الفصل الثاني
(غرفة الجلوس في بيت تحية، وحمدي بك أبو تحية جالس إلى نجيب صديقه الموظف.)
نجيب
:
والله يا حمدي بك اشتقت لك جدًّا فقلت أزورك.
حمدي
:
متشكر جدًّا يا نجيب بك. هيه، وما أخبار المصلحة؟
نجيب
:
يا سيدي من يوم ما تركتها أصبحت مفسدةً، أصبحت مصلحةً شخصيةً، أصبحت عزبةً.
حمدي
:
أعرف، أعرف يا نجيب بك. وهل يمكن أن تقول غير هذا؟! إنما أنا أسألك عن
أخبارها فعلًا.
نجيب
:
والله كما تعرف، المدير الجديد غاضب دائمًا ولا أحد يكلمه ولا يكلم هو أحدًا،
والمصلحة ماشية أو واقفة، ولكن في صمت على الحالين.
حمدي
:
وما لزوم الكلام يا أخي؟
نجيب
:
نتفاهم، نعرف ما يعجبه وما لا يعجبه، تفاهم يا سعادة البك، تفاهم.
حمدي
:
الحمد لله يا سي نجيب، تركنا الحكومة بكل ما فيها من دس ومن وقيعة، وبكل ما فيها
أيضًا من حقارة.
نجيب
:
حقارة يا حمدي بك!
حمدي
:
ماذا هل الكلمة غريبة عليك؟ نعم حقارة. وهل نفاق الموظفين إلا حقارة؟
نجيب
:
ولكنني لا أنافق يا حمدي بك.
حمدي
:
سبحان الله! وهل قلت لك إنك تنافق. كلهم ينافقون الوزير إن جاء، فإن لم يكن
الوزير فهم ينافقون وكيل الوزارة، فإن لم، فهم يتعلقون بأسباب السكرتير أو الحاجب.
نفاق، لم أعرف كيف أنافق فخرجت.
نجيب
:
الواقع يا حمدي بك أن خروجك كان صلابة رأي منك فقط.
حمدي
:
يا أخي هل عيب أن أحافظ على رأيي؟
نجيب
:
لم تكن المسألة محافظةً على رأي وإنما كان عنادًا.
حمدي
:
أي عناد؟
نجيب
:
صمَّمتَ أن تكون أمور المصلحة في يدك ولم ترضَ أن يرى وكيل الوزارة منها شيئًا،
وأعتقد أن له عليك حق الإشراف.
حمدي
:
الإشراف غير التدخل في الشئون، في شئون المصلحة نفسها.
نجيب
:
نهايته، لقد تركت الحكومة واسترحت من الوزير والوكيل والجميع.
حمدي
:
إن شاء الله لن أكون في الحكومة مرةً أخرى، أو في أي عمل يتصل بها.
نجيب
:
أحسنت.
حمدي
:
إنما عملتُ أكثر من هذا.
نجيب
:
أكثر من هذا؟!
حمدي
:
نعم. لقد حرمت زوج ابنتي من التوظف بالحكومة.
نجيب
:
وما مهنته؟
حمدي
:
دكتور.
نجيب
:
ألم يشتغل بقصر العيني؟!
حمدي
:
ولا هذا. لقد رفضت أن يتصل بالحكومة مطلقًا.
نجيب
:
وهل قَبِل؟!
حمدي
:
طبعًا قَبِل.
نجيب
:
والنتيجة؟
حمدي
:
النتيجة أنه دكتور صاحب عيادة عظيمة.
نجيب
:
عظيمة!
حمدي
(مترددًا)
:
عظيمة، نعم. إلى حدٍّ ما.
(تدخل زوجة حمدي بك إجلال هانم.)
إجلال
:
حمدي.
حمدي
:
خيرًا يا إجلال؟
إجلال
:
أنا خارجة أزور علية هانم.
حمدي
:
وما المناسبة؟
إجلال
:
من غير مناسبة، زيارة عادية.
