المنزل الجليدي
في الثالث والعشرين من أكتوبر، انطلقت القافلة في الحادية عشرة صباحًا في ضوء القمر الساطع، واتخذوا احتياطات في هذه المرة بحيث تستمر الرحلة مدةً أطول إذا اقتضت الضرورة. تبع جون كورنبوت الساحل وعرَّج شمالًا، ولم تترك خطوات المسافرين أي أثر على الجليد الصلب. واضطر جون كورنبوت إلى إرشاد نفسه بنقاطٍ حدَّدها من مسافة؛ فأحيانًا يثبِّت نظره على تل يعج بالقمم، وأحيانًا يركِّز على جبل جليدي ضخم رفعه الضغط عن الحقل الجليدي.
توقفوا للمرة الأولى بعد السير خمسة عشر ميلًا، وجهَّز بينيلون للتخييم، ونصبوا الخيمة قبالة كتلة جليدية. ولم تعانِ ماري معاناةً شاقة في هذا البرد القارس؛ لأن الرياح لحسن الحظ قد سكنت، وأصبحت محتمَلة إلى حدٍّ كبير؛ إلا أن الفتاة الشابة اضطرت مرات عديدة إلى النزول من الزلَّاجة كي تمنع الخَدَر من إعاقة دورتها الدموية. وفيما عدا ذلك، فقد وفَّر لها الكوخ الصغير المغطَّى بالجلود أقصى راحة ممكنة في مثل هذه الظروف.
وعندما كان يحُلُّ الليل، أو وقت النوم على الأحرى، كان يُحمل الكوخ الصغير تحت الخيمة فيصبح غرفةَ نوم لماري. تكونت وجبة المساء من لحم طازج ولحم البيميكان المجفَّف والشاي الساخن. وكان جون كورنبوت يوزِّع على كل فرد في الجماعة قطرات من عصير الليمون تجنبًا للإصابة بمرض الإسقربوط. وبعد ذلك كانوا ينامون جميعًا في حماية الرب.
وبعد ثماني ساعات من الراحة، استعدوا لاستئناف المسيرة، وقُدِّم للرجال والكلاب فطورٌ مميَّز، ثم انطلقوا. ومع تزايد تماسُك الجليد تمكَّنت الحيوانات من جر الزلَّاجة بسهولة، ووجدت الجماعة صعوبةً في مواكبة الحيوانات في بعض الأحيان.
إلا أن البحَّارة سرعان ما بدءوا يعانون مشكلة؛ ألا وهي انبهار بصرهم. وتجلَّى التهاب العين لدى أوبيك وميزون؛ فضوء القمر الساطع على المساحات البيضاء الواسعة يسبب حرقة العين، ويسبب لها ألمًا لا يُحتمل.
حدثت نتيجة غريبة لانكسار الضوء؛ فأثناء سيرهم، كانوا عندما يعتقدون أنهم على وشْك أن يضعوا أقدامهم على تل صغير يَخْطُون نحو الأسفل، وتسبَّب ذلك في سقطات كانت لحسن الحظ غير خَطِرة حتى إن بينيلون جعلها فرصًا للمزاح، ومع ذلك، أخبرهم بألا يَخْطُوا خطوة دون تحسُّس الأرض بالعصا ذات الطرف الحديدي التي يحملها كلٌّ منهم.
وقُبيل الأول من نوفمبر؛ أي بعد عشرة أيام من انطلاق القافلة، كانت القافلة قد قطعت خمسين فرسخًا صوب الشمال. طال الجميعَ تعبٌ شديد، وأُصيب بصر جون كورنبوت بالانبهار على نحو مؤلم، وتغيَّرت قدرته البصرية تغيرًا ملحوظًا. واضطر أوبيك وميزون إلى تحسُّس الطريق؛ لأن أعينهما التي أحاط بها الاحمرار كانت تعاني الحرقة بفعل انعكاس الضوء الأبيض. أما ماري فقد حفظها البقاء في الكوخ من هذا الحظ العاثر؛ إذ بقيت داخله كثيرًا قدْر الإمكان. وقاوم بينيلون كل هذه المتاعب بفضل شجاعته التي لا تُقهر. أما أندريه فازلينج فقد كان في أفضل حالاته، ولم يؤثر فيه البرد ولا انبهار البصر؛ فكانت بنيته الحديدية قادرةً على تحمُّل هذه المحن، وكان في سريرته سعيدًا برؤية الإحباط ينتاب أشد الرفاق، وتوقَّع بالفعل اللحظة التي سيضطرون فيها إلى العودة إلى السفينة مرة أخرى.
