الفصل الثاني
١
هبطت بنا الطائرة المصرية في مساء يوم الأربعاء ٣٠ أغسطس ١٩٨٩م في بلغراد وكانت تقلُّ الوفد الرسمي المصري برئاسة الدكتور بطرس غالي وزير الدولة للشئون الخارجية، وفريق الترجمة الفورية والتحريرية، والفريق الإعلامي (من الإذاعة والتليفزيون وبعض الصحف) وكانت تلك أول مرة أزور فيها يوغوسلافيا، وآخر مرة — بطبيعة الحال — فكنت توَّاقًا إلى معاينة الحياة في أوروبا الشرقية في ظل النظام الاشتراكي، وكانت وزارة الخارجية قد جمعت عددًا متميزًا من المترجمين، معظمهم ممَّن سبق لي العمل معهم، إما في المؤتمرات الدولية أو في الأمم المتَّحدة، وكان بعضهم من تلاميذي السابقين مثل فايزة كامل وسلوى عبد العظيم وأحمد عبد الجواد وزين الدين الجعفري البسطويسي وليلى زيدان، ولو أنَّ الأخيرين كانا ضمن بعثة الإذاعة، إلى جانب فاطمة برادة ونور عطية، والبعض الآخر من أقراني مثل فكرية السويفي — زميلتي القديمة في الدراسة الجامعية — ومثل محمد عبد النبي المتخصِّص في اللغة الفرنسية، كما كان الفريق يضم نخبة من أفضل المترجمين الفوريين من اللغة الإنجليزية وإليها مثل رفعت شلتوت وهدى أبو الفرج وهما من تلاميذي السابقين في جامعة القاهرة وعبد الله فريد وسميرة عبد السيد وهما من أقراني النابهين، وحشدًا من كتَّاب الاختزال والآلة الكاتبة العربية.
واستُقبِلنا استقبالًا شبه رسمي في المطار، وكان المطر يَنهمِر فيُحيل سطوح مباني المطار وأرضيته إلى مرايا لامعة تعكس الأضواء التي انتثرت في الظلام، وانطلقت بنا حافلة خاصة، بدَت جديدة وفائقة النظافة غامرة الأضواء، إلى الفندق الذي تقرر نزول «العاملين» به، وهو — كما علمت فيما بعد — بيت من بيوت الشباب أو الطلاب، يمكن اعتباره «مدينة جامعية» كما نقول في مصر (ويُسمونه «الحي الجامعي» في العراق) ولكنه كان يضارع الحافلة في جدته البادية ونظافته الفائقة، وكان الشبان الذين استقبلونا وأتمُّوا لنا إجراءات الجوازات والجمارك يَرتدون زيًّا موحدًا وكاسكيتات تحمي عيونهم من المطر، ويتحرَّكون بنظام الفريق المتجانس الذي يعرف كل فرد فيه موقعه ومهمته، ولم يتركونا حتى استقرَّ كل واحد منا في غرفته، واطمأن إلى برنامج العمل في صبيحة اليوم التالي، خصوصًا موعد استخراج بطاقة الهُويَّة الخاصة بالمؤتمر، وترتيبات الانتقال من الفندق إلى مقر المؤتمر والعودة.
وبعد الإجراءات التي انتهينا منها بسرعة، قرَّرنا تقسيم الفريق إلى قسمَين، الأول يعمل من الثامنة صباحًا حتى الرابعة، والثاني من الرابعة حتى الثانية عشرة ليلًا، لأنَّ العمل كان يَقتضي وجود فريق الترجمة طول الوقت؛ وذلك في الأيام الأربعة الأولى، ثم يتبادَل الفريقان النوبات، وكنت أرأسُ نوبة الصباح، لكنَّنا حين ذهبنا إلى قاعة المترجمين وجدنا أن به فريقًا جزائريًّا، مُوازيًا لفريقنا، يشغل جميع الأماكن! وشرحت لنا المشرفة على السكرتارية واسمها «سنا» (قالت: إن معناه الربيع) أن الفريق الجزائري وصل قبلنا على متن طائرة عسكرية خاصة، وأنَّ الفريق سوف يُساعدنا، ووعدت بتدبير أماكن لنا نعمل فيها، ولم تمضِ ساعة حتى أعدت لنا مَكاتب وكراسي في شرفة بديعة مسقوفة، بها نوافذ واسعة نطلُّ منها على المدينة بحدائقها وظلال الصيف المتراقِصة، وبدأنا العمل بمراجعة نصٍّ كان الجزائريون قد ترجموه، واعترض عليه المندوبون العرب، وأشدُّ ما يقلق المترجم هو أن يعترض أحد الدبلوماسيين على الترجمة، فيُهدده في مصدر رزقه أو «يقطع عيشه» عمليًّا حتى لو كان المترجم على حق؛ إذ يكفي أن يقف دبلوماسي شابٌّ لا يجد ما يَعترض عليه من حيث المضمون في إحدى الوثائق، ولكنه يريد أن يثبت وجوده فيقول: إنَّ الترجمة العربية خاطئة أو إن اللغة العربية ركيكة، فتقع الطامة على رأس المترجم، ولذلك حرصت في مراجعتي أن أقتصر على تصحيح أية أخطاء حقيقية (أي أخطاء في المعنى)، ولما لم أجد فيها ما يَستحق الذكر أو ما يَقتضي إصدار تصويب خاص أدركت أنَّ سر الاعتراض يرجع إلى اختلاف لغة أهل المشرق العربي عن لغة أهل المغرب، فبيَّنت ذلك للمُشرفة، وقلت لها: إن الاعتراض صياغي بحت، ولا يمس قدرة المترجمين على فهم النص أو التعبير عن المعنى، وكنت في هذا صادقًا غير مدفوع بالتضامن مع أبناء المهنة الواحدة، وإن كان تعاطفي مع المترجم — أي مترجم — وتضامني معه في مواجهة «أصحاب السلطان» صفة لا أنكرها، مهما اختلفت معه وذهبتُ غير مذهبه في الترجمة، ومرَّت «الأزمة» بسلام ولو أن المشرفة كانت تختصنا بالوثائق المهمة، الأمر الذي زاد من أعباء الفريق المصري.
ذكَّرتني تلك الحادثة بآخر مرة عملت فيها بالترجمة في «لجنة التحرير» التابعة لمنظَّمة الوحدة الإفريقية في دار السلام بتنزانيا في يوم من أيام ١٩٧٩م؛ إذ كنت مارًّا في مطعم الفندق حين نادتني سميرة عبد السيد التي كانت تتناول الغداء مع آن ماري جريس وسامية خلاف، وهن مِن أقدر المترجمات الفوريات في العالم العربي، وقالت لي: إنَّ المندوب الليبي اعترض على لغتك العربية، وحاولت أن أعرف التفاصيل منهنَّ ولكنهنَّ اعتذرنَ لعدم إجادتهن العربية (فهنَّ يترجمن إلى الإنجليزية والفرنسية) فسعيت إلى المندوب الليبي فوجدته شابًّا صغيرًا يتَّقد حماسة وحميَّة، فسألته عن سر اعتراضه على لغتي؛ فقال إنني أقول «أحاطت اللجنة علمًا بكذا …» دون أن أذكر المفعول به؛ فالصحيح في رأيه أن الفعل «يحيط ﺑ» فعل متعدٍّ يقتضي مفعولًا به، كأن تقول أحاط فلانٌ فلانًا بكذا، وقلت له إنَّ اللجنة هي التي علمتْ ولم تُحطْ أحدًا بشيء، فقال إذن أخطأت! فقلت له بل إن الفعل مُتعدٍّ ولازم معًا، وضربت له نماذج من القرآن منها آية الكرسي الشهيرة ومنها أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِين (النمل: ٢٢) ولكنه أصرَّ على موقفه وعلا صوته وتهدج، فحاولت تهدئته فسألته ماذا يريدني أن أقول؟ فقال «أنا أقبل أي شيء إلا الأخطاء في اللغة العربية!» فقلت له إنني أوافقه وأشاركه الغيرة على العربية، ومكثت معه ساعة أو بعض ساعة في نقاش نجح في امتصاص غضبه، ولم أتركه حتى بدا عليه الرضا والارتياح، وإن كان الهامس في أعماقي يهمس بأن تلك آخر زيارة لي للجنة التحرير في دار السلام. وثبت صدق الهامس!
وبعد تعب اليوم عاد أفراد الفريق إلى الفندق، ومكثنا أنا وأحمد عبد الجواد للإجابة عن استفسارات بعض المسئولين، ثم هبطنا إلى بهو مقر المؤتمر، وتجوَّلنا في المكتبة العامرة بالكتب بشتى اللغات، فاشتريت لنفسي «أطلس العالم» الجديد بثمن زهيد، ومجموعات من الشعر المكتوب باللغة الصربية وبعض اللغات السلافية، مترجمة إلى الإنجليزية، ثم قرَّرنا المكوث حتى المساء، فتناولنا الطعام في الكافتيريا المُلحقَة بقاعة المؤتمرات، وبدأ أحمد عبد الجواد حديثه الذي كشف لي عن نوع الصراحة الذي أعنيه؛ أي الصراحة الفكرية أو قل المنهج القائم على اليقين، والذي أجمله في تعبير «الحسم بين الأبيض والأسود!»
