جسد برَّاق!
أصبح الأب يوسف عاجزًا عن أن يتبين الخير من الشر، فظن نفسَه قد أُهمل من الله والبشر، وتراكمت الظلمات في روحه وأحاطت به من كل الجهات.
هجع كل من في الدير، وساد سكوت رهيب فانحدر الأب إلى الكنيسة بقدم متثاقلة ووجه شاحب، واجتاز الخورس بسرعة كمن يظن نفسه غير جدير بأن يظهر أمام السيد.
ثم سجد في ناحية منفردة أمام مقعد بعيد.
عند هذا اضطربت ركبتاه، وارتفع صدره، وسال عرق بارد على أعضائه الضعيفة! وفجأة أثبت نظراته في الخورس، فأبصر خيالًا صامتًا ينحني بعجز أمام الله المحتجب في الهيكل، وبعد هنيهة تقدم الشبح إليه محتذيًا حذاءً من حديد، وكلما خطا بعض خطوات ضعفت المصابيح في الكنيسة، حتى إذا ما سادت الظلمة الملأى بالوعيد والإرهاب، انتصب الخيال أمام الأب يوسف، وبرقت عيناه ببريق أحمر مخيف، وصرخ فيه صوتًا ارتجَّت من هوله جدران المعبد، وقال: اتبعني إلى الجحيم أيها الخبيث!
ثم جذبه بيده وطرحه إلى الحضيض، ورفع فوقه حذاءه الضخم …
فصرخ المسكين بصوت أجش: أيتها العذراء، لا تتركيني! …
في تلك الدقيقة أُنيرت المصابيح، وأُغمي على الخيال … فتراءت المطوقة تصفق بجناحيها في فضاء المعبد، وسمع القديس نغمات عذبة، هي نغمات الجنة تنفذ إلى روحه، وشعر بنور الله يذيب على جسده أشعته الطاهرة.
منذ ذلك الحين أخذ الشيطان يصوب غضبه العاجز ضد مطوقة الطوباوي.
كان الأب يوسف في الكنيسة، يضرع إلى الله مختطف الروح، وكانت المطوقة تصفق بجناحيها، طائرة بين أعمدة الأروقة، عندما قدم رجل مسلح وطلب الأب يوسف بإلحاح شديد، أما المبتدئون فقالوا له إنه في الكنيسة، عندئذ حاول الرجل الغريب أن يسيء إلى المطوقة، فهربت مسرعة إلى عذراء الدير، فلحق بها، وكاد يقضي عليها لو لم يمنعه التمثال الرخامي، الذي عكف على المطوقة المرتعدة وغطاها بوشاحه الأبيض.
دُهش المبتدئون أمام هذا المشهد، وعندما رجعوا إلى صوابهم غضبوا غضبًا شديدًا، وتحولوا إلى الرجل المسلح، فرأوه قد احتجب كوميضة البرق!
•••
بعد أيام قليلة مرض الطوباوي وأُشفي، فأحاط به الإخوة وجعلوا ينشدون والدموع تتناثر من أعينهم، فتقطَّرت أحشاء الأب يوسف ورفع نظره إليهم، وقال لهم بصوت ملؤه التعزية: إلى اللقاء يا إخوتي الأعزاء، إلى اللقاء بين أحضان الله! المجد لله!
ثم استنار بشعاع علوي طفا على قسمات وجهه، وأُغمضت عيناه فرقد هنيئًا بين يدي ربه! أما المطوقة، فيقال إنها لم تعش بعده.
أخذت الكنيسة هذا المسكين الساذج، ووضعته على المذابح حانية جبهتها أمام مجده النقي.