أميرة الأندلس
هذه هي المسرحية الوحيدة التي كتبها شوقي نثرًا، وذلك بالرغم من أنَّ حوادثها تدور حول شاعر مَلِك، هو المعتَمِد بن عبَّاد الأندلسي آخِر ملوك الطوائف في إشبيلِيَة، بل وبالرغم من تضمين شوقي مسرحيته مقطوعةً من شعر ذلك المَلِك، ونحن لا ندري لماذا عَدَلَ شوقي في هذه المسرحية عن الشعر الذي كان خليقًا بأن يُواتِي موضوعَها، وذلك في الوقت الذي نراه يكتب بالشعر الملهاة الوحيدة التي كتبها في أُخْرَيات حياته، وهي «الست هدى»، التي استمدَّ موضوعها من الحياة المصرية المعاصِرة، في حي الحنفي بالسيدة زينب، وكان النثر — بل وربما النثر العامي — أكثر مواتاة لها، ولكنَّه شيطان الشعراء، الذي لا يخضع لمنطق، ولا يتقيَّد بأوضاع.
لقد كتب شوقي «أميرة الأندلس» نثرًا، ولكنْ لحسن الحظِّ تخلَّص في هذا النثر — إلى حدٍّ بعيد — من تلك الصنعة المضنية العقيمة، التي نجدها في كتابه «مروج الذهب» بنوع خاص، فنثره في المسرحية مُرسَل في الغالب الأعم، وهو لا يلجأ إلى الصَّنْعة والسجع والمحسِّنات إلَّا في المقطوعات الطويلة من الحوار، حيث ظنَّ أنَّ الحليات اللفظية قد تَقِي من الملَل الذي قد يتسرَّب إلى نفوس المشاهِدين أو القُرَّاء، على نحو ما كان يستعين بمَلَكة الشعر على المقطوعات الطويلة في مسرحياته الشعرية.
وقصة المعتمد بن عبَّاد استقاها شوقي من كتاب «المَقَّرِي» المعروف ﺑ «نفح الطِّيب في غصن الأندلس الرَّطِيب»، ولكنه لم يكتَفِ بالوقائع التاريخية المُحْزِنة الخاصة بانقراض الطوائف في إشبيلِيَة، بل زاوج بينها وبين قصة خيالية نسجَها حول حبِّ بُثَيْنة بنت المعتمد للفتى العربي «حسون»، وانتهائهما بالزواج في سجن «أغمات» بشمال إفريقية، حيث استقرَّ المقام بالمعتمد بن عبَّاد، بعد أن قضى ابن تاشفين — ملك المرابِطين بإفريقية — على مُلكه، وكان المعتَمِد قد اضطُرَّ إلى أن يستَعِين به لردِّ عدوان الإفرنج.
ولقدِ احترم شوقي حقائق التاريخ في مسرحيته بوجهٍ عام، على نحو ما احتَرَمها الأستاذ على الجارم في كتابه «شاعر ملك»، وإن لم يحلِّل بالطبع في مسرحيته أسباب انهيار ذلك الملك الشامخ على نحو ما فعل الأستاذ الجارم، ولكنَّ القصة الخيالية لم ينجح شوقي في ربطها ربطًا وثيقًا بالكارثة الأساسية، حتى لتبدو قصةً مُفتعَلة اصطَنَعها شوقي لظنِّه أنَّ مسرحية ناجحة لا يصحُّ أن تخلُوَ من قصة غرام، ثم لرغبته فيما يبدو في تخفيف وقْع تلك الكارثة الأندلسية، التي طالَما حزن لها وتغنَّى بها في شعره، وبخاصةٍ بعد أن عاش في الأندلس، وجاب خلالها، وتعرَّف على معالِمِها وآثارها الإسلامية الرائعة، أثناء نفْيِه بإسبانيا خلال الحرب العالمية الأولى.
ونحن قد لا نُماحِك شوقي في طبيعة ومعقولية قصته المسرحية، التي نراه يجمع فيها بين إشبيلِيَة وأغمات، كما يجمع بين الواقع المحزن والخيال الرومانتيكي المجنح، وذلك باعتبار أنَّ الآداب المختلفة — وبخاصة الرومانتيكية منها — قد فعلتْ أكثر ممَّا فعله شوقي، فنقلتْ ميدان المسرحية من الشرق إلى الغرب، ورفعتْ أحداثَها من حضيض الأرض إلى سماوات الخيال، غير عابئة بما يُقال من أنَّ كلَّ مسرحية ما هي إلى قطاع من الحياة لا يجوز أن يعدو الزمان والمكان المعقولين، زاعمة أنَّ المسرحية ليستْ محاكاة للحياة، بل خلقًا يؤلِّف الخيال بين عناصره على نحو يجلو غامضًا، أو يُسَرِّي همًّا، أو يتمخَّض عن عبرة.
نقول: إننا قد لا نماحك شوقي باسم الأصول الكلاسيكية، ولكننا في الحق لا نستطيع أن نُغفِل عجْزَه عن ربط موضوعِه الخيالي بالمأساة التاريخية، كما لا نستطيع أن نُغفِل إضعافَه للأثَر النفسي الذي كان من الممكن أن تُحدِثَه تلك المأساة الإسلامية المحزِنة، وبخاصة إذا كان هذا الإضعاف قد تمَّ بحيلةٍ مسرحية غريبة تكاد تكون مُضْحِكة، وهي حرص حسون وبثينة على التسلُّل إلى سجن المعتمد في «أغمات» لعقد قرانهما بداخله، وبذلك تنقلب تلك المأساة إلى ملهاة مصطنعة، إن لم نقل إلى مهزلة.