الناسك
كان في سالف الزمان ناسك يسكن الصحراء.
كان هذا الناسك ابن أُسرة عريقة في القدم.
ذات يوم، وهو صغير كان يلعب على ضفاف البحر تحت حراسة عبد يونانيٍّ، فمرَّ من هناك جمع من الرجال والنساء يتقدمهم كاهن ذو لحية كثيفة وهيئة وحشية، فسمعهم الولد ينشدون ويهتفون بأصوات مرتفعة، وقد بسطوا أذرعهم الطويلة في الفضاء، فدهش لدى هذا المشهد، وأخذ يضحك بملء شدقيه.
أما الكاهن، فاقترب من الصبي وأخذه بيديه الجبارتين، ورفعه فوق الأمواج المصطخبة، وصرخ قائلًا: أيها الإله، يا خالق البشر والأشياء، مُر البحر أن يهدأ، لا تدع الروح الشريرة تثير أمواجه على الإنسان، أنت تحب البراءة، يا الله، فأنا أستحلفك بهذا الولد الذي يمثل البراءة نفسها، أستحلفك باسم المسيح المبارك في الأجيال …
عند هذا أسرع العبد واختطف الولد باكيًا من بين يدي الكاهن، ومضى به حتى وصل إلى كنيسة، فاعتقد حينئذ أن الأناشيد المقدسة، وشذا البخور، ورؤية المؤمنين تسكِّن جأش الصدور وتخفف الألم، فدخل إلى المعبد وجلس بين المؤمنين، وأخذ يلاطف بيد عذبة جبهة الولد وشعوره.
في تلك الساعة كان الأسقف جالسًا على عرش مرتفع أمام باب الخورس يحيط به جمع غفير من الكهنة، وكان أحد القسوس يقرأ الإنجيل على الحاضرين، فتتناثر من شفتيه هذه الكلمات التي تلفَّظ بها الله: ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه.
•••
صرف الولد حداثته بعذوبة وهدوء، وكان الجميع يعجبون من تُقاه واجتهاده في الدروس الأدبية، حتى إنهم تنبئُوا له بمستقبل عظيم.
أما الكلمات التي سمعها في الكنيسة، فقد كانت دخلت إلى أقاصي نفسه، ومهدت له مكانًا موطَّدًا فيها.
وعندما بلغ الثامنة عشرة من سنيه، نزع عنه ثوب الطفولة، ولبس ثوب الشباب.
إذ ذاك عزم أهله أن يحتفلوا بخروجه من الحداثة ودخوله في الحياة العالمية، فدعوا إلى الحفلة رهطًا من الشباب الناهض، ووضعوا على رأس الفتى إكليلًا من الأزهار العطرة، وأجلسوه في وسط المدعوين.
لا تسل عن الفرح العظيم الذي استولى على قلوب الحاضرين، عندما تقدَّم فَتيان من المحتَفل به ورفعا إليه غصنًا من الفضة كتب على أوراقه هذه الكلمات الثلاث: إلى أمير الشباب.
كانت عطور الليمون والأزهار تمتزج بروائح الخمور في تلك الوليمة الكبرى، فشعر الفتى بأن قلبه يتفطر، وخُيل إليه أنه يسمع صوتًا في نفسه يقول له: إن جمالك وشبابك اليانع ومعارفك الواسعة تمكنك من الجلوس يومًا على عرش الألم … ألا فليذق جسدك طعم الملذات … إنك لا تزال فتيًّا، وتستطيع أن تملك جميع ملذات الحياة …
كانت الأشباح الغرَّارة تمر أمام عينيه، حاملة مشاهد اللذات الباطلة بدون أن يتمكن من مقاومتها.
في تلك الساعة مالت الشمس إلى المغيب، فخضَّبت الشفق بألوان حمراء أرجوانية، وانعكست آخريات أشعتها على الأعمدة المرتفعة، وانحدرت إلى جباه المدعوين، كأنما هي رؤيا من رؤى اللانهاية …
أما الفتى فخفض نظره إلى الأرض، وأخذ سكينًا بيده حفر بها بعض كلمات على المائدة بدون أن ينتبه إلى ما يفعل، ثم رجع إلى نفسه ونظر إلى الكلمات المحفورة أمامه فإذا هي: ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟
عند هذا ارتعش ارتعاشًا شديدًا، وعلا محيَّاه أمارة الخجل، فانتصب واقفًا نصف وقفة … في حين كان المدعوون يهتفون بملء أصواتهم.
بعد هنيهة تحولت الأعين إلى مقام الشرف، وهمَّ المدعوون أن يختموا الحفلة بتهنئة الفتى، إلا أنهم لم يبصروا أحدًا! …
كان الفتى قد احتجب من مكانه.
في تلك الدقيقة ساد سكون غريب في قاعة الوليمة، فتقدم والد المحتفل به من مقام الشرف، وقرأ بقلب منقبض تلك العبارة المحفورة على المائدة، ففهم كل شيء وأخذ يبكي.
أما الفتى فكان قد هرب إلى الصحراء …
•••
أخذ الفتى يمشي بين المفاوز والأكمات، وكانت نفسه المنتصرة ترفع صدره من حين إلى آخر، وقد شعر بأن شعاع اللانهاية يضيء في روحه، حتى وصل إلى مكان منفرد، فأبصر سهولًا من القمح تمتد أمام عينيه، فعرف أنه أخطأ الطريق، فعرَّج على غابة حتى انتهى به السير إلى أَكمات ترتفع عليها أشجار المشمش والتين والرمان واللوز، وتتخللها مجاري مياه عذبة، فسكَّن جوعه ببعض الأثمار وبلَّ غليله ببعض جرعات من الماء، ثم صعد إلى قمة أكمة، فتراءى له واد ضيق يفصل بينه وبين جبل وعر تمتد وراءه صحراء واسعة، فلم يتردد أن أسرع الخطى نحو تلك الصحراء …
شرع الفتى يتسلق المنحدرات بصعوبة وعناء، وكانت الأشجار الغضَّة تبسط على الجبل أخيلتها السوداء، حتى إذا ما انحدر الوادي سمع دويًّا يقرب منه دوي الصواعق، فرفع نظره إلى المرتفعات فأبصر منحدر ماء يهبط من محل شاهق، وينساب في وسط الوادي العميق.
