التياران الشرقي والغربي في مسرح شوقي
رأينا فيما سبق كيف أنَّ العرب القُدماء لم يَعرِفوا المسرح ولا الأدب التمثيلي، مما يقطع بأنَّ المحدَثين منهم أخذوا بلا شكٍّ هذا الفنَّ الأدبي عن الغرب، ومع ذلك فمِن المؤكَّد أنَّهم لم يستطيعوا التخلُّص من اتجاهاتهم النفسية والمتوارَثة، ولا من خصائص تُراثِهم الأدبي، عندما أخذوا يُعالِجون هذا الفنَّ الجديد؛ بحيث يتحتَّم تمييز التيارين الشرقي والغربي، في مسرح الشاعر العربي الأصيل أحمد شوقي.
وإذا كان مسرح شوقي يقوم في هيكله الفني العام، من حيث إنَّه يتناول في كلِّ مسرحية موضوعًا، يَعرِضه بواسطة شخصيات تتحرَّك وتتحاور على خشبة المسرح، ويتطوَّر الموضوع إلى أن يصل إلى أزمة، ثم ينتهي بحلِّ تلك الأزمة على نحو ما، فإنَّ الرُّوح التي يتناول بها الأديب هذا الموضوع وأنواع الأفكار والأحاسيس والاتجاهات الأخلاقية، فضلًا عن أسلوب العلاج ووسائله العقلية والجمالية، قد كانتْ بحكم الضرورة والتراث الموروث والتركيبات النفسية شرقية عربية، ولا بد في تحليل هذا المسرح تحليلًا صحيحًا، من أنْ نتبيَّن عناصرَ كلِّ من الاتجاهين الغربي والشرقي وتفاعل أحدهما مع الآخَر.
أمَّا عن التيار الغربي فممَّا لا شكَّ فيه أنَّه لولا ما شاهَدَه أحمد شوقي في فرنسا، بصفة خاصة من ألوان هذا الفن، لَمَا خطَرَ ببالِه أنْ يَلِجَ بابَه، ومَن يطَّلِع على المقدمة التي كتبها شوقي للجزء الأول من شوقياته سنة ١٨٩٨، يلاحظ بوضوح أنَّ الشاعر قد أخذ بألوان الأدب الغربي، بمجرد أنِ استقرَّ به المقام في فرنسا، حيث أرسلَه خديوي مصر توفيق باشا في بعثة لمدة أربع سنوات، ليدرس فيها الحقوق، ويطَّلِع على الآداب الفرنسية، حتى يعود منها بقَبَس يُشعِل أضواء جديدة في الآداب العربية، على نحو ما قال وزير مصر رشدي باشا، في خطاب أرسله إلى الشاعر على لسان الخديوي، بل. لقد بلغ الأمر بذلك الخديوي أنْ حثَّ الشاعرَ على أن يُمْعِن النظر في دراسة معالم الحضارة والثقافة الفرنسية، أكثر من اهتمامه بدراسة القانون التي قال الخديوي للشاعر عنها: إنه يستطيع تحصيلها من الكتب، وهو مستقر في بيته بمصر.
ولقد لاحَظَ الشاعر منذ حداثته ما ابتُلِيَ به الشعر العربي من ضيق الأفق، بسبب اقتصاره في الغالب على المدْح، واعتماد شعراء العربية على الملوك وذوي السلطان في رواج بضاعتهم، وودَّ الشاعرُ أن لوِ استطاع أن يَخرُج من هذا الأفق الضيق الذليل، إلى مجالات الشعر الرحبة الطليقة، ولكنَّه لسوء الحظ كان مِن جهةٍ رجلًا طَموحًا مَدِينًا للخديوي بأفضال كبيرة، كما كان من جهةٍ أخرى رجلًا حَذِرًا يَخشَى الخروج على الأوْضاع والتقاليد الثابتة المتوارَثة، حتى ليقول في المقدمة الآنِفة الذِّكْر: إنَّه تبيَّن «أنَّ الأوهام إذا تمكَّنتْ من أمةٍ كانتْ لباغِي إبادتِها كالأفعوان لا يُطاق لقاؤه، ويُؤخَذ من خلفٍ بأطراف البنان.» وهو يقصد بالأوهام هنا التقاليد المَرْعِيَّة والاتجاهات المتوارَثة؛ ولذلك نراه يخضع لهذه التقاليد بالرغم من ثورته النظرية عليها، ويعترف في صراحة بأنَّه كمَن يَنهَى عن شيءٍ ويأتي مِثْلَه، ويُبرِّر مخاوِفَه تلك ببعض محاوَلات قام بها؛ لإخراج الشعر من أُفقِه الضيق المحدود بالمديح، إلى آفاقٍ أوسع، فيقول إنَّه أراد أن يحتالَ للأمر بأن يَسْتَبْقِيَ المديح، على أن يَجمَع في القصيدة بينَه وبين الشعر الطَّلِيق المعبِّر عن خوالِج قائلِه الشخصية، وبالفعل أرسل إلى الخديوي قصيدةَ مدحٍ استهلَّها بما يُشْبِه قصيدةً مستقلةً في الغزل وتحليل نفسية المرأة وهي التي مطلَعُها:
وكانتِ العادةُ قد جرَتْ عندئذٍ بأنْ تُنشَر مدائحُ الخديوي في الجريدة الرسمية، فأرسلتِ السَّراي هذه القصيدةَ إلى الشيخ عبد الكريم سلمان المشرِف على الوقائع، وطلَبَتْ إليه أن يَحذِفَ الغَزَل وينشر المديح، ولكنَّ الشيخ سلمان، كان كما يبدو، أديبًا ذوَّاقًا، فرأى أنَّ الغزل هو الذي يستحقُّ النشر، والمدح هو الذي يستحقُّ الحذْفَ، وكانتِ النتيجة أن لم يُنشَر شيء من القصيدة إطلاقًا.
