الفصل الثالث
(الدكتور إبراهيم في غرفة متواضعة فيها لوازمه فقط والدكتور يقرأ في استغراق
عميق حين يفتح الباب ويدخل منه صديقه الدكتور لطفي.)
إبراهيم
:
هيه يا لطفي؟
لطفي
:
يا شيخ ابعد عني.
إبراهيم
:
خيرًا؟
لطفي
:
ومن أين الخير؟ قلت لك لا فائدة ما دام هذا الدكتور يحسدك، ويأبى عليك أن
تعمل.
إبراهيم
:
يحسدني؟!
لطفي
:
طبعًا.
إبراهيم
:
لماذا؟!
لطفي
:
أما إنك رجل طيب. كيف لا يحسدك وأنت منذ دخلت المستشفى والمرضى لا يطلبون إلا
أنت؟
إبراهيم
:
وما ذنبي أنا يا أخي؟ قرأت كثيرًا ودرست، والمريض في نظري محتاج يطلب العون
على الشفاء وأنا أبذل جُهدي واهتمامي وأعصابي، المريض عندي ليس عملًا حكوميًّا
أؤديه، ليس مذكرةً أوقع عليها، لا، إنسان، أخي، يريدني.
لطفي
:
عظيم، عظيم. ولكن من يمكنه أن يصل إلى عقل الدكتور أو إلى قلبه ليُفهمه هذا.
وليجعلك تستعمل المعمل.
إبراهيم
:
والله لو كان ألف دكتور في بعض لما استطاع أن يمنعني عن أبحاثي.
لطفي
:
عظيم. ولكن ماذا تعمل؟
إبراهيم
:
أعمل …
لطفي
:
أين؟
إبراهيم
:
أين؟ هنا.
لطفي
:
هنا؟! وأين المعمل هنا؟
إبراهيم
:
أصنعه، أنشئه.
لطفي
:
هنا؟ وكيف؟
إبراهيم
:
لطفي، أنت لا تعرف ضرورة هذا البحث لي، أمل كبير متعلق بي، لا بد أن أحققه.
لطفي
:
أمل كبير؟
إبراهيم
:
أمل كبير، وتضحية كبرى تقدم إليَّ من شخصين حبيبين لي.
لطفي
:
طيب، وماذا تعمل؟
إبراهيم
:
أنا آخذ كم مرتبًا؟
لطفي
:
خمسة عشر جنيهًا.
إبراهيم
:
إيجار بيت جنيهان.
لطفي
:
عظيم.
إبراهيم
:
أكل وشرب ونور أربعة جنيهات.
لطفي
:
أربعة جنيهات؟!
إبراهيم
:
الفول العجيب فقط لا غير. والجنيهات التسعة أقساط لمن يصنع لي معملًا هنا.
لطفي
:
تسعة جنيهات؟!
إبراهيم
:
قليلة؟
لطفي
:
نبحث.
إبراهيم
:
نبحث؟ لا وقت عندنا للبحث، قل نفعل.
لطفي
:
وأين تعمله؟
إبراهيم
:
هنا، في هذه الحجرة.
لطفي
:
وأنت؟ أين تنام؟
إبراهيم
:
والله فكرة، أنا سأبيع السرير، وهذه المكسرات. أنا لا أحتاج لغير دكة صغيرة
أنام عليها.
لطفي
:
البحث خطير يا إبراهيم!
إبراهيم
:
نعم خطير، إنقاذ أرواح من الأمراض، لا بد أن أعمل.
لطفي
:
كان الله في عونك.
إبراهيم
:
إنني في شهرين قطعت أكثر من نصف المرحلة.
لطفي
:
عظيم.
إبراهيم
:
هيا بنا ننزل.
لطفي
:
إلى أين؟
إبراهيم
:
شيء عجيب! نصنع المعمل.
لطفي
:
لا يا عم، أنا لا أستطيع ملاحقتك.
إبراهيم
:
ضعيف، خامل.
لطفي
:
الله! ماذا جرى؟ تشتمني؟
إبراهيم
:
أنا لا أشتمك، بل أصفك.
لطفي
:
أكرمك الله يا أخي، هيا ننزل، ننزل قبل اعتذار آخر.
(يخرجان من المسرح ويبقى المسرح خاليًا بعض الوقت ثم تدخل تحية ومجدي.)