كان المساء يحلك رويدًا رويدًا عند ما وصل الفتى إلى شجرات من النخيل، فحوَّل نظره إلى جهة المشرق، وتمتم بروح مغتبطة قائلًا: هو ذا مكان عزلتي.
•••
منذ تلك الساعة بدأت حياته الأليمة.
في الغد نهض باكرًا وبنى له كوخًا من غصون النخل، وأحاط جسده بزنَّار من الأشواك وعمل من الأوراق رداءً له.
أما غذاؤه الوحيد فقد كان من ثمر النخيل.
مرَّ على الفتى عشرة أعوام في تلك العزلة صرفها في التقشفات والصلاة والبكاء، حتى انتشر خبر قداسته في المدينة، فأخذت الوفود تأتي لزيارته من أطراف الجهات البعيدة.
أما هو فلم يتردد أن هرب من تلك الصحراء …
بعد مسيرة ساعات عديدة بلغ إلى قرية منفردة فاجتازها حتى وصل إلى حائط مرتفع، تقوم على أعمدته مغاور عديدة بعضها مهجور، والبعض الآخر تسكنه عيال من الوطنيين آثروا البقاء في مآوي جدودهم.
اختار الناسك مغارة ضيقة من تلك المغاور، بعيدة عن الناس ووطَّد إقامته بها.
منذ ذلك الحين آل أحد المسيحيين على نفسه أن يُحضر له كل أسبوعين طعامه الضروري.
مرت الأيام على عزلته في تلك المغارة، وهو يضرع إلى الله ويُحمِّل نفسه عذابات الجلد والجوع!
وفي ذات يوم أبصر جماعات من الزوار قادمين إليه ليتبرَّكوا به، إلا أنه لم يخرج من مغارته ورفض أن يتحدث إليهم، فجعلوا يبكون أمام باب المغارة ويتضرعون، ولكنه بقي صامتًا مستغرقًا في تأملاته.
عند هذا اقترب المسيحي الذي يتعهده بالطعام إلى باب المغارة، وقال له إنه إذا بقي مصرًّا على صمته لا يحجم الزائرون عن إقلاق راحته، فاضطر الناسك أن ينزل عند توسلات الشعب، وأخذ يملي على بعضهم فقرات حكميَّة استوحاها من العزة الإلهية.
فاغتبط الجميع وسرُّوا سرورًا لا حدَّ له.
وفي الليلة التالية تمكَّن الناسك من الهرب بمساعدة الرجل المسيحي، فوصل أمام كوخ سُقف بالقصب والخيزران، فأبصر شيخًا مسنًا ذا لحية بيضاء جالسًا يصلي على عتبة الباب.
أما الشيخ فعندما وقع نظره على الناسك بادره قائلًا: اقترب مني يا بني، فأنا الكاهن باخوميوس، وقد مر علي تسعون سنة في خدمة المسيح.
لقد فتح الله بصيرتي بيده العذبة، فعرفت أنك تدعى سيراب الناسك.
إنك تستطيع أن تقوم بأعمال عظيمة، ولكن يجب عليك قبل ذاك أن تصلي كثيرًا وتقاسي عذابات لا طائل تحتها …
اذهب نحو جهة المشرق، وعندما تغيب الشمس ثلاث مرات، وتصل إلى سهل ملآن عشبًا، بالقرب من هيكل مدمَّر، يفتح الله بصيرتك ويلهمك أشياء كثيرة.
أكمل طريقك يا بُني وصل لأجلي …
سلك الناسك طريقه حتى انتهى به السير إلى سهل يمتد على أقدام جبل مرتفع لا خصب فيه، فأبصر آبارًا عديدة، تنتصب فوقها أدواح مسنة وتماثيل من الحجر محى الزمن رواءها، ووقع نظره على أعمدة متهدمة وأطواد محطَّمة يرتفع بينها عمود أبيض مستطيل، كأنما هو زهرة من أزهار الأحلام لا تزال مفتَّحة فوق تلك البقايا المحزنة.
أما الصخور المتهيرة، قفد كانت ترتفع بعضها فوق بعض مؤلفة مغاور كبيرة، أوى إليها بعض الرعاة مع مواشيهم.
اقترب الناسك من راع مسن، وأخبره أنه نذر نفسه لخدمة الله، وأنه بحاجة إلى العزلة والسكون.
ثم سأله أيتاح له أن يعيش على قمة ذلك العمود المرتفع؟
فأجابه الراعي بعد أن استشار رفاقه، أنه بالرغم من علو العمود يمكنه أن يصعده إلى قمته بواسطة حبل مستطيل، وتعهد له أن يرسل إليه من وقت إلى آخر طعامه الضروري.
ثم قال له: أهبك حبلًا يبقى معك في عزلتك تدليه إليَّ كلما احتجت إلى الطعام.
بعد هنيهة كان الناسك على قمة العمود المرتفع، فجلس يحمد الله، ولم يمر عليه بعض ثوان حتى كانت روحه انتقلت إلى عالم اللانهاية …
وفي المساء لاحظ الناسك أن ضيق العمود لا يسمح له أن يتمدد ويستريح، إلا أن ذلك لم يزعجه، بل شعر بغبطة لا حد لها.
