مجنون ليلى
استعرَضْنا فيما سبق مسرحيات شوقي التي استمدَّ موضوعاتها من تاريخ مصر، وهي «علي بك الكبير» و«مصرع كليوباترة» و«قمبيز»، وأوْضحنا إلى أيِّ حدٍّ استطاع شاعرنا العظيم أن يحقِّق ما هدف إليه من كلٍّ من هذه المسرحيات.
ونعرض الآن للمسرحيات التي استقاها من تاريخ العرب، وأول هذه المسرحيات هي «مجنون ليلى»، وهنا نلاحظ أنَّ شوقي لم يختَرْ هذا الموضوع من التاريخ الحقيقي، بل من التاريخ الأسطوري، فقصة المجنون وليلى لا تُعتَبَر تاريخًا، بل قصة شعبية، تكاد تكون رمزًا لجميع قصص الغرام أو الهوى العُذْري، الذي تفشَّى في الحجاز في صدْر الدولة الأموية؛ لأسباب اجتماعية واقتصادية وسياسية، يعرفها مؤرِّخو الأدب العربي، ولقد سبق للدكتور طه حسين أن كتب منذ ربع قرن سلسلةً من المقالات عن هذا الهوى العُذْري الحجازي جمَعَها في الجزء الثاني من «أحاديث الأربعاء»، وفيها يُنكِر وجودَ قيس بن الملوح المشهور بالمجنون إنكارًا مُطْلقًا، معتمِدًا على ما في قصته من تناقُض وإحالة وأحاديث خرافة، وهو في هذا الإنكار غير مُبتَكِر، فقد شكَّك أكبرُ مصدر لهذه القصة، وهو «الأصفهاني» مؤلِّف كتاب «الأغاني»، في هذه القصة وتفاصيلها التي يَرْوِيها بكلِّ حذرٍ واحتياط.
ولم يكن شوقي إذن في مجال التاريخ عندما يُعالِج هذه القصة، وإنما كان في مجال القصة الخيالية، أو الأسطورة الشعبية، وكان باستطاعته أن يُطلِق لخيالِه العنان في تصوير الشخصيات، وإبراز سماتها النفسية وخصائصها الرُّوحية، كما كان باستطاعته أن يتصرَّف في الأحداث التي تكون الحركة المسرحية تبعًا للهدف الذي اختاره، والقِيَم الإنسانية التي يُرِيد أن يَجْلُوَها في مسرحيته، وإن يحرِّك بها نفوس القارئين أو المشاهدين.
لقد كان شوقي يستطيع — لو واتَتْه القُدْرة — أن يخلق في الأدب العربي الحديث من قصة المجنون وليلى، مسرحيةً إنسانيةً عاتيةً تُشبِه «روميو وجولييت»، التي خلَقَها شكسبير في الأدب الإنجليزي، وموضوع القصتين شديد الشَّبَه، فكلٌّ منهما يَدُور حولَ حبِّ فتًى لفتاة، ثم قيام عوائق أمام هذا الحب العارم الذي يسعى إلى الزواج، وإذا كان شكسبير قد أرجع هذه العوائق إلى عداوة متأصِّلة بين أسرتي العاشِقَيْن، فإنَّ العوائق في قصة مجنون ليلى تعود إلى عادات وتقاليد اجتماعية، ليستْ أقلَّ استبدادًا بالنفوس وسيطرة عليها من العداوات التي تقوم بين الأُسَر، بحيث يتَّسِع المجال في الحالتين لذلك الصراع النفسي العنيف، الذي اتَّخذ منه شكسبير سبيلًا إلى سَبْر أعماق النفس البشرية، وإظهار قواها الخفية العنيفة المتمرِّدة، وبخاصة إذا ذكرنا أنَّ الدراسات النفسية كانتْ قد تقدَّمتْ في عصر شوقي تقدُّمًا كبيرًا، كان باستطاعته أن يُفِيد منه، إذا أعوزه الاستبطان الذاتي، والخيال الخالق المُدْرك، ولكنَّ شوقي الشاعر الغنائي الموهوب كان، لسوء الحظ، لا يملك شيئًا ممَّا تميَّز به شكسبير من نفاذ البصيرة وتحليق الخيال، كما أنَّ حصيلته من الثقافة الإنسانية العامة كانتْ ضَحْلة؛ ولذلك لم يستَطِعْ أن يُعِيد خلق هذه الأسطورة الأدبية على نحوِ ما أعاد شكسبير خلقَ أسطورة «روميو وجولييت»، بل نراه يتقيَّد في مسرحيته بالكثير من التفاصيل التافِهة أو الخرافية التي يَرْويها صاحب «الأغاني»، حتى رأَيْنا ناقدًا كالأستاذ إدوار حنين يجمع في إحدى مقالاته التي نشرها في مجلة «المشرق» البيروتية عددًا كبيرًا من فقرات الأصفهاني ويُرْدِفها بأبيات شوقي، ليُدلِّل على أنَّ شاعرنا لم يُعِدْ صياغة تلك الأخبار والطرائف شعرًا، بل إنِّ مراجعة الأشعار التي تُنسَب إلى قيس بن الملوح في الأغاني تُمكِّننا في سهولةٍ من أن نُرجِع عدة مقطوعات من مسرحية شوقي إلى المجنون العربي القديم، وذلك عن طريق الاقتباس المباشِر، كقصة المجنون مع الظَّبْية، وهي التي مطلعها:
