سحابة من الدخان
عندما أفاق البحَّارة في اليوم التالي وجدوا أنفسهم محاطين بالظلام الدامس؛ فأيقظ جون كورنبوت بينيلون وطلب منه علبة الثقاب التي أعطاه إياها. ونهض بينيلون ليشعل النار، لكنه عندما نهض ارتطم رأسه بالسقف الجليدي، وتملَّكه الفزع لأنه في المساء السابق كان ما زال باستطاعته الوقوف مستقيمًا دون الاصطدام بالسقف، وأدرك على ضوء الموقد ذي الأشعة الخافتة الموقَدة بالكحول أن السقف كان أكثر انخفاضًا عن السابق بمقدار قدَمٍ.
استأنف بينيلون العمل في استماتة.
وفي هذه اللحظة، لاحظت الفتاة الشابة على وجه بينيلون الذي كان ينعكس عليه ضوء الموقد أن اليأس والإصرار يتصارعان على ملامحه الجامدة على مَن ستكون له الغلبة، فذهبت إليه وأمسكت بيديه وضغطت عليهما برفق.
وقال: «لا يمكن أن تموت ماري بهذه الطريقة، يجب ألا تموت هكذا!»
أمسك بالموقد ووجهه نحو الفتحة الضيقة مرة أخرى، وغرس عصاه ولم يشعر بمقاومة. هل وصل إلى طبقات الجليد الناعمة؟ وسحب عصاه ونفذ شعاع من الضوء إلى داخل المنزل الجليدي!
فصاح: «تعالوا إلى هنا أيها أصدقاء!»
ودفع الثلج للخارج بيديه وقدميه، لكن السطح الخارجي لم يكن ذائبًا كما توقَّع؛ فمع شعاع الضوء دخل الغرفة بردٌ عنيف واستحوذ على كل شيء رطبٍ وجمَّده على الفور. ووسَّع بينيلون الفتحة بسيفه، وتمكَّن أخيرًا من تنفس الهواء الطلق، وجثا على ركبتيه حامدًا الرب، وسرعان ما انضمت إليه ماري وبقية الرفاق.
أضاء السماء قمرٌ رائع، لكن البرد كان قارسًا للغاية ولم يستطيعوا احتماله؛ فعادوا إلى معتزَلهم. لكن بينيلون نظر حوله أولًا فلم يجد اللسان في محله، ووجد أن الكوخ أصبح الآن وسط حقل جليدي واسع. وفكَّر بينيلون في الذهاب إلى الزلَّاجة التي توجد بها المؤن، لكن الزلاجة قد اختفت أيضًا!
أجبره البرد على العودة، ولم يخبر أصدقاءه شيئًا؛ فقد كان من الضروري تجفيف ملابسهم قبل أي شيء، وفعلوا ذلك بالاستعانة بالموقد، ورفع الترمومتر في الهواء لحظةً فوجد أن الحرارة انخفضت إلى ثلاثين درجة تحت الصفر.
بعد ساعة قرَّر فازلينج وبينيلون المغامرة بالخروج، فلفَّا نفسيهما في ملابسهما التي كانت لا تزال مبتلة، وخرجا من الفتحة التي أصبحت جوانبها متحجرة كالصخر.
قال فازلينج مسترشدًا بالنجوم التي كانت تتألق تألقًا رائعًا: «لقد دُفعنا صوب الشمال الشرقي.»
فقال بينيلون: «لن يكون هذا سيئًا إذا دُفعت الزلاجة معنا.»
فصاح فازلينج: «أليست الزلاجة هنا؟ إذًا لقد ضعنا!»
أجابه بينيلون: «لنبحث عنها!»
طافا حول الكوخ، وهو كتلة يزيد ارتفاعها عن خمس عشرة قدمًا. لقد سقطت كمية ثلوج هائلة طوال فترة هبوب العاصفة، وجمعتها الرياح على المرتفع الوحيد الموجود في هذا الحقل الجليدي المستوي، ودفعت الرياح الكتلة كاملة وسط الجبال الجليدية المتكسرة مسافةً تزيد عن خمسة وعشرين ميلًا صوب الشمال الشرقي، ولقي السجناء مصير سجنهم الطافي. أما الزلَّاجة التي كانت مستندة إلى جبل جليدي آخَر فقد اتجهت ناحيةً أخرى؛ إذ لا يوجد أي أثر لها، ولا بد أن الكلاب قد هلكت وسط هذه العاصفة المخيفة.
شعر أندريه فازلينج وبينيلون باليأس يستحوذ عليهما، ولم يجرؤا على العودة إلى رفاقهما، ولم يجرؤا على إعلام رفقاء الشقاء بهذا الخبر المشئوم، وتسلَّقا الكتلة الجليدية المحفور بها الكوخ، ولم يريا سوى البياض الشاسع الذي يكتنفهما من كل الجهات. وكان البرد قد بدأ يجمد أطرافهما، وبدأت رطوبة الملابس تتحوَّل إلى قِطَع جليدية تتدلَّى حولهما.
بينما كان بينيلون يهم بالنزول نظر صوب أندريه، فرآه يحدِّق فجأة في اتجاه واحد، ثم ارتجف وشحب لونه.
