الفصل الرابع
١
وجاءني في ذلك الوقت عرض للعمل في أمريكا، وهو عرض من الصعب مقاومته، فعندما أختلي بنفسي في غرفة الفندق أتحوَّل إلى «كتلة من النشاط»، كما يقولون، وكانت تلك فرصة سانحة للانتهاء من الكتب الثلاثة الأخيرة من الفردوس (من ١٠–١٢)، فقد كان الإحساس بمرور الزمن إحساسًا غلابًا لا يفارقني لحظة في صحوي أو منامي، وكانت المسئوليات التي أحملها آنذاك تتضمَّن إعداد كتب مكتبة الأسرة، وإعداد كتابين في الترجمة الفورية للجامعة المفتوحة، وكان ذلك كله يقتضي وجودي في مصر وإرسال اعتذار إلى الأمريكان، وكان ذلك قرارًا عسيرًا؛ فالسفر مصدر بهجة، والخروج والعودة حركة، والحركة تعميق للإحساس بدورة الحياة، ولكنني كنت قد عقدت العزم على الانتهاء من المشروعات التي بدأتها وما زالت تنتظر الكثير من الجهد، فأرسلت اعتذاري للأمريكان، وقررت قضاء الصيف كله في العمل في القاهرة، ولم أذهب إلى أي مكان خارجها ولو «لتغيير الجو» أو للراحة.
وانتهيت من واحات مصرية في أغسطس، ولكن الانتهاء من المخطوط الأول كان لا يُمثِّل إلا مرحلة واحدة، فَسَدُّ الثغرات يتطلب المزيد من الجهد، ولم أكن به ضنينًا، لكنَّني شغلت في سبتمبر بجهد آخر، هو محاولة الانتهاء من الكتب الثلاثة الباقية من الفردوس، فوضعتها نصب عيني، وساعدتني الراحة النفسية لتولي الدكتورة منى الحلواني رئاسة القسم، فهي أستاذة قديرة، دمثة الخلق، تعرف أقدار الرجال وتجيد التعامل مع الجميع، فوضعت الواحات جانبًا وعمدت إلى الفردوس وإلى جانبي، ولا أقول من ورائي، الدكتور ماهر شفيق فريد، يحثُّني ويستنهضني؛ فالشهور تجري سراعًا، والكتب الثلاثة الأخيرة تتكون من ألفين وسبعمائة بيت من الشعر تقريبًا، والعمل يقتضي التفرغ شبه الكامل، كما شجعني ظهور الجزء الثالث بحواشيه، وما لبث الدكتور ماهر أن كتب مقالًا رائعًا نشره الأهرام في نوفمبر ٢٠٠١م، فكان بمثابة حافز جديد على الانتهاء من الملحمة كلها.
ولكن الانتهاء من الملحمة كان شغلي الشاغل، فتوفرت على الترجمة طيلة الخريف ثم باقي شهور العام فانتهيت منها في أوائل ديسمبر، وكنت في أثناء ذلك قد انتُدبت للإشراف على قسم اللغة الإنجليزية في كلية آداب بنها، التابعة لجامعة الزقازيق، وهناك رأيت من العجب ما يتطلَّب قسمًا مستقلًّا من هذا الفصل، ولم يهدأ بالي إلا حين قرأ ماهر شفيق فريد المخطوط مع الحواشي، وصحَّح فيه ما يحتاج إلى تصحيح، ودفعت به إلى المطبعة، وقلت إن لي أن أستهل العام الجديد قرير العين. ولا شكَّ أن جهد عام ٢٠٠١م قد أجهدني إجهادًا كبيرًا، فإذا بي أتقاعَس عن الجلوس إلى المكتب، وأُفضِّل القراءة في «الصالة» (في الكرسي المريح) وكنتُ أعزو ابتعادي عن المكتب — في أعماقي — إلى «العين» (الحسد) مع مُنافاة ذلك للمنطق الذي أحيا به، ثم قلت في نفسي آخر الأمر إنني لم أحصل على عطلة من أيِّ نوع، وقررت أن أقضي بقية ديسمبر في عطلة خصوصًا وأن العيد على الأبواب، وإذا برئيس الجامعة يتَّصل بي ويقول لي — من خلال رسالة أرسلها لي الدكتور محمد حمدي إبراهيم — إن عليَّ أن أسافر إلى دمشق مع الدكتورة منى إبراهيم لزيارة مقرِّ التعليم المفتوح في جامعة دمشق وفي جامعة البعث في حمص، مع وفدٍ يمثل كلية الإعلام برئاسة الدكتور علي عجوة عميد كلية الإعلام، وعُضوية الدكتورة ماجي الحلواني والدكتور صفوت العالم، وأن موعد السفر قد تحدَّد يوم ٢٠ ديسمبر!
