مدفونون أحياء
في المساء السابق يومَ المغادرة، كان بينيلون قُبيل تناول العشاء يكسر بعض البراميل الفارغة ليستخدمها حطبًا للموقد عندما شعر فجأة بالاختناق من الدخان الكثيف، وفي اللحظة نفسها اهتز البيت الجليدي كما لو كان قد وقع زلزال، وأطلقوا صيحةَ رعب، وهُرعَ بينيلون للخارج.
كان الظلام دامسًا؛ فقد هبَّت عاصفة مخيفة؛ فالثلج لم يكن في حالة ذوبان، واندفعت دوامات الجليد في كل مكان، وازدادت البرودة حتى إن قائد الدفة شعر أن يديه تتجمدان بسرعة، واضطر إلى الدخول مرة أخرى بعد أن فرك نفسه بالجليد بقوة.
وقال: «إنها عاصفة، لنأمل أن يستطيع المنزل تحمُّلها؛ لأنه لو دمرته العاصفة سيكون مصيرنا الضياع!»
وأثناء هبوب الرياح العنيفة سُمع ضجيج آخَر من أسفل التربة المتجمدة؛ فالقطع الجليدية المتكسرة من الجبل الجليدي كانت تندفع مُصدِرةً ضجيجًا ويسقط بعضها على بعض، وهبَّت الرياح بعنف حتى إن المنزل الجليدي بدا في بعض الأحيان كما لو كان اقتُلع من أساسه، وكانت الأضواء الفسفورية التي لا يمكن تفسير سبب وجودها في هذه الأماكن تومض حول دوامات الجليد.
وصاح بينيلون وهو يمسك بيد الفتاة الشابة: «ماري! ماري!»
قال ميزون: «إننا في موقف سيئ!»
ردَّ أوبيك: «ولا أعلم إن كنَّا سننجو أم لا.»
قال فازلينج: «لنغادر هذا المنزل الجليدي!»
فأجاب بينيلون: «مستحيل! البرد شديد في الخارج، وعلى الأرجح يمكننا أن نتحمله بالبقاء هنا.»
فقال فازلينج بلهجة آمرة: «أعطني الترمومتر.»
فسلَّمه أوبيك إياه. وسجَّل الترمومتر عشر درجات تحت الصفر داخل المنزل على الرغم من أن النار كانت مشتعلة. ورفع فازلينج الستار الذي يغطي الفتحة ودفعه للخارج في عجلة؛ لأنه كان سيُصاب بجروح بسبب الثلج المتساقط الذي كانت الرياح تقذفه وكان يسقط في صورة عاصفة ثلجية.
وقال بينيلون: «حسنًا يا فازلينج هل ستخرج إذًا؟ لقد رأيت أننا أكثر أمنًا هنا.»
فقال جون كورنبوت: «نعم، ويجب أن نبذل كل جهد لتقوية المنزل من الداخل.»
فقال فازلينج: «لكن ما زال يهددنا خطر آخر أفظع.»
فسأله جون: «وما هو؟»
فقال: «الرياح تكسر الجليد الذي نستند عليه مثلما كسرت جليد اللسان، وسوف ننجرف أو نُدفن!»
فقال بينيلون: «يبدو هذا غير محتمل؛ لأن الثلوج تتساقط بغزارة تكفي لتجمد كل المسطحات المائية، لنرَ كم تبلغ درجة الحرارة!»
ورفع الستار كي يُخرِج ذراعه، ووجد صعوبة في العثور على الترمومتر وسط الجليد مرة أخرى، لكنه نجح أخيرًا في انتزاعه، وصوَّب المصباح نحوه وقال:
«إنها اثنتان وثلاثون درجة تحت الصفر! إننا لم نشهد بعدُ انخفاضًا في درجات الحرارة هنا على هذا النحو!»
استطرد فازلينج: «إذا انخفضت عشر درجات أخرى فسوف يتجمد زئبق الترمومتر!»
وساد صمت حزين بعد هذا التعليق.