أطلت الكواكب من كوى السماء، وانتشرت أشعتها في الفضاء الرحب، فأخذ الناسك ينشد بصوته العذب هذه المقاطع المقدَّسة:
•••
•••
•••
كان الرعاة السذَّج يصغون إلى هذه الأنشودة بدهشة واستغراب فيخيل إليهم أنها هابطة من السماء، فيقول بعضهم لبعض: إن فضائل هذا القديس لمشكاة تنير ذريتنا …
ذات يوم فرغ الطعام عند الناسك، فلم يشأ أن يزعج الرعاة في راحتهم، فلم يدل إليهم الحبل كعادته، وبينما هو مستغرق في التأملات أبصر غرابًا أسود جثم على حافة العمود، وفي منقاره قطعة من الخبز وضعها بالقرب من الناسك.
بقي الغراب تسع سنوات يقوم بهذه المهمة الإلهية.
•••
جاء الخريف، فأسرع جمع غفير من الباعة إلى القرى المجاورة لذلك السهل حيث يسكن الناسك، وانتشروا في الأسواق مقلين الذهب، والعاج، والنسائج المختلفة، والأرجوان، والبرفير، وأثواب الكتان والصوف، وغير ذلك من مصنوعات سوريا ومصر واليونان، فكانت سوق راج فيها البيع والشراء.
وعندما هبط المساء واتجه هؤلاء الباعة نحو الخرائب، حيث يقيم الرعاة، أبصروا غرابًا أسود يحمل في منقاره قطعة خبز، ويضعها على قمة ذلك العمود، فملكتهم الدهشة لدى هذا المشهد، فأخذوا يهتفون بأصوات شقت الفضاء.
أما الغراب، فعندما سمع ذلك الضجيج، حلَّق في مذاهب الجو وتوارى عن الأبصار …
صعد البدر في السماء، ونشر أشعته الزرقاء على الخرائب المنطرحة في ذلك السهل الرحب، في حين كان سيراب الناسك باسطًا ذراعيه على قمة العمود، تاركًا شفتيه تتلفظان بهذه الكلمات العذبة:
فتفطَّر الجمع الغفير لدى هذه النغمات المقدسة، فأخذ ينشد قائلًا:
كان كسيحان من فقراء إحدى القرى جالسَين في مكان منفرد، يستمنحان صدقة المارين، فبلغهما أن قديسًا من قديسي الله يسكن على قمة عمود، في وسط سهل قريب من القرية، فعزما أن يذهبا إليه على أمل أن يشفيهما.
وبعد جهد شديد وصلا إلى ذلك العمود بدون أن يشعر بهما أحد من الرعاة، فرسما إشارة الصليب، واستنجدا برحمة الله، ثم أمرَّا يديهما على حجر العمود.
عند هذا شعرا برعشة تجول في عروق جنبيهما، ولم يمر بعض ثوان حتى نشطا وقويا وعادا صحيحين كسائر الرجال.
ترامى الرجلان على الأرض، وبكيا طويلًا، ثم نهضا وأخذا يقفزان بين الخرائب من شدة السرور.
لا تسل عن دهشة الجمهور عندما وقع نظرهم على ذينك الكسيحين.
أما الناسك فقد كان نائمًا في تلك الساعة، فاستفاق على الهتاف الشديد، فأبصر شبحًا من النور منتصبًا أمام عينه، وبعد ثانية سمع شبح النور يقول له: أيها الناسك لا يجمل بك أن تبقى طويلًا في هذه الأنحاء المنفردة، ولا يجدر بك أن تُبقي نبوغك في مطاوي النسيان، ذلك النبوغ الذي مُنحته في سبيل كثيرين من أبناء الله …
فلم يجب الناسك، وظلَّ منقبض القلب، فقال شبح النور: انظر الجماهير الغفيرة تحت قدميك، فالصحراء قد مُلئت بالضجيج والعالم أجمع يتحدث بك.
ماذا يكون من أمرك لو امتزجتَ بالبشر … وسكبت العزاء في النفوس؟ … ستصبح أسقفًا عظيمًا، وتقود شعب الله.
بقي الناسك صامتًا لا يُبدي حركة.
فقال شبح النور: لقد اكتشف الشعب مقرَّك، فلا سبيل إلى احتجابك بعد الآن؛ لأنك مُلئت بمجد لا مجد بعده.
فدهش الناسك عند هذا الكلام، فقال: ماذا؟ … أي مجد؟ … ما تعني بهذا الكلام؟ …
فقال شبح النور: لقد جوزيت جزاء حسنًا بتقشفاتك وصلواتك … حتى إن العمود الذي يحملك أصبح مقدَّسًا بك، فهو يملك فضيلة إلهية، إذ إنه شفى كسيحَين من الفقراء في هذه الساعة، إن عجائبك لتفوق عجائب الكتاب المقدس، فأنت قديس لا مثيل له.
فاضطرب الناسك وضرب صدره بكلتا يديه وقال: لا، بل أنا خاطئ، أنا رماد وتراب! ولا مجد إلا لله! …
فقال شبح النور: لقد شفيت المرضى الكسحاء، فأنت عظيم في عملك … اذهب فالساعة التي تجعلك سيد العلم قد آذنت.
فقال الناس بصوت جهوري: اذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟ عُد إلى جحيمك يا إبليس، فلقد تزينت بزي ملاك من النور، ولكنك لن تستطيع أن تحجب أعماق قلبك! عُد إلى جحيمك فحيلك لن تجوز عليَّ.