كانت زيارة دمشق حلمًا يُراودني منذ الطفولة، وكنت أرجو أن أزور سوريا زيارة كاتب عربي يَحمل في قلبه حبًّا جارفًا للشام وأهلها، وللغة العربية وتاريخها، لا زيارة أستاذ مكلَّف بمهمة تعليمية محددة، وكنت قد قررت — كما ذكرت — أن أمتنع عن السفر حتى أتفرغ لمشروعاتي الأدبية، ولكن فرصة الزيارة قد سنحت وربما لن تتكرَّر، مثلما لم تتكرر زياراتي للهند وسريلانكا وباكستان وزامبيا وأنجولا وموزمبيق وماليزيا والسنغال والعراق والإمارات والكويت، على عكس زياراتي التي تكرَّرت لبلدان أخرى كثيرة! وكان لا بد إذن من الترحيب بالزيارة، ولو سمحت لنفسي بتسجيل خواطري ومشاعري ما وسعني كتاب قائم برأسه، ويكفي أن أقول إنني خرجت من الزيارة أشد إيمانًا بالروابط الخاصة التي تربط مصر بسوريا، وبأن أي شك في القومية العربية يتحطَّم بل ويتلاشى عند مواجهة هذه الحالة الخاصة — ولنُسمِّها حالة «مصر والشام» على نحو ما كان أسلافنا يُسمُّونها! وأهم ما عدت به قول الدكتور شماس، مدرس اللغة الإنجليزية بجامعة دمشق، محقًّا: «إن المجتمع العربي واحد» كانت العبارة درسًا في الإيجاز والبلاغة، فالطلاب هم الطلاب، والأساتذة هم الأساتذة، والناس هم الناس، بل و«المرور» هو المرور! كان دفء الصحبة العربية هو العامل الغلاب طيلة الرحلة، وكان هو الذي قهر المظهر الأوروبي في فندق كارلتون الحديث، وأما زيارتنا — أنا والدكتورة منى — لمدينة حمص، فقد أتاحت لي المزيد من الاستغراق في التاريخ؛ إذ صحبت شابًّا متخصِّصًا في الكمبيوتر (يُدعى قُتيبة) طاف بي أرجاء المدينة وحدثني عن تاريخها، ونعمتُ معه بأحلى الأوقات رغم برودة الجو وخوفي من الأنفلونزا! وعندما عدت إلى القاهرة وحدي، إذ أصرت الدكتورة منى على البقاء للاستزادة من مباهج الشام، لم يكن يتردَّد في خاطري غير بيت واحد من الشعر نظمه محمود حسن إسماعيل وتغنَّى به عبد الوهاب (وهو: نحن شعبٌ عربيٌّ واحد/ضمَّه في حَومة البعث الطريق) وكان رؤى الماضي تنثال في ذهني، رُؤًى استقيتها من كتب التاريخ، ولم تكن تحتاج إلا إلى بعض الملامح المادية حتى تتجسَّد حية نابضة، فنحن حقًّا شعب واحد، نتكلم لغة واحدة، ونواجه مصيرًا واحدًا.
٢
كان العالم مشغولًا بما اصطلح على تسميته «أحداث ١١ سبتمبر» ألا وهو الهجوم بالطائرات المدنية هجمات انتحارية على مركز التجارة العالمي في نيويورك ومقر وزارة الدفاع الأمريكية في واشنطن، وما تلا تلك الهجمات من حرب أمريكية في أفغانستان، وقد عَملت أجهزة الإعلام الغربية على إظهار المسلمين بمظهر الهمج المتوحِّشين، وتبارى الكتَّاب في التحليل والتعليق، وتبارت الدول العربية والإسلامية في التنصُّل من المسئولية عن تلك الهجمات الشرسة، خوفًا من بطش أمريكا، القطب العالمي الأوحد، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وبدا للجميع أن العالم قد تغيَّر، وتغيَّر ما يُسمى بالخطاب الإعلامي الغربي؛ إذ تحوَّل إلى ما يُسمى بإدانة الإرهاب، وكان التعريف الوحيد لديهم هو قتل الأبرياء من المدنيين، وذلك هو التعريف القديم الجديد، أو الراسخ المتجدِّد، وأجهزة الإعلام الغربية أجهزة عالَمية جبارة، تساندها قوة اقتصادية قاهرة، إلى جانب القوة العسكرية المهيمنة التي لا تسهل معارضتها. وكنت — باعتباري من مسئولي التحرير في مجلة سطور الشهرية، مشغولًا بتحليل الأبعاد الثقافية للصراع الجديد الذي فرضته أحداث ١١ سبتمبر، فكنتُ أرى من الضروري أن أتابع ما تقوله الصحف الأجنبية، ومحطات الإذاعة والتليفزيون الغربية، لا الاكتفاء بما نقوله نحن أبناء العرب، ووجدتني رغم أنفي أُجَرُّ جَرًّا إلى الفكر السياسي — ولو من باب الفكر الثقافي أو الأدبي — وكنت أقاوم ذلك بأن أشغل نفسي بأشياء أخرى دون نجاح يذكر، حتى شهدت حوارًا بين اثنَين من كبار المثقفين حول موقف العرب من الأحداث العالَمية، وما تُمليه التغيرات أو التحوُّلات الجديدة من ضرورة التغيير، خصوصًا في أسلوب الكفاح في سبيل نصرة القضية الفلسطينية، قضية العرب الأولى، وقد بدأ الحوار فجأةً وعلى غير انتظار بعد جلسة من جلسات الندوات الثقافية في معرض الكتاب، أي إنه بدأ دون ترتيب سابق، وكان ثلاثتنا واقفين لدى قاعة الندوة، والناس يَنصرفُون، فتوقعت ألا يطول، ووقفت أستمع دون المشاركة، فالمتحدثان من المتكلمين الموهوبين، ولكل منهما كتبه ودراساته، ولكن الخلاف بينهما لم يكن متوقعًا، بل لم يكن الحوار في بدايته يشي بإمكان ظهور أي خلاف، ولذلك لم أهتم في البداية، لكن الخلاف احتدم فشدَّني، وكان كل منهما يريد مني أن أشاركه وجهة نظره. وسوف أوجز هنا ما قاله كل منهما دون إفصاح عن الأسماء.