تحية
:
إبراهيم.
مجدي
:
ليس هنا.
تحية
:
ويترك الباب مفتوحًا؟
مجدي
:
وعلامَ يخاف؟
تحية
:
يا أخي دائمًا تهذر؟
مجدي
:
وما له؟
تحية
:
ألا تُقَدِّرُ الموقف الذي نقفه؟
مجدي
:
موقف عظيم.
تحية
:
عظيم؟
مجدي
:
جدًّا.
تحية
:
أبي يريد أن يكتب الكتاب وتقول موقف عظيم؟!
مجدي
:
وما البأس يا سيدتي في أن يكتب كتابي عليك؟
تحية
:
لا، مجدي. وحياتك أنا لا أحتمل الألغاز الآن.
مجدي
:
يا تحية، إنها ليست ألغازًا! إنها مسائل واضحة.
تحية
:
واضحة؟!
مجدي
:
إبراهيم أمام الطريق الطويل، ثم أعتقد أنني شاب لا بأس بي.
تحية
:
آه، إذن بدأت ترجع في المعروف الذي تسديه؟
مجدي
:
وأنا؟
تحية
:
مجدي، أنا آسفة. أنا مقدرة الألم الذي تحس به، ولكن …
مجدي
:
نعم؟ ولكن ماذا؟
تحية
:
أنت تعرف.
مجدي
:
الحب؟
تحية
:
وما له الحب؟ أليس شيئًا كبيرًا؟ أليس جديرًا بكل تضحية؟
مجدي
:
أعتقد أنه جدير، جدير، أمري إلى الله، إذن فدبريني، ماذا أفعل في مسألة كتب
الكتاب هذه التي ظهرت أعراضها أخيرًا على المحترم أبيك؟
تحية
:
تذكر أنك تتكلم عن أبي.
مجدي
:
هذا موضوع لا يحتاج إلى تذكر، أنا عارفه.
تحية
:
عظيم.
مجدي
:
جدًّا.
تحية
:
لست أدري ما الذي يجعله يسرع بكتب الكتاب معك أنت مع أنه كان صبورًا غاية
الصبر مع إبراهيم؟
مجدي
:
أولًا، أبوك رجل نبيل، وكان يعرف ظروف إبراهيم كما يعرف ظروفي؛ إبراهيم كان
يكوِّن نفسه وأنا تكوَّنت، وثانيًا الست والدتك بالصدفة خالتي فهي تستطيع أن
تفاتحني في الموضوع دون حرج، بينما لا تستطيع مفاتحة إبراهيم.
تحية
:
يعني يا سيدي كان لا بد لك أن تتكوَّن هكذا سريعًا، وكان حتمًا أن تكون ابن خالتي
أنت الآخر؟
مجدي
:
والله هذه مسألة فاتني أن أدبرها قبل أن أتقدم لخطبتك، آسف، أقصد لحجزك.
تحية
:
النهاية، ماذا سنفعل؟
مجدي
:
أنا شخصيًّا عاجز.
تحية
:
كذاب.
مجدي
:
ولماذا؟
تحية
:
كذاب لأنك لا تريد أن تفكر في حل، أنت مبسوط من هذا العارض الذي منعك من
إكمال تضحيتك.
مجدي
:
مبسوط أو زعلان مسألة لا أهمية لها في الموضوع، المهم أن نصل إلى حل.
تحية
:
لو فكرتَ معي لوصلنا إلى حل.
مجدي
:
أقسم لك إنني أفكر.
تحية
:
على كل حال أنا أعذرك لأنك لا تستطيع أن تكون مخلصًا في التفكير.
مجدي
:
ويوم فكرت في حجزك، ألم أكن مخلصًا في التفكير؟
تحية
:
كنت متأثرًا بحزني و… و… وبأشياء أخرى، فأومضت الفكرة في ذهنك وبدافع من
الطيبة لم تستطع أن تحبسها.
مجدي
:
والآن؟
تحية
:
والآن تفكر في روية وهدوء، وتستبعد الفكرة التي تراها ضد مصلحتك، وتقيم أمامها
كل العوائق والعراقيل.
مجدي
:
طيب يا أختي أصبحتِ طبيبة علم نفس على آخر الزمن.
تحية
:
طبعًا. الحقائق المختفية تؤلم إذا ظهرت.
مجدي
:
كلام فارغ، وشرفك كلام فارغ.
