في انتظار رسالة
وذكرتُها، فبكيتُ من ألَمي:
كالماء يصعدُ من قرار الأرض، نزَّ إلى العيون دمي
وتحرَّقت قطراتُهُ المُتَلاحقات لتستحيلَ إلى دموعْ
يخنقْنني فأصكُّ أسناني، لتنقذفَ الضلوع
موجًا تحطَّم فوقهنَّ وذاب في العَدَمِ.
دخانٌ من القلب يصعدْ
ضبابٌ من الروح يصعدْ
دخانٌ … ضبابْ
وأنتِ انخطافٌ وراء البحار، وأنت انتحابْ
ونوْحٌ من القلب كالمدِّ يصعد
ودمعٌ تجمَّدْ
وغصَّت به الآهُ في الحنْجَره.
ذكرتُك يا كلَّ روحي ويا دفءَ قلبي إذ الليل يبرد
ويا روضةً تحت ضوء النجوم بقدَّاحها مُزْهره.
وذكرتُ كِلَّتَنا يهف بها ويسبحُ في مداها
قَمَرٌ تحيرَ كالفراشةِ، والنجومُ على النجوم
دندنَّ كالأجراس فيها، كالزنابق إذْ تعومُ
على المياهِ … وفضَّضَ القَمَرُ المياها.
وكأنَّ جسمك زورقُ الحبِّ المحمَّلُ بالطيوبْ
والدِّفء، والمجدافُ همسٌ في المياه يرن آها
فآهًا والنُّعاس يسيل منكِ على الجنوب
فينامُ فيه النَّخْلُ تلتمعُ السطوحُ بنومهنَّ إلى الصباحْ.
أواه، ما أحلاكِ! نام النورُ فيكِ ونمتِ فيهِ،
والليلُ ماءٌ، والنُّباح
مثل الحصى ينداح فيه، وأنتِ أوَّلُ وارديهِ.
هو الصيفُ يلثمُ شطَّ العراقْ
بغيماتهِ ذاب فيها القَمَرْ،
وتوشِكُ تسبح بيضُ النُّجوم لولا برودة ماء النَّهَرْ
وهفَّ شراعٌ لأضلاعه في الهواء اصطفاقْ،
وغنَّى مغنٍّ وراء النَّخيل
يغمغمُ: «يا ليلُ، طال السَّهَرْ
وطال الفراق!»
كأنَّ جميعَ قلوبِ العراق
تُنادي، تريد انهمارَ المطرْ.
وصعدتُ نحوكِ والنعاس رياحٌ فاتراتٌ تحملُ الوَرَقا
لتمسَّ شَعركِ والنُّهودَ به، تموتْ
حينًا وتلهثُ في النوافذِ من بيوت
ألقاكِ في غُرُفاتها، وأشدُّ جسمكِ فارَ واحترقا.
إني أُريدكِ، أشتهيكِ أمسُّ ثغركِ في رساله
طال انتظاري وهي لا تأتي، وتحترق الزوارقُ والتخوت
في ضفة العشار تنفضُ، وهي لاهثةٌ، ظِلاله
علَّ الرياح حملنَ منكِ لها رساله.
لمَ تبخلين عليَّ بالورقات، بالحبر القليل وسحبة القلم الصَّموت؟
إني أذوب هوًى، أموتْ
وأحنُّ منك إلى رساله.
لندن، ٩ / ٣ / ١٩٦٣