حمدي
:
ما دام لا مناسبة فلا لزوم للزيارة.
إجلال
:
ما معنى هذا؟
حمدي
:
معناه ابقي معي.
إجلال
:
إذن …
نجيب
(مقاطعًا)
:
تأذن لي أنصرف يا حمدي بك؟
حمدي
:
لماذا يا أخي؟
نجيب
:
والله عندي ميعاد. لا مؤاخذة.
حمدي
:
أمرك يا سيدي. مع السلامة.
إجلال
:
شرفت يا نجيب بك. مع السلامة.
(يخرج نجيب.)
إجلال
:
ما لك يا حمدي؟ كلما أحببت زيارة واحدة من صاحباتي منعتني؟
حمدي
:
يا ستي أنا حر.
إجلال
:
حر؟! نعم. ولكنك غير منطقي. ما معنى الحصار الذي تضربه عليَّ في حين تترك
تحية تخرج كما تريد وتدخل كما تشاء، ألا تلاحظ أن هذا شذوذ غير مقبول؟!
حمدي
:
تحية أصبحت مسئولةً من غيري.
إجلال
:
مِن غيرك؟! مَن غيرك هذا؟
حمدي
:
من خطيبها.
إجلال
:
أهذا كلام؟
حمدي
:
طبعًا كلام.
إجلال
:
يا سعادة البك الأب مسئول عن ابنته ما دامت في بيته.
حمدي
:
لا يا ستي. أنا رأيي غير رأيك. ما دام خطيبها رجلًا صالحًا ولن يتركها فهو مسئول
عنها منذ اليوم.
إجلال
:
ومن أين عرفت أنه لن يتركها؟
حمدي
:
قرأت معه الفاتحة.
إجلال
:
يا سلام يا حمدي! أنت طيب جدًّا.
حمدي
:
لا يا هانم أنا فاهم جدًّا.
إجلال
:
أنت فاهم؟
حمدي
:
جدًّا.
إجلال
:
فهل فهمت أن تحية رجعت من الخارج غاضبةً، وأنها تريد أن تفسخ الخطوبة؟
حمدي
(مندهشًا)
:
ماذا؟! تفسخ ماذا؟!
إجلال
:
الخطبة.
حمدي
:
متى؟ كيف؟ لماذا؟ أين؟
إجلال
:
اثبت يا رجل.
حمدي
:
تفعل بي هذا؟ أنا حمدي العباسي، أنا الذي ركلت الحكومة برجلي، ابنتي تفعل بي
هذا؟ ماذا يقول الناس؟ ماذا أفعل؟
إجلال
:
صبرك يا حمدي، الأمور لا تؤخذ هكذا.
حمدي
:
دبريني يا إجلال، ماذا أعمل؟
إجلال
:
هدئ رَوعك، وانتظر حتى تكلمك في الموضوع.
حمدي
:
وهل تنوي أن تكلمني؟
إجلال
:
لقد طلبتْ مني أن أكلمك ولكني رفضت.
حمدي
:
لماذا؟
إجلال
:
لعلها تهدأ وتسكت، ولهذا طلبت أن أخرج حتى لا تلحَّ عليَّ.
حمدي
:
ولكن لماذا؟ ألم تقل السبب؟
إجلال
:
والله يا حمدي لم أسألها.
حمدي
:
لم تسأليها؟ لماذا لم تسأليها؟
إجلال
:
لأني أعرف السبب، أعرفه تمامًا.
حمدي
:
وهو؟
(يدخل إبراهيم ويظهر القدر من خلفه، يلاحَظ أن أحدًا لا يرى القدر إلا إبراهيم.)
إبراهيم
:
مساء الخير يا عمي، مساء الخير يا هانم.
حمدي
:
مساء الخير يا بني. خيرًا يا إبراهيم؟
إبراهيم
:
خيرًا يا عمي (مرتبكًا).
حمدي
(مرتبكًا)
:
خيرًا يا بني.
