قمبيز
قلنا: إنَّ شوقي قد رجع إلى تاريخ مصر وتاريخ العرب، يستقي منهما موضوعات لمآسيه، وإنَّه قد اعتمد على العاطفة الوطنية؛ لتحقيق المشاركة الوجدانية التي لا بد منها لنجاح الفن المسرحي، ثم رأَيْنا أنَّه لم يُوفَّق في إثارة عطفنا على «كليوباترة»، فضلًا عن إعجابنا بها.
والآن ننظر في مسرحيته المصرية الأخرى «قمبيز»، لنرى هل وُفِّق إلى ما لم يُوفَّق إليه في «مصرع كليوباترة»؟
تناوَل شوقي في مسرحيته «قمبيز»، فترةً حاسمةً في تاريخ مصر، وهي فترة القضاء على استقلال مصر وسيادتها، ووقوعها فريسةً في يَدِ الغُزاة الأجانب الذين ظلُّوا يتعاقَبون على حكمها منذ أواخر القرن السادس قبل الميلاد حتى نهاية فاروق … ولكنَّ شوقي لم يرجع في تصوير هذه الفترة إلى التاريخ الحقيقي، الذي يفسِّر أسباب غزْو الفُرْس لمصر، بأسباب سياسية واقتصادية وعسكرية، تتصل اتصالًا وثيقًا بالصِّراع الجبَّار الذي كان سائدًا عندئذٍ بين الفُرْس من جهة، واليونان وقرطاجنة من جهة أخرى، وتطلُّع الفريقين إلى الاستيلاء على مصر لترجيح كفة الصراع.
بل آثَر أن يستخدم لفنِّه المسرحي أسطورةً رواها المؤرِّخ اليوناني القديم هيرودوت، ونقَلَها عنه بعض المؤرِّخين المحدَثين، وهي تلك الأسطورة التي تزعم أنَّ «قمبيز» غزا مصر لأنه طلب إلى «أمازيس» فرعونها أن يزوِّجه من ابنته، ولكنَّ أمازيس غشَّه … فبدلًا من أن يزوِّجه من ابنته «نفريت»، زوَّجه من «نتيتاس» ابنة «إبرياس» الفرعون الذي قتَلَه أمازيس واستَوْلى على عرشه، ثم اكتشف قمبيز هذا الغش فثارتْ حفيظتُه، وانتقم من فرعون بغزو مصر، وسفك دماء أبنائها، ونهب خيراتها، وتدمير معابدها، وقتْل عجل أبيس إله المصريين القدماء … وإن تكن نوبات جنون هذا الملك الطاغية السَّفَّاح قد أطاحتْ بما بقِيَ في رأسِه من عقل، فقتل أيضًا أخاه وأخته في ساعة جنونية، بل ولقِيَ حتْفَه.
الأسطورة والواقع
وليس من شكٍّ في أنَّ شوقي كان له كلُّ الحق في أن يفضِّل هذه الأسطورة على التاريخ الواقعي، إذا رأى أنَّها أكثر مواتاة لفنِّه، وأوْفر حظًّا في خدمة الهدف الذي رمى إليه من تمجيد رُوح الفِداء والتضحية الوطنية في شخصية «نتيتاس»، التي قدَّمتْ نفسَها قربانًا على مذبح الوطن.
وإذا صحَّ هذا لا يكون هناك محلٌّ لأن يشدِّد ناقد — كالأستاذ العقاد في كتابه «قمبيز في الميزان» — النَّكيرَ على شوقي باسم التاريخ، ما دام شوقي نفسه قد آثَرَ لفنِّه أن يَخرُج من مجال التاريخ إلى مجال الأسطورة، ومع ذلك فإنَّ الحملة العنيفة التي شنَّها الأستاذ العقاد على مسرحية شوقي باسم التاريخ، إذا كان لبعض تفصيلاتها شيء من الوجاهة، فإنَّ البعض الآخَر لا يخلو من تعسُّف لا محلَّ له.
