جيكور أمي
تلك أمي، وإنْ أجئها كسيحا
لاثمًا أزهارها والماء فيها، والترابا
ونافضًا، بمقلتي، أعشاشها والغابا:
تلك أطيار الغد الزرقاء والغبراء يعبرن السطوحا
أو ينشِّرن في بويبَ الجناحين: كزهرٍ يفتِّح الأفوافا.
ها هنا، عند الضحى، كان اللقاءْ
وكانت الشمس على شفاهها تكسِّر الأطيافا
وتسفح الضياء.
كيف أمشي، أجوب تلك الدروب الخضرَ فيها، وأطرق الأبوابا؟
أطلب الماء فتأتيني من الفخار جره
تنضح الظلَّ للبرود الحُلوَ … قطره
بعد قطره.
تمتد بالجرة لي يدان تنشران حول رأسي الأطيابا:
«هالتي» تلك، أم «وفيقة» أم «إقبال»،
لم يبقَ لي سوى أسماء
من هوًى مرَّ كرعدٍ في سمائي
دون ماء.
كيف أمشي! خطاي مزَّقها الداء. كأني عمود ملحٍ يسيرُ …
أهي عامورة الغوية أم سادوم؟
هيهات … إنها جيكورُ:
جنَّةُ كان الصبى فيها وضاعت حين ضاعا.
آه لو أنَّ السنين السود قمحٌ أو صخورُ
فوق ظهري حملتهُنَّ، لألقيتُ بحملي فنفَّضتْ جيكورُ
عن شُجيراتها ترابًا يغشِّيها وعانقتُ معزفي ملتاعا،
يُجهش الحب، به، لحنًا فلحنا
ولقاءً فوداعا.
آه لو أن السنين الخُضر عادت، يوم كُنَّا
لم نزل بعدُ فتيَّينِ لقبَّلتُ ثُلاثًا أو رُباعا
وجنتَي «هالةَ» والشعر الذي نشَّر أمواج الظلامِ
في سيولٍ من العطور التي تحمل نفسي إلى بحار عميقه
ولقبَّلتُ، برغم الموت، ثغرًا من وفيقه
ولأوصلتك يا «إقبال» في ليلة رعدٍ ورياح وقتامِ،
حاملًا فانوسيَ الخفَّاق تمتدُّ الظلالْ
منه أو تقصر، إذْ يرعش في ذاك السكونْ،
ذلك الصمت سوى قعقعة الرعد،
سوى خفْق الخطى بين التلال
وحفيف الريح في ثوبكِ، أو وهوهة الليل مشى بين الغصون،
ولعانقتك عند الباب، ما أقسى الوداعْ!
آهِ لكنَّ الصبى ولَّى وضاع،
الصبى والزمان لن يرجعا بعدُ،
فقرِّي يا ذكريات ونامي.
لندن، ٥ / ٢ / ١٩٦٣