إرم ذات العماد
(عند المسلمين أن «شداد بن عاد» بنى جنة؛ لينافس بها جنة الله، هي «إرم»، وحين أهلك الله قوم عاد، اختفت «إرم» وظلت تطوف، وهي مستورة، في الأرض لا يراها إنسان إلا مرة في كل أربعين عامًا، وسعيد من انفتح له بابها.)
من خَلَلِ الدُّخان من سيكاره،
من خلل الدخانْ
من قَدَحِ الشاي وقد نشَّر، وهو يلتوي، إزارَه
ليحجبَ الزمان والمكانْ،
حدثنا جدُّ أبي فقال: «يا صغارْ،
مقامرًا كنتُ مع الزمانْ،
نقودي الأسماكُ، لا الفضةُ والنضارْ،
والورَق الشِّباك والوِهار.
وكنتُ ذات ليله
كأنما السماء فيها صَدَأٌ وقار،
أصيدُ في الرُّميله
في خورها العميق، أسمعُ المحارْ
موسوسًا كأنما يبوح للحصى وللقِفار
بموطن اللؤلؤةِ الفريده،
فأُرهفُ السَّمعَ لعلي أسمع الحوارْ.
وكان من ندى الخريف في الدجى بُروده
تدبُّ منها رعشةٌ في جسدي فأسحبُ الدِّثارْ.
وانفرجَ الغيمُ فلاحتْ نجمةٌ وحيده
ذكرتُ منها نجمتي البعيده
تنام فوق سطحها وتسمعُ الجِرارْ
تنضحُ (يا وقْعَ حوافرٍ على الدروبْ
في عالم النُّعاس، ذاك عنترٌ يجوب
دجى الصحارى. إن حيَّ عبلةَ المزارْ).
فسرتُ والسماءُ وجهتي، ولا دليلْ،
أرقب نجمها الوحيد، والشُّعاعْ
يخفت أو يؤجُّ مانعًا ومانحًا، وكالشِّراع
ترفع أو تحطُّه الرياحُ في الصِّراع.
أسرتُ ألف خطوة؟ أسرتُ ألفَ ميلْ؟
لم أدرِ إلا أنني أمالني السَّحَرْ
إلى جدار قلعةٍ بيضاء من حَجَرْ،
كأنما الأقمارُ منذ ألفِ ألفِ عامْ
كانت له الطِّلاءْ،
كأنما النجوم في المساءْ
سلنَ عليه ثمَّ فاض حوله الظلامْ.
وسرتُ حول سورها الطويلْ
أعدُّ بالخطى مداه (مثلَ سندبادْ
يسير حول بيضة الرُّخِّ ولا يكاد
يعود حيث ابتدأَ
حتى تغيب الشمس، غشى نورَها سوادْ،
حتى إذا ما رفع الطرْفَ رأى … وما رأى؟)
حتى بلغتُ في الجدار موضعَ العمادْ
تقوم فيه، كالدُّجى، بوابةٌ رهيبه
غلَّفها الحديدُ، مدَّ حولَها نحيبه
أراه بالعيون لا تَحسُّه المسامعُ.
وقفتُ عندها أدقُّ …
يا صدًى أراجعُ
أنت من المقابر الغريبه؟
أُحسُّ في الصدى
برودةَ الرَّدى،
أشمُّ فيه عفنَ الزَّمان والعوالمِ العجيبه
من إرَمٍ وعادْ.
وحين كلَّ ساعدي
وملَّني الوقوفُ في الظلامْ
(كناسكٍ، كعابدِ
يرفضُه الإلهُ في معبده، يظل لا ينام
ولا يريد الماء والطعامْ،
يصيحُ: «كن على الهوى مساعدي
يا رافعَ السماء، يا موزِّعَ الغمام.»)
جلستُ عند بابها كسائلٍ ذليلْ
جلستُ أسمع الصدى، كأنه العويلْ،
يلهثُ خلفَ حائطٍ من حَجَر ثقيلْ.
كأنَّ بين دَقَّةٍ ودقة يمرُّ ألف عامْ
وما أجاب العدمُ الخواءْ.
وحين أوشك الصباح يهمس الضياءْ
نعستُ، نمتُ … واستفقتُ: مر ألفُ جيلْ!
الشمسُ والفلاه
والغيْمُ والسماءْ
وكل ما أراه
هناك حيث كان سورُها، المياه
تشعُّ في الخليج.»
وقال جدُّنا ولجَّ في النشيج:
«ولن أراها بعدُ، إن عمريَ انقضى
وليس يُرجع الزمان ما مضى.
سوف أراها فيكمُ، فأنتم الأريج
بعد ذبول زهرتي، فإن رأى إرم
واحدُكم فليطرقِ البابَ ولا ينمْ.
إرَمْ …
في خاطري من ذكرها ألمْ،
حُلمُ صباي ضاعَ … آهِ ضاع حين تمَّ
وعمري انقضى.»
لندن، ٢١ / ٢ / ١٩٦٣