وذكرت ما حدث قبل سنوات في ضاحية العجمي بالإسكندرية على شاطئ البحر، حين اشترى سمير سرحان قطعة أرض من أحد الأعراب الذي كان قد وضع يده على مساحة شاسعة في منطقة تدعى «أبو يوسف» — واسمه هيبة عوض — ثم بنى لنفسه عليها منزلًا من الحجر، وتبعه مثلما سبقه عشرات من أصدقائنا — من الكُتَّاب والفنانين وغيرهم — حتى نشأ حيٌّ سكنيٌّ كامل، واضطرَّت الحكومة آخر الأمر إلى الإقرار بالأمر الواقع وأصبح حي «أبو يوسف» داخل «التنظيم» ويتمتَّع بجميع المرافق التي تتمتع بها الأحياء التي بُنيت بأساليب الروتين واستغرق بناؤها عشرات السنين. ولكن الفارق هنا هو أن أحمد عبد الجواد لم يشغل نفسه أصلًا بالشكليات، بل سأل السؤال الجوهري: هل هو حرام؟
٢
ولم أعترض ولم أُناقش؛ فمِن العبث المناقشة في هذه الأمور؛ فالرجل مؤمن بالله وبتفسيره الخاص لما أنزل الله في كتابه، والله أعلم من أين أتى بهذا التفسير الذي شغَلني حتى ذُهلت عن بقية القصة، ولم أُفق إلا على صوته وهو يُردِّد أنه وأولاده في ضنك، ثم أشار إلى سيارتي قائلًا: «موش عايز سواق؟» ولم أجب بل أخرجتُ ورقة مالية دفعت بها إليه وهو يعترض ويؤكد لي أنه «في خدمتي» وأنني أستطيع أن أجده متى شئت في هذا المقهى.
كان أحمد مجدًّا مجتهدًا، وكانت حياته الجامعية في الإسكندرية مثالًا للسعي نحو تعويض حرمان الطفولة والصِّبا، فوقف نفسه على الدرس حتى تميز — مثل غيره من أبناء البلدة في الكليات الأخرى — وحصل في الفصل الدراسي الأول على أعلى تقدير، وعندما كنا نَلتقي في الصيف في رشيد كان الجميع يَتبادلون أخبار دراستهم وتفوُّقهم، وعلمت منهم أن حياة الطلاب «المغتربين» في الإسكندرية تنحصر في الدرس، وتخلو مما قد يشغل أبناء المدينة من مشاغل المراهقة أو اليفوع، فيما عدا زيارات بعض الفتيات لهم، وهو ما كان البعض ينفرون منه ويخافونه، ويَقبله البعض باعتباره انحرافًا عابرًا «مفهومًا»، وكان الحديث عنه يَشي بالإحساس بالذنب، وبوصمة الخطيئة والعار، ولكن الامتياز في الدراسة جلب الخير للجميع، في صورة مكافأة امتياز شهرية تدفعها حكومة الثورة تشجيعًا للعلم والتعلم، فعرف أحمد طريق الأطعمة الفاخرة وقوَّى جسده، بعد أن ظل سنينًا نحيلًا ضئيلًا قصيرًا، بل إنَّ المكافأة الشهرية كانت تكفي لاستئجار شقة كاملة للأسرة كلها، فانتقل الجميع إلى الإسكندرية، حيث وجد الوالد عملًا في مسجد صغير (زاوية) في السيَّالة، وهو حي شعبي مجاور لرأس التين في منطقة «بحري»، وحيث عمل أخوه في إحدى الشركات الحكومية (قطاع عام) فابتسمت الدنيا للأسرة، وعندما وصل أحمد إلى السنة الرابعة (تخصص مبيدات) وكان أول الدفعة، جاءه عرض للعمل في مزرعة سلماوي بك (والد محمد سلماوي الكاتب الشهير) القريبة من رشيد، وكنا في عطلة منتصف العام (١٩٥٨م) حين وجدته يدقُّ باب منزلنا في العجوزة، المكان الوحيد الذي يعرفه في القاهرة، ويقص عليَّ القصص.
واصطحبته إلى الفندق الذي كان سلماوي بك قد حجز له فيه غرفة، تمهيدًا للمقابلة الشخصية لإتمام إجراءات التعيين، وكان فندق «منيرفا» في شارع سليمان (طلعت حرب حاليًا) وكان أجر الليلة خمسين قرشًا كاملة. وجلسنا ساعة نتحدث فحكى لي عن فتاة بيضاء سمينة من جيرانه في المنزل تزورهم في شقتهم، وأنه استيقظ ذات يوم على شقة بطيخ تمس الفتاة بها شفتَيه، وسألني إن كان هذا دليلًا على الحب، فسألته أنا إن كان يحبُّها، فقال لي إنها بيضاء، كأنما حسم الأمر بهذه الإجابة، فقد كان هو أسمر اللون شديد السُّمرة، فعدْتُ أسأله إن كان قد طلب الخروج معها — فهذا ما كنا نفعله في القاهرة — فقال لي إنَّ الخروج مكلِّف وهو يضيِّع الوقت فيما لا غَناء فيه، وهو يحتاج إلى كل دقيقة للدرس، حتى إنه لا يقرأ الصحف مطلقًا، ولا يستمع إلى الراديو، ثم أضاف قائلًا إنَّ للفتاة كابينة على شاطئ البحر وقد دعته إلى زيارتها يومًا ما والنزول إلى البحر لو أراد! وسَأَلْتُهُ إن كان سيفعل ذلك فقال بسرعة «بحر إيه يا عم! احنا في إيه ولا إيه!» وبعد أن اجتاز المقابلة الشخصية بنجاح في اليوم التالي رحل إلى المزرعة، ولم أقابله حتى تخرج وعين معيدًا في الكلية.
وفي أوائل صيف عام ١٩٦١م فاجأني ثانيًا بزيارتي في المنزل، وكنت وحدي بعد أن سافرت الأسرة إلى رشيد، فقضى معي أيامًا في شقتنا، وكان معه أوراق كثيرة بالإنجليزية يريد أن يفهم ما فيها، وبعض استمارات التقديم إلى الجامعات الأوروبية والأمريكية، فقرأتها معه وترجمتها له، وساعدته في ملء الاستمارات، واصطحبته إلى إدارة البعثات لأنه كان مرشَّحًا للسفر في بعثة دراسية للحصول على الدكتوراه في علم المبيدات الحشرية، وقص عليَّ كيف أنه يعمل بعض الوقت «خبيرًا» بشركة سيكلام للألبان، ويتقاضى منها مرتبًا مجزيًا، وأنه ترك العمل لدى سلماوي بك، كما حكى لي عن قصة غرامه بإحدى الفلاحات في مزرعة البيك وأسهب في وصف ما جرى بينهما، ثم انتهى إلى حبيبته البيضاء قائلًا إنها تشغلُه الآن عن كلِّ ما ومَن عداها! واصطحبته ذات يوم إلى شقة الأستاذ أحمد السودة الذي كان قد عُيِّنَ وكيلًا للنيابة (في النيابة الإدارية المستحدثة في آخر الخمسينيات) وكان أخوه عاطف طالبًا في كلية الزراعة فقابَلَه وتحادَثَ معه، وسأله الأستاذ أحمد السودة عن رأيه في الشعر الذي أكتبه فنظر إليه صاحبنا في دهشة وقال «شِعر إيه؟» فضحك الأستاذ أحمد وقال له لا بد أن وراءه قصص غرام! فضحك صاحبنا باستخفاف وقال: «لا … لا!» وتعجب الأستاذ أحمد من رأي صاحبنا في حياتي العاطفية وسخريته منها، ولم يُدرك مرمى صاحبنا إلا حين قال في النهاية: «كله كلام … كلام!» وأما أنا فلم أدرك ما يعنيه حقًّا إلا حين زارني في أواخر شتاء ١٩٦٢م بعد أن حصل على البعثة، فزُرنا مكتب البعثات لإتمام الإجراءات بمساعدة أحد أصدقائنا الرشيديين وهو حسن الإبياري (وهو قريب لأسرتنا قرابة بعيدة) وجلسنا نتناول الشاي في مقهى إيزليتش بميدان التحرير، فحكى لي القصة، وأوجزها فيما يلي:
عندما حصلتْ حبيبته البيضاء على دبلوم التربية عملتْ مدرِّسة في إحدى مدارس الإسكندرية القريبة من البحر، وجعلت تُشجِّعه على الخروج معها وهو متردِّد، فغرام الفلَّاحة كان لا يزال ماثلًا في ذهنه بعد أن نجا من أهلها بشقِّ النفس، فذكَرَت له أن أباها قد استأجر لها شقة وفرشها بالفرش اللازم وأنه مدعوٌّ لزيارتها، فخاف وتقاعس، ولكنها جعلت تُلوِّح له بسعادة غامرة إن هو «استجاب إلى نداء قلبه»؛ ومن ثَمَّ قَبلَ أن يصحبها فقط إلى الكابينة، فهي خالية في الشتاء، ومرة بعد مرة زال خوفه واطمأن، فأفضى بعضهما إلى بعض، وكانا يقضيان الساعات في أحاديث لا تنتهي وسعادة لا توصف، فأحس بأن الدنيا دانت له، ومرت الشهور وهو ينعم بصحبتها وخلوتها في الكابينة، حتى جاء يوم أغبر، إذ اقتحم الكابينة عليهما مساءً بعض أفراد أسرتها وأوسعُوه ضربًا ولَكْمًا حتى كاد أن يَفقد الوعي، وهي تصيح إنه زوجي وتبكي وتُولول، ولم تفلح استغاثتها في طلب العون؛ فالشاطئ مهجور، ولم يتوقف الضرب إلا عندما صاح أحدهم «الولد مات!» وقال لي إنه خاف أن يَفتح عينيه خشية استئناف الضرب، وظلَّ في ذهوله فسمع أباها يسألها إن كانت قد تزوجته حقًّا فأجابت وهي ما زالت في نشيجها العصبي إنَّ الأمر كذلك، وأخرجت لهم من حقيبتها ورقة زواج عرفي (لم يكن صاحبنا يدري عنها شيئًا) فهدأت ثائرة الوالد، وقال إذن نُوثِّق الزواج شرعيًّا، وحملوا صاحبنا حملًا إلى شقة صغيرة على البحر، وقيل له إن الأسرة تُؤجرها للمصيِّفين، ولو أن عقد الإيجار مكتوب باسم الفتاة، وفيها عُقد القران، فبات ليلته يتوجَّع ويتألم دون أن يشكو، وكان ينام نومًا متقطعًا وكلما فتح عينيه رآها تبكي، «وتلطم خديها» فرقَّ لحالها وأشفق عليها، وعندما طلع الصبح وجدها لا تزال جالسة تبكي وقد أعَّدت له الشاي، وقبل أن يفتح فمه قالت له إنها ستنتحر حزنًا على ما أصابه، ولكن عليه أن يُطلِّقها أولًا؛ فهي لا تقبل زواجًا قسريًّا، وقالت إنها المسئولة عن كل ما حدث بسبب حبِّها له، فذنبها الوحيد هو الحب، وأقسمت أغلظ الأيمان بأنها كانت تتمنَّى أن تتلقى الضرب بدلًا منه، وبأنها لم تكن تدري أن أهلها يعلمون، وقال لي إنه شعر في أعماقه بسعادة نادرة — رغم كل شيء — فها هي امرأة تحبُّه لذاته، وتُعذِّب نفسها من أجله، وعندما سألها عن الورقة «المُنقِذة» قالت إنها كانت قد أعدتها ﻟ «الطوارئ»، فنحن في مصر، ولا نعرف ما يأتي به الغد، فاقتنع، وعندما حاول الوقوف خذلته قدماه، فتقدمت لمساندته حتى سار إلى الحمَّام، ثم أعَّدت له الإفطار (وكان فيه ما لذ وطاب)، وقالت له أثناء الإفطار إنهما لا حاجة بهما إلى الخروج اليوم، وإن عليهما ألا يُناقشا المستقبل أبدًا، بل أن يهبا النهار للشفاء من كابوس الأمس، وجعلت تُذكِّره بحبها له وهو طالب وأحاديثها الرقيقة قبل «الزواج» فدبَّت الحياة في أعضائه من جديد وأقبل على زوجته يمسح دموعها ويؤكِّد انقشاع السحابة السوداء.
ولم تمضِ أيام حتى علم بنبأ نجاح ترشيحه للبعثة، فلم يخبر أحدًا من أسرته ولم يُخبر زوجته، وها هو في القاهرة ليستكمل الأوراق ويستخرج جواز السفر، وسألني عما عساه يفعل فلم أُجب؛ إذ لم أكن قد استوعبت القصة تمامًا، وكانت الصور التي استدعاها حديثه غائمة في عيني، كما كانت الحقائق مُتداخلة، ولكن الذي هزني هو فرحه الطفولي بحب زوجته إذ كان يقول في سعادة «دي بتحبِّني يَالَهْ!» (ياله = يا ولد باللهجة الرشيدية وهي تُقابل يا بوي بالصعيدية) وكان يُلمِّح أثناء رواية «العلقة» (الضرب المبرِّح) إلى أن أهلها تجنَّبوا ضربه على وجهه أو على رأسه، مما يدل على «ذوق» وتحضُّر، وقال إنَّ غير هؤلاء كان يمكن أن يقتلوه! ومع ذلك فلم أفهم سرَّ تكتُّمه خبر البعثة، فهو ذاهب إلى جامعة نبراسكا بالولايات المتحدة الأمريكية، وذلك ما لا يتأتَّى للكثيرين، وله أن يزهو ويفخر، وقلت له ذلك فلم يُحِر جوابًا وحلَّفني ألا أقول لأحد، فقلت له إن الجميع سوف يعرفون حتمًا، عاجلًا أم آجلًا — كما يقولون — والأفضل للأسرة ولزوجته أن تعرف حتى تُعدَّ للأمر عُدَّته، لكنه ألحَّ وأصرَّ على الكتمان فقلت إن له ما أراد. وانتهى أحمد من جميع الإجراءات بسرعة قياسية، فهو مثابر عنيد، وعاد إلى الإسكندرية.
إنها قصة عادية تتكرر كثيرًا، ولقد تكررت كثيرًا في حياتي مع أصدقاء الصِّبا وغيرهم، وهي من القصص «المفتوحة» التي لا نعرف لها نهاية، ولا تقبل الحكم أو التحليل باللونين الأبيض والأسود! وكثيرًا ما أتساءل في نفسي عن حقيقة ما حدث وقد رويته بصدق حسبما سجلت آنذاك من مذكرات صادقة، وأصحابها أحياء (معظمهم على الأقل) وقد يقرءون هذا الكتاب فيعجبون، وقد يختلف بعضهم معي في تفسيري للأحداث أو في رصدها، فأنا أروي القصة من وجهة نظر فرد واحد، وأتُرجِم لغته العامية إلى فصحى، وأختصر وأوجز وأضغط، فأختار وأحذف مما وَسِعَتْه الذاكرة، وأستكمل ما ضاع منها من معرفتي بصاحبها وأهله وبالإنسان؛ أي إن لي وجودًا — شئتُ أم أبيْتُ — يَنفي أو يجعل من العسير إصدار حكم أو رأي نقي من الشوائب، فكيف يُفتي مُفْتٍ في أحوال الإنسان ويطلب اليقين وهو لا يستطيع حتى أن يتحقَّق مما حدث؟
أين الأبيض والأسود في هذه القصة؟ لو كانت من نسج الخيال لأَضَفْتُ الظلال لتأكيد اللونين وفق ما يتراءى لعيني، ولأوْحَيْتُ للقارئ في ثنايا السرد بما أريده أن يتعاطَف معه وما أريده أن ينفر منه، فالقصة الخيالية حبل لا يُمكن شده إلا إذا أمسك القارئ بطرفه الآخر، ولكن الحياة تتكوَّن من حبال مقطوعة أو ذات أطراف سائبة، وقد يكون من اليسير أن ندين البطل أو البطلة وفق معايير دينية نحكم بها على الظاهر، ولكنَّ الظاهر خادع بطبعه، فقد يكون ما نرى ناقصًا، والنقص يبتعد بالرواية عن الصدق المنشود؛ إذ قد تكون لما خفي عنا دلالة تغير تمامًا من معنى ما نشهد، والله سبحانه وتعالى هو الذي يحكم على ما ظهر وما بطن، وهكذا سأدعو القارئ إلى النظر في «فجوات» القصة التي رواها أحمد، والاحتمالات التي يمكن أن تترتب على ملء هذه الفجوات، ولنبدأ بحكمنا باللون الأسود على الخطأ الظاهر والمؤكد، وهو المعاشَرة قبل الزواج.