بدأ الحوار بأن ذكر الأول أن على العرب أن يعملوا على تغيير الصورة التي دأبت أجهزة الإعلام الأمريكية على ترويجها للعرب، وهي صورة القتَلة السفاحين الذين لا يُقدِّرون قيمة الحياة فيقتلون الأبرياء من المدنيين ويُروِّعون السكان الآمنين؛ فهؤلاء إرهابيون، وأجهزة الإعلام المعادية تُصوِّر المكافحين الفلسطينيين في هذه الصورة، بل وتُعمِّمها حتى تشمل العرب كلهم، والأخطر من ذلك أنها تربط هذه الصورة الفلسطينية بالصورة الأفغانية، أي الصورة التي تُنسب إلى المتطرفين الإسلاميين بقيادة أسامة بن لادن وأيمن الظواهري. ووافقه الثاني (ووافقتُه ضمنًا) على ضرورة التغيير، لكنه تساءل عن أسلوب العمل في سبيل التغيير، والعرب مُتفرِّقون لا يكادُون يجتمعون على شيء، ومن ثم أثار الشك في إمكان تحقيق ذلك وقال ما أثار المتحدِّث الأول — أو قل إنه ألقى قنبلة غير متوقعة بأن قال بنبرات خفيضة: الأفضل أن يتوقف الفلسطينيون عن الهجمات الانتحارية على النساء والأطفال والأبرياء في المدن! وردَّ الأول قائلًا: تُريدهم أن يوقفوا الانتفاضة؟ هل تدعو سيادتكم إلى التسليم لليهود ولأمريكا؟ وأجاب الثاني بنفس النبرة الخفيضة: لقد ارتبطت الهجمات الانتحارية على الأبرياء بالإرهاب في أذهان الرأي العام الغربي ولم يعدْ من السهل بعد هذه الشهور الثلاثة (وكنا قد تجاوزنا منتصف يناير ٢٠٠٢م) أن نقنع العالم بأن الهجمات الانتحارية الفلسطينية على الأبرياء ليست من قبيل الأعمال الإرهابية، بل إن اليهود سوف يستغلُّونها في قهر الشعب الفلسطيني والعودة بالقضية إلى نقطة الصفر! بل سوف يجدون التأييد من العالم الذي تحكمه أمريكا بعد أن حصلت على موافَقة ٨٢ دولة — ومن بينها الدول ذات الوزن الثقيل — على مواصلة ما تسميه حملة الكفاح ضد الإرهاب! وقال الأول: إنه مذهول لسماع هذه النغمة الانهزامية، وقال إنه لم يسمع بشعبٍ تحرَّر دون كفاح، مهما تكن صورة الكفاح وأشكاله، وأومأ إليَّ لأُبديَ الموافَقة على أن الكفاح مشروع، فقلت له إن أحدًا لا يستطيع إنكار ذلك، فاستمرَّ قائلًا إنه لولا انتفاضة الشعب الفلسطيني الأولى عام ١٩٨٧م ما تمكن ذلك الشعب من إقامة سلطته المستقلة على بعض المدن في الضفة الغربية كبداية أو كنواة للدولة المستقلة وعاصمتها القدس، وإن الانتفاضة الثانية سوف تُقنع العالم بحيوية هذا الشعب العربي وترغم إسرائيل على الرضوخ وتحقيق مطالبه! وكان صوته قد تهدَّج وعلا بعد أن غلبه الحماس، وكنا ما نزال واقِفين لدى الباب، والساعة قد قاربت العاشرة مساءً، فقلت لهما إن الموضوع لا يُمكن مناقشته هكذا — ولكن الثاني قاطعني وقال: اسمحوا لي بكلمة واحدة قبل أن نَفترق — وشرع يتكلم كلامًا أراه جديرًا بالتلخيص هنا. قال: «كانت الانتفاضة الفلسطينية الأولى قد اندلعت إبان عهد انقسام العالم «القديم» إلى مُعسكرَين، فكان الاتحاد السوفييتي لا يزال موجودًا، وكان مجرَّد وجوده يعني أن على العالم أن يعمل حسابًا لذلك الوجود، حتى ولو لم يتدخَّل الاتحاد السوفييتي مباشرةً في القضية الفلسطينية على نحو ما تدخل في قضايا أخرى، وكانت أمريكا ما زالت قطبًا واحدًا من قطبَين، وكانت أوروبا على مشارف وحدة جديدة تهدد بأن تجعل منها قوة ثالثة، وكان الشعب الفلسطيني ينتشر في شتى ربوع الضفة الغربية ويلقي أطفاله بالحجارة فحسب على جنود الاحتلال، فكان من السهل على العالم أن يرى كفاح شعبٍ يَخضع للاحتلال ضد جيش الاحتلال، وكانت مواصلة الانتفاضة تؤكد إعلاميًّا مشروعية كفاحها في عيون الرأي العام في كل مكان! وهكذا كانت إسرائيل تخضع للضغط عالميًّا حتى تستجيب لمطالب «أطفال الحجارة» الذين أصبح كفاحهم رمزًا للصمود — صمود العزَّل ضد المدججين بالسلاح وضد المحتلين الغاصبين، وكان لا بد من مسيرة السلام للقضاء على ذلك الحال …»