فالأستاذ العقاد قد يكون محقًّا عندما يأخذ على شوقي أنه لم يستخدم بعض الحقائق التاريخية الثابتة التي لا تتنافى مع هدفه الوطني، وتفسِّر إطباق الجنون على قمبيز مثل الهزائم الشديدة، والخسائر الفادحة التي لقِيَتْها جيوش الفُرْس في بلاد النوبة، وفي الصحراء الغربية.
تعسُّف
وعلى العكس من ذلك يَظهَر تعسُّف الأستاذ العقاد عندما يأخذ على شوقي أنه لم يستخدم في مسرحيته أسماء تاريخية لامِعة، كانتْ لها بعض الصِّلات بمصر أو الفُرْس في تلك الفترة مثل المشرع اليوناني الشهير «صولون»، أو «قارون» ملك ليديا الذي لا يزال يُضرَب به المثل الشعبي في وفْرة الثراء، ويزيد هذا التعسُّف وضوحًا عندما نلاحظ أنَّ الأستاذ العقاد لم يوضِّح لنا على أيِّ نحوٍ كان يريد أن يُدخِل شوقي هاتين الشخصيتين أو غيرهما في المسرحية، وما هي الأدوار التي كان من الممكن أن تَلعَبها فيها … وهكذا يتَّضِح كيف أنَّ هذا النقد التاريخي لم يكن له محلٌّ، كما يتَّضِح ما فيه من تعسُّف؛ ولذلك ربما كان من الخير أن نترك التاريخ جانبًا لننظر في المسرحية على أساس الأصول الفنية في تصوير الشخصيات، وعلى أساس الهدف الذي قصد إليه شوقي.
شخصية أساسية
ومن البيِّن أنَّ الشخصية الأساسية في هذه المسرحية ليستْ «قمبيز»، وإنَّما هي «نتيتاس»، التي أراد شوقي أن يصوِّر فيها الرُّوح الوطنية التي أراد أن يحقِّق بها — كما قلنا — المشاركة الوجدانية، التي تضمن استجابةَ الجماهير؛ ولذلك يَجْدُر بالناقد أن يتَّخِذ هذه الشخصية أساسًا لنقْده وحكمه على المسرحية.
والواقع أنَّ شوقي قد أراد أن يجسِّم الوطنية المصرية في شخصية «نتيتاس»، وأن يجعل منها ما يمكن أن يُشبَّه باللؤلؤة التي لا تذوب في الأوْحال؛ وذلك لأنه صوَّر مصر عندئذٍ على حقيقتها من حيث الضعف والانحلال والإسراف في البذخ، حتى «قتَلَ النَّعيمُ حَمِيَّةَ الشُّبَّان»، وأصبح جيش مصر نفسُه خليطًا من المرتزقة، وبخاصة من اليونان، الذين وصل أحدهم وهو فانيس، إلى رتبة القائد، ثم غدَر بمصر وجيْشِها، وأفْشَى سِرَّها إلى قمبيز، ثم التَحَق بالجيش الفارسي، ولكننا مع ذلك نلاحِظ أنَّ شوقي لم يستَطِعْ أن يصون صفاء هذه اللؤلؤة، ولا أن يوضِّح لنا سِرَّ نقائها، بل ولا أن يُنحِّيَ عنها ما عَلِق بها من أدْران.
قدَّم لنا شوقي «نتيتاس» على أنها المصرية سليلة الفراعنة التي تَفْدي البلاد بنفسها، وتدفع عن مصر شرَّ العجم، وتقي الوطنَ دنسَ الفتْح وعارَه، وتهتف دائمًا «تعيش مصر وتبقى»، ولكنَّه مع ذلك لم يوضِّح لنا كيف استطاعتْ «نتيتاس» أن تتغلَّب على حِقْدها الإنساني المشروع على قاتِل أبيها الفرعون «أمازيس»، أو كيف استطاعتْ أن تتناساه، ولم يستخدم الصراع المؤثِّر الذي كان من الطَّبيعي أن يَثُور في نفسِها بين المَوْجِدة الشخصية وحب الوطن، وبخاصة وأنَّ شوقي قد جعل لتلك المَوْجِدة أعقابًا تزكيها وتَزِيدها ضِرامًا، حتى لتمسُّ نتيتاس في أعزِّ ما تملك الفتاة، وهو قلبها.