إبراهيم
(مرتبكًا)
:
خيرًا يا عمي.
حمدي
:
أهلًا وسهلًا (يحاول أن يخفيَ ارتباكه).
إبراهيم
:
أهلًا بك يا عمي.
حمدي
:
من أين؟
إبراهيم
:
من العيادة.
حمدي
:
وكيف الحال؟
إبراهيم
:
الحمد لله.
حمدي
:
الحمد لله.
إبراهيم
:
الذي لا يحمد على مكروه سواه.
حمدي
:
ماذا؟
إبراهيم
:
أقول يا عمي الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه.
حمدي
:
أي مكروه يا بني كفى الله الشر؟
إبراهيم
:
وهل بعد هذا مكروه؟
حمدي
:
أفهمني يا بني أنا لا أفهم.
(تدخل تحية.)
تحية
:
أنا أفهِّمك يا أبي.
حمدي
:
أفهمي.
تحية
:
لقد كنت عند إبراهيم في العيادة واتفقنا على فسخ الخطبة؟
حمدي
:
هو لعب عيال؟ تفسخين الخطبة من غير علمي؟!
تحية
:
هذا ما حصل.
حمدي
:
طيب أفهميني، ما السبب؟
تحية
:
من غير سبب.
حمدي
:
ماذا عملت يا إبراهيم؟
إبراهيم
:
أنا يا عمي لم أفعل شيئًا.
حمدي
:
كيف؟
إبراهيم
:
إنه أنت يا عمي الذي عمل، إنه أنت بيديك الذي فسخت خطبتنا.
حمدي
:
أنا؟! أنا؟ ماذا عملت؟
إبراهيم
:
إنه أنت (يتخاذل).
القدر
:
تشجع، قل، انطق.
إبراهيم
:
نعم يا حمدي بك، إنه أنت الذي فسخ خطبتنا، أنا لا أستطيع الاستمرار على هذه
الحال.
حمدي
:
أي حال؟! أفهمني يا أخي. ما هذه الألغاز؟ (في عنف) انطق.
إبراهيم
:
العيادة، (مترددًا) العيادة.
حمدي
:
هه؟ ما لها العيادة؟
القدر
:
يا أخي انطق، قل. ما لها العيادة؟
إبراهيم
:
العيادة لا تأتي بإيجارها.
القدر
:
أكمل. وماذا أيضًا؟
إبراهيم
:
نعم لا تأتي بإيجارها ولا تفي بحاجتي الشخصية و… و…
القدر
:
أكمل، أكمل.
إبراهيم
:
نعم. وبطبيعة الحال لا يمكن أن أجمع منها المهر.
حمدي
:
عظيم. ما شأني أنا بهذا جميعه؟
إبراهيم
(مرتبكًا)
:
ما شأنك …؟ ما شأنك …؟
القدر
:
ما لك ارتبكت؟ انطق. شأن من إذن إن لم يكن شأنه؟
إبراهيم
:
نعم. شأن من إذن إن لم يكن شأنك؟
حمدي
:
شأني أنا؟
إجلال
:
ألم تفهم يا حمدي؟
إبراهيم
:
يا عمي. لا بد أن أصرح لك. يا عمي.
القدر
:
انطق.
إبراهيم
:
لا بد أن أعمل في الحكومة.
حمدي
:
آه، الآن فهمت. مؤامرة مدبرة من خلفي، أنت وتحية، بل وإجلال أيضًا!
تحية
:
لا يا أبي.
حمدي
(ثائرًا)
:
أي لا؟ لقد دبرتم المؤامرة ولكن، هيهات أن تنجح، أسمعتم؟ هيهات أن
تنجح مؤامرتكم.
إجلال
:
يا حمدي، المسألة مستقبل بنتنا.
حمدي
:
تمامًا. مستقبل بنتنا، ولهذا لا أريد أن أهدمه، موظف حكومة، يعني عبد، أنا لا
أزوج ابنتي من عبد.