وكان شوقي كثيرَ التردُّد على مسرح الكوميدي فرانسيز في باريس، حيث شاهَد الكثير من روائع الأدب التمثيلي الكلاسيكي والرومانتيكي والمعاصر، فأُولِع بهذا الفن، وعنَّ له أن يُحاكِيَه، وبالفعل وضَعَ وهو لا يزال يطلب العلم بباريس، أولى مسرحياته وهي «علي بك»، وأرسلها إلى السراي، وتلقَّى مِن رشدي باشا ما يُفِيد أنَّ الخديوي قرَأَها، وناقَشَه في بعض أجزائها وتفكَّه بها، وكان هذا هو كلَّ تقدير الخديوي لها، ومن البديهي أنَّ الخديوي كان أحرَصَ على مدح الشاعر له، وتخليد ذكْره من قراءةِ أو مُشاهدةِ مسرحيات لرَبِيبه الشاعر؛ ولذلك طواها شوقي بين أَوْراقه، إلى أن رجع إليها في أواخِر حياته، عندما انصرف إلى الأدب المسرحي بمعظم جهده، فأعاد كتابتَها من جديد على الوضْع الذي نعرفه الآن.
ويُنبِئنا شوقي نفسُه أنَّه لم يتأثَّر بالأدب التمثيلي الغربي الفرنسي فحسب، بل وتأثَّر أيضًا بالشعر الغنائي، وبخاصة الرومانتيكي، فنقل إلى العربية قصيدة «البحيرة» الشهيرة للامارتين، كما تأثَّر أيضًا بحكايات لافونتين على لسان الحيوانات وحاكاها، فألَّف عدة حكايات مماثِلة أو مُقْتَبَسة نشرها في ديوانه الأول، ورأى فيها وسيلةً طيِّبةً لتهذيب الأطفال.
وإذن فقد تأثَّر شوقي بالأدب الغربي تأثرًا كبيرًا، وانفعلتْ به نفسُه منذ شبابه الغض، ولكنَّ ارتباطه بالسراي وطموحه إلى أنْ يُصبِح شاعرَها من جهةٍ، وشدة حذَرِه وتخوُّفه من التجديد، والخروج على الأوضاع المتوارَثة والتقاليد الأدبية المرعية، حالتْ بينه وبين الخروج إلى آفاق الأدب الواسِعة، والسَّيْر في تيار الأدب التمثيلي، الذي وقَفَ فيه عند محاولته الأولى في «علي بك»، ولم يَعُدْ إلى هذا الفن إلَّا في أُخْريات حياته، بعد أنْ ظهرتْ تياراتُ النقد الأدبي الحديث في الأدب العربي، وأخَذَ عليه النُّقَّاد سَيْره في الدُّروب المطروقة، وعدم خروجه عنها، فألَّف للمسرح «مصرع كليوباترة» و«مجنون ليلى» و«قمبيز» و«عنترة» و«علي بك الكبير» شعرًا، و«أميرة الأندلس» نثرًا، وفي سنته الأخيرة عالَج الكوميديا أيضًا، فوضع شعرًا «الست هدى»، التي لا تزال مخطوطة حتى اليوم، ويحدِّثنا ابنُه الأستاذ حسين شوقي في كتابه «أبي شوقي»، عن شروعه في تأليف روايتين أُخرَيَيْن؛ إحداهما عن «البخيلة»، والثانية عن «محمد علي الكبير»، وكتب منهما أجزاء يَظهَر أنها فُقدتْ، وإنْ كان ابنُه يظنُّ أنَّ والدَه قد خلَّفهما عند الدكتور سعيد عبده، الذي كان يُكْثِر من صحبته.