فقال شبح النور متهكمًا: حسنًا … أنا ذاهب عنك إلى حين، ولكن لا تظن أنك تملصت مني فستراني مرارًا بعد الآن، واعلم أنني أوقعتُ مَن هم أشد قوة منك … ثم توارى شبح النور! …
عند هذا رفع سيراب الناسك نظره إلى السماء، وقال: ربِّ ارمقني بنظرك الرءوف، واجعلني مطيعًا لك في كل حين، لا تدع تجارب الشرير توقعني في هوة الهلاك.
مُر ملائكتك أن تغمرني بأجنحتها السماوية، وإذا كان صحيحًا ما قاله عدوك أنك وهبت الشفاء لرجلين من الكسحاء، فسيحتشد المرضى على أقدام هذا العمود، ويعكرون صفاء عزلتي بضجيجهم.
ربِّ، لماذا سمحت حكمتك بكل هذا؟
أيمكنني أن أخدمك في وسط الضجيج؟
آه! لا، فدعْني أعود إلى الصحراء المنفردة، وأنزوي في مغارة بعيدة …
ونادى الرعاة بصوت مرتفع، فأسرعوا إليه قائلين في نفوسهم: ماذا يريد القديس؟ … ما بدا له؟ …
وعندما وصلوا إلى قدم العمود، أطلَّ فوقهم وسألهم عن سبب تلك الجلبة، فأخبروه عن العجيبة المزدوجة.
فلم يتردد إذ ذاك أن ألحَّ عليهم بأن يُنزلوه عن مرتفعه، فحاولوا كثيرًا أن يردعوه عن عزمه، فأبى.
وبعد هنيهة كان سيراب الناسك على الأرض، فشكرهم وباركهم جميعًا، وأسرع الخطى نحو الصحراء الرحيبة …
•••
بعد أن مشى نهارًا كاملًا، وقف أمام تينة، فأكل من ثمارها ونام.
ولما كان غدٌ أكمل طريقه في الصحراء، وكانت أشعة الشمس تلهب الرمال بلهاثها المحرق، وبعد فترة قصيرة هبَّ هواء عاصف، ثارت تحته أمواج الرمال.
بقي الناسك يمشي حتى بلغ منه التعب مبلغه، فشعر بعطش محرق وبجوع قتَّال، إلا أنه لم يجد بدًّا من السير.
وفجأة أبصر وحشًا ضاريًا يقترب منه وفي يده قربة ملأى بماء بارد، فبسط يده ليأخذها، إلا أن الوحش تراجع عنه وهرب مسرعًا من أمامه.
ثم تراءى له جدول تنساب فيه مياه عذبة، فعكف فوقه وأدنى شفتيه ليبل غليله، إلا أنهما لم يلامسا إلا رمالًا مضطرمة.
عند هذا شعر بألم لا ألم بعده، وسال العرق المثلج من جبينه، فأُغمي عليه …
•••
بعد هنيهة مرت قافلة من الجمال يقودها جمع من الباعة، ما كادوا يبصرون الناسك منطرحًا على الرمال حتى حملوه إلى مكان ظليل، حيث مسحوا جبهته ووجهه بخرقة مبللة وسقوه بعض نقاط من الماء.
استفاق سيراب الناسك من الإغماء، فعادت إليه قواه المفقودة، وأعطاه الباعة قصعة ماء وبعضًا من الزاد، فتمكن إذ ذاك من موالاة سيره …
إلا أنه لم يكد يجتاز بضعة أميال حتى تراءى له وحش رهيب ذو نظرات نارية، يحدق فيه بعينين ملؤهما الهول!
فخاف بادئ ذي بدء، ولكنه ما لبث أن تشجع ووالى سيره بعد أن وكَّل الله بأمره.
وإذ به يبصر تمثالًا ممددًا على الرمال له جسد أسد ورأس رَجل، فتبين له أن هذا التمثال يبلغ طوله مئة قدم، وعرضه أربعين، وخيل إليه أن عينيه تحدقان في مشهد لا تستطيع رؤيته الأعين المائتة.
جلس الناسك على صخر محطَّم، وأخذ يصوِّب نظره في نظر التمثال، كأنما هو يخاطبه بهذه الكلمات: مَن أنت أيها الوجه الغريب؟ … وفي ماذا يحدِّق نظرك الثاقب؟ … أفي ظلمات الخليقة وأسرار الحياة والموت؟ أم في الشرائع التي تدير مقدرات العالم؟ … أفي جهالة الماضي وشكوك الحاضر؟ أم في مخبآت المستقبل المجهول؟ … مَن يدري … ربما هو يحدِّق في الفضاء اللانهائي …
ثم نهض من جلسته وحاول الهرب، إلا أن قوة هائلة سمَّرته في مكانه، ذاك أنه أبصر التمثال قد انتصب على قدميه، وحدجه بنظر مخيف قائلًا: آه! دعني أحرك مفاصلي المخدَّرة … لقد مر ستون قرنًا على جمودي … كنتَ تظنني تمثالًا لا حراك بي ولا حياة إلا في مقلتي … لا، فأنت مخطئ … فدم حقيقي يجول في عروقي، وفي عصبي قوة لا تقهر …
كان لي فيما مضى معبد ترى بقاياه لا تزال بالقرب مني … وكان في هذا المعبد كهنة يحرقون البخور بين أصابع رجلي …
كنت يوم ذاك إلهًا! …
فاضطرب سيراب الناسك لدى هذا الكلام وصرخ قائلًا: ماذا تقول؟ كنتَ إلهًا! …
– وكانت الجماهير تستشيرني في أمورها، وهي ترتعش خوفًا ورهبة لدن سماعها صوتي الإلهي! إلا أن أجوبتي كانت حكيمة وصادقة …
لقد تعاقبت ذراري البشر أمام عيني، وما هذه الرمال التي حولي إلا رماد الموتى …
ثم أشار إلى الأهرام وقال: لقد شهدت طيلة قرون قطعان العبيد الذين بنوا هذه القبور الهائلة تحت السياط.