وكذلك الأمر في عددٍ من الصُّوَر والمعاني التي ضمَّنها شوقي مسرحيته، أو حوَّرها إلى أسلوبه الخاصِّ، مثل قول المجنون لزوج ليلى يسأله عنها:
وأغنية جبل التَّوْباد الشَّهيرة، وهي الجبل الذي كان قيس وليلى يَرْعَيان الغنم على سفْحِه أيام الطفولة الأولى، ففي الأغاني، وفي المسرحية نعثر على هذين البيتين:
وغير ذلك كثير مما كنا نستطيع قبوله باعتبار أنَّ شوقي يعرض قصة شاعرٍ كبير، عبَّر هو نفسه عن أحاسيسه تعبيرًا رائعًا أحيانًا كثيرة، وأمَّا أن تستبدَّ تفاصيل الأخبار القديمة بشوقي، وتسيطر عليه سيطرة مطلَقة في تصوير شخصياته، وتحليل دوافعها وخفايا نفوسها على نحو ما فعل في «مجنون ليلى»، فذلك ما لا نستطيع أن نُقِرَّه؛ إذْ إنَّه قد قيَّد خيال الشاعر، وحرَمَنا من أن نظفر منه بتحليل إنساني عميق لشخصياته، وتصويرٍ قويٍّ للمشاعر الإنسانية التي تصْطَرِع في حناياها فتُثير نفوسَنا، بحكم المشاركة الوجدانية التي لن نملَّ القولَ بأنها الشرط الأساسي لنجاح الفن المسرحي.
ولقد أدَّى تقيُّد شوقي بما اختار من تفاصيل قصة المجنون القديمة إلى ملء مسرحيته بالكثير من الخرافات القديمة التي قد يُظَنُّ أنَّ شوقي قدِ التَجَأ إليها جريًا وراء ما يُسمِّيه الرومانسيون «باللَّوْن المحلي»، ولكنها في الواقع لا تدخل في هذا اللون الذي ظلَّ — ويجب أن يظلَّ — مقصورًا على بعض المظاهر والعادات الخارجية، ولا يمكن أن يمتدَّ إلى الحقائق النفسية التي يجب أن تظلَّ خاضعة للعنصر الإنساني العام الذي يستطيع وحدَه أن يكوِّن تلك المشاركة الوجدانية المطلوبة.
تقيُّد شوقي إذن باختيار تفاصيل تلك القصة وصياغتها شعرًا غنائيًّا يبلغ الذروة أحيانًا كثيرة، ولكنَّه لا يستطيع أن يُخفِيَ ضعف عنصر «الدراما» في كثير من مواقف المسرحية، وبخاصة في موقفها الأساسي، وهو الصراع الذي كنا نتوقَّع من المؤلِّف أن يركِّز عليه اهتمامه، وهو الصراع الداخلي الذي كان من الطبيعي أن يثور في نفس ليلى بين حبها لقيس وخضوعها لتقاليد العرب، التي تأبَى على الفتاة أن تتزوَّج بمَن تغزَّل بها في شعره، وفضَح حبَّه لها، ففي سهولة عجيبة يفوِّض المهديُّ والد ليلى لها الأمرَ لتختارَ زَوْجَها، وفي سهولةٍ عجيبةٍ تختار ليلى وردًا الثقفي وتفضِّله على قيس، وكلُّ ما نلمسه منها هو مجرَّد ندم على هذا الاختيار، بل إننا لنلمح تناقُضًا واضطرابًا في تصوير التقاليد العربية التي جعل لها شوقي كلَّ هذا السلطان، ولا أدلَّ على ذلك من أن نرى وردًا زوج ليلى يُمَهِّد لغريمه بعد الزواج فرصةَ الاختلاء بزوجته، والتحدُّث إليها في بيته، فهذا ما لا نظنُّ أنَّ التقاليد العربية — بل ولا المشاعر الإنسانية — يمكن أن تُجِيزَه، وأكبر الظنِّ أنَّه من ابتكار شوقي.
وإذا كان شوقي قد تقيَّد إلى هذا الحدِّ بأسطورة المجنون القديمة، فشلَّتْ خيالَه وثلمتْ بصيرته، فهل تراه قد تحلَّل من مثل تلك السيطرة في الأسطورة الأخرى، التي اختارها موضوعًا لمسرحية «عنترة»؟ أو تخيَّر من تفاصيل هذه الأسطورة التاريخية ما يُماشِي فنَّ الدراما، وما يمكن من تصوير شخصيات إنسانية، نستطيع أن نُشارِكها حياتها مشاركة وجدانية عميقة؟
هذا ما سوف نراه.