نعلم أن الأسرتين يسكنان معًا في المنزل نفسه، وأنهما يتزاوران، وأن الفتاة البيضاء السمينة كانت تدخل إلى غرفة أحمد الطالب، وتُوقظه من النوم بشقة بطيخ، تحت سمع وبصر الأسرتين، ونعلم أن ذلك استمر سنوات، ومن المحال ألا يعلم أهل الفتاة بمَوقفها حتى وإن غابت عنهم التفاصيل، أو أن يجهل ذلك أهله؛ أي إن شرط العلانية متوافر منذ البداية، إلى جانب الرضا والقبول بطبيعة الحال، حتى ولو تصور أحمد غير ذلك، وسعد بجوِّ السرِّية الذي يُولع به المحب في فترة المراهقة، فيظن أن أحدًا لا يعلم والجميع يعلمون، خصوصًا في مجتمعاتنا العربية المغلقة، كما نعلم أن أباها كان يوافق على مشروع زواجها منه وإن لم يُعلن ذلك المشروع، وأنه استأجر شقة خصيصًا لها وأثثها انتظارًا ليوم تخرُّجه وتنفيذ المشروع، فإذا افترضنا أن الوالد كان يعرف بمواعيد لقائهما، وإن كان يستبعد تجاوزهما الحد المعروف، فالجميع من المؤمنين الذين ينفرون من الخطيئة ويدينونها، وإذا افترضنا أنه لم يكن يعلم أنهما يذهبان إلى الكابينة وأنه حين علم غلى الدم في عروقه مثل أيِّ أبٍ مصري ففعل ما فعل، إذا افترضنا هذا وذاك وجدنا أن الخطأ الذي ارتكبه أحمد هو الزواج الفعلي قبل الزواج الرسمي، وهو خطأ بكل المقاييس، ولكن درجة السواد فيه تقل حين نذكر كل هذه العوامل مجتمعة، وتقلُّ كذلك حين نُشرك الفتاة في المسئولية، فالواضح أنها عاشت قصة حب عنيفة دفعتها إلى إغواء أحمد، وقد يشتط بنا الخيال فنفترض أن أحد أفراد الأسرة هو الذي أعطى الفتاة مفتاح الكابينة وكان يعلم بما يحدث، مما يُقلل أيضًا من درجة اللون الأسود، ولسوف تظلُّ هذه الاحتمالات قائمة ما قامت للإنسان قائمة على الأرض، وما دام البشر يخطئون ويتوبون، وما داموا يشتركون في تشكيل حياتهم معًا، فحياة أحمد لا تنفصل عن حياة أسرته الفقيرة، وربما كان يخشى الزواج على الرغم من نيته الصادقة فيه وحبه للفتاة بسبب التزامات مالية يخاف أن ترهق أسرته، فلقد أصبح عائلها الأول في الإسكندرية، وأخواته يحتجن إلى مساعدته المالية، والبنت لها الأولوية في مجتمعنا، أو قل إن ذلك هو ما درج عليه. نعم! إن ظلال السواد تخفُّ كثيرًا كلما أمعنَّا النظر في هذه القصة — سواء من وجهة نظر الفتى أو وجهة نظر الفتاة — ونحن نطلُب المزيد من العلم حتى نستطيع إصدار الأحكام، ولكن العلم الذي نطلبه محال، فهو يتضمن العلم بالظاهر والباطن وهو ما لا يُحيط به إلا الله سبحانه وتعالى.
لقد أدنْتُ السائق الذي يسرق مخدومه، وأدنْتُ الخاطئين وفقًا لما أعلم من علم، ولكن اليقين في الحالين بعيد المنال، ولذلك تظلُّ شكوكي قائمة في اللونين الأبيض والأسود، ويظل حذري كبيرًا من اليقين في أحكامي؛ فالبشر خطَّاءون، والأجدر بالخطَّاء ألا يحكم على الخاطئ.
٣
والواقع أنني لم أكن أريد هذا الاستطراد، بل كنت أريد التركيز على مفهوم القيمة نفسها، وربط هذا المفهوم بموضوع الأبيض والأسود — موضوع هذا الفصل من الواحات — ولكن فكرة الأولوية فرضت نفسها فرضًا؛ إذ لا يوجد في الدنيا ما يُمكن اعتباره قيمة مُطلَقة؛ فالقيم المطلقة مفاهيم مجرَّدة؛ أي إننا نُجرِّدها من الحياة العملية للإنسان وأحداث الدنيا الواقعية، ولذلك فهي مفاهيم يَعتمِد معناها على سياقها، وتخضع لشرائط كثيرة، وأخطر ما نُعاني منه في تفكيرنا هو نسيان ذلك السياق وتلك الشرائط، فنحن نتَّفق طالما نحينا السياق والشرائط ونَختلِف حين نُوردها ونبحثها، وأقرب الأمثلة هو خلاف المؤرِّخين في الحكم على ما فعله الظاهر بيبرس البندقداري، السلطان المملوكي الذي ترك آثارًا مجيدة في مصر ونُسجَت حول سيرته الأساطير، عندما طعن قُطُز، السلطان المملوكي الذي انتصر على التتار وكسر شوكتهم وأنقذ مصر والعالم العربي من خطرهم الداهم والذي اشتهر بصيحته المشهورة «وا إسلاماه!» فجمع الجند من حوله وحارب حتى النصر، لقد طعنه غِيلةً وغدرًا، وهُما في طريق العودة من الشام، أثناء توقُّف الجيش الظافر في بلبيس، ثم أعلن أنه أصبح السلطان الجديد، وبدلًا من أن تستقبل القاهرة السلطان المنتصر قُطُز، استقبلت وهلَّلت للسلطان الجديد «الخائن» بيبرس. لا خلاف على الواقعة؛ فالمؤرِّخون المُعاصِرون يَروُونها بدقة، ولكن الخلاف يدور حول مفهوم الخيانة — وهي الكلمة التي وضعتُ أمامها علامة استفهام. لقد طعن قائدٌ حربيٌّ بخنجره سلطانًا وثق به وعيَّنه قائدًا لفيلق من فيالق الجيش المصري، ولكن بعض المؤرخين يقولون إن قُطُز كان قد وعد بيبرس بتوليته إمارة الكرك في الشام ثم نكث بوعده ﻓ «استحق القتل»، والبعض يقول إنه وعده بجارية، ومهما يُفِضِ المؤرخون في التبرير، نظرًا لعظَمة الملك الجديد، فلا مهرَب لنا من مواجهة واقعة القتل — وأقصى ما نستطيعه هو تحديد درجةٍ ما من درجات الخيانة، وأن نحبس حكمنا — أي أن نمتنع عن إصدار حكم أخلاقي — لأننا لا نحيط بدقائق السياق الحقيقي والشرائط الفعلية التي وقعت فيها تلك الواقعة. وقس على ذلك موقفنا من وقائع كثيرة في التاريخ البعيد والقريب، فهل كان علي بن أبي طالب، وهو مَن هو في الإسلام، على حق في حروبه ضد المسلمين؟ في حربه ضد عائشة، وضد غيرها؟ وهل كانت عائشة أم المؤمنين على حقٍّ في حربها ضده؟ وهل يجرؤ أحد على إصدار حكم يمس أحدهما؟ الإجابة تكمن في مفهوم كلمة «الحق»، والعيب يكمن في تفكيرنا الذي يعامل هذا المفهوم معاملة القيَم المطلقة الخارجة عن السياق وشرائط الحياة العمَلية، والمجرَّدة عن غيرها من أنساق القيم، فنحن نريد اليقين والقطع حتى نستريح، ولذلك فنحن نقلق من مجرد طرح السؤال؛ لأن السؤال معناه التساؤل، والتساؤل قد يعني الشك، والشك مرذول، والتشكيك جريمة في نظر أصحاب اليقين، سواء كانوا في القيادة السياسية أم في غيرها من القيادات الفكرية، مع أن التساؤل هو أول شرائط البحث العلمي، في التاريخ أو في غيره، بل هو الطريق المؤكد إلى درجة ما من درجات اليقين.
وقد يجد الإنسان وهو في هذه الحالة مخرجًا في الزواج؛ فالزواج علاقة حميمة تُتيح للزوجين إذا صدقت علاقتهما تمازجًا وثيقًا وألفة دافئة، وفي ظني أن ذلك كان سبب زواج صديقي من الفتاة الأمريكية التي آنسته فأنسَ إليها، ولا شكَّ أن الزواج قضى على الضجر فترة ما، وأتاح لصديقي لونًا من الاستقرار، ولكنه كان يعني أن يتكيف مع الحياة الأجنبية وينضمُّ بحكم الزواج إلى أسرة جديدة تختلف تقاليدها وأعرافها عن كل ما درَج عليه في مصر، وكان ذلك شاقًّا في البداية، لكنه استعان بقناع خاص، وما أمهر المصري في استعمال القناع، فاستطاع تجاوز بعض العقبات بنجاح، لكنه سرعان ما واجه عقبة كبرى هزت حياته هزًّا.