فشوقي يحدِّثنا أنَّ «نتيتاس» كانتْ تحبُّ «تاسو» حارس أبيها، وكان هذا الجندي يُبادِلها حبًّا بحبٍّ طالَما ظلَّ أبوها فرعونًا لمصر، حتى إذا قتَلَه «أمازيس» واغتَصَب منه العرش، تحوَّل «تاسو» من «نتيتاس» إلى «نفريت» بنت فرعون الجديد؛ وذلك لأنه على حدِّ قول شوقي:
فهو كالنحلة من زهر إلى زهر، وكالنعمة من قصر إلى قصر، ولم يستطع شوقي أن يُهمِل ما يُثِيره مثل هذا الغدر في «نتيتاس» من غَيْرة كاوية، فنراها تُخاطِب «تاسو» بقولها:
وإذا كانتْ هذه هي حالة «نتيتاس» النفسية، وهذا هو مبلغ نِقْمتها على «تاسو»، وغَيْرتها من «نفريت» الأنانية المحظوظة، أوَما يكون القارئ أو المشاهِد على حقٍّ في أن يشكَّ في مدى نبل «نتيتاس»، وسيطرة رُوح التضحية والفداء الوطني على نفسها، مما يذهب برَوْعة بطولتها، ويُضعِف من عَطْفنا عليها وتحمُّسنا لها، وبخاصة وأننا لم نشهَدْ معركةً نفسيةً تدور في حناياها بين كلِّ هذه العناصر المشتبِكة المتضارِبة من حقْدٍ على قاتلِ أبيها، وغَيْرة من ابنته، ويأسٍ من غرامها المحطَّم، ثم شعورها الوطني واشتعال رُوح التضحية في نفسها، صِراعًا تخرج منه منتصرةً مغلِّبة رُوحَ الوطنية النقية السامية على مشاعرها الشخصية، ومآسيها الخاصة بحيث تزداد عندئذٍ تضحيتُها نبلًا، وتزداد قلوبنا عليها حنوًّا!
لم يُصِبِ الهدف
هذا هو النقْد الأساسي الذي يمكن أن يُوجَّه إلى هذه المسرحية التي أراد شوقي أن يُمجِّد فيها رُوحَ الفداء والوطنية المصرية، ممثَّلةً في فتاة من سلالة الفراعنة، ولكنَّه لم يُصِبِ الهدف كما لم يُصِبْه عندما حاول في «مصرع كليوباترة» أن يردَّ إلى تلك الملكة اليونانية — التي جلستْ على عرش مصر — اعتبارها، وأن يُثير فينا العطف عليها، بل والإعجاب بها.
والآن ما سرُّ إخفاق شوقي؟ أهو في عدَمِ ملاءمة موضوعات مسرحياته للهدف الوطني الذي قصد إليه؟ أم هو في عدم توفيقه في استخدام أحداث التاريخ، واتخاذها وسيلة إلى تصوير شخصياته على النحو الذي أراد؟ أم هو أخيرًا تركه الهدف الوطني يطغى على الحقائق الإنسانية والعناصر النفسية، التي لم يكن بدٌّ من تجْلِيتها، والغوص وراءها؛ حتى يكتسب مسرحه قيمةً إنسانية وأدبيةً خالدة؟!
هذه كلُّها أسئلة نترك الإجابة عليها إلى ما بعدَ فراغِنا من الحديث عن مسرحياته التي استقاها من تاريخ العرب وهي: «مجنون ليلى» و«عنترة» و«أميرة الأندلس».