شناشيل ابنة الجلبي
وأذكرُ من شتاء القريةِ النضَّاحِ فيه النورُ
من خَلَل السَّحاب كأنَّه النَّغَمُ
تسرَّبَ من ثقوب المعزف — ارتعشتْ له الظلَمُ
وقد غنَّى — صباحًا قبل … فيم أعدُّ؟ طفلًا كنت أبتسمُ
لليلي أو نهاري أثقلتْ أغصانَه النشوى عيونُ الحور.
وكنا — جدنا الهدَّار يضحك أو يغنِّي في ظلال الجوسق القَصَبِ
وفلَّاحيه ينتظرون: «غيثَك يا إلهُ!» وإخوتي في غابة اللَّعَبِ
يصيدون الأرانبَ والفَراش، و«أحمدَ» الناطور —
نحدِّق في ظلال الجوسق السمراء في النهرِ
ونرفع للسحاب عيوننا: سيسيل بالقطرِ.
وأرعدت السماءُ فرنَّ قاعُ النهر، وارتعشتْ ذُرى السَّعَفِ
وأشعلهنَّ ومْضُ البرق أزرقَ ثمَّ اخضر ثم تنطفئُ
وفتحت السماءُ لغيثِها المدرار بابًا بعد بابٍ
عاد منه النَّهر يضحك وهو ممتلئُ
تكلِّلُه الفقائعُ، عاد أخضرَ، عاد أسمرَ، غصَّ بالأنغام واللَّهَفِ
وتحت النَّخل حيثُ تظلُّ تمطِرُ كلُّ ما سعْفَه
تراقصتِ الفقائعُ وهي تُفجَرُ؛ إنه الرُّطَبُ
تساقطَ في يد العذراء وهي تهزُّ في لهفه
بجذع النخلةِ الفرعاء (تاجُ وليدكِ الأنوارُ لا الذهبُ،
سيصلب منه حُبُّ الآخرين، سيبرئ الأعمى،
ويبعث من قرار القبر ميْتًا هدَّه التعَبُ
من السفَرِ الطويل إلى ظلام الموت، يكسو عظمه اللحما
ويُوقد قلبَه الثلجي فهو بحبه يثبُ!)
وأبرقتِ السماءُ … فلاح، حيث تعرَّج النهرُ،
وطاف مُعلَّقًا من دون أسٍّ يلثمُ الماءَ
شناشيلُ ابنة الجلبيِّ نوَّر حوله الزَّهَرُ
(عقود ندًى من اللبلاب تسطع منه بيضاء)
وآسيةُ الجميلة كحَّل الأحداقَ منها الوجد والسَّهَرُ.
يا مطرًا يا حلبي
عبِّرْ بنات الجلبي
يا مطرًا يا شاشا
عبِّر بنات الباشا
يا مطرًا من ذهبِ.
تقطَّعتِ الدروب، مقص هذا الهاطلِ المدرارِ
قطَّعها ووراها،
وطُوِّقتِ المعابرُ من جذوع النخل في الأمطارْ
كغرقى من سفينة سندبادَ، كقصَّةٍ خضراء أرجأها وخلاها
إلى الغدِ «أحمدُ» الناطورُ وهو يديرُ في الغرفهْ
كئوسَ الشاي، يلمس بندقيَّتَه، ويسعل ثم يعبر طرْفُه الشُّرْفه
ويخترق الظلامَ.
وصاح «يا جدِّي» أخي الثرثارْ:
«أنمكث في ظلام الجوْسق المبتلِّ ننتظرُ؟
متى يتوقف المطرُ؟»
وأرعدتِ السماءُ، فطار منها ثُمَّةَ انفجرا
شناشيلُ ابنة الجلبيِّ …
ثمَّ تلوحُ في الأفُقِ
ذُرى قوس السَّحاب، وحيث كان يُسارق النَّظرا
شناشيلُ الجميلةِ لا تصيبُ العينُ إلا حمرةَ الشَّفَقِ.
ثلاثون انقضت، وكبرتُ: كم حبٍّ وكم وجْدِ
توهَّج في فؤادي!
غيرَ أني كُلَّما صفقَتْ يدا الرَّعْدِ
مددتُ الطَّرف أرقبُ: ربما ائتلقَ الشناشيلُ
فأبصرتُ ابنةَ الجلبي مقبلةً إلى وعدي!
ولم أرها. هواءٌ كلُّ أشواقي، أباطيل
ونبتٌ دونما ثمر ولا وَرْدِ!
لندن، ٢٤ / ٢ / ١٩٦٣