تحية
:
أنا لا أنتظر أن تقول عنه مليان. وإن كان قسمك بشرفي لا لزوم له.
مجدي
:
آسف.
تحية
:
العفو.
(يُسمع طرق على الباب.)
تحية
:
تفضل.
(يدخل رجل يحمل أسبتةً فيها زجاجات وأوعية.)
الرجل
:
أهذا بيت الدكتور إبراهيم؟
تحية
:
نعم.
الرجل
:
ولكنه لم يقل إنني سأجد أحدًا.
تحية
:
لا بأس نحن أصدقاء.
الرجل
:
لقد أرسلني أحمل هذه الأدوات.
تحية
:
وأين هو؟
الرجل
:
قال إنه سيأتي بعد قليل.
تحية
:
وما هذه الأدوات؟
الرجل
:
للمعمل.
تحية
:
طيب. ضعها هنا.
الرجل
(يضع الأشياء)
:
وأنا؟ أين أنتظر؟
تحية
:
بجانب الباب. سأعمل لك فنجان قهوة.
الرجل
:
شكرًا، لا أشربها.
تحية
(تتنهد في ارتياح وتقول لنفسها)
:
الحمد لله.
(يخرج الرجل.)
مجدي
:
معمل؟! هنا؟! في هذه الحجرة؟!
تحية
:
لا بد أنه ينوي إقامته هنا وإلا ما أرسل الرجل وطلب منه أن ينتظره.
مجدي
:
والله شيء يفرح.
تحية
:
انقلبَ. أصبحَ إيجابيًّا. صمم أن ينجح.
مجدي
:
وسينجح.
تحية
:
الحمد لله.
مجدي
:
ولكن من أين له المال؟
تحية
:
لا بد أن أساعده بكل قوتي.
مجدي
:
لا، حذارِ أن تفعلي. هو يريد النجاح بيده وحده لا يريد يدًا أخرى تساعده.
تحية
:
ولكنه يقبل مساعدتك أنت في ادعائك خطبتي.
مجدي
:
بل لم يقبلها، إنه فقد يقدرها. وهو يقسم في صميم نفسه أن يرد لي معروفي هذا،
وإن كلفه الأمر حياته.
تحية
:
ولكنه يعرف أنك تعمل هذا من أجلي أنا.
مجدي
:
ولكنه يعرف أنني أعاونه في أعظم أمل له، وقد قال لي إن الإنسانية ليست جديرةً
بهذا الاسم إن لم يكن بين أفرادها تعاون وأخوة، وهذا التعاون هو محور الحياة، فلو
تعاون الناس ما خاب أحد منهم، وما ألقوا على الحظ والقدر أخطاءهم.
تحية
:
نعم. هذا كلام مَن يحمل الجميل ويقدره وينوي رده.
(يدخل إبراهيم.)
إبراهيم
:
أهلًا، أهلًا، (يدخل معه الرجل الذي جاء بالأشياء)(للرجل) وحياتك في شارع
إبراهيم باشا بعض أشياء أخرى تركتها هناك، أرجوك أن تؤجِّر عربةً وتحملها إلى هنا حتى
نرتب المعمل معًا.
الرجل
:
أمرك.
إبراهيم
:
خذ. هاك أجرة العربة.
الرجل
:
السلام عليكم.
إبراهيم
:
وعليك السلام.
(يخرج الرجل ويواصل إبراهيم حديثه مع تحية.)
تحية
:
إبراهيم! أتقيم هنا معملًا؟!
إبراهيم
:
نعم.
تحية
:
هذا شيء عظيم. لكم أحب يا إبراهيم أن أساعدك.
إبراهيم
:
أكثر من مساعدتك هذه؟! لا، شكرًا.
مجدي
:
والله يا إبراهيم كنا نحب أن نحتفل بمعملك، إلا أن هناك أمرًا خطيرًا.
تحية
:
أبي يريد أن يكتب الكتاب حالًا، يظهر أن القدر يقف في وجهنا دائمًا.
إبراهيم
:
هذا ليس اسمه القدر، وإنما اسمه أبوك، حمدي بك العباسي، وليس حمدي بك القدر.
تحية
:
المهم، ما العمل؟
إبراهيم
:
نحلها إن شاء الله.
تحية
:
عجيبة! أراك وكأنك تعرف أن ليس هناك عقبة تستطيع أن تقف أمامك.
