عنترة
وهذه مسرحية عربية أخرى، أَغْرَى شوقي موضوعُها الذي أصبح من الأساطير الشعبية، التي نسج حولها الخيال الشعبي الكثيرَ من أعمال البطولة والفَتْك، فضلًا عن الغرام، والصراع العنيف بين قيمة الفرد الشخصية ووضْعه الاجتماعي، فعنترة ابن زبيبة الحبشية فارسٌ عربي شجاع، ولكنَّ سواد جِلده، وانحدارَه من أَمةٍ حبشيةٍ يَغْمِطه فضْلَ هذه الشجاعة، ولا يجعله أهلًا لعبلة بنت مالك السيد العربي، والحائل بين عبلة وعنترة في هذه القصة أعنفُ وأشدُّ تأصُّلًا في نفوس العرب من الحائل بين قيس وليلى، فقيس عربي سليم النَّسَب كفْءٌ لليلى، ولا يَحُول بينه وبينها شيء غير تشبيبه بها، أمَّا عنترة فعبدٌ وابن أَمَةٍ، ومن المعلوم إلى أيِّ حدٍّ كان عرب الجاهلية يتمسَّكون بالأنساب ويستَمِيتون في سبيلها، وكلُّ هذه الحقائق توضِّح الفارق الكبير الذي يُميِّز عناصر «الدراما» في قصة مجنون ليلى عنها في قصة عنترة وعبلة.
ولقد أغْرَتْ قصةُ عنترة خيالَ الشعراء والأدباء، وبخاصة بعد أن نمَّاها الخيال الشعبي، وضرب بها في مختلف الآفاق، وإذا كانتْ هذه الدراسة السريعة لا تتَّسِع لتقصِّي جميع ما كتبه الأدباء والشعراء من قصص ومسرحيات حول عنترة وعبلة، فلا أقل من أن نُشِير إلى أنَّ هذا الموضوع قد عالَجه في سنة ١٩١٠ أديبٌ لبناني، هو شكري غانم، الذي كتب باللغة الفرنسية مسرحيةً عن عنترة مُثِّلَتْ في «مسارح باريس ذاتها»، وأكبر الظن أنَّه إذا لم يكن شوقي قد شاهَدَها أو قرَأَها فقد سمِعَ بها على الأقل، وربما كانتْ من الأسباب التي لفتَتْ نظرَه إلى هذا الموضوع، وأمَّا قصة الأستاذ فريد أبو حديد التي نشرها في سلسلة «اقرأ» عن عنترة فلاحقةٌ لمسرحية شوقي.
والواقع أنَّ قصة عنترة الشعبية قد أفسَحَتِ المجال أمام الشعراء والأدباء ليختاروا من وقائعها ما يُلائِم فنَّهم، ويحقِّق الأهداف التي يقصدون إليها، وها نحن نرى كلًّا من شكري غانم وشوقي وأبا حديد، يختار للقصة وجهةً وحلًّا يختلفان عمَّا اختارَه الآخَر.
فشكري غانم يستمدُّ الحلَّ من شجاعة عنترة الخارقة، التي حملتْ قومَه على أن يُلحِقوه بهم، وأن يُصحِّحوا نسَبَه ويزوِّجوه من عبلة بعد حُسْن بلائِه في الدفاع عنهم ضدَّ العرب والفُرْس وحماية ذِمارهم، وأمَّا أبو حديد فيتخيَّر الحلَّ فيما قيل من أنَّ والِدَ عبلةَ طلب لابنته من عنترةَ ألفًا من النُّوق العصافير التي لا تُوجَد إلَّا في الحِيرة، وسافَرَ عنترةُ لعلَّه يغنم تلك النُّوق، ولكنَّه وقَعَ أسيرًا في يدِ ملك الحيرة، ومع ذلك أكرم هذا الملكُ مَثْواه، واشتغلَ عنترةُ في الحِيرة بالتجارة، حتى جمع ألفَيْن من تلك النُّوق، وعاد بها إلى قومه وقوم عبلة، ففرَّق بينهم تلك النُّوق، وإذا بهم يُظاهِرونه ويزفُّون إليه عبلة، وكأنَّه قد اشتَرَى موافقةَ العرب على زواجه بهذه النُّوق العصافير.
وأمَّا شوقي فقد اختطَّ نهجًا آخَر؛ فهو لا يحدِّثنا في مسرحيته عن تصحيح نسَبه، ولا عن مُوافَقة أهلِ عبلةَ على زواجِها منه لشجاعته، أو لكَرَمِه وسخائه، أو لحاجتهم إليه، بل يترك معارضة مالك في زواج ابنته من عنترة عنيفةً قاسيةً إلى نهاية المسرحية، وهي معارضةٌ بلغتْ حدَّ طلب رأس عنترة مهرًا من منافِسيه: «صخر» و«ضرغام»؛ ولذلك اضطُرَّ أن يلتَمِسَ خاتمةً مسرحيةً لروايته، وهي تآمُر عبلة مع عنترة؛ لكي تُزَفَّ إليه هو لا إلى صخر في ليلة زفافها، بينما تُزَفُّ إلى صخر الفتاة الأخرى ناجية التي كانتْ تُحبُّ صخرًا قدْرَ محبة عبلة لعنترة، وهكذا استحالَتْ قصة عنترة عند شوقي إلى ملهاة، بل ملهاة مزدوجة من النوع المسمَّى عند الغرب «تراجي كوميدي» أو «ڨودڨيل»، خاتمتها انقلابٌ مسرحي مزدوج، هو زواج عنترة من عبلة وصخر من ناجية.