لقد أبصرت موكب الفراعنة المنتصرين يمر أمامي على نغمات الأبواق الحربية.
أَلا فانظر إلى العبارة المحفورة على الإصبع الثانية من قدمي اليسرى، فهي تقول إن وجهي هو وجه توتموزيس، هذا كذب، إذ إن الفراعنة كانوا يكذبون أحيانًا.
لقد أبصرت يوسف منقذ مصر محاطًا بإخوته، وموسى الشاعر، وابن الله على ذراعي أُمِّه مريم ووالده يوسف، أتسمع، لقد أبصرت ابن الله يستريح في ظلالي هنا على هذا الحجر الذي إلى يمينك.
فنظر سيراب الناسك إلى الحجر نظرة احترام، ثم قبَّله بلهفة وخشوع.
فقال التمثال متهكمًا: تود أن تعرف سرَّ المشكلات وتجهل مَن أنا! إنك تحمل في نفسك لججًا عميقة وغضبًا هائلًا! إن صواعق البحار لأخف هولًا من رغبات قلبك! أراك ظمآن للحياة من جهة، ومن جهة أخرى تشتهي أن تتذوق طعم الموت! كأن في نفسك منتهى القوة ومنتهى الضعف.
تارة تلامس السماء بجبينك الذي يرتفع إلى النجوم، وطورًا تغرز عروقك في أعمق أعماق الغرائز الحيوانية.
ماذا! … أترغب بعد ذلك أن تعرف في ماذا يحدق نظري؟ صبرًا فستعرف ذلك! …
ولكنك تدهشني بتصرفك الغريب.
لقد هجرتَ أهلك منذ ربع قرن، وملتَ عن اللذات والآمال والمطامع وآثرت السكينة في الصحاري المنفردة.
لقد أرهقت جسدك بالتقشفات، وظننتَ أن هربك من العالم يورثك هرب العالم منك.
أيها الجاهل، ألا تعلم أن العالم ورغباته ومطامعه وبؤسه هي ممزوجة بحمأة جسدك؟
ألا تعي ما قاله سيدك، إن العذابات لا توازي شيئًا إذا امتنع القلب عن التكفير؟ …
لقد احتقر الفلاسفة ظواهر العالم كما فعلت أنت، إلا أن أعمالهم ذهبت سدى؛ لأنهم لم يتبعوا المسيح، أي إنهم لم ينزعوا نفوسهم عن العالم إلا بالظواهر الباطلة …
تارة أراك تعاهد الله على التثبُّت في خدمته وحده، وطورًا أرى أباطيل العالم توقفك وتميلك عن وجه الله …
إنك تقف أمامي مستطلعًا خفايا أسراري يا سيراب …
فقاطعه الناسك قائلًا: لا، لم أَمِل مرة عن الله ولم أتردد فترة عن خدمته حق الخدمة … ولكن مَن أنت وأي حق يخولك إلصاقي هذه التهمة؟ …
– أنا أبو الهول الخالد رمز الإنسانية وشعار القوَّة والذكاء، والذي حفر تمثالي في هذه الصحراء كان رجلًا حكيمًا من أبناء الفراعنة …
أنا هرميكس، أنا الأشعة والضياء … أُبدِّد ظلمات الأسرار وأحرس هياكل الموت! لقد جئت تستفتيني، فإليك فتواي: لقد ملأت العالم بدويِّ أعمالك وبعنايتك امتدت سلطة الدِّين المسيحي …
كانت الحكمة الإلهية تعوِّل عليك، إلا أنك هربت إلى الصحراء وجنحت عن إخوتك المحتاجين إليك …
ماذا فعلت بإخوتك يا سيراب؟! …
أصغِ إلى نصيحتي التي ترشدك إلى الطريق القويم: يجب عليك أن تذهب إلى الإسكندرية، انظر إلى هذا المركب في مياه النيل، فهو راحل غدًا …
رفع التمثال رأسه إلى العلاء وحوَّل نظره إلى جهة المشرق، فانبعث من مقلتيه نور عظيم شق ظلمات الليل.
إذ ذاك برزت الأشياء مغتسلة بضياء بنفسجي، فأبصر الناسك مركبًا يتراوح فوق مياه النهر.
فقال التمثال: اذهب إلى الإسكندرية، لقد مات أثناسيوس الكبير، فاضطربت عند موته الأفكار واختلفت الآراء، وحلت الفوضى.
اذهب وابذر السلام بعظاتك المقدسة، فيباركك الله.
في الإسكندرية اليوم اختلاف حدث بين الكنيسة وقنصل نيسه، فالكنيسة تقول إن المسيح هو ابن الله … والحقيقة هي لا … إذ …
عندما سمع الناسك هذا التجديف غضب غضبة عظيمة، فأخذ حجرًا ورمى به الحيوان الهائل.
فتطاير الشرر من مقلتَي التمثال، وحاول أن ينقض على سيراب ليمزقه شر ممزَّق.
إلا أن هذا صرخ صرخة شديدة، واستعان بالله فاحتجب التمثال كوميضة البرق …
•••
في صحراء قريبة من وادي الملوك تنتصب صخور سوداء، لا تجرؤ قدم بشر أن تبلغ إليها، كأنما الرهبة تحرس مدينة الأموات في ذلك المكان الرهيب!