هذا هو موجز القصة الموجعة، وقد يخفِّف من ألمها أن صديقي تزوج من جديد ولكن من فتاة عربية هذه المرة، ووُفِّقَ والحمد لله في هذا الزواج، وأنجب منها بنتًا جميلة، بل وترك أمريكا إلى الأبد ولم يعد يقبل الإغراء بالعودة إليها ولو في منصب أعلى، ولكن الألم — ولو خفَّ — ما زال قائمًا، وأنا حائر فيما عسايَ أن أقوله بشأن هذه القصة التي لم تنتهِ فصولها بعد، فهل أخطأ صديقي بالزواج من أمريكية؟ أم هل أخطأ بالزواج من هذه المرأة تحديدًا؟ وهل أخطأ حين رفض التكيُّف الكامل مع المجتمع الأمريكي ما دام قد قبل الحياة فيه؟ وهل أخطأ حين وقَّع استمارة بيان الحالة — وهي التي استخدمت ضده في المحاكم فيما بعد؟ وهل كان عليه أن يُصرَّ على الطلاق قبل أن يقبل دخول الابنة المتبنَّاة منزله؟ إنني أميل — بطبيعة الحال — إلى تبرئته تبرئة كاملة، ولكن موقفي هو موقف العربي الذي يعتنق مبادئه نفسها ويتعاطف معه بسبب مشاركته قيمه وشتى ظلال الأبيض والأسود في تلك القيم، ومع ذلك فسوف أجد بين القراء العرب أنفسهم من يختلف معي، وقد يجيب بالإيجاب على سؤال أو أكثر من الأسئلة الخمسة التي طرحتها. وأما القراء الأجانب — أي من غير العرب — فلا أظن أنني سوف أجد من بينهم مَن يُشاركني موقفي، فإذا وجدت بين الأوروبيين من يتعاطف معي ولو لأسباب منطقية محضة، فلن أجد بين الأمريكيين مَن يُوافقني على مساندتي لموقف صديقي، بل سيرى في القصة انتصارًا للطفولة البريئة، وتأكيدًا لحق الإنسان في الحياة بغض النظر عن أي شيء! فأنساق القيم التي تحدِّد درجات اللونين الأبيض والأسود أنساق لا تخلو من العصبيات العرقية، وهي عصبيات تتنافى تمامًا مع القيم الدينية السماوية — سواء كان ذلك في المسيحية أو الإسلام — كما تتناقض مع قيم العدالة التي تنص عليها الشرائع التي وضعها الإنسان، ولكنها قوى حقيقية بل وأحيانًا ما تكون القيم الرئيسية التي تتحكم في الأحداث لا على المستوى الفردي فقط بل على المستوى الجماعي أيضًا، على نحو ما نشهد في السياسة الدولية، فليس صحيحًا أن السياسات الدولية لا تمليها إلا مصالح الشعوب وحدها، أو مصالح «الطبقات الحاكمة» وحدها، أو حتى «مصالح» أفراد بعينهم في حكومة هذا البلد أو ذاك وحدها؛ لأن افتراض دوافع المصالح يعني أن الإنسان يُحكِّم عقله دائمًا ويختار ما يخدم «مصالحه» دون غيره، والمقصود بالمصالح هنا الفوائد المادية التي تعود على الإنسان في الحياة الدنيا، وهو يعني أن الإنسان لا ينشد إلا الرخاء مثلًا وفرض السيطرة التي تؤمِّن الرخاء وتفي بمطلب الإحساس بالقوة، والرخاء مطلب تمليه طبيعة الحياة، والقوة من العوامل النفسية التي تحدث عنها الفلاسفة وعلماء النفس فأفاضوا، وسوف نجد تحليلًا لها في نظرية تصارُع الإرادات عند شوبنهاور، وفي نظرية الغلبة والسيادة عند نيتشه، وجدليَّة الخادم والسيد عند هيجل، ونظرية السلطة أو القوة عند عالم النفس أدلر، ولن يصح لنا افتراض المصالح المادية حتى لو ربطنا هذه الدوافع النفسية بدوافع اقتصادية خالصة، أو قصر الدوافع التي تُحرِّك الإنسان على مقتضيات الحياة المادية المحضة؛ فقد يقدم البعض على أعمال يعرفون خير المعرفة أنها مدمِّرة لحياتهم الاقتصادية أو المادية إرضاءً لدوافع غير عقلانية — مثل المشاعر أو العصبية أو الثأر — وقد تبلغ المشاعر من العنف ما يجعلها تكتسي صورة العاطفة المشبوبة، حبًّا كانت أم كراهيةً، وقد تُعمي العصبية الإنسان عن مصالحه حتى الواضح والقريب منها، وأما الثأر فحدِّث عنه ولا حرج!
وذكرتُ حادثةً شهدتُ نهايتها ولم أشهد بدايتها؛ إذ ساقت الأقدار إليَّ فتاة في عمر ابنتي، قرَّر والدها ذات يوم أن يهجر عمله في القاهرة وأن يعود إلى قريته حيث يَملك أرضًا زراعية لا أعرف مساحتها ولكنَّها تكفي فيما يبدو لإعالته هو وأبنائه الكثيرين، ولكنها قررت استكمال دراستها في الجامعة، فكانت بذلك تعصي أمر الوالد، فكان يتنكر لها حينًا ويشفق عليها حينًا، فعاشت في ضنكٍ مع زميلة لها زمنًا ثم تزوجت زواجًا عُرفيًّا من أحد زملائها، وكانت فيما يبدو تأمُل أن يتحوَّل إلى زواج رسمي؛ إذ كان يُحبها حبًّا جمًّا — كما تقول — ولا يُطيق فراقها، ويبدي الإخلاص كل الإخلاص لها ويستأجر لها شقة مفروشة في حي شعبي يعترف بزواجهما ويباركه، فأحسَّت بأنها اقتربت من تحقيق أحلامها، وكانت تعرف أنها يجب أن تتجنَّب إنجاب أطفال في هذه المرحلة فاحتاطت لذلك ولكنَّها حملت وأنجبت، واشتعلت الخلافات مع زوجها، فانفصمت عرى الزواج، فعادت إلى والدها مهيضة الجناح كسيرة الخاطر فوقف إلى جوارها في هذه المحنة وعندما وُلد الطفل سجَّله في دفتر قيد المواليد باسمه هو، فأصبح ابنَها رسميًّا وأخًا لها، وتركتْه في البلد وعادت إلى القاهرة لاستكمال دراستها حتى حصلت على الدرجة الجامعية، وحصلت على وظيفة لا بأس بها، ولكنها كانت تعاني دائمًا من ضيق ذات اليد؛ ولم أبخل عليها بالنصح والإرشاد حين وثقت بي واعترفت لي بكل شيء، ثم أتَحْتُ لها من الأعمال الإضافية ما قدَّرني الله عليه، فكانت تزورني في الجامعة بانتظام طيلة سنوات عملي رئيسًا للقسم، حتى جاء يوم قالت لي فيه إنها فوجئت برجل يتقدَّم لطلب يدها ولا تعرف ماذا تفعل، وقالت إنه رجل سبق له الزواج ويعمل في بلد أجنبي، وإنها ذكرت له الحقيقة كاملة فأبدى التفاهم والتعاطف، وكانت قد قدمته لها زميلة من زميلاتها المخلصات، وقالت إنه أكَّد لزميلتها أنه مُعجَب بصراحتها مع ومصرٌّ على الزواج منها. ولم أجد ما أقوله لها سوى أن تستشير والدها وحبَّذا لو اصطحبت هذا الرجل إلى «البلد» لمقابلته. وتوقَّفَتْ أنباؤها عني شهورًا ثم اتصلت بي تليفونيًّا لتقول لي إنها تزوجت وسوف ترحل مع زوجها بعد قضاء أسبوع «العسل» في أحد الفنادق، وتَناوَل السماعة زوجُها فشكرني على مساعدتي إياها، وأرسل لي فاكسًا بعنوانه في ذلك البلد الأجنبي، وفي أواخر أغسطس ١٩٩٨م رحلا معًا، ولم أسمع صوتها بعد ذلك إلا مرة واحدة إذ حادثتني بالتليفون بعد نحو عام لتسأل عن «صحتي»، ثم انقطعت أخبارها منذ ذلك الحين.
لقد حدث هذا في مصر، وحدث ذلك في أمريكا، فكيف نحدِّد — اهتداءً بأنساق القيم هنا أو هناك درجات اللونين الأبيض والأسود؟ إن افتراض أي معايير مُطلَقة للحكم يظلُّ افتراضًا نظريًّا، وكل الافتراضات النظرية يَنهار أمام تعقيدات الواقع وتشابكاته، ويندر أن يحيط الإنسان علمًا بكل التفاصيل وكل الحقائق، ولذلك فقد تعلَّمت أن أتوقع من الأحداث أن تُفسر بعضها البعض، لأنها تكشف عن دوافع بشرية قد تظل طيَّ الكتمان أو قيد المجهول إلى الأبد، فلا يُماط اللثام عنها إلا يوم الحق (الحاقَّة) وأما الإنسان في هذه الدنيا فهو ينتقل بين كهوف النفوس التي لا تضيء الأحداث إلا جوانب محدودة منها.
٤
قد يكون تعبير كهوف النفوس من قبيل المجاز الشعري؛ إذ يتحدَّث وردزورث عن المغارات الخبيئة في النفس التي لا تنفذ أشعة الشمس إليها أبدًا قائلًا:
أي (كانت في نفسي بعض كهوف لا يصلُ إليها ضوء الشمس على الإطلاق).
والواقع أن كلَّ إنسان يمرُّ بهذه اللحظات، ولكنه قد يمر بها أو تمر به دون أن يعرفها أو دون أن تستوقفَه، أو قلَّ دون أن يوليها ما هي جديرة به من اهتمام، فالذي لا يقرأ ولا يكتب لا يستطيع التعبير عنها، أي يعجز عن وضع إحساسه بها في كلمات؛ أي أن يُحيلها إلى أفكار واضحة، أو قد يترجم إحساسه بها إلى ما درج عليه من شعائر أو من عادات أو من أساطير، ولكن المعنى يظلُّ قائمًا، وقد نجده في قول من يقول لك: إنه قد هتف به هاتف، أو إنه قد رأى فيما يرى النائم ما يوحي له بفعل كذا أو الامتناع عن فعل كذا وكذا، وقد تتجاوز هذه الهواتف والرؤى ظلال الأبيض والأسود، بل قد تتجاوز منطق الحواس تجاوزًا تامًّا، لكنها في كل حال دليل على صدق حياة الروح، وكثيرًا ما أجد فيها عندما تمرُّ بي نورًا يذكرني بالنور الأعظم، ويساعدني في مجالدة الدنيا.