إجلال
:
لا تنسَ يا حمدي أنك بقيت عشرين سنةً موظفًا بالحكومة.
حمدي
:
نعم بقيت عشرين سنةً عبدًا، لقد خرجت من الحكومة فتلقفتني الشركات، تركت مرتب
مائة جنية لأكسب خمسمائة جنيه في الشهر الواحد.
إجلال
:
ولكن إبراهيم لا يستطيع أن يكسب هذه المبالغ، فماذا يعمل؟
حمدي
:
يعمل ما يعجبه. لا شأن لي بهذا. أنا أزوج ابنتي لرجل لا يعرف المكان الذي
يستقر به! هو اليوم في أسيوط، يصبح غدًا في أسوان، وبعد غدٍ في الإسكندرية. لا يا
سيدي، ابنتي لا بد أن تبقى بجانبي، ابنتي الوحيدة يا أخي.
إجلال
:
هذا هو السبب؟
حمدي
:
لا يا ستي. من قال؟ من قال إن هذا هو السبب؟ هناك ألف سبب وسبب. أنا أزوج
بنتي من رجل محكوم عليه بالنفاق والكذب والتضليل؟! أنا أزوج ابنتي من رجل لا يعرف
مصير نفسه؟! لا يا ستي، لا يمكن.
إبراهيم
:
يا عمي المسألة ليست بهذه الخطورة. أنا سأعمل في الحكومة مدة سنة واحدة ثم
أستقيل.
حمدي
:
قديمة يا حبيبي. سنة تجر سنةً، وتبقى في الحكومة، أنا عارف حلاوتها يا سيدي، مرتب
بلا عمل، اللهم إلا النفاق، والتزلف، والترامي على أعتاب المدير والوزراء.
إبراهيم
:
إذن تصرف يا عمي، أرشدني ماذا أعمل؟
حمدي
:
أنت دكتور، طبيب، صاحب مهنة، بل لعلك صاحب أشرف مهنة عرفها التاريخ، تريد أن
تقتل مهنتك؟ تقضيَ على علمك؟
إبراهيم
:
يا سيدي إن بقائي في عيادتي هو القضاء على مهنتي وعلى علمي، بل هو القضاء على
مستقبلي.
إجلال
:
يا حمدي غير معقول! إن تمسكك برأيك يقضي على مستقبل اثنين، أحدهما بنتك، بنتي.
حمدي
:
لا يا هانم. القضاء على مستقبلها يكون بزواجها من موظف حكومة، لن يكون هذا،
لن يكون هذا أبدًا.
(يدخل مجدي.)
مجدي
:
السلام عليكم.
أصوات
:
السلام.
مجدي
:
خيرًا جماعة. ما لكم؟
إبراهيم
(غير ملتفت لمجدي)
:
يا عمي إن منعي من التوظف … إن منعي من التوظف …
القدر
:
انطق.
حمدي
:
ليكن ما يكون، أنا يا أخي لا أمنعك من التوظف، ولكنني أمنع زوج ابنتي من التوظف،
أنا يا أخي لا أزوج بنتي من موظف ولو ظلت بلا زواج.
مجدي
(مندهشًا)
:
بلا زواج!
إبراهيم
:
إذن يا عمي.
القدر
:
انطق.
إبراهيم
:
إذن يا عمي أن مضطر لأن أخبرك أنني سأتوظف بالحكومة مهما كانت الموانع. سلام
عليكم (يخرج ويخرج القدر من خلفه).
حمدي
:
أنت حر.
(ترتمي تحية على الكرسي باكيةً.)
حمدي
:
ابكي ما شئتِ، لن أغير رأيي من أجل خاطرك. هه، (يترك مكانه) عندما تُفرغين
دموعك قابليني، أنا في حجرتي (يترك المسرح).
إجلال
:
ظلمتَ البنت يا حمدي، حسبنا الله ونعم الوكيل (تخرج).
(لا يبقى بالمسرح غير مجدي وتحية.)
مجدي
:
تحية، اعقلي، البكاء لا يفيد شيئًا.