فسأله: «ما الخطب يا فازلينج؟»
فقال الآخر: «لا شيء، دعنا ننزل ونحث القبطان على مغادرة هذه الأنحاء التي ما كان يجب أن نأتيها أبدًا، لنغادر على الفور!»
وبدلًا من إطاعة فازلينج صعد بينيلون لأعلى مرة أخرى، وألقى نظرة على الاتجاه الذي لفت انتباه نائب الربان، وظهر عليه رد فعل مختلف تمامًا؛ إذ أطلق صيحة فرح وقال:
«شكرًا للرب!»
كان دخان خفيف يتصاعد في الشمال الشرقي، ولم يكن يوجد أدنى احتمال لأن يكون هذا سرابًا؛ كان ذلك دليلًا على وجود البشر. ووصلت صيحات الفرح التي أطلقها بينيلون إلى البقية بالأسفل، واستطاعوا جميعًا بأعينهم أن يقتنعوا بأنه ليس واهمًا.
ودون تفكيرٍ في نقص المؤن أو شدة البرودة، ارتدَوا القلنسوات وتقدموا من فورهم صوب البقعة التي كان يتصاعد منها الدخان في الشمال الشرقي. كان من الواضح أنها على بُعد خمسة أو ستة أميال، وكان من الصعب للغاية سلوك الاتجاه الصحيح بالضبط. واختفى الدخان ولم يَعُد يوجد أي قمة مرتفعة يسترشدون بها؛ فالحقل الجليدي كان مستوًى واحدًا. ورغم ذلك، كان من المهم عدم الانحراف عن المسار المستقيم.
قال جون كورنبوت: «نظرًا لأننا لا نستطيع الاسترشاد بالمعالم البعيدة، يجب أن نستخدم هذه الطريقة؛ سيسير بينيلون في المقدمة، وخلْفَه فازلينج بعشرين خطوة، وسأسير خلف فازلينج بعشرين خطوة، وعندها سأعرف إن كان بينيلون قد انحرف عن الخط المستقيم أم لا.»
واستمروا على هذا المنوال نصف ساعة حتى توقَّف بينيلون فجأة وأنصت، وأسرعت الجماعة للحاق به.
سألهم: «هل سمعتم شيئًا؟»
فأجاب ميزون: «لا شيء.»
قال بينيلون: «هذا غريب؛ بدا لي أنني سمعت صيحات من هذا الاتجاه.»
فأجابت ماري: «صيحات؟ ربما أصبحنا إذًا على مقربة من مقصدنا.»
فقال أندريه فازلينج: «هذا غير منطقي؛ في هذه الأنحاء والمناطق الباردة من الممكن سماع الأصوات من مسافة بعيدة للغاية.»
قال جون كورنبوت: «مهما يكن، دعونا نتقدم للأمام وإلا فسوف نتجمد.»
فصاح بينيلون: «كلا! استمعوا!»
سمعوا أصواتًا ضعيفة، لكن يمكن إدراكها رغم ذلك، وبدت كصيحات استغاثة، وكُررت مرتين، وبدت كصيحات طلب النجدة. ثم أطبق الصمت مرة أخرى.
قال بينيلون: «لم أكن مخطئًا، تقدموا للأمام!»
وبدأ يجري في الاتجاه الذي صدرت منه الصيحات، واستمر على هذه الحال مسافة ميلين إلى أن رأى، لدهشته، رجلًا ممددًا على الجليد، فتوجَّه إليه ورفعه، ثم رفع ذراعيه إلى السماء في يأس.
ركض أندريه فازلينج الذي كان يتبعه عن كثب مع بقية البحَّارة وصاح:
«إنه واحد من المفقودين! إنه البحَّار كورتواه!»
أجاب بينيلون: «إنه ميت! لقد تجمَّد حتى الموت!»
اتجه جون كورنبوت وماري إلى جوار الجثة التي كانت قد تصلَّبت بفعل الجليد. وكسا اليأس وجوه الجميع؛ فلقد كان الرجل الميت أحد رفاق لويس كورنبوت!
صاح بينيلون: «إلى الأمام!»
أمضوا نصف ساعة في صمت تام، ورأوا مرتفعًا بدا أرضًا، دون شك.
فقال جون كورنبوت: «إنه جزيرة شانون.»
وبعد ميل رأوا بوضوح دخانًا يتصاعد من كوخ جليدي مقفول بباب خشبي، فأخذوا يصيحون، وخرج رجلان من الكوخ، وأدرك بينيلون أن أحدهما بيير نوكيه.
فصاح: «بيير!»
ووقف بيير متسمرًا من الدهشة وغير واعٍ لما يدور حوله. ونظر أندريه فازلينج إلى رفيق بيير نوكيه بقلق ممزوج بفرح قاسٍ؛ إذ لم يكن لويس كورنبوت.
وقال بينيلون: «بيير! هذا أنا! وهؤلاء كل أصدقائك!»
عاد بيير نوكيه إلى رشده واحتضن رفيقه القديم.
وقال جون كورنبوت بنبرة ملؤها اليأس العميق: «ماذا عن ابني … ماذا عن لويس؟»