ولكنَّني كنت أرى في هؤلاء وأضرابهم مثالًا للغافل فأشفق عليه، ولا أقيم له وزنًا، وما الموسيقى — عند شيكسبير وغيره — إلا مثال التناغم والتوافق داخل النفس، وأزيد على ذلك في سياق حديثي عن درجات اللونين الأبيض والأسود، أنها رمز للتناسق بين أولويات حياتنا، أو بين ألوانها المتباينة، أو قُل إنها تمثل نجاح محاولة إيجاد التناغم بين المتنافر من عناصرها؛ وذلك بالعودة إلى حقائق الوجود وتذكُّر أن الإنسان قد خلق ضعيفًا، ومن ثم فلا بد له من مصادر قوة تتمثَّل فيما يمتاز به على سائر الكائنات؛ ألا وهو الوعي — أي حياة الذهن والنفس معًا — وهي حياة حافلة بالمتناقضات التي تتطلب التنسيق والاتساق بجهدٍ واعٍ؛ أي بجهد متعمد، وقد يجد بعضنا أن العمل قد شغله حتى أنساه التناسق، أو — ويا للعجب — أن الراحة قد ألهته حتى أنسته معنى التناغم، وهو في هذا وذاك يجد من المبررات ما يساعده على تقبُّل واقعه والرضا عنه، بل إن أكثرنا لا يتوقف في العمل أو الراحة ليتساءل عما يريده لنفسه أو لمجتمعه أو لوطنه، وما أكثر ما تتبدل درجات اللونين الأبيض والأسود كل يوم حتى يختفي التناغم تمامًا ويسود النشاز!
ولقد درجت على اختزان صور هذا وذاك وتذكر العبارات الدالة التي يلقون بها في غمار الأحاديث العامة أو العابرة، وكنت دائمًا ولا أزال أسعد بالاستماع إلى أحاديث هذا أو ذاك حتى ألمح فيها خيطًا يقودُني إلى ما قد يختفي في «الكهوف»، وأذكر أن الأقدار ساقتني إلى جلسة مطولة مع علي (…) التاجر المزواج الذي أشرت إليه من قبل، وذلك في أواسط الثمانينيات، وكنت في زيارة قصيرة إلى بلدي رشيد، وقد تعرفت عليه فور مقابلته، على كثرة ما كسا وجهه من الغضون وما كسا شعره من الشيب، ورحب بي ترحيبًا لم أكن أتوقعه، وكان يردِّد «حمدًا لله بالسلامة» واكتشفت أنه يقصد العودة من إنجلترا لا الوصول من القاهرة إلى رشيد عندما بدأنا الحديث في مقهى «أبو علفة» على شاطئ النيل (الذي كانوا يُسمُّونه كازينو أبو علفة في أيام طفولتي). وأحسست منذ البداية أنه يُريد أن يُحادثني على انفراد فكان يوحي لكل من يشاركنا المجلس بأن ينصرف، وكنا قد قصدنا إلى المقهى بعد صلاة العشاء، وأضواء الليل تنعكس في صفحة النيل الساجي كالمرآة، ولاحظت أنه يسعل سعالًا خفيفًا كأنه «سعال عصبي»؛ أي لا يرجع إلى مرض في الصدر، لكنه كان يزداد كلَّما «أخذ نفسًا» من الشيشة، واستمرت أحاديثنا حتى امتدَّت ساعات طويلة، وكان قد بدأها بالشكوى مما فعله أبناء أسرته الذين هاجروا واستقرُّوا في الإسكندرية من تغيير اسم أسرتهم إلى الرشيدي كأنما يتنكَّرون لجذورهم، بل ولانتمائهم الحقيقي لهذه الأسرة العريقة (وكان ذلك ما فعله أسر رشيدية كثيرة في الواقع)، وما عتم أن حوَّل دفة الحديث إلى إنجلترا، فسألني عن الإنجليزيات وأوصافهنَّ، وكان يُطلق صفة «الإنجليزية» على أي امرأة أجنبية، أوروبية كانت أم أمريكية، من اللائي كان يشاهدهن في المسلسلات التي يُذيعها التليفزيون أو في أفلام السينما، وكنت أجيبه إجابات مقتضبة، فكان يستزيدني ويلح عليَّ أن أذكر التفاصيل الدقيقة، ثم انتقل إلى الرجال «الإنجليز»، وسألني عن حقيقة ما يسمع من افتقارهم إلى الفحولة.
وذكرت عاطف السيد، الضابط السابق الذي حصل على ليسانس التاريخ بامتياز وعلى الماجستير في تاريخ البحر الأحمر في حروب المنطقة، وكتب أكثر من كتاب في الموضوع، ثم جاءني قبل سنوات لإعداد خطة لدراسة الدكتوراه في الأدب المقارن، وساعدته، وأهداني دمية صغيرة لطائر يشبه الببغاء (من الفخار) وضعته فوق التليفزيون ثم انكسر، وكان يراسلني من جامعة إكستر بإنجلترا حيث كانت زوجتي تدرس للدكتوراه، وقد باع أرضًا زراعية كان يمتلكها أو — كما قال لي — «صفَّى أعماله في مصر» في سبيل الدكتوراه، ولا أعرف إن كان قد حصل على الدرجة أم لا، ولكن المقام قد استقر به في إكستر، كما علمت من الدكتور زياد الشكعة الذي كان يدرس في الجامعة نفسها، وبلغني أنه أصبح يُعين الدارسين المصريين في كتابة رسائلهم الجامعية، وقد يكون ذلك الآن مصدر رزقه، وربما كانت لديه أرصدة حوَّلها من مصر إلى إنجلترا.
لم يكن الحلم محالًا إذن، وإن كان غريبًا بسبب دوافعه الغامضة، أو التي كانت غامضة آنذاك، فحينما توغَّل الليل وأقفر المقهى من رواده، وازداد إقبال «علي» على الشيشة حتى بدا عليه ما يُشبه الخدر وانتظمت نبرات صوته حتى أصبحت مثل النغمات الرتيبة المُنخفِضة، وتراخى جفناه كمن يغالب النوم، بدأت تخرج من شفتَيه عبارات كشفت عن بعض «الكهوف» التي قرأتُ عنها فيما قرأتُ من أعمال أدبية، والتي لم أكن أتوقَّع أن يُطلَّ منها أي شيء في جلسة واحدة، أو أنفذ إلى أحدها بهذه السرعة، فحدست «العيب» الذي قال إنه أشيع عنه، وأسرعتُ برواية قصة حقيقية وقعت لأحد أصدقائي في إنجلترا حتى أُهوِّن عليه الأمر، وهي قصَّةٌ مطابقةٌ لما كان يَكمُن في أحد تلك «الكهوف» وما حدست أنه يُمثل لُبَّ المشكلة، وقلت له إن مثل هذا «السر» يظلُّ بين المرء وزوجته إلى الأبد، وكنت أتصوَّره شبيهًا بما شاع عن امرئ القيس وما نقضه العقاد في كتابة اللغة الشاعرة، وتمنَّيت من أعماقي أن تجعله تلك القصة يصرح بما أخفى، ولكنه استمر في حديثه بالنبرات الرتيبة التي كست كلماته ببطء مَلَلْتُه، فحثثتُه على النهوض ونهضنا.
وشغلتني القصة — بطبيعة الحال — في اليوم التالي وجعلت أسأل كل مَن أعرفه من أصدقاء الصبا، ولكنهم كانوا لا يعرفون عنه إلا القناع، فهو المزواج الناجح، وكان بعضهم يتحدَّث عن ذلك بإعجاب؛ إذ كان معظمهم قد نزح إلى الإسكندرية فتلقَّى التعليم الجامعي والْتحَقَ بعمل أو وظيفة ما وتزوج من غير بنات البلدة ولم يَعُد هذا الموضوع يمثل له إلا ذكريات المراهقة واليفوع، وكان بعضهم يحنُّ شوقًا إلى حياة الفراغ وضعف الإحساس بالزمن الذي يبدو كأنما يمتد بلا نهاية في الريف، وربما كان البعض يحنُّ شوقًا إلى أسلوب الحياة المطمئنة، وهو الأسلوب الذي يُتيح الزواج وتعدُّد الزيجات أو الزوجات بلا مشاكل ظاهرة، وهو ما بدا أن عليًّا قد حقَّقه، وكدتُ أيئس من معرفة ما رأيت أنه أشباح تسكن «كهف» صاحبنا، حينما ساقت المصافحة إليَّ امرأة من «ألاضيشنا»؛ أي من المتردِّدات على منزل الأسرة اللائي عرفناهن صغارًا واعتدناهن كبارًا، فسألتها بلهجة لا تنم عن اكتراث عن صاحبنا، وكانت من «ألاضيش» أسرته كذلك، فإذا بها تُفصِح وتُسهِب فيما اعتَبَرَتْهُ عيبًا يعيب الرجال، وذلك بألفاظ صريحة إلى حد الصراحة المُوجعة، وكنا نقف في بهو المنزل، ويبدو أن والدتي التي كانت في غرفة بعيدة قد سمعت طرفًا مما كان يقال فصاحت بالمرأة تنهرها، فتوقفَتْ عن الحديث، ولكنها كانت قد قالت ما يكفي.
