عام ١٨٦٤م
في أوائل هذا العام أُحصيت وفيات الأورطة من حين سفرها من مصر فبلغت ٤٧. وسبب وفاة هذا العدد الكبير منها أنه عندما وصلت المكسيك كانت في شبه عزلة لجهل الناس لغة جنودها وأذواقهم وعاداتهم. وكان نظام أغذيتهم على غير ما يُرام، كما كانت غير كافية لهم خصوصًا مع المشاق والمتاعب التي كانوا يتكبدونها.
فدعت الحالة أن يقدموا إليهم طعامًا أكثر تغذية، ثم تدرجت الأحوال في التحسن شيئًا فشيئًا حتى جاءت سنة ١٨٦٤م مبشرة بحسن الطالع.
لقد سلك السودانيون المصريون مسلكًا برهن على بطولتهم، فقاتلوا عددًا يربو على عددهم أضعافًا مضاعفة، ولبثوا محتفظين بما بلغوه من قبل من الدرجة السامية في الشجاعة.
إن هؤلاء السودانيين المصريين الذين لا تسمح نفوسهم أن يبقى الأسير حيًّا قد أسرفوا في القتل. وإني لم أَرَ في حياتي مطلقًا قتالًا نشب بين سكون عميق وفي حماسة تضارع حماستهم، فقد كانت أعينهم وحدها هي التي تتكلم، وكانت جرأتهم تُذهل العقول وتُحير الألباب، حتى لكأنهم ما كانوا جنودًا بل أسودًا.
وخص المارشال المذكور منهم بالذكر الأشخاص الآتية أسماؤهم:
اليوزباشي حسين أحمد، والملازم فرج الزيني، والجاويشية حديد فرحات، ومرجان الدناصوري، والأونباشي الحاج عبد الله حسين باشه، والجندي كوكو سودان كباشي.
لقد قاتل السودانيون المصريون قتالًا باهرًا دام ساعة واحدة. وليس بين الجنود القدماء من لا يذكر مثل هذا الفوز بالإكبار والإعجاب.
وقد نوه في تقريره بأسماء: الملازم فرج عزازي، والجاويشية حديد فرحات، ومرجان الدناصوري، والأونباشي الحاج عبد الله حسين باشه، والجندي كوكو سودان كباشي.
ومُنِحَ الأونباشي عبد الله حسين باشه وسامًا عسكريًّا لبسالته التي أبداها في هذه الواقعة، والجرح العميق الذي أُصيب به، وعدد القتلى الذين أجهز عليهم، ولطعنه بحربة (سنكة) بندقيته جنديًّا مكسيكيًّا، فلما نشبت به رفعه بها وذراعه غير منثنية.
وكان عدد الأعداء في هذه المعركة ستة أمثال جنود الأورطة.
اطلعت على الخطاب الوارد منكم بتاريخ ١٥ جمادى الأولى سنة ١٢٨١ھ/١٦ أكتوبر سنة ١٨٦٤م، نمرة ٢٤، وعلى التقرير والرسم المرسل لكم من جانب الضابط الفرنسي المدعو سيجون الخاص بالأورطة السودانية المصرية التي بمكسيكا، وعلى ترجمتها التي أُرسلت إلينا للاطلاع عليهما، كما أني اطلعت على كشف اليومية الوارد من صاغقول أغاسي الأورطة المذكورة بعدد الذين تُوفوا من العساكر المرسلة، وهو ثمانية وستون نفسًا من مجموع أربعمائة وستة وأربعين، وأن الباقي بعد ذلك هو ثلاثمائة وثمانية وسبعون. فحرِّروا منكم جواب تشكر للمأمور المشار إليه، وعرِّفوه أنكم لدى عرضكم تقريره علينا أظهرنا رضانا وارتياحنا.
أما الضباط والعساكر الذين تُوفوا وتركوا عائلاتٍ وأولادًا يتامى هنا، فيصير ترتيب معاش لهم طبقًا للقوانين والأصول المرعية كما اقتضت إرادتنا ذلك للإسراع بتنفيذه. والأوراق التي أرسلتموها صار إعادتها لكم ثانيًا، وقد صدر أمرنا هذا وكُتِبَ لكم لإجراء ما يلزم.
إلى محمد الماس أفندي وكيل الأورطة السودانية بالمكسيك
قد عُرِضت على مسامعنا عريضتكم المحتوية على الأخبار التي حصلت منكم ومن ضباط الأورطة السودانية المصرية من الثبات والإقدام في الحرب أمام من قابلكم، وما أبديتموه من الشجاعة والمهارة، وما توجه به الالتفات إليكم من الدولة الفرنسية. ولقد ارتحنا غاية الارتياح لما ظهر منكم حيث حافظتم على الشرف الذي حصلتم عليه من الحكومة المصرية، واستوجبتم أنتم ومن معكم من الضباط جميل الثناء والحمد على ما بدا منكم. وأقصى آمالنا حصول ازدياد نشاطكم واجتهادكم، مع امتثالكم وانقيادكم للأوامر والتنبيهات التي تصدر من جناب الجنرال قائد الجيش الفرنسي، حيث إن حصول سرورنا إنما يكون بحصول سرور الجنرال المشار إليه، وسرور الدولة الفرنسية منكم ومن كل أفعالكم وحركاتكم؛ فإن المودة الأكيدة التي بين الحكومة المصرية والدولة المشار إليها تستوجب حسن المعاملة والمعاونة الصادقة. وبما أنكم مبعوثون من طرف الحكومة المصرية، فيلزمكم بذل ما في وسعكم واقتداركم للحصول على رضاهم ومزيد ارتياحهم. وإن شاء الله تعالى عند ختام مأموريتكم وعودتكم إلى مصر يكون لدينا لخدماتكم المشكورة حسن الوَقْعِ والقبول. ومن سلك مسالك الصدق والاجتهاد يَسُرُّه بلوغ هذا المأمول، وقد صدرت أوامرنا على عرائض الضباط الذين ترقوا بدلًا من الناقصين، وها هي مرسلة إليكم لتسلموا كل عريضة إلى صاحبها، مع تبليغهم جميعًا شكرنا لحسن صدقهم. وهذا ما لزم إصداره.
وفي أثناء عام ١٨٦٤م كانت الأورطة المصرية قد خاضت غمار إحدى عشرة معركة.