وهنا قال الأول بسرعة «وهذا يؤيد كلامي!» لقد نجح الكفاح واستمع العالم! ولكن الثاني دعانا إلى الجلوس ولو خمس دقائق حتى يستكمل عرض وجهة نظره، وكان يردد «أرجوكم أرجوكم!» فجلسنا في قاعة الانتظار الخارجية المواجهة لمكتب سمير سرحان في المعرض، وكان ما زال بداخله، وكان بعض المشاركين في الندوة ما زالوا معه يتناقشون، وهنا استأنف الثاني حديثه قائلًا ما موجزه:
وأسرعتُ هنا أقول — بعد أن التزمت الصمت طيلة الوقت تقريبًا — إن العالم ليس مغفَّلًا، والعالم يعرف أن اتفاقية إقامة السلطة الفلسطينية اتفاقية حلٍّ مرحلي، أي إنها تمثل مرحلة أولى ولا بد أن تتلوها مراحل أخرى، وإنَّ العالم كان يوافق أو على الأقل لم يكن يعترض على الانتفاضة الثانية في سبتمبر ٢٠٠٠م، وكانت الدول الكبرى — وعلى رأسها أمريكا — تسعى لإيجاد حلٍّ للقضية الفلسطينية؛ بدليل جهود الرئيس السابق كلينتون ومحادثات عرفات وباراك، وأيَّدني الأول وأضاف: إن الكفاح لا بد أن يستمر حتى يستمع العالم من جديد، ولكن الثاني عاد يقول:
«آه! ولكن العالم قد تغيَّر وتغيرت سياسة أمريكا بعد أحداث ١١ سبتمبر ٢٠٠١م! وكان يجب على العرب أن يبتعدوا عن كل ما يربطهم بما يُسمَّى الإرهاب حتى لا تربط أجهزة الدعاية المُعادية بين هذه الأحداث وبين هجمات الفلسطينيين الانتحارية، فلقد نجحوا حقًّا في قتل العشرات من المدنيين ومن بينهم نساء وأطفال، ولكنهم يربطون كل يوم بين عرفات — المناضل الصادق في سبيل تحرير بلاده — وبين أسامة بن لادن وأيمن الظواهري، وجهاز الدعاية الأمريكي قاهر جبار! ولقد استمعت إلى عدد من المحلِّلين السياسيين الأوروبيين والأمريكيين، غداة أحداث ١١ سبتمبر ٢٠٠١م، وكانوا يقولون في نبرات تشي بالثقة والمعرفة ببواطن الأمور إن أمريكا سوف تُحاول إيجاد تسوية عاجلة لقضية الشرق الأوسط حتى تكسب تأييد العرب في حربها ضد أفغانستان وضد الإرهاب في كل مكان! ولم يَفُتِ الوقت بعد! فلقد نجحنا في تصحيح الزعم بأنَّ الإسلام دين إرهابي، وبدأ العالم يرى حقيقة ما حدث، وإن كانت أصوات أعدائنا ما تزال تنعق وتزعق، وعلينا إذن أن نقلع عن الهجمات الانتحارية ونطالب باستئناف مسيرة السلام؛ فالحرب الأفغانية انتهت أو كادت، وسوف ينسى العالم سريعًا موضوع الإرهاب الانتحاري إذا أقلعنا عن ممارسته!»
وقال الأول بل علينا أن نُواصل الكفاح؛ فقلت له لا خلاف على ذلك ولكن الدكتور (…) يتحدث عن أسلوب الكفاح، لا عن الكفاح نفسه، فقال الثاني في نبرات ما زالت خفيضة إن الأيام سوف تثبت لنا صحة ما يدعو إليه؛ فنحن نعيش في عصر الديموقراطية الغربية، وهي صورة من صور السيطرة على الناس بأجهزة الإعلام؛ أي إنَّ السلاح الماضي في هذه الصورة الجديدة من صور الديموقراطية هو تسخير أجهزة الإعلام لإثبات اللونين البارزين اللذين لا يستطيع الناس أن يروا سواهما — الأبيض والأسود — أي من هم الأخيار ومن هم الأشرار، وإن الهجمات الانتحارية على المدنيين لو استمرت فسوف تضع الفلسطينيين في الخانة الأخيرة، وأسرعت أقول: ولكن ماذا بيدهم أن يفعلوا؟ فساد الصمت لحظات خلتها دهورًا قبل أن يعود الأول إلى الكلام دون حماس هذه المرة قائلًا: لو دعم العرب كفاح الفلسطينيين — وقد وعدوا بدعمه — فلن نخشى شيئًا مما تخشونه! فقلت ضاحكًا لو! وآه من كلمة لو! ولكن الثاني قال: لا! حتى لو دعموا قتل الأبرياء — تذكر أننا نواجه الاتهام بأننا إرهابيون نقتل النساء والأطفال! لا … لا تقُل لو! ليس لأن ذلك مستحيل، وليس لأن الدعم لا قيمة له، بل لأنَّ العالم قد تغير! وما دامت إسرائيل قد أقنعت العالم بأنَّ تعريف الإرهاب هو قتل المدنيين، وما دامت أجهزة الإعلام الغربية تُضخِّم أحداث التفجير الانتحارية بالتركيز على الضحايا الأبرياء من النساء والأطفال، فلا بدَّ أن يتوقَّف الفلسطينيون عن هذه الأحداث! وقال الأول: أنا ما زلت أؤيد كفاح الفلسطينيين، وضحك الثاني وقال: وهل أعارضه أنا؟ كل ما هناك هو أنني أرجو أن نُقلع عمليًّا عن الأفعال التي تُصوِّرنا في صورة الإرهابيين!