تحية
:
ماذا أعمل؟ ماذا أعمل؟
مجدي
:
اعملي أي شيء إلا البكاء، فلا أعتقد مطلقًا أن دموعك ستفيد.
تحية
:
يا أخي يا مجدي اتركني بعض الوقت.
مجدي
:
أنا مستعد أتركك كل الوقت، لكن ما الفائدة؟
(تحية تبكي.)
مجدي
:
عظيم. ابكي. ابكي كما تشائين. ولكن أنا سأذكر لك نظريةً علميةً استنتجتها أنا
بالاستقراء.
(تحية تبكي.)
مجدي
:
أَلَا تسألين عن هذه النظرية؟
تحية
:
يا أخي، أرجوك.
مجدي
:
أقولها لك من غير سؤال. ثبت فعلًا من الإحصاءات والاستقراءات التي قمت بها أنا
شخصيًّا، أنا الأستاذ مجدي رفعت المحامي الشهير، شهير جدًّا والله، ألم تقرئي
الصحف اليوم؟ لا، أنت متأخرة جدًّا.
تحية
:
أرجوك يا مجدي، أرجوك يا أخي.
مجدي
:
طيب، أسكت، (يسكت قليلًا)، لكن كيف أسكت قبل أن أذكر لك النتيجة العلمية التي
وصلت إليها؟ ثبت يا سيدتي من كل ما تقدم أن البكاء عديم الفائدة في إرجاع ما
يُبكى عليه، فلو أن إنسانًا وقع على الأرض فجُرِحَ فبكى بدلًا من أن يذهب إلى الحكيم
لتَقَيَّحَ الجرح رغم هذا البكاء، ومهما قلنا عن هذا الجرح إنه قليل الأدب لا يرحم دموع
العذارى أو غير العذارى، حتى ولو كان هذا الباكي رجلًا عظيمًا نابغةً، ومهما قلنا
عن هذا الجرح إنه قليل الذوق، فإن هذا جميعه لا يمنعه من التقيح كما قدمت، وإذا
تُرِكَ لشأنه بعد ذلك لازداد سوءًا على سوء، ولن يوقِفَ هذه الحالة إلا أن يذهب صاحبه
إلى الدكتور؟
تحية
:
ألا ترى يا مجدي هذا الكرب؟ ومع هذا تضحك وتهزل، وكأن الأمر لا يهمك في شيء.
مجدي
:
لا يهمني أنا يا تحية، أنا؟ فمن يهتم بك إذن إذا لم أهتم أنا؟ أنت عندي
الدنيا كلها يا تحية.
تحية
:
كلام.
مجدي
:
بل حق والله. أنا لا أتكلم، وإنما هي يا تحية ومضة من إشراق يملأ نفسي. أنت يا
تحية كل شيء لي. أنت أملي، أملي الذي كان لي منذ كنا أطفالًا في الشارع. من
أجلك تعلمت ومن أجلك كنت الأول في كل مراحل تعليمي. ومن أجلك أرغمت
المال أن يتدفق في يدي والشهرة أن تصبح لي.
تحية
:
مجدي، أنا آسفة.