وفي حوالي الثامنة صباحًا حاول بينيلون الخروج مرةً أخرى لتفقُّد الموقف، وكان من الضروري إيجاد مخرج للدخان الذي ردته الرياح إلى داخل الكوخ مراتٍ عديدة، ولفَّ البحَّار عباءته حوله بإحكام، وثبت القلنسوة على رأسه بربطها بمنديل، ورفع الستار.
فوجد كتلة جليدية صلبة تسد فتحة الكوخ بالكامل. أخذ بينيلون عصاه ونجح في غرزها في الكتلة المتماسكة، وتجمَّد الدم في عروقه عندما أدرك أن طرف العصا ليس حرًّا، وأنها علقت في جسم صلب!
فقال للقبطان الذي اقترب منه: «كورنبوت، لقد دُفنا تحت الجليد!»
فصاح جون كورنبوت: «ماذا تقول؟»
«قلت إن الثلج متجمع ومتجمد حولنا وفوقنا، وإننا مدفونون أحياء!»
فأجاب القبطان: «لنحاول إزاحة الكتلة الجليدية.»
دفع الصديقان العقبة التي تعترض فتحة الكوخ لكن لم يستطيعا تحريكها؛ إذ كوَّن الجليد كتلة زاد سُمكها عن خمس أقدام، وأصبحت بالفعل جزءًا لا يتجزأ من المنزل الجليدي. ولم يستطع جون أن يكتم صرخةً، أفاق على أثرها ميزون وفازلينج، وأطلق فازلينج السباب وتجهَّم. وفي هذه اللحظة تسلل الدخان إلى المنزل، وقد أصبحت كثافته أثقل من ذي قبل ولم يجد منفذًا للخروج.
صاح ميزون: «تبًّا! لقد سدَّ الجليد مدخنة الموقد!»
أخذ بينيلون عصاه، وأنزل المدخنة، بعد أن ألقى بعض الجليد على الجمر ليطفئه، فنتج دخان جعل ضوء المصباح لا يكاد يُرى، ثم حاول تنظيف فتحة المدخنة مستخدمًا العصا، إلا أنه وجد كتلة من الجليد! وبدا أن مصيرهم هو نهاية مخيفة مسبوقة بعذاب فظيع! واخترق الدخان حناجر الجماعة البائسة وسبَّب لهم ألمًا غير محتمل، وسرعان ما سيشح الهواء ولن يستطيعوا التنفس على الإطلاق!
في هذه اللحظة استيقظت ماري، وبثَّ وجودها اليأس في نفس جون كورنبوت، بينما أمد بينيلون بالشجاعة، فقال بينيلون في نفسه إنه من غير الممكن أن تكون هذه الميتة البشعة هي قدَر تلك الفتاة المسكينة.
قالت ماري: «آه! لقد أشعلت الكثير من النيران؛ فالغرفة تعج بالدخان!»
فأجاب بينيلون متلعثمًا: «نعم، نعم.»
استطردت ماري: «هذا واضح لأن الجو ليس باردًا، ولم نشعر بهذه الحرارة الكبيرة منذ فترة طويلة.»
ولم يجرؤ أحد على إخبارها بالحقيقة.
قال بينيلون في صراحة: «اسمعي يا ماري، ساعدينا في تحضير الفطور؛ فالجو شديد البرودة بالخارج ولا نستطيع الخروج. إليك الموقد، والكحول، والقهوة. تعالوا أيها الشباب وتناولوا أولًا لحم البيميكان المجفَّف؛ فالعاصفة المزرية تمنعنا من الصيد.»
بثَّت كلماته الحماسة في نفوس الرفاق.
وأكمل بينيلون: «لنأكل أولًا، ولنفكر بعدها في الخروج!»
ضرب بينيلون المثل وتناول حصته من الفطور، وقلَّده رفاقه، ثم احتسوا قدحًا من القهوة المغلية التي رفعت روحهم المعنوية. بعد ذلك قرَّر جون كورنبوت بحماسة ضرورةَ البدء على الفور في التوصُّل لطريقة لإنقاذ أنفسهم.
في هذه اللحظة قال أندريه فازلينج:
«إذا كانت العاصفة لا تزال مستمرة، وهذا هو الراجح، فلا بد أننا مدفونون على عمق عشر أقدام تحت الجليد؛ لأننا لا نستطيع سماع أي ضوضاء بالخارج.»