ولقد سبق أن لاحظْنا كيف أنَّ شوقي قد جمع في «مصرع كليوباترة» بين قصتي غرام، هما غرام كليوباترة وأنطونيو، ثم غرام حابي وهيلانة، وانتقدْنا في حقٍّ وشدةٍ هذا الازدواج الذي أفسد المسرحية لعدم ارتباط أحد الغرامَيْن بالآخَر، بل وإضراره بالأثر النفسي النهائي في مأساة «كليوباترة»؛ إذْ رأينا شوقي لا ينزل الستار بعد انتحار البطلة، بل يتركه مرفوعًا لنشاهد حابي المصري — الذي كان ساخِطًا في أول الأمر على عبث كليوباترة واستهتارها — يذهب مع هيلانة وصيفة تلك الملكة الخليعة إلى الضَّيْعة التي أقْطعتْها كليوباترة لحابي وهيلانة في أرض الصعيد اصطناعًا لمودَّة حابي وقتْلًا لرُوح التذمُّر الوطني في نفسه، وها نحن نشهَد في مسرحية «عنترة» أيضًا غرامًا مزدوجًا بين عنترة وصخر من ناحية، وبين عبلة وناجية من ناحية أخرى، ولكنْ شتان بين الازدواج في هذه المسرحية والازدواج في «مصرع كليوباترة»! مما يدلُّ على أنَّ خبرة شوقي بالفن «الدراماتيكي» قد استقامتْ، فحقَّقتْ تقدُّمًا عظيمًا في أصول ذلك الفن، فهنا نرى شوقي يستفيد من هذا الازدواج؛ ليربط كل شخصيات الرواية الأساسية بعضها ببعض، ويوسِّع من دائرة الصراع والتضارب، فصخرٌ يُريد عبلة زوجًا له، ولكنَّها لا تُرِيده بل تُريد عنترة، وناجيةُ تريد صخرًا، ولكنَّه لا يُريدها بل يُريد عبلة، وإذا كان شوقي لم يوضِّح خيوط المؤامَرة المسرحية التي تَمَّتْ بين هذه الأشخاص الأربعة الأساسية في الوصول بالمسرحية إلى الحل الذي اختاره، فإنَّ من السهل أن نحسَّ بهذه المؤامَرة المحكمة خلال عرضه المسرحي.
وبالرغم من هذا التقدُّم الملحوظ عند شوقي في فن بناء المسرحية، فإننا لا نزال نلاحظ ما أخذناه عليه في مسرحية «مجنون ليلى» بنوع خاص من عدم استغلاله للصراع النفسي العميق الذي كان من الممكن أن يُكسِب مسرحيته قيمةً «دراماتيكية» وإنسانية عالية، وإذا كانتْ ليلى في مسرحية المجنون قد استسلمتْ للتقاليد العربية استسلامًا سهلًا مذهلًا، فاختارتِ الزواج من ورد الثقفي، عندما خيَّرها أبوها بينه وبين قيس، دون أن نحسَّ بما كنا ننتظره من صراع نفسي قويٍّ قبل أن تَلجَأ إلى هذا الاختيار، فإننا نلاحظ هنا أنَّ عبلة لم تتعرَّض هي الأخرى لأي صراع نفسي ملموس، وإن يكن اختيارها في هذه المسرحية قد جاء على نقيض اختيار ليلى، فهي لم تستسلم لتقاليد العرب، ولم تُشْعِرنا — في أي موقف — بإحساسها بوطْأة هذه التقاليد وجبروتها، وذلك بالرغم من أنها كانتْ أشدَّ قسوةً في قصة عنترة، وكان مالك والد عبلة أعنفَ في خضوعه لها، وتمسُّكِه بها إلى حدِّ طلَبِه رأسَ عنترة مهرًا لابنته من خاطبيها، ومع كلِّ هذا نُفاجَأ في خاتمة المسرحية، بتآمُر عبلة على الزواج رغم أنف التقاليد، ورغم أنف أبيها وذويها، وهذا موقف يبدو غريبًا من الفتاة العربية أيام الجاهلية، وذلك ما لم نفترض أنَّ شوقي قد أراد أن يجعلَ من عبلة بطلة شامخة متمرِّدة على مواضعات اجتماعية فاسدة، ولكن هذا الفرض لا نلمس له مظاهر في المسرحية، وإنما تتمُّ المؤامَرة في سرعة وخِفَّة كانقلابات المسرح الهزلية، في غير تمهيد ولا إظهار للأصول النفسية البعيدة التي تبرِّر مثل هذا الانقلاب، وكأنَّ شوقي بهذا التصرُّف قد مرَّ مرورًا عابرًا بجوار مواقف «دراماتيكية» وإنسانية، بل وأخلاقية بالغة القوة دون أن يفطن إليها، أو يحسن استغلالها، فيخلق شخصيات بشرية عاتية، كشخصيات كبار المؤلِّفين الغربيين، الذين ضمِنوا الخلود بقدراتهم على الخلق، وثورتهم على الأوضاع الفاسدة، أو قيادتهم للبشر في سبيل الخير والكمال.
وبالرغم من أن قصة عنترة تصلح بطبيعتها لأن تكون «أوبرا» أو «أوبريت»، بقَدْر ما تصلح لأن تكون «دراما» أو ملهاة، تعتمد على الحوار والحركة المسرحية فحسب، فإننا نلاحظ أنَّ شوقي قد استجاب لما أُخِذ على مسرحياته الأولى من الاسترسال في القصائد الغنائية التي تعطِّل من سَيْر الحوار، وتؤدِّي إلى بُطْءِ الحركة المسرحية فتَخَفَّف في «عنترة» من هذا العنصر، وجاءتْ مسرحية أقرب من هذه الناحية إلى حقيقة «الفن» الدرامي من المسرحيات السابقة.