وعندما خلوت إلى نفسي وضممت أطراف القصة بعضها إلى بعض، وجدت أن أحد الأشباح التي كنتُ أبحث عنها هو سخرية أمه منه منذ الطفولة بسبب ما ضنَّت الطبيعة عليه بما حبَتْ به إخوته الذكور من دلائل الفحولة الظاهرة، وأن والدته كانت تُفصح عن ذلك دون مواراة ودون مراعاة لما قد يترسب في نفسه من مرارة، ولكن الأم الجاهلة لم تكن ترى في ذلك غضاضة، بل مصدر تفكُّه وتندُّر، بل إن أخواته كنَّ يتفاخَرْن بما حَبَت الطبيعة به أزواجهنَّ، ولا شك عندي في أن ذلك ترك آثاره العميقة في نفس الصبي، فلم يكن يُشارك الصبيان تفاخُرهم بهبات الطبيعة، بل كان يكتم في نفسه الغيظ ويحلم بيوم الزواج الذي يغادر فيه منزل أمه وتُصبح له زوجة تؤكِّد له أنه لا يختلف عن سواه، ووجدتُ شبحًا آخر يتمثَّل في رغبته الدفينة في تعذيب امرأته، إما بالعنف أو بالحرمان أو بالطلاق، كأنما لينتقم من أمه في كلِّ أنثى، ورأيت أن أمامي «حالة مرضية» — كما يقول علماء النفس — ولكنها حالة يصعب فيها التوغُّل في أعماق ما أسميته بالكهوف، وقد أكون مخطئًا في هذا «التشخيص»، وقد تكون هناك أسباب أخرى لولوعِه بالزواج والطلاق وانشغاله المبالغ فيه بذلك، ولكنني أذكر عندما قابلته قبل رحيلي بيوم أنه كان لا يزال يتكلم عن حلم السفر إلى إنجلترا، ويُوصيني بأن «أسأل وأستفسر»، وكنت أعجب لأنه لا يريد الرحيل إلى الإسكندرية مثلًا أو القاهرة، بل أن يترك مصر كلها وأهل مصر، كأنما ليهرب من تراث كامل يرميه في ذلك العذاب.
وكنت كلما زرت رشيد أو الإسكندرية وقابلت أحد معارفنا سألته عن «علي»، ولكن أخباره انقطعت، وإن كانت قصته الفريدة قد علمتني دروسًا أفيد منه في محاولة النفاذ إلى كهوف أخرى، ما أكثرها فيما نشاهد وما شاهدته بعد ذلك؛ إذ تكررت بعض ملامح هذه القصة، وشهدت بعض أطرافها من ناحية الرجل وناحية المرأة معًا.
٥
كل هذا معروف، ولكَم تناوله كبار المفكرين المعاصرين في كتاباتهم فأفاضوا فيه، سواء كانوا من المتخصصين في الفقه الإسلامي أو من غيرهم ممَّن قرءوا واجتهدوا فأصبحوا أهلًا للتصدي للموضوع، ولكنني أورده لتبيان الخلط في تفكير الجيل الجديد بين العبادات والمعاملات وما أدَّى إليه ذلك من الإيمان بوجود لونين خالصين لا ثالث لهما ولا درجات، هما الأبيض والأسود؛ إذ ساد الاعتقاد بأن من يؤدي الفرائض أو التكاليف الدينية يكتسي باللون الأبيض الناصع، ومَن لا يؤدِّيها — على صعوبة التحقُّق من ذلك — يَكتسي باللون الأسود الفاحم، وأن التميُّز في أداء الفرائض والنوافِل يسمُو بالمسلم على أقرانه فيصبح قادرًا على إصدار الأحكام في المعاملات، وأهلًا للإفتاء في شئون المجتمع، حتى دون درسٍ، استنادًا إلى ما قيل من أن الإنسان له أن يسأل قلبه إذا استشكل عليه الأمرُ، فقلب المؤمن لا يُخطئ، وهكذا أصبح الإيمان وحده منبع الأحكام، بل وأصبحت الألفاظ — حتى ألفاظ النصوص المقدسة — تعاويذ يُهتدى بوقعها وترديدها لا بمعناها، ووجدت من يسهر الليل في المسجد — كما حدث في ميت عقبة — حتى الصباح ليلة الجمعة أي مساء الخميس حتى صباح الجمعة في ترديد الأوراد والتسابيح تعميقًا للإيمان واستلهامًا للعلم اللَّدُنِّي، وفي ذلك يستخدمون مكبرات الصوت التي تُذهب النوم عن الجفون، فإذا اشتكى أحد، مثلما اشتكت الأستاذة «علية» (وكانت تلميذة لزوجتي في المعهد العالي للنقد الفني) وزوجها الأستاذ «ربيع»، تسابق الخطباء في الهجوم عليهما بأشد الألفاظ قسوة ورموهما بالكفر بأعلى صوت في الميكروفونات، حتى اضطرَّت الأسرة إلى الرحيل من القرية، فمَن يُعارض المؤمن كافر والتضاد بين اللونين الأبيض والأسود أوضح من أن يحتاج إلى دليل.
والذي شهدتْه في الثمانينيات هو أن يُعين أحد الأتقياء الورعين الغيورين على الدين نفسه حكمًا يصدر الفتاوي، ثم يَجتمع حوله نفر من المفتونين بمسعاه وقوة شخصيته وجاذبيتها والمدفوعين بغيرة مُماثلة على الدين، فينشأ ما درجنا على تسميتِه بالجماعة الدينية، وهي تخوِّل لنفسها، بقوة إيمان أعضائها، مهمَّة إصدار الفتاوي، وقد تستقل برأيها حتى تُناوئ الفقهاء المتخصِّصين وتتَّهمهم بمُمالأة السلطة المدنية (أي الزمنية) بل قد تُناوئ جماعات أخرى إذا اختلفت معها، فغير الأبيض أسود، ولا توجد بينهما ظلال، وقد تشتعل حدة المزايدات وتتبارى الجماعات في إصدار الفتاوى والأحكام، فإذا وجدت إحداها من أهل الخير، في أيِّ مكان كانوا، مَن يُنفق على أنشطتها طبعت الكتب والمنشورات، وتصوَّر زعماؤها أنهم قادة مصلحون كُلِّفوا تكليفًا سماويًّا بهداية الأكثرية الضالة، وقد يتصور أحدهم أنه مبعوث العناية الإلهية، فيرتدي مسوح الرهبان ويتشبه بالأنبياء، ويكفيه في ذلك كله أن يظهر بمظهر التقيِّ الوَرِع، وقد يكون في الواقع تقيًّا ورعًا حقًّا، دون أن يكون مؤهلًا للحكم فيما حكَم فيه الفقهاء القدماء، فيُصدر «اللوائح التنفيذية» للأحكام الدينية العامة، ويأخذ على كاهله مهمَّة تطبيق أحكامه الجديدة، وهي أحكام قد تفتقر إلى الدقة أو إلى الصواب أحيانًا لأنه يستقيها كما قلت «من قلبه» أي من «وحي ضميره» أي من مصدر ذاتي، فنجده يخطئ في القياس، ويجهل قواعد الاستدلال، وقد يأخذ بالظن، مستعينًا بالهاتف الداخلي الذي قد يكون صادرًا من أحد كهوف النفس التي تحدثت عنها في القسم السابق، ولا يكفي التقى والورع لتولي مناصب القضاء — مدنيًّا كان أم شرعيًّا.