هناك تخيَّر سيراب الناسك مسكنًا له صرف فيه أيامه بالصلوات والتقشفات، وقد خفي مقره عن البشر، فلم يزعج أحدٌ عزلته الهادئة …
كانت حيطان الغرفة التي أوى إليها الناسك مغطاة بتصاوير متباينة الشكل، تمثِّل حياة المصريين القدماء.
منها رسوم عجلات تجرها الثيران، ومنها رسوم بشر ذوي لون أحمر مرتدين قبَّعات وأردية بيضاء، يحرثون السهول الواسعة، وحولهم قطعان من النعاج والمعزى يحرسها رعاة وكلاب، ومنها رسوم مراكب ماخرة عباب النيل تقل البضائع إلى البلدان البعيدة، ورسوم صيادين يصطادون الأسماك ويضعونها في سلال كبيرة، وكروم ملأى بعناقيد العنب، وموسيقيَّات في أيديهن آلات من القيثارة والناي، وراقصات يرقصن على نغمات العازفات.
على رأس أحد الجدران رسم يمثل نهرًا سارت على ضفَّته عجلة ذات جياد مزبدة، تقلُّ فرعون واقفًا وعلى رأسه تاج مصر العليا والسفلى.
ورسم آخر يمثل اثني عشر أميرًا عائدين من ساحة النصر وعلى أكتافهم عرش من الذهب، جلس عليه فرعون الكبير، وعددًا من الكهان يرشقون الملك بالأزهار ويرفعون إليه البخور، وجماعة من الملوك مكبلين بالسلاسل يستمنحون فرعون العفو والسماح.
ومن تلك الرسوم عدد يمثل مشاهد الموت.
هناك رسم أقرباء يصلون أمام الموميا المخبوءة في صندوقها المأتمي، ورسم يمثل النفس مسافرة في زورق الإله أنوبيس ووجهتها عرش أمون القاضي المطلق.
وهناك رسم آخر يمثل الميزان الإلهي وضع في كفته الأولى إناء هو رمز النفس، وفي كفته الأخرى ريشة نعامة، هي رمز العدل …
•••
وفي حين كان سيراب الناسك مستغرقًا في الصلاة نفذت أشعة القمر إلى الغرفة، وأنارتها بنور ضئيل!
بعد فترة قصيرة أخذ النور يتضاعف رويدًا رويدًا حتى ملأ الغرفة بضياء عظيم.
فخيل للناسك أن الرسوم تتحرك وتنتعش، ثم أبصر فرعون يضع قدمه على جمجمة أحد الملوك المقهورين.
وما مضى بعض ثوان حتى انفجرت الجمجمة، وتدفق منها دم غزير.
عند هذا رحبت جدران الغرفة واحتجبت الكوَّة، فأبصر الناسك نفسه في سهل واسع يجتازه نهر كبير.
هناك شاهد الحصَّادين يحصدون، والجنود يرشقون السهام، والكلاب المفترسة تنبح نباحًا مزعجًا، والأسود تزأر زئيرًا مخيفًا، وسمع الطبول تدق، ونغمات الأبواق الحربية تتصاعد في الفضاء، وأبصر ضفادع ذات رءوس فيلة تزحف على الأرض، وفيلة ذات رءوس ضفادع تركض ركضًا مخيفًا، وتماسيح صغيرة تدب بين الصخور، لا يبلغ طول الواحد منها ما تبلغ الحشرة.
وشهد في الفضاء أفاعي مجنحة ووطاويط مرعبة يتساقط من أجنحتها ألوف من الحيات.
سلَّم الناسك أمره لله، وسجد ليصلي فتبددت تلك المشاهد المخيفة أمام عينيه.
وهكذا بقي سيراب طيلة أشهر عديدة عرضة لمثل تلك المشاهد الرهيبة.
•••
ذات يوم في حين كان الناسك عائدًا إلى غرفته وفي يده قربة ملأَها من النيل، سمع أنينًا وأبصر فلاحًا ممدَّدًا على الأرض والدم ينبع غزيرًا من جراح في رأسه.
فانحنى فوقه وغسل جراحاته وقرَّب الماء من شفتيه.
وبعد أن شرب الفلاح من يد الناسك رفع رأسه وحدَّق في سيراب قائلًا: أنت لا تعرف مَن أنا! … لقد ظننتَ أنك تنجد أخًا من إخوتك، ولكن ساء فألك، فأنا إبليس!
عند هذا توارت الجراح عن رأس الفلاح وبرقت عيناه بريقًا هائلًا كأنه شعلة من نار.
أما الناسك فلم يضطرب وقال: لقد ظننتك رجلًا متألمًا فأسرعتُ لنجدتك، فالله يحاسبني على جميلي هذا كما لو كنت قد أنجدت قريبًا لي، إنني أعرف حِيَلك يا إبليس، ولكنَّ نعمة الله تقويني على احتمالها بتجلد وصبر.
إذ ذاك توارى إبليس ولم يرجع بعد ذلك.
… مرت الأعوام العديدة على سيراب وهو يقاسي العذاب والجوع، وكان غراب السماء يأتيه كلَّ مساء بقطعة من الخبز.
ذات ليلة بينما كان الناسك ساجدًا على عتبة بابه يصلِّي ويضرع إلى الله، ظهر له ملاك ذو أجنحة نارية، فملكه الخوف والذعر الشديد! …
قال الملاك: لا تخف فأنا الملاك روفائيل، لقد أذن الله بأن تهبط عليك نعمته العظيمة، فاصغ جيدًا إلى ما يطلبه منك: غدًا تذهب إلى الإسكندرية وتمثل بين يدي الأسقف بطرس، وهو رجل عادل ويخاف الله، اطلب منه أن يجمع المرضى والكسحاء في كنيسة القديس مرقس الإنجيلي.