من هذه اللمحة التاريخية يتَّضِح أنَّ شوقي قد عرف الأدب الغربي، بما في ذلك الأدب المسرحي، ولكنْ، هل يمكن تحديد الكتاب أو المذاهب التي تأثَّر بها الشاعر؟ للجواب على هذا السؤال، لا نَجِد اعترافاتٍ خاصةً من الشاعر، ولا مِن المحيطين به، الذين كتبوا عنه كابنه في «أبي شوقي» أو الأستاذ أحمد عبد الوهاب أبو العز سكرتيره في «اثنا عشر عامًا في صحبة أمير الشعراء»، ولا في ذكريات الأمير شكيب أرسلان في «أحمد شوقي أو صحبة أربعين عامًا»، ولكنَّنا نستطيع بدراسة مسرحياته وفنِّه فيها أن نستنتج تأثُّراته المختلفة.
والواقع أنَّ شوقي لم يأخُذْ أصولَ الأدب المسرحي عن كاتبٍ واحدٍ، ولا عن مذهب بعينه، بل جمع بين عدة اتجاهات غربية، وأضاف إليها اتجاهات أخرى شرقية عربية، وهو يَمِيل بعقليته الشرقية وتراثه الثقافي في داخل المذهب الواحد، إلى أديب دونَ آخَر، فنراه مثلًا يتأثَّر بالكلاسيكية الفرنسية، ولكنَّه يَمِيل إلى ناحية كورني أكثر من مَيْله إلى ناحية راسين، ونراه يودُّ أن يتَّخِذ من المسرح «مدرسةً لعزة النفس والإباء ونبل الأخلاق»، على نحو ما فعل كورني، وإذا كان قد تحدَّث عن الغرام والجنون به، فإنَّه لم يصوِّره قطُّ على ما فعل راسين، بل أخْضَعه، في الغالب، لمبادئ الأخلاق وسطوة التقاليد، بما فيها من عادات مرعية ومشاعر وطنية أو قلبية؛ فكليوباترة تُضحِّي بحبها في سبيل وطنها، وتضع مجدَه فوقَ «عبقريِّ جمالِها»، وليلى تُضحِّي بغرامِها نزولًا على التقاليد العربية، التي لا تُبِيح زواجَها بمَن شبَّب بها وفضَحَ غرامَه بها، ونتيتاس تضحِّي بنفسِها زوجة لقمبيز فداء لوَطَنها، وإنْ كان هذا الاتجاه الأخلاقي لم يخلُ من اضطراب وشوائب وتناقض أحيانًا في مجموع مسرحياته؛ إذ ترى عبلة مثلًا لا تعبأْ بتلك التقاليد ولا تُؤْثر على عنترة أحدًا، مع أنَّ تلك التقاليد كانتْ أشدَّ قوةً في حالة عنترة منها في حالة قيس ليلى، وذلك بحكم أنَّ عنترة كان ابنًا لزبيبة الأمَة الزنجية، بينما كان قيس عربيًّا خالِصًا من بني عامر، ولكنَّ هذا التناقُض لا يُنحِّي عن مسرح شوقي طابعَه الأخلاقي العام، ولا يُدخِله في تيار المسرح التصويري النسبي الذي يتميز به راسين، «مصور الشهوات البشرية».