مجدي
(وقد صحا من خياله)
:
آسفة؟ أنت آسفة؟ أتعلمين منذ كم سنةٍ أريد أن أقول هذا الكلام؟ أتذكرين يومَ
كنا نلعب الكرة في الشارع ووَقَعتُ وجُرِحتُ واهتممتِ أنت بالجرح؟ لعلك لا تذكرين؛ لأن
رعاية الناس شيء في طبيعتك، ولعلك لا تذكرين لأنه من الطبيعي أن تهتمي بجرح ابن
خالتك ولكن أنا أذكر، ولن أنسى. أردت أن أقول لك يومذاك إنني سأكون أعظم إنسان في
العالم من أجلك، وكنت أظن يومذاك أن أعظم إنسان في العالم هو الضابط، ثم رأيتك لا
تهتمين بالمظهر قدر اهتمامك بالحقيقة، ورأيتك عقلًا مُشْرِقًا وعاطفةً تَشِفُّ، فقلت
هو
العلم ما تريد فكنت الأول، وكنت الأول في الليسانس، وخلتني يومذاك أستطيع أن أقول
لك ما قلته الآن؟ ولكنني في طريقي إليك بعد أن عرفت النتيجة، وبعد أن عرفت أنني
الأول وبعد أن عرفت أنني سأعيَّن معيدًا في الكلية، في طريقي إليكِ بعد أن عرفت هذا
جميعه سمعت اثنين يتحادثان فإذا أحدهما يقول للآخر: وما الشهادة العالية؟ ورقة لا
قيمة لها، المهم هو المال. لم أكمل طريقي وإنما عدت إلى الكلية، واعتذرت عن العمل
بها، واشتغلت بالمحاماة وانقطعت عن زيارتك إلا نادرًا حتى لا تكشفي ما أحاول أن
أخفي. كنت أعمل يومي كله فلا أنام، وكنت أظل مع القضية الخاسرة حتى تصبح رابحةً،
وكنتُ شريفًا فيما أَقبلُ من القضايا، وحين وصلت إلى المال، وإلى الشهرة، وحين كنت في
طريقي إليك لأقول لك ما قلته الآن عرفت أنك خُطِبْتِ، فلم أقل؛ وأصبحت أعمل لأنسى لماذا
كنت أعمل قبل أن يخطبك الدكتور، كنت حزينًا أعرف أنك سبب حزني، وما كان لي أن أغضب
منك فأنا لم أقل لك شيئًا، وكنت حاقدًا على خطيبك ولكنني ساخط على حقدي، فالرجل
بريء لم يكن يعرف ما بنفسي، ولم أعرف شعورًا أقسى من الغضب على إنسان تعرف أنه
بريء، والحقد على آخر تعلم أنه لم يسئ إليك. أنتِ، أنت لا يحق لك أن تكوني آسفةً،
إنني أنا الآسف، والآسف دائمًا.
تحية
:
مجدي، مجدي، إن إنسانًا في العالم لا يمكن أن يقول شيئًا يسبب هذه الحيرة التي
أوقعتني فيها الآن. هل أفرح؟ ولماذا لا؟ فإنك من أجلي قد أصبحت الأستاذ مجدي
رفعت المحامي المعروف، والغني الكريم، والأديب الكبير، ولكن من أجلي أنا أيضًا
أحسست بالفقر والحزن في أسعد أوقات حياتك؛ أحسست به يوم كنت الأول في تخرجك، وأحسست
به يوم نِلْت الغنى ولم تستطع أن تنال يد من تحب، وأصبحت شهيرًا ولكن من تحب، ولكن
أنا، لم ألتفت إلى هذه الشهرة!
مجدي
:
لم يكن الغنى ما أردت، ولم تكن الشهرة ما سعيت إليه، إنما أردتك أن تسمعي أنت
عني من غيري، تلك هي الشهرة التي أردتها لنفسي؛ كتبت في كل الجرائد والمجلات
لتقرئي اسمي فقرأتِه، ولكن كنتِ ابنة خالتي وأنت تقرئينه ولم تكوني أبدًا حبيبتي،
كنتِ تهنئينني على مقالاتي وكتبي وكنتِ تفرحين بها وبي ولعلكِ أيضًا كنت تعتزِّين بها
وبي، ولكنكِ أبدًا لم تحسي أنها منكِ أردتها أن تكون إليكِ فأخطأت الطريق.
(تحية تبكي بكاءً شديدًا.)
مجدي
(وكأنما يصحو)
:
يا أستاذة أنا مضطر أن أذكر لك نظريتي مرةً أخرى؛ ثبت أن البكاء لا
يفيد.
تحية
(تقاطعه بضحكة يشوبها البكاء وتقول بصوت يختلط فيه البكاء بالضحك)
:
فهمنا يا
أستاذ، فهمنا.