ولو كانت هذه الجماعات قد شغلت نفسها بمسائل الأصول (مثل العقيدة) لقلنا إنها فرق إسلامية جديدة تنسج على منوال الفرق التي تحدث عنها الشهرستاني والبغدادي وابن حزم، وكلنا يعرف ما أدى إليه تناحرها من تفتت في جسد الأمة الإسلامية وانهيار سلطانها الذي ساد يومًا ما، ولكنها جماعات شغل أفرادها أنفسهم بإصدار الأحكام وتنفيذها دون أن يَختلفُوا مع الناس في أصول العقيدة، والعيب الأول في هذه الأحكام هو اقتصارها — كما قلت — على اللونين الأسود الفاحم والأبيض الناصع، فكلُّ ما يخالف ما ذهبوا إليه من أحكام أسود فاحم السواد يُرمى صاحبه بالخروج عن الدين ومِن ثَمَّ بالكُفْرِ، مهما يكن حجم الخلاف أو تكن طبيعة المختلف عليه، وتسربت أحكام هؤلاء الأفراد، بعد أن شتَّتت الدولة شمل الجماعات، إلى المجتمع، فأصبح التفكير بمنطق الأبيض والأسود شائعًا ومقبولًا، ولم يَعُد التفريق بين درجات اللونين واردًا في فكر الناس، ولو كان ذلك مقصورًا على الغالبية التي لا تقرأ ولا تكتب لهان الأمر، ولكنه بدأ يؤثر في فكر الحاصلين على الشهادات الجامعية سواء اعتبرناهم من المثقفين أم التكنوقراطيين أي «أصحاب المهنة» الذي يتحكَّمون (أو يحكمون) في المجتمع؛ أي من بيدهم مصائر الأمور، وكان منهم زعيم جماعة ميت عقبة الحاصل على بكالوريوس علوم، وأما الشبان فقد شغلوا أنفسهم بالمرأة، وجعلوا ذلك المجال الرئيسي لإصدار فتاواهم وأحكامهم، وكثيرًا ما كنتُ أَرِقُّ لحالهم وهم ينظرون إلى النساء نظرة جوع وحسرة، خصوصًا طلاب الجامعات الذين يَنتمُون إلى الطبقات الوسطى، فهم يرون الفقراء قادرين على الزواج وإن ازدادوا به فقرًا، والأغنياء وقد تزوجوا وسعدوا (فيما يبدو على الأقل) وهم لا يستطيعُون تحقيق حلم الثورة المصرية القديم في التخرُّج في الجامعة والالتحاق بعمل يعود بدخل يكفي لبناء أسرة جديدة، فعيونهم تتنازعها نوازع الرغبة والحرمان، فكأنما حُرِّمَ الزواج عليهم، وإذا كان قد أصبح مُحرَّمًا فِعْلِيًّا فلم لا يحرمُون المرأة نفسها نظريًّا، مع إيمانهم بأن الله قد شرع الزواج بل وحضَّ المؤمنين عليه؟
وتدريجيًّا أصبحت المرأة المجال الرئيسي لما يُسمى بالفكر الإسلامي الذي يتولاه الرجال بطبيعة الحال، ولما كانت المرأة قد خرجت إلى الحياة العامة رغم أنوفهم، فقد اضطرُّوا إلى تعديل مفهومهم على ضوء الواقع للَّونين الأبيض والأسود والإقرار بوجود درجات لهما، فأما اللون الأبيض الناصع فهو أن تحتجب المرأة عن العالم فهو عالم رجال، وحبذا لو لزمت بيتها حتى يأتي الفرج، وكان ذلك ولا يزال المثل الأعلى في نظر مَن يريدون اللون الأبيض الكامل، وكان لديهم من النماذج في بعض البلدان الشقيقة ما يدعم هذا المثل، وأما أُولى درجات اللون الأسود فتتمثل في الاختلاط الذي هو منشأ البلاء فهو يَسمح بزنا العين ويُثير شهوات أعتى وأشد ضراوة، وثاني الدرجات هو التخاطُب بين الجنسين، وثالثها هو تعرية بعض أعضاء الجسم، خصوصًا شعر الرأس لأنه — مهما يكن حاله — مكمَن الفتنة ومصدرها المؤكد في نظرهم، وكذلك الأطراف، فهي تجعل الرجل على وعي بأنوثة المرأة بسبب اختلافها عن أطرافه، كما قال لي الدكتور محمد (…)، وهو زميل قديم في مدرسة رشيد الثانوية قابلتُه ذات يوم في مبنى المجمع الحكومي بميدان التحرير أثناء تجديد جواز سفري عشية إعارتي إلى المملكة العربية السعودية في أكتوبر ١٩٨٢م، فخرجنا إلى الشرفة وجعل يحكي لي عن «المهازل» التي صادَفَها في كلية طب الإسكندرية من محادثات بين الطلاب والطالبات، بل وصداقات قد تنتهي بالحب والزواج، وينعي الحشمة الضائعة، ويبكي اليوم الذي كانت المرأة فيه «بيضة خدر لا يرام خباؤها»، وإن لم يكمل بيت الشعر المشهور، وقال لي إنه سمع فتوى صادقة مفادُها أن وجود المرأة مع الرجل باعث لأفكار الشر (في نفس الرجل طبعًا) فما بالك وهي تُجاورك وتجالسك وتحادثك؟ وكان الدكتور محمد على يقين من أنه يُحادث ابن رشيد الوفي وابن الكُتَّاب الذي قضى سنوات يحفظ القرآن، وأنه سوف يتعاطف معه التعاطف كله، ولذلك أمسكتُ لساني وكنت أوشك أن أقول له إن النساء من الفلاحات والعاملات والتاجِرات يَختلطن بالرجال في رشيد وفي إدكو (بلده) وأن المرأة المسلمة طالما شاركت المسلم حياته في الزمن الغابر، دون مساس بحيائهن، وأيقنت آنذاك أن حديثنا لا بد أن يتوقف.
وما لبث اهتمام الشبان بقضية ستر المرأة أن ولَّد اهتمامًا موازيًا لدى الشابات، فاهتمَّت الأسرة المصرية بالموضوع، ورأت أجهزة الإعلام أن قضية ستر المرأة أي حجبها عن العيون قد أصبحت قضية قومية، وخافت أن تؤدِّي إلى قلق واضطراب في المجتمع، فأقامت مناقشة بين مذهبَين؛ الأول يقضي بستر المرأة كلها، فكلها عورة، وكلها محرم، والثاني يقضي بالسماح لها بالكشف عن الوجه واليدين والقدمين، وتبارى الكُتَّاب في الدفاع عن وجهتَي النظر، ثم حُسمت النتيجة لصالح الحل الأخير، وأصبح الحلُّ الأول يُسمى النقاب أو الخمار (وصاحبته منقبة أو مخمَّرة) والثاني يُسمى الحجاب (وصاحبته محجَّبة) وقد رضي الشبَّان ورضيت الشابات بالحل الأخير؛ فهو مُريح من جميع الزوايا، بل هو عبقري في نظري بمعنى أنه لا يتفتَّق عنه إلا ذهنٌ مصريٌّ قادر على التلاعب بالألفاظ والمعاني؛ إذ عمد ببراعة مصرية إلى تعديل مفهوم الاحتجاب أي الاختفاء والاستتار عن العيون، بحيث أصبح يعني تغطية الشعر فحسب، وهو يسمح للمرأة بجميع الحريات التي يتمتع بها الرجل بشرط ارتداء الطرحة أي غطاء الرأس، وهو ما يرتديه الرجال أيضًا في بلدان شقيقة، بعد أن أُطلِقَ عليه اسم الحجاب! وبدا أن الأزمة انفرجت، وسرعان ما رأينا محلات أزياء حديثة تبيع ما يَصلُح لتغطية الشعر من أغطية منوعة، وتبيع الفساتين الطويلة الجذابة للقادرات، والطرحة «السادة» (وهي كلمة فارسية تحوَّلت إلى ساذج العربية) أي العاطلة من «الزركشة»، للفقيرات (والزركشة فارسية أيضًا تعني الموشَّى بالذهب)، وكان من روافد تيار الحرام والحلال الجديد أن ظهر نوع من الكتابة أستطيع مُطمئنًّا أن أطلق عليه صفة البورنوغرافيا (أي الأدب المكشوف أو الفن المكشوف) المتستِّر بالدين، وهو ما سأُخصِّص له السطور التالية.
كانت البداية في أواخر السبعينيات حين أصدر أحد المحامين، واسمه «عبد اللطيف» كتابًا عن أحكام الزواج في الإسلام، وكان يُعلن عنه على الجدران بحروف كبيرة، الأمر الذي أثارني فحاولت شراءه لكنه كان قد نفد، فاستعرت نسخة من أحد أصدقائي بعد أن شاهدتُها معه مصادفةً أثناء زيارته لي في الجامعة للتوصية على ابنته التي التحقت بقسم اللغة الإنجليزية، وقرأتُ الكتاب في جلسة واحدة، وأعدتُه له بعد أن شعرت بتقديره البالغ له، لكنَّني استوعبته؛ إذ وجدته يفوق في «صراحته» ما عرفناه في فترة المراهَقة من كتب مكشوفة؛ فهو في الظاهر يفسر آية كريمة مثل نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ (البقرة: ٢٢٣) ويفيض في تفسير «أَنَّى»، معارضًا من أباح التوسُّع في التفسير استنادًا إلى الآية السابقة عليها فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ (٢٢٢) ثم ينتقل إلى بقية الآية وهي وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ (٢٢٣) فيُخصِّص فصلًا كاملًا للحديث عن ماهية «التقديم» المقصود؛ فالجمهور على أن ذلك بالقُبلة أو ما في حكمها، وبعض «العلماء» يذهبون مذاهب أخرى توسَّع المؤلف في شرحها وتبيانها، وهكذا وجدت أن الكتاب الذي يحمل عنوان لفظ «الأحكام» قد انصبَّ على الحياة الجنسية بين الزوجين، وكانت طبعاته التالية والمتوالية تنفد فور صدورها، وكان المؤلف يُبرِّر صراحته بأن ذلك كتاب في الدين، ولا حياء في الدين، كما أنه كتاب في العلم، ولا حياء في العلم أيضًا.
ولما كان العيب في المنطق المذكور (الذي شغلني ويشغلني) قد امتد إلى منهج تفكير الشباب من الجنسين في سائر مناحي الحياة فلقد دأبت على مناقشة من يستطيعون النقاش منهم في ذلك المنطق، على ندرتهم؛ فالغالبية يتكلَّمون ولا يَستمعُون، وإذا استمعوا فهم لا يُنصتون، وإذا أنصتوا فهم لا يستوعبون، وأما مَن يفعلون فهم يفصحون عن حيرة وتخبط، فكثرة الدلالات التي تتزاحَم في عالم «ما بعد الحداثة» قد أحدثت من الخلط والبلبلة ما يَستعصِي على التصنيف باللونين الأبيض والأسود، بل وعلى درجات كثيرة من درجاتهما، الأمر الذي دفع الغالبية إلى نشدان الاطمئنان فيما يقوله أصحاب «الإفتاء»، والارتكان إلى ما يبعث على الراحة فيه من يقين، ومن العبث طرح الأسئلة أو التفكير المستقل فيما يسمعه المرء، فذلك يقتضي القراءة والبحث، وليس من تقاليد المجتمع الجديد تشجيع أيهما.