٣
ولقد ذكرتُ ذلك كله حتى أضرب مثلًا للتعاون العلمي الذي كان ولا يزال يميز علاقتي بكلٍّ من سمير سرحان وماهر شفيق فريد، وهو التعاون الذي استطعنا بفضله من الانتهاء من هذا الكتاب، الذي أشاد به كلُّ مَن اطلع عليه، في أقل من شهر واحد، وإذا كان صحيحًا أن معظم المادة كانت مُتوافرة لدينا من عملنا الجامعي وجهودنا الدائبة في المجال الثقافي العام، فإن جهد التجميع والتنظيم والعرض لم يكن هينًا، وكان التعاون هو الذي جعل الكتاب يبدو مُتجانسًا وموحَّد الغاية والهدف. وكان من أغرب المفارقات أن أشاهد، أثناء الندوة الخاصة بنجيب محفوظ، «حسن» المخرج جالسًا بين الحاضرين! وحييتُه تحية سريعة أثناء النقاش؛ إذ لم تكن اللحظة مناسبة «للدردشة»، ولكنه اتصل بي — كما توقعت — في اليوم التالي، وأصرَّ على أن يراني في المساء، وحاولتُ التملص لأنني لم أكن أحب السهر في برد يناير، لكنه ألحَّ فأدركت أن لديه قصصًا من أمريكا فوافقت.
«تذكر أنني عندما سافرت للمرة الأولى إلى أمريكا منذ خمس سنوات تقريبًا كنت أقول في نفسي: إنها زيارة عمل مؤقتة، وكنت أتصوَّر أنها سوف تنتهي بي، مثل زياراتي للبلاد العربية، إلى عودة «ميمونة» إلى مصر، ولذلك تعمدت أن أُقاوم إغراء الإقامة الدائمة — وهو ما كان يُمكن أن يُصبح غلابًا لو اشتريت منزلًا مثلًا أو تزوجت من أمريكية — بل فضلتُ أن أُقيم في شقة مستأجرة، وأن أتحاشى التخطيط للمستقبل، بل أن أعيش «يومًا بيوم» كما يقولون، وكنت فرحًا لأنني أقيم في مدينة بها مسجد كبير أستطيع أن أصلي فيه الجمعة على الأقل، بل وأن أرتاده كلما أحسست بالضيق، فلا شيء مثل المسجد يربط الإنسان بالجذور، وكنت أفرح عندما أرى المسلمين من غير العرب يؤمُّونه، خصوصًا من بين الأمريكيين، بيضًا أم سودًا. ولكن مهارتي اللغوية — وفي الترجمة تحديدًا — كانت وبالًا عليَّ!»
«إنني سجين دوامة الغُربة، ولن أحتمل العودة إلى مصر مرةً أخرى، بل لن أحتمل تذكُّر ما كنته أو ما كان يمكن أن أكونه، فلقد أصبحت شيخًا في النفس لا في البدن، وكان الهروب الذي اخترته ولم يرغمني عليه أحد أقبح اختيار يقدم عليه فنان! إنني أدور في دوائر مفرغة — حلقات خبيثة لا يُمكن أن أكسرها، فلقد وهنت إرادتي وأصبح التخاذل ديدني، حتى عندما أواجه أبسط المواقف وأهونها، فأنا صامت، وأكاد أترك المكتب برمته لصديقي المصري المخلص، فأنا لا أكاد أترجم شيئًا أو أشارك حتى في المراجعة، وأنا لا أعرف حقيقة ما حدث، ولا أظنني أستطيع أن أقطع برأيٍ فيما انتهَيت إليه، وكنتُ أظنُّني قادرًا على العودة إلى الحياة حين أزور مصر فأتحادث مع أصدقائي القدامى وأفيض في وصف حالي وما انتهيت إليه، ولكنني أشعر أنني مهزوم، وأكاد أقول مسلوب الإرادة، فأنا لا أستطيع إقفال المكتب فهو يدرُّ عليَّ أرباحًا طائلة، أو العودة إلى الأعمال الفنية إذ لم أعد قادرًا عليها، وقطعًا لا أستطيع العودة إلى مصر.»