نظر بينيلون إلى ماري التي أصبحت الآن تدرك الحقيقة ولم ترتجف خوفًا، وسخَّن قائد الدَّفةِ طرفَ العصا الحديدي بلهب الموقد، وغرزها بنجاح في الجدران الجليدية الأربعة، لكنه لم يستطع أن يجد منفذًا في أي منها. ثم قرَّر كورنبوت أن يشق فتحة في الباب نفسه، إلا أن الجليد كان غاية في الصلابة بحيث لم تستطِع السكاكين أن تترك فيه أثرًا يُذكر، وسرعان ما زحمت القطع الجليدية المقطوعة الكوخ. وبعد العمل الشاق ساعتين تبيَّن أنهم لم يشقوا إلا تجويفًا عمقه ثلاث أقدام.
كان لا بد من التفكير في طريقة أسرع، وفي الوقت نفسه لا تعرِّض المنزل للهدم؛ لأنهم كلما توغَّلوا أصبح لزامًا بذلُ جهد أعنف لكسر الكتلة الجليدية المتماسكة. وخطر على بال بينيلون أن يستخدم الموقد في إذابة الجليد في الاتجاه المراد، وكانت هذه الطريقة خَطِرة؛ لأنه إذا طال حبسهم فسوف ينفد الكحول الذي يحتاجون إليه لإعداد الوجبات ولا يملكون منه إلا قليلًا. ورغم ذلك، فقد رحَّب الجميع بالفكرة ووضعوها حيز التنفيذ. وفي البداية حفروا حفرة عمقها ثلاث أقدام وقطرها قدم واحدة لتحتوي الماء الناتج عن ذوبان الجليد، وكان من الجيد اتخاذهم هذا الاحتياط لأن الماء سرعان ما تساقط بفعل اللهب الذي كان بينيلون يحرِّكه أسفل كتلة الجليد. واتسعت الفتحة تدريجيًّا، إلا أن هذا العمل لم يتمكَّن من الاستمرار طويلًا؛ لأن الماء غطَّى ملابسهم وتسلَّل إلى أجزاء مختلفة من أجسادهم. واضطر بينيلون للتوقُّف بعد ربع ساعة وسحب الموقد لتجفيف نفسه، عندئذٍ حل ميزون محله، وعكف على المهمة بجهد.
وفي غضون ساعتين أصبح عمقُ الحفرة خمس أقدام، ورغم ذلك لم تنفذ أطراف العصي إلى الخارج.
قال جون كورنبوت: «من المستحيل أن يكون الثلج قد هطل بهذه الغزارة؛ لا بد أن الرياح جمعته عند هذا المكان بالتحديد. ربما كان يجدر بنا التفكير في الهروب من اتجاه آخَر.»
فردَّ بينيلون: «لا أعرف، لكن من أجل ألا نخذل الرفاق يجب أن نكمل ثقب الحائط في المكان الذي بدأنا فيه. فلا بد أننا سرعان ما سنجد منفذًا.»
فسأله القبطان: «ألن ينفذ منا الكحول؟»
«آمل ألا ينفذ. دعنا إذًا نستغنِ عن تناول القهوة والمشروبات الساخنة إذا اقتضى الأمر، إضافة إلى ذلك، هذا ليس أكثر ما يزعجني.»
«فما الذي يزعجك إذًا يا بينيلون؟»
«بدأ ضوء المصباح يخبو بسبب قلة الزيت، كما أن المؤن سرعان ما ستنفد. في النهاية الحمد لله على أي حال!»
وذهب بينيلون ليأخذ مكان أندريه فازلينج الذي كان يعمل بحماسة من أجل خلاصهم جميعًا.
فقال: «سآخذ مكانك يا سيد فازلينج، لكن أرجوك انتبه إلى أي علامة على سقوط المنزل كي يكون أمامنا متسعٌ من الوقت للحيلولة دون سقوطه.»
جاء وقت الراحة، وبعد أن جعل بينيلون الفتحة أكثر عمقًا بمقدار قدَمٍ، رقد بجوار رفاقه.