وعندما يتم ذلك تتقدم أنت وتشفي جميع المرضى أمام الجماهير الغفيرة!
عندما سمع الناسك هذا الكلام ارتعش ارتعاشًا عظيمًا، وصرخ قائلًا والدموع تتناثر من مقلتيه: أجل، سأقوم بهذا العمل، فالله قادر على كل شيء، ولكن كيف أجسر أن أطلب ذلك من الأسقف؟ وهل يصدقني؟ …
فقال الملاك ذو الأجنحة النارية: إذا طلب الأسقف منك أن تثبت له صحَّة كلامك فلا تتأخر، واعلم أن الله يكون إلى يمينك.
•••
وفي الغد عندما بلغت الشمس كبد السماء، كان الناسك في الإسكندرية يستخبر عن مقر الأسقف بطرس خلَف الأسقف أثناسيوس.
وعندما امتثل الناسك أمامه انحنى بخشوع واحترام، فاستقبله الأسقف مرحِّبًا به.
فقال الناسك: أيها الأب القديس، أنا سيراب الناسك الذي صرف أيامه في العزلة والسكون، كنت قد نذرت ألا أخرج من العزلة السعيدة، إلا أن الله اختارني للرسالة التي سأبسطها الآن على مسمعك.
وأطلعه على كلام الملاك روفائيل وأوامر الله الصريحة، فأعار الأسقف اهتمامه الشديد لكلام الناسك، إذ إنه كان يدرك أن الله يتخذ أحيانًا طرقًا فوق العادة ليتمم مشيئته.
إلا أنه بالرغم من نزوله عند صدق الناسك بقي متريِّبًا؛ لأنه لم يكن يجسر أن يتحمَّل تبعة أمر كهذا قبل أن يتأكد من المشيئة الإلهية.
فقال: أذكر أني سمعت منذ خمس عشرة سنة بناسك يُدعى سيراب أظهر عجائب غريبة، أَهو أنت؟
فقال الناسك: أبتاه، الحق يقال إنني صرفت بضعة أعوام على قمة عمود في الصحراء، فكنت كل يوم أردد هذه العبارة التي فاه بها المسيح: «ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟» أما أعمالي فهي غير كاملة ولا تستحق التفات الشعب واكتراثك.
فأجابه الأسقف: وهل قال لك الملاك لماذا يرغب الله في ذلك العمل؟
فقال الناسك: قال لي الملاك: انهض واذهب إلى الإسكندرية وامتثل بين يدي الأسقف بطرس وباسم المسيح تشفي المرضى والكسحاء.
فالتفت الأسقف بطرس إلى أبيليوس وقال له: ما رأيك يا أبيليوس؟
فابتسم هذا، وقال: قد يكون الرجل عرضة للهذيان.
فقال الناسك: أظن أني سليم العقل والجسم وأن الهذيان لم يلامس قط مخيلتي.
فقال الأسقف: أتقدر أن تعطيني برهانًا عما تقول؟
– أجل
– خذ عصاي واعمل بها ما عمله موسى أمام فرعون مصر.
فأخذ الناسك العصا ورماها أمام الأسقف، فانتعشت حالًا واستحالت إلى أفعى هائلة كادت تنشب على أبيليوس، فاضطرب هذا وتراجع مذعورًا إلى الوراء!
إذ ذاك عمل الناسك إشارة فعادت الحية إلى ما كانت عليه.
وعندما أخذ الأسقف عصاه استحالت في يده إلى غصن ذي رائحة زكية.
فقال: طلبت منك برهانًا فأعطيتني اثنين، يكفي ما رأيت، فأنا واثق من رسالتك.
قال هذا والتفت إلى أبيليوس وقال له: أبيليوس، لقد سمعت مشيئة الله العلي وشهدت البرهان الساطع، فقم غدًا واجمع المرضى والكسحاء في كنيسة القديس مرقس.
•••
على قمة اصطناعية مشرفة على المدينة تقوم كنيسة القديس مرقس التي بُنيت بأمر من قسطنطين الكبير.
يرى الناظر في حديقتها غديرًا كان المؤمنون يغسلون أيديهم بمياهه قبل الدخول إلى المعبد كتبت على رخامه هذه العبارة: «لا تغسل يديك فقط، بل اغسل ذنوبك.»
أما الكنيسة فكانت مستطيلة في شكل مركب، تذكِّر المؤمنين بأن الكنيسة هي هيكل مقدس لا سلام للبشر إلا فيه، وأن الأساقفة والرسل هم الملاحون الذين يقودون ذلك المركب الكبير.
وأما الأسقف إسكندر فقد حفر على بابها هذه العبارة: أيها الأبناء الأحباء يجب أن تذكروا أن هذا العالم بحر مصطخب الأمواج، كثير المخاطر لا تستطيعون أن تعبروه سالمين إلا بواسطة مركب الكنيسة.
•••
جاء الأحد المعيَّن فازدانت الكنيسة بحلة الأعياد، إلا أن المرضى والكسحاء لم يحضر منهم إلا عدد قليل.
فتطلع الأسقف فلم ير الناسك، فاستغرب الأمر وسأل الكهنة فلم يفده أحد منهم.
أما أبيليوس فأخذ يتهكم ويقول: لا أدري أية ثقة تضعونها في ذلك الرجل الهارب الذي يطوف في المعمور مموِّهًا على عقول الناس ساعيًا إلى استمالتهم بخزعبلاته وتدجيله! …
وفي الغد امتثل سيراب الناسك أمام الأسقف شاحب الوجه، وقال له: أبتاه، لقد احتقروا أوامرك، فأنا لا أود أن أتهم إخوتي، ولكن أرى من الضروري أن تأتي بأبيليوس وتمتحنه.