مجدي
:
عظيم. وأذكر لك نظريةً أخرى؛ إن فهم النظريات أمر يختلف كل الاختلاف عن
تطبيقها، ولا بد لك حتى تُظهري فهمك للنظريات أن تطبقيها.
تحية
:
ولكن يا سيد مجدي نظريتك هذه عليها اعتراض صغير.
مجدي
:
وهو؟
تحية
:
إن الإنسان في أغلب الأحيان يعمل أشياء يعرف أنها لا تفيد، بل وتضر، ومع ذلك
يعملها.
مجدي
:
مثل؟
تحية
:
مثل هذه السيجارة التي تشعلها، تضر ولكنها تريح الأعصاب. وكذلك البكاء لا يفيد
ويضر ولكن يريح الأعصاب.
مجدي
:
لا يا أستاذة، نظريتي لم تُغفل هذا الاعتراض؛ البكاء عند اليأس راحة، ولا بد
منه في هذه الأحوال، وإن نظريتي تحبذه وتوصي به، وتُرغم عليه في بعض الأحيان، ولكن
أين نحن من اليأس؟
تحية
:
هيه يا مجدي، وهل بعد هذا يأس؟ أَمَا رأيت بعينك، أبي مصمم وإبراهيم مصمم،
وبين التصميمين يأس، يأس كامل.
مجدي
:
اليأس لا يكون في تصميم خطيبك أو والدك، إنما اليأس يكون في نفسك، وطبيعي أن نحس
به الآن بعد هذه المناقشات الطويلة، ولكن بعد دقائق نبتدي نفكر ونوجد من اليأس
رجاءً.
تحية
:
الظاهر يا مجدي أنك متفائل جدًّا؟ الخطبة انفسخت يا حبيبي.
مجدي
:
يا سلام! وإذا انفسخت أَلَا تعود؟ انفسخت آمنَّا، ولكن من قال لكِ أنْ لا سبيل
إلى عودتها؟
تحية
:
يا سيدي واحد سيُعيَّن اليوم بالحكومة ويبقى بها على الأقل سنةً.
مجدي
:
ثم يعود.
تحية
:
ألم أقل لك إنك متفائل؟ وهل تظن أن أبي سينتظر هذه السنة؟ إن أول من يطلبني
منه سيقبله.
مجدي
:
أنت تحبين إبراهيم يا تحية؟
تحية
(سارحة)
:
أحبه؟ أحبه؟ (وكأنما أفاقت فجأة) بل أكرهه، رجل يفضل الوظيفة عني،
ويتركني.
مجدي
:
آه، انتظري. هو لم يُفَضِّل الوظيفة، وإنما خاف على مستقبله.
تحية
:
أيخاف على مستقبله إن تزوجني؟
مجدي
:
آه من النسوان. أنت عارفة أن زواجك لا صلة له بمستقبله، إن زواجك لن يأتيَ له
بالمال، ولا بد من المال حتى يوفر لك السعادة.
تحية
:
ولكن الأمر كان سهلًا عليه، استطاع أن يختار في لحظة. هو لا يحبني.
مجدي
:
فعدم حبك له ناتج إذن عن عدم حبه هو لك؟
(تحية تومئ برأسها له.)
مجدي
:
فأنت تكرهينه؟
تحية
(في حزم)
:
نعم.
مجدي
:
إذن، فأنا أخطبك.
تحية
(تتهاوى على الكرسي)
:
مجدي …؟ أنت …؟ الآن؟
مجدي
:
ولماذا لا؟ قلتِ إن أباك سيقبل أي خاطب، وأعتقد أنني أحسن من الغريب؟ وقلت
إنك لا تحبين إبراهيم. وأعتقد أنك تستطيعين أن تحبيني؟
تحية
:
اسمع يا مجدي، أنا أعرف منذ سنوات أنك تحبني؛ إن كلامك الذي لم تقله سمعته
أنا من عينيك، لم أسمعه كله، ولكن سمعت بعضًا منه، ولكني أقفلت عيني وأذني لأنني
أحببتك أخًا، ولم أرد أن أفقد هذه الأخوة بالزواج. أريدك يا مجدي أخي فأنا لا أخ
لي.