- (١) اختار شوقي لمآسيه موضوعات تاريخية، سواء أكان هذا التاريخ حقيقيًّا أم أسطوريًّا، وذلك على نحو ما فعل الكلاسيكيون الفرنسيون،١ وإذا كان هؤلاء قدِ استقَوْا موضوعاتِهم من تاريخ الإغريق والرُّومان القُدماء، فإنَّ شوقي قد استقاها من تاريخ مصر وتاريخ العرب، فالاتجاه واحد؛ إذْ عاد كلٌّ إلى أصوله التاريخية، وإذا كان الفرنسيون قد صبُّوا في قوالب مسرحياتهم القديمة، عقليَّتَهم ومشاعرهم الإنسانية الحديثة باعتبارها إنسانية عامة، تصح في كافة العصور والأزمان، حتى سُمِّيَ أدبهم الكلاسيكي بالأدب الإنساني على نحو مطلق، واستبدلوا الآلهة وإرادتها وقضاءها بالدوافع الإنسانية المفطورة في جِبِلَّة البشر؛ فإنَّ شوقي كرجل شرقي مُولَع بالاتجاهات الأخلاقية والروحية، قد غلَّب تلك الاتجاهات على الدوافع النفسية الإنسانية، واتَّخَذ من مشاغل قومه ومقتضيات بيئته، محرِّكات لمسرحياته، وفسَّر التاريخ على ضوء تلك الاتجاهات، ونظر إلى الماضي من الوجهة الأخلاقية؛ فكليوباترة لا تَغدِر بأنطونيو لأنَّها أحسَّتْ بأفول نجمه وشروق نجم أوكتافيو، ورغبَتِ في إغواء هذا النجم الصاعد لانحلال خُلُقِها وسيطرة شهوة المجد على نفسِها، بل لسياسة وطنية عميقة، هي أن تترك قُوَّاد الرُّومان يُفنِي بعضُهم بعضًا، لتنفَرِدَ هي بعد ذلك بالسيطرة على الشرق والغرب معًا، ونتيتاس لا تَقبَل الزواج من قمبيز فرارًا من حبِّها الفاشل لتاسو، بعد أنِ انصرف عنها إلى نفريت، بل لتَفْدِيَ وَطَنَها الذي كان قمبيز يُهدِّد بغَزْوه والسيطرة عليه، إذا لم يَقْبَل فرعون مصر أنْ يُزوِّجَه من ابنته، وهكذا في كثير من المواطن الأخرى في مسرحياته، ومن البيِّن أنَّ الاتجاهات النفسية عند الغربيين جاءتْ أكثر عمقًا وإيحاءً من الاتجاهات الأخلاقية التي اصطنعها شوقي مهما يكن نُبْل نزعته.
- (٢)
اتَّخَذ شوقي في خمسٍ من مسرحياته الشعر أداةً للتعبير، على نحوِ ما فعل الكلاسيكيون، ومن الغريب أن نَراه يستخدم النثر في إحدى مسرحياته، مع أنها وثيقة الصِّلة بالشعر الأندلسي، ومع أنَّ المعتَمِدَ بن عبَّاد أحد أبطالها البارزين، كان شاعِرًا على نحو ما كان عنترة ومجنون ليلى، حتى لنراه يضمِّن مسرحيته بعض أشعار ذلك الشاعر الملك، بينما يكتب شعرًا الكوميديا الوحيدة التي ألَّفها وهي «الست هدى» التي تَجْرِي حوادثُها المعاصِرة في حي الحنفي بالسيدة زينب، والنثر بطبيعته أكثر ملاءمة للكوميديا، وأقرب إلى الواقعية في تصوير بيئة شعبية معاصِرة، بينما الشعر ألصَق بمأساة تاريخية غنائية كمأساة المعتمد بن عباد، ومع ذلك نستطيع أن نغلِّب حكمنا، فنقول بأنَّ شوقي قد استند إلى الكلاسيكيين، في استخدام الشعر كأداة للأدب المسرحي؛ وذلك لأنَّ الرومانتيكيين مثلًا، وإنْ كانوا قد استخدموا الشعر أحيانًا — كما فعل هيجو وفيني — فإنهم قد استخدموا أيضًا النثر على نحوِ ما فعل ألفريد دي موسيه، بحيث لا يمكن القول بأنهم كانوا يفضِّلون الشعر على النثر، بينما كان الكلاسيكيون يؤْثِرون الشعر في أدبهم المسرحي.
- (٣)
من المعلوم أنَّ الكلاسيكية تقسم الأدب المسرحي إلى تراجيديا وكوميديا؛ أي مأساة وملهاة، وتختص المأساة بتصوير حياة الملوك والأمراء والأبطال، على نحو ما كانتْ تفعل المسرحيات الإغريقية القديمة، في تصوير الآلهة وأنصاف الآلهة، فضلًا عن الملوك والأبطال، بينما تختص الكوميديا بتصوير حياة الشعب بل ودهمائه، وكذلك فعل شوقي؛ فمآسِيه كلُّها تدور حول حياة الملوك والأمراء والأبطال، مع أنَّ الزمن كان قد سار بالأدب المسرحي شوطًا بعيدًا، فظهرتِ الدراما البرجوازية التي تتناول حياة الطبقة الوُسْطى، التي نهضتْ بالثورة الفرنسية، وازدادتْ أهمِّيَّتُها الاجتماعية بعد تلك الثورة العاتية، بل وظهرتِ الدراما الحديثة على يد إبسن وبرنارد شو، وتناولتْ تصويرَ حياة عامة الناس ومشكلاتهم الاجتماعية والإنسانية المختلفة، والظاهر أنَّ شوقي كان أكثر اتصالًا بالمسرح الكلاسيكي؛ حيث تنفرد التراجيديا بتصوير حياة الملوك والأبطال، بينما تنصرف الكوميديا إلى تصوير حياة عامة الشعب، ولعلَّ في تاريخ حياة شوقي ما عزَّز هذا الاتجاه في نفسِه؛ فقد كان حريصًا دائمًا على أن يكون شاعِر الأمراء كما أصبح أمير الشعراء، وذلك بالرغم من أنَّ تصويره لحياة الشعب في «الست هدى»، ربما كان أكثر صِدْقًا ونجاحًا من تصويره لحياة الملوك والأمراء.