وحاولت تغيير الموضوع حتى نَكسر النغمة الاعترافية التي سادت الجلسة فسألته عن أمريكا وإسرائيل، فكاد يضحك فاستبشرت خيرًا، لكنه قال — رغم ما يُشبه الضحك — إنه يَعجَب لسؤالي؛ فهو واثق أنني أعرف مدى السيطرة اليهودية أو الصهيونية على أجهزة الإعلام في أمريكا وعلى قنوات الإنتاج الفني — ومن بينها السينما — وأن أيَّ محاولة لتغيير الوضع القائم ستَذهب أدراج الرياح، فكيف أتساءل عن ذلك؟ لكنني قلت له إن ثمة أملًا يلوح وهو ما يدلُّ عليه انخفاض أعداد اليهود الأمريكيين الذين يهاجرون إلى إسرائيل فضحك من جديد وهو يستعد للنهوض قائلًا: ولكن اليهود موَّلوا هجرة مليون يهودي روسي تقريبًا إلى إسرائيل، والحكومة الإسرائيلية تعمل جاهدة على إقامة مستوطنات لهم وتحتاج إلى كل شبر من الأرض العربية تستطيع احتلاله! وقلت له: يعني الزمن ليس في صالح العرب؟ فقال ونحن نتَّجه للخروج «الله أعلم! الزمن يا عناني يا خويا ليس في صالح أحد!»
٤
عندما ودعت «حسن» المخرج ذلك المساء، بل وبعد أن ركبت السيارة، لم أجد بنفسي أي رغبة في العودة إلى المنزل، وإن كان الليل قد أوغل، فخرجت من السيارة وانطلقت أسير الهوينى على شاطئ النيل وأتأمل أضواء الشاطئ الآخر، وقد تملكتني فكرة واحدة وهي «الوعي»— فلقد أحسست أن حسنًا كان يُعاني من حدة الوعي، على ندرة تلك الحدة بين مُزاوِلي حرفته؛ فمُعظَم مُمارسي المهن التمثيلية يعيشون اللحظة الحاضرة وحدها دون أن يسمحوا لأذهانهم أن «تعي» ما وراءها وما أمامها، بل إنَّ الكثيرين من «المثقفين» الذين يتركون مصر للحياة خارجها نادرًا ما يسمحون للوعي أن يصل إلى هذه الدرجة من الحدة، فالوعي درجات مثل أي لون من الألوان، وكانت مأساة حسن تتمثل في نظري في أنه ترك مهنة اللحظة الحاضرة فسمح لنفسه ببعض التأمل الذي زاد من حدة وعيه بموقعه في الحياة باعتباره مصريًّا يعيش خارج بلده ويُدرك تمامًا معنى غربته، ثم لا يستطيع أن يضع حدًّا لها، بل يدور في دوامة من الندم والأسى على ما فات وما كان يمكن أن يكون، واعيًا بالحلقة المفرغة التي يعيش فيها ولا يملك أن يكسر طوق حصارها، بعد أن أسلم زمامه للمقادير تجري به كيفما شاءت.
وكلَّما أنعمتُ النظر في حالِ حسن، ازداد وضوح الدور الذي «لعبه» الوعي في إحساسه بالضياع؛ فكم من المصريين العاملين في الخارج ينعمون بالبُلَهْنِية المادية ويَطمسون في نفوسهم أي عنصر من عناصر الدَّيْنِ الذي يدينون به لمصر، بل لقد شهدنا منهم من خدع بلده وخانها من خلال إبرام صفقات زائفة مُخاتلة حتى مع الحكومة (مثل ما حدث فيما يُسمى بقضية حديد أسوان) ولكن الغالب أن نرى العامل في الخارج وقد أقنع نفسه بألا يَرعى سوى ذاته، وبأنه لم يَعُد يَنتمي إلا إلى نفسه، حتى لو تحايَل على غيره، ولو أضرَّ به في غمار ذلك، على نحو ما حدث حين تزوج مصري أعرفه خير المعرفة من مصرية مُقيمة في بلد أجنبي، ولا أعرف إن كانت قد حصلت على الجنسية الأجنبية أم لا إذ لم أقابلها إلا عام ١٩٩٣م، لا لشيء إلا ليحصل على الإقامة في البلد الأجنبي الذي كان يُريد الإقامة والعمل فيه، وعندما حصل على بغيته (بعد عام ميلادي كامل) طلقها في القنصلية المصرية، وقد كان يتكتم هذه الواقعة ولا يُشير إليها من قريب أو بعيد، خصوصًا بعد أن أحضر زوجته الأولى من مصر للحياة معه في الخارج، ولم أستطع أن أعرف منه إن كان طلَّقها قبل زواجه من الثانية ثم ردَّها إلى عصمته بعد طلاقه من الثانية أم لا، ولكنني لاحظت أن الثانية قد أصبحت ترتدي الطرحة في المكان الذي تعمل فيه (ويعمل فيه معها كثير من العرب) وكانت تطوف بالمكاتب في أوقات الصلاة لتدعو العاملين من المسلمين إلى ذكر الله، وقال لي أحد الخبثاء إنها تبحث عن زوج جديد، وإنها أصبحت ترتاد المسجد في أوقات الفراغ، وتجلس مُتبتِّلة قانتة في انتظار الفرج، ولاحظت عند الحديث معها كثرة الحوقلة والبسملة، وعندما زرت مكتبها وجدت المصحف مفتوحًا ومن فوقه مسبحة.