في الأول من نوفمبر أصبح من الضرورة القصوى التوقُّف يومًا أو يومين، وبمجرد أن اختاروا مكان التخييم شرعوا في تجهيزه، وقرروا تشييد منزل من الجليد يرتكز على إحدى صخور اللسان. وعلى الفور حدَّد ميزون الأساسات؛ حيث بلغ الطول خمس عشرة قدمًا، وبلغ العرض خمس أقدام. وباستخدام السكاكين قطع بينيلون وأوبيك وميزون قِطعًا جليدية كبيرة وحملوها للمكان المختار، وبدءوا البناءَ على غرار تشييد البنائين للجدران الحجرية. وسرعان ما بلغ ارتفاع الأساس وسُمكه قُرابة خمس أقدام؛ فالخامات كانت متوفرة، وكان من اللازم أن يكون البناء صلبًا على نحو يضمن بقاءه عدة أيام. اكتمل بناء الجدران الأربعة في غضون ثماني ساعات، وتركوا فتحة عند الجانب الجنوبي، وتدلَّى قماش الخيمة الموضوعة على الجدران الأربعة على تلك الفتحة وغطَّاها، ولم يبقَ سوى تغطية البناء بكتل كبيرة لتكون سقفًا لهذا البناء المؤقت.
اكتمل المنزل بعد ثلاث ساعات أخرى من العمل المضني، ودخلوه جميعًا وقد غلبهم التعب والإحباط. وعانى جون كورنبوت معاناة بالغة لدرجة أنه عجز عن السير، أما أندريه فازلينج فقد بالغ ببراعة في إظهار مشاعره الكئيبة لدرجة أنه انتزع وعدًا من كورنبوت بعدم مواصلة البحث في هذه الأماكن المخيفة. ولم يعلم بينيلون بأي من القديسين يستغيث؛ فقد رأى أنه من غير المقبول ومن الجبن التخلي عن البحث عن الرفاق لأسباب غير ذات قيمة، وحاول إقناعهم بالعكس لكن دون جدوى.
وعلى الرغم من أنه قد تقرَّرت العودة، فقد أصبحت الراحة ملحة للغاية حتى إنهم على مدار ثلاثة أيام لم يقوموا بأي استعدادات للمغادرة.
وفي الرابع من نوفمبر بدأ جون كورنبوت يدفن عند نقطة على الساحل المؤن التي لم يَعُد لها فائدة، ووُضعت لوحة توضِّح مكان مخزن المؤن تحسبًا للبحث مجددًا في هذا الاتجاه، وإن كان ذلك غير مرجَّح. وكانوا منذ أن انطلقوا في رحلتهم يصنعون مثل هذه المخازن كي يضمنوا وجود المؤن الكافية في طريق العودة دون أن يُرهقوا أنفسهم بحملها على الزلَّاجة.
حُدِّدت العاشرة صباحًا من الخامس من نوفمبر موعدًا للمغادرة، وغمر حُزنٌ عميق تلك الجماعةَ الصغيرة. وقاومت ماري دموعها بصعوبة عندما رأت خالها محبطًا تمامًا؛ لقد عانى ويلات كثيرة بلا فائدة، وذهب العمل المضني أدراج الرياح، وأصبح بينيلون نفسه عنيفًا في تلك الحالة المزاجية السيئة، ولعن الجميع ولم يكفَّ عن صب جام غضبه على ضعف وجبن رفاقه الذين كانوا أكثر خوفًا وتعبًا من ماري التي كانت مستعدة للذهاب إلى نهاية العالم دون شكوى، على حسب قوله.
أما أندريه فازلينج فلم يستطِع إخفاء فرحه بهذا القرار، وأظهر اهتمامه بالفتاة أكثر من أي وقت مضى، ومنحها أيضًا الأمل في البحث من جديد بعد انتهاء الشتاء رغم علمه أنه سيكون قد فات الأوان!