إبراهيم
:
عقبة وحيدة، لا يستطيع الإنسان أن يتغلب عليها.
تحية
:
وهي؟
إبراهيم
:
الموت.
تحية
:
وكل ما عدا هذا؟
إبراهيم
:
كل ما عدا هذا من صنع الإنسان، ويستطيع الإنسان أن يتغلب عليه.
تحية
:
تغلب إذن على كتب الكتاب.
إبراهيم
:
سأتغلب.
مجدي
:
وحدك؟
إبراهيم
:
وحدي أو مع غيري، المهم أن الإنسان سيتغلب.
تحية
:
ألا تقول إن شاء الله؟
إبراهيم
:
سبحانه كل شيء بمشيئته، ولكنه دائمًا سبحانه يترك الإنسان يتصرف في أموره، وإلا
لما أعد له في الآخرة ثوابًا وجزاءً.
تحية
:
وأين المشيئة إذن؟
إبراهيم
:
إنه يعرف ما سأعمله في اللحظة القادمة، ولكنه لم يأمرني به، وإنما أمره إذا أراد
شيئًا أن يقول له كن فيكون، وهو يريد أن يتركنا أحرارًا ليعد لنا الحساب، ومشيئته
هي أن يتركنا أحرارًا، تلك هي مشيئته.
تحية
(سارحة)
:
سبحانه!
إبراهيم
(لمجدي)
:
طبعًا فاتَحَتْك إجلال هانم في الموضوع بصفتها خالتك.
مجدي
:
قالت لي: أنت والحمد لله تكونت وأظن لا مانع من …
إبراهيم
(مقاطعًا)
:
تكوَّنتَ؟
مجدي
:
أظن ذلك!
إبراهيم
:
ظن خاطئ، غرور.
مجدي
:
غرور؟!
إبراهيم
(متجاوزًا)
:
اسمع. ألم تقل لي يومًا إنك فكرت في دراسة الدكتوراة في الحقوق، وإنك درست فعلًا القسم
الأول؟
مجدي
:
نعم! ولكن …
إبراهيم
:
حمدي بك غاوي علم، ولو قلت له إنك تريد أن تكمل دراسة الدكتوراة.
مجدي
:
أُكملها؟
إبراهيم
:
وما البأس؟
مجدي
:
لا بأس، ولكن.
إبراهيم
:
قل له إنك عرضت الفكرة على تحية، وإنها وافقت بسرور أن تؤجل الكتاب حتى تنال
الدكتوراة.
مجدي
:
والله أعتقد أن حمدي بك لن يمانع.
إبراهيم
:
على العكس، سيفرح بك كل الفرح.
تحية
:
أنت عبقري. هيا يا مجدي.
مجدي
:
إلى أين؟
تحية
:
إلى أين؟! إلى أبي، هيا.
(تجره وتخرج في سرعة، يجلس إبراهيم مرتاحًا باسمًا.)
إبراهيم
:
هيه أيها القدر.
(يظهر القدر.)
القدر
:
ماذا تريد؟
إبراهيم
:
ما رأيك؟
القدر
:
فيمَ؟
إبراهيم
:
فيما أعمل.
القدر
:
أنت لم تعمل بعد.
إبراهيم
:
ولكنني عملت وأعمل وسأعمل.
القدر
:
الحياة لا تعرف سأعمل، ولكنها تعرف عملت وأعمل.
إبراهيم
:
إذن!
القدر
:
اعمل.
إبراهيم
:
البحث خطير، والجهد شديد.
القدر
:
اعمل.
إبراهيم
:
كن إلى جانبي.
القدر
:
أنت وحدك إلى جانب نفسك.
إبراهيم
:
وهؤلاء الذين يعاونونني؟
القدر
:
هؤلاء إخوانك في الحياة يعملون بوحي أنفسهم، وسيحتاجون إليك يومًا ما، وستكون
لهم. اعمل.
إبراهيم
:
ها أنا ذا أعمل.
(يدخل الرجل إلى المعمل حاملًا أشياء أخرى عديدةً وينتفض إبراهيم في سرعة
ليساعد الرجل ويختفي القدر وهو يقول):
القدر
:
اعمل.
(يبدأ إبراهيم في العمل في همة ونشاط، وينسدل الستار في بطء.)
(ستار)