والأمثلة على «الوعي المأسوي» لا تُعدُّ ولا تحصى في الآداب العالَمية، وقد يكفي مثال واحد في هذا السياق، ألا وهو وعي عطيل في المسرحية المسماة باسمه والتي أبدعها شاعر الإنجليزية الأكبر وليمَّ شيكسبير. إنَّ عطيل يعرف أنه «تجاوز» أعراف مدينة البندقية، وهي مدينة دولة، لها حاكمها ولها قوانينها الخاصة، عندما أقدم عطيل — وهو الأجنبي الأسود الذي يعمل قائدًا للأسطول بسبب حنكته البحرية فقط — على الزواج من «ديدمونة» البيضاء وابنة أحد أكابر البلدة. أي إنه كان استوعب في وعيه ذلك «التجاوز»، دون أن يتجاوَز عنه، بل إنه عندما شرح قصة غرامه وزواجه بالفتاة التي تصغره كثيرًا في السن، قدَّم ما يُبين إدراكه لعدم تجاوزه ذلك التجاوز؛ إذ قال إنه كان يَحكي لأبيها الذي كان يُحبُّه حكايات مغامراته والأخطار التي صادفته، وكانت «ديدمونة» تَستمِع إلى حكاياته وتبدي تعاطفها معها، وانتهى عطيل إلى القول:
وقد يبدو من حديثي أنني أدعو إلى الوعي الكامل ولو تحوَّل إلى وعي مأسوي، لكنني لا أدعو إلى شيء بل أوضِّح فحسب أن يقظة وعي صديقي حسن، الذي شارف على السبعين، قد أدَّت إلى هموم «وجودية» لا أكاد أرى لها دفعًا، فغيرُه من العاملين في الخارج قد اكتفوا ببعض عناصر الوعي ولجئوا إلى أقنعة حامية، فتوافقوا مع الحياة خارج مصر، سواء في البلاد العربية أو الأجنبية، كما أقصى بعضهم أحلام ممارسة الأدب أو الفن، وقنعوا بالانتقال من يوم ليوم ومن ساعة لساعة في قطار الزمن، دون أن يطلوا من نافذته ليروا العربات وهي تنهَب الأرض نهبًا، إذ أحلوا في وعيهم مشاغل صغيرة تشغلهم عن الهموم «الوجودية»، أحلُّوها وجعلوا منها مسرحًا لوعي متغير يأتي بما هو طريف وظريف كل يوم، فاكتمل لهم هدف التوافُق والتناغُم، ولو أنك تلمح عند بعضهم آثار ذلك الإحلال، وآثار ما خلَّفه من جهد وعناء.
٥
وعندما قصصت القصة على نهاد — زوجتي — تعجَّبَت من صراحة الرجل الذي كان يبدو لي في محنة، وعندما قلت لها إنه أكثرَ من التعبير عن إعجابه بزوجته الشقراء ذات الشعر الأصفر، فقالت لي دون اكتراث: «بل هو مصبوغ» فاغتظتُ وقلتُ لها إنه أصفر وقد رأيته فما الذي يَدعوكِ إلى إنكار ذلك، فابتسمت وقالت: «فهل رأيت حاجبَيها؟ إنها ليست شقراء!» وقلت في نفسي فليكن، فهي شقراء في نظره — وكانت مسرحية الغربان ما تزال مفتوحة أمامي على المكتب فقرأتُ قول شاعر القصر:
وصلت «هدى» في موعدها تمامًا — وكان الواحدة ظهرًا — ولم أشأ إضاعة الوقت، فلديَّ درس في الثانية، وكان القسم مقفرًا، فطلبت لها الشاي، وفتحَت هي جهاز التسجيل الصوتي الصغير، وانطلقتُ أتكلم بسرعة فأجبت على جميع أسئلتها، وهي صامتة لا تكاد تتدخل فيما كان يعتبر حوارًا، وكان وقت الغداء قد حان أو فات فقدَّمتُ لها بعض البسكوت الذي أحتفظ به في مكتبي، لكنها اعتذرت لأنها تُحاول إنقاص وزنها، فألححت كعادة المصريين؛ فإذا بها تقول: «لا تكن مثل فلان [وذكرت اسم زوجها ولنُطلِق عليه هنا اسم «محسن»] الذي لا يقبل المعارضة!» وشعرت بالحرج فلم أعلِّق. وتشاغلتُ بشرب الشاي، وجعلت أنظر إلى الساعة، كأَّنما لأُذكِّرها بأن الوقت قد تأخر، لكنها تجاهلَت ذلك التلميح، بل تركت جهاز التسجيل موصولًا بفيشة الكهرباء، وواجهتني بسؤال مباشر: «ماذا قال لك، محسن؟» ولم أُبدِ أي تردُّد حتى لا أُثير في نفسها أي قدر من الشك، بل قلت لها إنه يقول إن الله قد عوَّض صبره خيرًا، فعادت تسأل «وماذا قال لك عن زوجته السابقة؟» وكان تعبير «السابقة» غير متوقَّع، فهو لم يقلْ لي إنه طلَّقها، وكنت أستبعد أن يُخفي عنِّي ذلك إن كان قد حدث، فذكرتُ لها أنه قال إنها «انقلبت عليه»، ولم أزدْ، فبدا عليها الارتياح، وعدتُ أنظر إلى الساعة؛ إذ كانت تقترب من الثانية، ولم أكن أريد أن أتأخر على طُلَّابي؛ فطُلَّاب الدراسات العليا يأتون لحضور هذه المحاضرة في يوم الأحد، ويتركون أعمالهم خصوصًا من أجلها، بل إنني لمحتُ بعضهم ينتظر خارج الغرفة، ولما أصرَّت «هدى» على تجاهل نظري إلى الساعة، نَهَضْتُ أنا وقلت لها إن موعد الدرس يَقترب، فقالت إنها تريد صورة شخصية لي، فوعدتها بإحضارها في أقرب فرصة وودَّعْتُها وانصرفَتْ.