- (٤)
ولقد زعم بعض النُّقَّاد أنَّ شوقي قد تأثَّر بالكلاسيكية في ناحيةٍ فنيةٍ دقيقةٍ، وهي إيثارُه للوَصْف على المشاهِد في بعض أحداث مسرحياته؛ فهو مثلًا لا يحاول أن يعرض على المسرح حرب أنطونيو مع أوكتاف، أو حرب علي بك الكبير مع محمد علي أبي الذهب، ولكننا في الحق لا نستطيع أنْ نجزِمَ بصحة هذا التأثُّر؛ وذلك لأنَّ شوقي ربما حمل نفسه هذا المحمل خوفًا من صعوبة إخراج مثل هذه المشاهِد الواسِعة على المسرح العربي، كما نلاحظ من جهة أخرى أنَّ شوقي لم يحجم عن عرض كثير من المآسي العنيفة على المسرح على نحو ما فعل شكسبير والرومانتيكيون من بعده، إنْ لم يكن قد بذَّهم جميعًا أحيانًا، فكم من الضحايا والانتحارات! وكم من الموتى لم يحجم عن عرض مشاهد موتهم على خشبة المسرح أمام النظارة! فأنطونيو لا ينتحر وحدَه، بل يسبقه أوروس خادمه، وكليوباترة لا تنتحر وحدها بل تُصاحِبها وَصِيفتاها، وإذا كانتْ هيلانة قد أُنقِذَتْ، فإنَّ شرميون قد ولَّتْ إلى العالَم الآخَر، وفي عنترة لا يُجندِل البطل الرجال بسيفه فحسب، بل ويخرُّون أحيانًا لمجرد سماع صيحته، وبوجهٍ عام لا يُحْجم شوقي عن إراقة الدماء، ونثْر الأشلاء على خشبة المسرح، وبذلك لا يمكن القول بأنَّه قد قصد إلى تنحية مشاهد العنف عن مآسيه، مؤْثِرًا الوصْفَ والرِّواية على نحو ما فعل الكلاسيكيون.
- (٥)
من المقرَّر في المسرح الكلاسيكي أنْ تُبْنى المسرحية في أساسِها، على أزمةٍ تتصارَع فيها قُوًى نفسية وأخلاقية متعارِضة، ومن البيِّن أنَّ شوقي قد بَنَى مآسِيَه في جملتها على هذا الصراع، وإنْ ظلَّ أحيانًا سطحيًّا وشلَّالًا يتعمَّق أغوار النفس البشرية، ولا يشقُّ الحُجُب عن خفايا العقل الباطن، وعمل الغرائز وشهوات النفس ونزواتها الدَّفينة، فالصِّراعُ قائمٌ في كليوباترة بين حبِّها ومَجْدِها السياسي، وفي ليلي بين غرامِها وتقاليد قومِها، وفي عنترة بين القيمة الشخصية للفرد وتقاليد المجتمع، وإنْ يكنْ هذا الصراع لا يجري في الغالِب بين نزعات النفس المختلفة، بقَدْر ما يجري بينها وبين التقاليد أو مبادئ الأخلاق، ولكنَّ مسرحه على أية حال، يعتمد في أساسِه على الصِّراع، لا على التصوير والتحليل، كما تعتمد الدراما الحديثة.