مجدي
(ساخرًا)
:
ولكنكِ لا زوج لك أيضًا، فلماذا لا تقبلينني زوجًا وأخًا؟
تحية
:
إنه لا يمكن للأخ أن يصبح زوجًا.
مجدي
:
ليس هناك حب أخوي يمنع الحب الزوجي.
تحية
:
المسألة … المسألة …
مجدي
:
المسألة أنه لا يمكن للقلب أن يُشغل بأكثر من واحد.
تحية
:
ماذا تعني؟
مجدي
:
أعني أنكِ تحبين إبراهيم.
تحية
(في تخاذل)
:
نعم، أحبه.
مجدي
(مقلدًا صوتها)
:
نعم، أعرف.
تحية
:
والنتيجة؟
مجدي
:
اقبلي خطبتي.
تحية
:
ماذا؟!
مجدي
:
اقبلي خطبتي.
تحية
:
هل جننتَ؟!
مجدي
:
جائز، قد أكون مجنونًا في بعض الأحيان، ولكنني الآن — على ما أعتقد — أعقل
مخلوق على وجه البسيطة والمركبة أيضًا.
تحية
:
لا أفهم.
مجدي
:
أنت تحبين إبراهيم، وإبراهيم محجوز لمدة سنة في وظيفة، وأبوك لا يزوجك من موظف،
وأبوك سيزوجك من أول خاطب، وأنت خائفة أن يأتيَ الخاطب في بحر السنة، ويَضيع إبراهيم
إلى الأبد.
تحية
:
وأين الجديد في هذا؟
مجدي
:
أنا.
تحية
:
أنت ماذا؟
مجدي
:
أخطبك.
تحية
:
تخطبني؟
مجدي
:
أخطبك لمدة سنة.
تحية
(فرحة مندهشة)
:
مجدي!
مجدي
:
وما البأس؟ أولًا أنا فقدت الأمل في حبك غير الأخوي، وأنا أحب أن أكون معك
دائمًا؛ أخطبك سنةً أبقى معك فيها أطول وقت ممكن، وبعد السنة أعيدك إلى الأستاذ
إبراهيم.
تحية
:
ولكن، هذه الوضع؟ ألا يؤلمك؟
مجدي
:
بالعكس؛ فمسألة التضحية من أجل الحبيب هذه مسألة يظهر عليها أنها مريحة فعلًا،
وطالما كنت أحلم أن أراك في مصيبة، مصيبة كبيرة وأتقدم فأنقذك منها، ثم أموت، وها
هي أحلامي تتحقق، وإن كانت المصيبة صغيرةً، وإن كنت أنا لن أموت، ولكن لا بأس.
تحية
:
مجدي …؟ أنت …
مجدي
:
أنبل مخلوق في العالم، عارف. ولكن اعلمي يا حبيبتي، يا خطيبتي، أن أي إنسان
في العالم لا يقدِّم الجميل إلا وينتظر من ورائه خيرًا لنفسه، وأقل هذا الخير أنه يحس
بالسرور وهو يقدم هذا الجميل، وأنا أحس بهذا السرور، وهكذا ترى أن المسألة لا نبل
فيها ولا كرم أخلاق، أنا أقوم بعمل أنا مبسوط منه.
تحية
:
مجدي … مجدي … أنت … أنت …
مجدي
:
خطيبك.
(تدخل الأم وتسمع هاتين الجملتين الأخيرتين.)
إجلال
:
مجدي … صحيح …؟ صحيح يا تحية …؟
تحية
(في فرح غامر)
:
صحيح … صحيح.
إجلال
:
أحمدك يا رب، أحمدك يا رب.
(تجلس على الكرسي وكأنما تخشى السقوط من الفرح.)
(ستار)