كان أبيليوس قد اختفى، فكابد الباحثون عنه أتعابًا شديدة في إحضاره.
عرف الأسقف أن أبيليوس لم يخبر المرضى أية نعمة يحرزونها إذا هم حضروا إلى الكنيسة، وأنه أعلن فقط لبعض الفقراء عن إحسان يوزَّع عليهم أمام باب المعبد.
تقدم أبيليوس وأخذ يتهكم عليه ويهينه …
وإذ هو على هذه الحالة شحب وجهه واضطربت أعضاؤه، وظهر ملاك في يده سيف من نار.
فنهض الأسقف عن عرشه، وتوسَّل إلى الملاك أن يسكِّن غضبه، واعدًا إياه بأن يتمم مشيئة الله.
ثم التفت إلى أبيليوس، وأمره بأن ينزوي في دير بعيد حيث يكفر عن ذنبه حتى آخر ساعة من حياته.
عند هذا انتشر الخبر في المدينة، فشك البعض وآمن البعض الآخر، وما عتَّم الأمر أن أسرعت الجماهير الغفيرة إلى الكنيسة بينهم المؤمن والملحد والمريض والكسيح والبائس والغني.
صعد الأسقف إلى المنبر الرخامي محاطًا بكهنته ولفظ العظة الربانية، ثم نزل وتقدم نحو الهيكل.
عند ذلك صرخ أحد الكهنة قائلًا: أعيروا انتباهكم!
وتقدم المؤمنون إلى الهيكل بينهم الإكليريكيون والنساك، وجمع من الرجال والفتيان والنساء والعذارى، وتناولوا جسد الرب بتؤدة وخشوع.
أما الرهبان فتقدموا إلى المرضى المؤمنين الذين كانوا يئنون تحت أثقال الأوجاع، ووزعوا عليهم القرابين في حين كانت أصوات الأحداث ترتفع منشدة تسابيح الله:
جلس الأسقف بطرس على عرشه الرخامي، وبعد أن بارك الشعب قال بصوت جهوري: أيها الأبناء الأعزاء، لقد زار الله شعبه المؤمن ويود أن يبسط على آلامكم وأوجاعكم ذراعيه الإلهيتين بدون أن يستثني أحدًا منكم.
إن الله يهب نور شمسه للأخيار والأشرار بدون تفاوت.
أبانا الذي في السماوات، ليتقدَّس اسمك، ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض.
أعطنا خبزنا كفاة يومنا واغفر لنا ذنوبنا وخطايانا، كما نحن نغفر لمن أخطأ وأساء إلينا، ولا تدخلنا في التجارب، لكن نجنا من الشرير!
إن الله يريد سلام العالم.
فلقد أرسل ابنه الوحيد الذي مات من أجلنا ليعلمنا الحقيقة، ويبني كنيسته حتى تنتشر بواسطتها تلك الحقيقة الضرورية.
ومن جهة أخرى أعطى الله الإنسان حريته في اختيار الشر أو الخير، في اختيار الحقيقة أو الضلال.
يا للأسف! إننا نرى الإسكندرية، هذه المدينة التعسة، تمشي على سُنة غير التي وضعها الله، فتحيد عن سيدة النور التي هي الكنيسة لتستسلم لشهواتها وتقع في ضلال معيب!
عند هذا أشار الأسقف بطرس إلى الناسك فصعد إلى المذبح، وقال بصوت جهوري: لقد انتخبني الله بالرغم من صغارتي؛ لكي أُجرب فيكم جميعًا عجائبه الإلهية.
إن الله يريد أن تؤمنوا جميعكم بالحقيقة الخالدة، ولذلك يود أن يشفيكم من أمراضكم المزمنة.
فعندما تدركون الحقيقة الناصعة لا تلبثون أن تصبحوا أحرارًا؛ لأن الحرية هي بنت الحقيقة.
ولكي يتأكد السيد لوسيوس أن المسيح هو ابن الله أريد أن أشفي هؤلاء المرضى والكسحاء باسم المسيح.
فانتصب لوسيوس شاحب الوجه، وقال بصوت ضعيف: إذن فأظهر لنا قدرتك أيها الرجل.
نؤمن بإله واحد، آب ضابط الكل، خالق السماء الأرض، كل ما يرى وما لا يرى، وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل كل الدهور، إله من إله، نور من نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، له وللأب جوهر واحد، الذي به كان كل شيء، والذي من أجلنا نحن البشر، ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسد من روح القدس ومن مريم العذراء، وصار إنسانًا وصُلب عنا على عهد بيلاطوس البنطي وتألم ومات وقُبر وقام في اليوم الثالث.
ولما وصل الناسك إلى هذه الجملة، رفع نظره إلى العلاء وبسط ذراعيه فوق المرضى وقال: باسم المسيح ابن الله الحقيقي آمركم أن تمشوا، ألا فليحتجب أي مرض كان، ولترجع القوة والنشاط إلى أجسامكم جميعًا!
عند هذا تصاعد هتاف عظيم، ونهض الكسحاء على الأرض، وأبصر العميُ، وسمع الطرش، وتكلم الخرس، وشفي المرضى اليائسون.
فهجم الأهل والأصدقاء وأخذوا يعانقونهم بلهفة كمن لا يصدق ما يرى.
أما الناسك فجعل يهدئ هياج الشعب، ثم قال: احمدوا الله يا إخوتي الأحباء، المجد للمسيح ابن الله الحقيقي!
فهتف الشعب بصوت واحد كأنما هو الصاعقة المنقضة: في كل الدهور!