- (١)
من المعلوم أنَّ الكلاسيكية قد تعصَّبت لِمَا يُسمُّونه «الوحدات الثلاث»، أي وحدة الموضوع والزمان والمكان، بمعنى ألَّا تحتوي المسرحية إلَّا على موضوع واحد، وأنْ تجرِيَ أحداثُها جميعًا في مكان واحد، وفي زمن لا يتجاوَز أربعًا وعشرين ساعة، وبمراجعة مسرحيات شوقي نَجِدُ أنَّه لم يتقيَّد بهذه الوحدات؛ ففي «مصرع كليوباترة» حب آخَر بين هيلانة وَصِيفتها وحابي أحدِ أتْباعها، وفي «علي بك الكبير» نَجِد إلى جوار غَدْر محمد بك أبو الذهب بسيِّده، قصة وَلع مراد بك بآمال، ثم اكتشافه أخوَّته لها، ونحن لا نذمُّ الخروج على المعنى الضيِّق لوحدة الموضوع؛ فقدْ أثبتَ الأدب المسرحي الخالد، أنَّه لا ضَيْرَ من الخروج على المعنى الضيِّق لهذه الوحدة، ولكنْ على شرط أنْ تكون الموضوعات الثانوية وثيقةَ الصِّلة بالموضوع الأصلي، موضِّحةً لبعض الجوانب النفسية أو الأخلاقية لأبطال المسرحية، على نحو ما نَجِد عند شكسبير مثلًا، حيث تندمج الموضوعات الجانبية في الموضوع الأصلي، وتكشف عن جوانب في الشخصيات لا يكشف عنها ذلك الموضوع الأصلي، وأمَّا عن وحدَتَي الزمان والمكان، فمِن البيِّن أنَّ شوقي لم يخضعْ لهما، ففي مسرحية واحدة ﮐ «علي بك الكبير» تنتقل مشاهد الرواية من القاهرة إلى عكا إلى الصالحية، ومن البيِّن أنَّ مثل هذا الانتقال لا يمكن أنْ يتمَّ في أربع وعشرين ساعة، ونحن لا نرى ضَيْرًا في خروج شوقي على هاتين الوحدتين، اللتين نَسَبَهما الكلاسيكيون إلى أرسطو تعسُّفًا وبهتانًا، وإنما يَضِير المؤلِّفَ المسرحي تفكُّكُ مسرحياته، بانعدام وحدة الموضوع وتوثُّق الارتباط بين أحداثه المختلفة، إذا تعدَّدتْ تلك الأحداث.
- (٢)
من المعلوم أيضًا أنَّ الاتجاهَ الأصيل في المسرح الكلاسيكي، بل وفي غيره، أنْ تنتَهِيَ التراجيديا بخاتِمةٍ مُحْزِنة، كما تنتهي الكوميديا بخاتمة مُضْحِكة أو سارَّة على الأقل، وإنْ تكنْ هذه القاعدة غيرَ مُطْلَقة؛ ففي الكثير من كوميديات موليير تأتي الخاتمة مُحزِنةً، على نحو ما نُشاهِد في «عدو البشر» أو «دون جوان»، وإنْ يكنْ من النادر أن لا تنتهي التراجيديا بمأساة، ومع ذلك لم يأخُذْ شوقي بهذه القاعدة العامة على نحوٍ مُطَّرِد، فإذا كانتْ كليوباترة تنتهي بعدة انتحارات، كما تنتهي مجنون ليلى بمَوْت البطَلَيْن؛ قيس وليلى، فإنَّ عنترة تنتهي بزَواجِه من عبلة، بل وزواج صخرٍ من ناجية أيضًا، ونحن لا نلوم شوقي لعدم خضوعه لهذه القاعدة العامة، ولكنَّنا نلومُه لبلبلة إحساس القارئ أو المشاهِد، بمحاولته دائمًا تخفيفَ قوةِ الانفعالات التي تنتهي بها مآسِيه، ولا نستطيع أن نُدْرِك حكمةً لهذا الاتجاه الذي اتَّخَذه؛ ففي «مصرع كليوباترة» مثلًا كان من المفهوم، ومِن دواعي الأدب المسرحي القوي، أن تنتهي تلك المأساة العاتية بانتحارِ البطلين، ولكنَّ شوقي يأْبَى إلَّا أن يصحب تلك الخاتمة المؤثِّرة، بخاتمةٍ أخرى هي زواج هيلانة من حابي، وانطلاقهما إلى طيبة ليَعِيشا سعيدَيْن في الضَّيْعة التي أَوْصَتْ بها لهما الملكة المنتحِرة، وفي «أميرة الأندلس» تُختَتَم المأساة بانهيار دولة المعتمِد بن عبَّاد من إشبيلِيَة، وسجن الملك الشاعِر وأسرته في شمال إفريقية، عند ملك المرابِطين يوسف بن تاشفين، ومع ذلك يأبَى شوقي إلَّا أن يَنْعَقِد زواجُ بثينة ابنة هذا الملك العاثِر، بخَطِيبها حسون في نفس ذلك السجن، وهو بذلك يُضعِف من قوةِ أثَر مآسِيه، ويجرِّدها من إثارة عاطفتَيِ الخوف والشَّفَقة، اللتين ركَّز فيهما أرسطو وظيفة المسرح، وجعلَهما وسيلةَ تطهير النفوس.
- (٣)
والكلاسيكية جعلتْ من أصولِها مبدأَ فصْل الأنواع، بمعنى أنَّ التراجيديا يجب أنْ تكون أحداثُها مأساةً متتابِعةَ الحلقات، لا يتخلَّلها أيُّ مشهَدٍ مُضْحِك، ولا أية فكاهة، كما أنَّ الكوميديا يجب أن تكون مَهْزَلة خالِصة، لا تَجْري المأساةُ في أي عرق من عروقها، ولكنَّ الرومانسية سَخِرتْ من هذه القاعدة، مستَشْهِدةً بمآسِي شكسبير الخالدة، التي لا تخلو من مناظِرَ ساخرةٍ ضاحكةٍ، ومن شخصيات هزلية رائعة، والظاهر أنَّ شوقي لم يُؤْمِن بما نادتْ به الكلاسيكية في هذا السبيل؛ ففي الكثير من مآسِيه نَجِد ألوانًا من الفُكاهة، بل وشخصيات مُضحِكة، مثل أنشو في «مصرع كليوباترة»، ومقلاص في «أميرة الأندلس»، بل وبشر في مطلع «مجنون ليلى»، وقد كانتْ فلسفة شكسبير والرومانتيكيين في هذا الخلط، تقوم على أنَّ المسرح عرضٌ للحياة، وما دامتِ الحياة لا تتورَّع عن أن تجمع بين المُضْحِك والمُبْكِي، فليس هناك ما يدعو المسرح إلى ذلك التورُّع، والحجة سليمة، ولكنْ هناك فرقٌ كبيرٌ بين مُضْحِكات شكسبير مثلًا ومُضْحِكات شوقي، فالمُهرِّج أوفولستاف عند شكسبير فيلسوف لاذِعٌ تقطر ابتساماتُه وسخريتُه أسًى، وتكشف عن أعمق الجوانب في مآسيه، وأمَّا عند شوقي ففُكاهتُه لفظيةٌ سطحيةٌ، وإنْ كان من الحقِّ أنْ نعتَرِف بأنَّ مقلاص في «أميرة الأندلس»، يرتفع أحيانًا إلى مستوًى رفيعٍ من الحكمة الإنسانية المُرَّة، يقْذِف بها في صراحةٍ داميةٍ، وأكبرُ الظنِّ أنَّ شوقي لم يمدَّ في مآسِيه هذه الخيوط الضاحِكة، إلَّا مجاراةً للرُّوح المصرية المُولَعة بالنُّكْتة اللفظية والمرح الخفيف.
- (٤)
إنه وإنْ تكن الكلاسيكية قد قامتْ على محاكاة المسرح الإغريقي والروماني القديمين، إلَّا أنَّها حققت للفن المسرحي استقلالَه ومقوِّماته الذاتية؛ فقد كان المسرح القديم يجمع بين الحوار والغناء والرقص والموسيقى، بل والنحت والتصوير، فجاء الكلاسيكيون وقاموا بضرورة فصل الفنِّ التمثيلي عن غيره من الفنون، لينهض بذاتِه وبمقوِّماته الخاصَّة، فحَذَفوا الجوقة بغنائها وموسيقاها ورقْصها، كما حذفوا الفنون الأخرى، حتى يتركَّز انتباه المشاهِدين على حركة الشخصيات والحوار ومتابعة تيار العقل والإحساس، الذي يَجْرِي في المسرحية، ولكنَّ شوقي الشاعر الغنائي لم يستطع أنْ يُجارِيَ المسرح الغربي في هذا الاتجاه؛ وذلك لأنَّ المصريين بل والعرب بوجهٍ عام، شعبٌ طَرُوبٌ بفِطْرته مُحبٌّ للغناء، وكان شوقي طَموحًا إلى إرضاء جمهوره، وقد لَمَس بخبرته إلى أيِّ حدٍّ بلغ نجاح المسرح الغنائي في مصر، عند سلامة حجازي وأولاد عكاشة وسيد درويش، كما أنَّ تراث العرب الشعري كلَّه لم يكن غنائيًّا بخصائصه الفنية فحسب، بل كان يُتغَنَّى به فعلًا على ضُروبِ وأنغام الموسيقى المختلفة، ولم يكن هذا الغناء الموسيقي قاصِرًا على قصائد أو مقطوعات بعَيْنها، بل الظَّاهِر أنَّه كان يتناوَل جميعَ الشعر العربي على اختلاف أوزانه وموضوعاته، وفي كتاب «الأغاني» موسوعة الشعر العربي الكبرى أوْضحُ دليل، كما سبق القول، على هذه الحقيقة، حيث يذكر المؤلِّف النغَمَ الخاصَّ بكلِّ قصيدة يُورِدها وضَرْبَها، ولم يكن شوقي يستطيع التحلُّل من طبيعته الغنائية، أو من تراث قومه، أو يُهمِل عامِلًا قويًّا في نجاح مسرحياته، أو يُغْضِي عن مِزاج قومه، ويا ليتَ شوقي قد أُتِيح له من الموسيقيين مَن يستطيعون تلحِينَ مسرحياته الشعرية تَلحينًا كاملًا، على نحوِ ما فعل ماسنيه الموسيقي الكبير، عندما لحَّن في سنة ١٩١٩ مأساة غنائية عن كليوباترة، وفي الأجزاء التي لحَّنها وغنَّاها محمد عبد الوهاب من «كليوباترة» و«مجنون ليلى»، والنجاح العظيم الذي لاقَتْه تلك الأجزاء، ما يَقْطَع بأنَّ بعض مسرحيات شوقي مثل «مصرع كليوباترة» و«مجنون ليلى» و«عنترة»، لو أنَّها لُحِّنتْ كاملةً ومُثِّلتْ كأوبرا لنجحتْ أكبرَ النجاح، وأصبحتْ غِذاءً فَنِّيًّا رائعًا، يعوِّض ما يَفتَقِده فيها النُّقَّاد القُساة من حقائق نفسية أو تاريخية أو وطنية، ونحن لا نلوم شوقي لتضْمِينه مسرحياتِه بعض المقطوعات الغنائية، وكنَّا نودُّ أنْ لو مُثِّلَتْ، كما قلنا، بعض تلك المسرحيات كأوبرا، وعندئذٍ كان لا بدَّ أن يختفي ما لاحَظَه بعضُ النُّقَّاد أو معظَمُهم، من أنَّ هذه المقطوعات الغنائية قد جاءتْ أحيانًا دَخيلةً على بناء المسرحية، معوِّقة لسَيْر أحداثِها وتطوُّرها نحو خاتمتها، غير مُجْدِية في سَيْر الأحداث، أو الكشْف عن الحقائق النفسية للشخصيات.
وهكذا يتَّضِح كيف أنَّ شوقي لم يتقيَّد بتيار خاصٍّ، ولا بمذهبٍ مُعيَّن، بل جمع بين الشرق والغرب، وبين مذاهب الأدب المختلِفة، والظاهر أنَّه لم يتعمَّق دراسة فلسفة الأدب، ولم يكوِّن لنفسه حصيلةً نظريةً من تلك الفلسفة، وإنما كان يَسْتَهْدي ذوقَه الخاصَّ وتفكيرَه القريبَ المنال، والواقع أنَّ الفلسفات الأدبية والمذاهب لا تُرتَجَل ولا تُصْطَنَع، وإنَّما تولِّدها تيارات فكرية وعاطِفة خاصة، أو حالات نفسية واجتماعية بعينها، وكان شوقي رائدًا في مجال المسرح الشعري، ولم يكن في الميدان غيرُه حتى تتشعَّب المذاهب وتتنوَّع الفلسفات، ولا ينبغي أنْ نأخُذَه بالأصول التي سار عليها هذا المذهب أو ذاك في الأدب الغربي؛ فالكثير من تلك الأصول نِسبِيٌّ لم يتحرَّج الغربيون من الخروج عليها، حتى ولو كانتْ مما نظنُّه بديهيًّا، مثل ضرورة انتهاء المسرحية إلى خاتمة ما، فالمذهب الحديث المسمَّى بالسريالزم، أو ما فوق الواقِع، صدرتْ عنه عدةُ مسرحيات تصوِّر جوانبَ من المعركة التي تَدُور عليها المسرحية، ولكنَّها لا تُخْبِرنا عمَّن كان له النصر في طرفَيِ المعركة، وإنما تترك للقارئ أو المشاهِد استنتاجَ ذلك أو تخيُّلَه حسبما يشاء، وربما قصدتْ إلى ترك الباب مفتوحًا؛ ليستمرَّ القارئ أو المشاهِد في التفكير والحَدْس والموازنة وإعمال الخيال، ومع ذلك لاقتْ بعضُ تلك المسرحيات الجيدة نجاحًا عظيمًا، من حيث إنَّها تشقُّ الحُجُب عن عالَم العقل الباطن العميق، وتتركنا نغوصُ في حناياه، ونكتَشِف الدَّوْر الخطير الذي يَلعَبه من خلف الستار في حياتنا الواعية.
ومع ذلك فممَّا لا ريبَ فيه أنَّ هناك أصولًا عامة كلِّية لا يستطيع الأدب المسرحي أنْ يُفلِتَ منها، وعلى ضوئِها يُكتَب لهذا الأدب الخلودُ أو الفناءُ، والنجاحُ أو الفشل.
فالأدب المسرحي ككلِّ فنٍّ، يتناوَل مادةً أولية يَصُوغها بأسلوبٍ خاصٍّ، وعلى جودة تلك المادة، وبراعةِ هذا الأسلوب، تتوقَّف قيمةُ ذلك الأدب، ولننظر الآنَ في هذين العنصرين.