وكان من عادتي في يوم الأحد — بعد قضاء النهار كله في الجامعة — أن آويَ إلى الفراش مبكرًا، ولذلك اعتذرت للدكتور فاروق عبد الوهاب الذي كان في مصر آنذاك، وقلت له إنني لن أستطيع الخروج في المساء، وقمت لإعداد طعام العشاء، وإذا ﺑ «هدى» تُحادثني بالتليفون، لتسأل بدايةً عن «الصورة»، ولتحكيَ لي قصة متشابكة معقدة الأطراف، وكانت كلما ذَكَرَتْ شيئًا طريفًا؛ تقول إن عليَّ أن أضعه في المسرحية المقبلة، واستمعت إليها بتأنٍّ وصبر، لكن القصة طالت، والواقع أنها كانت جديرة بموقع في مسرحية ما، لولا أن فصولها لم تكتمل في نظري إلا بعد سنوات، ولولا أن بها ما يجعلها غير صالحة للمسرح، وها أنا ذا أحكيها بعد أن تجمَّعت لديَّ القطع الناقصة (كلها أو معظمها) في مقابلات وأحاديث مُتعدِّدة، وبعد أن اعتبرتها انتهت — على نحو ما سأروي.
كانت هدى من قريبات زوجة «محسن» (وهي الزوجة التي لم أعرف لها اسمًا حتى اليوم) وكانت تُكثِر من زيارتها في المنزل (منزل الأسرة) قبل أن تتزوَّج، وكانتا تتسارَّان وتتبادَلان الحكايات، فهما مُتقاربتان في السن، ومُتقاربتان في المشارب والأهواء، ولو أنَّ «هدى» تَنتمي لفرع الأسرة الغنيِّ، فكانت تَمتلِك عمارة تتكوَّن من سبعة طوابق في شارع مصدق بالدقي، ولم تكن تكترث للدراسة أو تحلم بدخول الجامعة مثل قريبتها «الفقيرة»، فلم تكد تشبُّ عن الطوق حتى جاءها الخُطَّاب يطلبون يدها، ولكنها كانت تتمنَّع وتتدلل، وكانت دائمًا ما تقول إنها تَنتظِر «عريس الأحلام»، وكان الدخل من إيجار الشقق في الستينيات يكفي لتوفير حياة رغيدة لها ولوالدها الذي لم يُنجِب سواها، وكانت له أراضٍ زراعية في العياط، يزُورها من حين لآخر للاطمئنان أو لجمع الإيجار من الفلاحين، وكانت العلاقة وثيقة بين البنت وأبيها منذ الطفولة، وازدادت توثُّقًا بعد وفاة والدتها عام ١٩٧١م، وامتناع الوالد عن الزواج بأخرى حفاظًا على ابنته وصونًا لها من مهانة الخضوع ﻟ «زوجة الأب»، وعندما بلغت العشرين قبلت الزواج من رجل يكبرها بعشرين عامًا، وأقاما في شقة من شقق العمارة، تاركَيْن الوالد وحده، وقالت «هدى» إنها كانت تحسُّ بتأنيب الضمير، وكانت تشكو لزوجة محسن (التي كانت سبقتها بالزواج وأنجبت طفلة جميلة) من وخز الضمير وما تُسبِّبه الوحشة التي يعيش فيها والدها من قلق، ولكن زوجة محسن كانت تطمئنها وتؤكِّد لها أن الصداقة التي تربط عريسها بأبيها (إذ كانا شريكَين في العمل) كفيلة بشغل وقته والتسرية عنه، وكانت تُحدِّثها عن مباهج الزواج وتُسرف في الحديث عن ذلك حتى أيقظت في نفس هدى مشاعر لم تكن راودتْها من قبل، فبدأت تُطالب زوجها بأن يخرج معها وأن يقضي الأماسيَّ معها في المنزل، وكان دائمًا ما يتهرب إما بحجة ضغط العمل مع والدها، أو بحجَّة تركها لمتابعة دراستها في المعهد المتوسط الذي كانت قد التحقت به، وأما حين يزداد إلحاحها فقد كان ينصحها بزيارة زوجة «محسن»، والائتناس بها وتعلُّم رعاية الأطفال منها تمهيدًا لدور الأم الذي قال إنها لا بدَّ أن تنهض به يومًا ما. وقدمت لي «هدى» تحليلًا كاملًا ذات يوم في مكتبي بالقسم بعد ذلك بنحو عامٍ، وكنتُ قد عدت من مؤتمر بالخارج وأحببت أن أطمئن على أحوال القسم — في العطلة الصيفية في عام ١٩٨٩م — فوجدتُها في انتظاري. وكان ذلك التحليل الذي استغرق نحوًا من أربع ساعات يتضمَّن أكمل صورة للتغيُّر الذي جاءت به الأيام في السبعينيات، وأجد فيه الآن أجمل دليل على «عذاب الوعي» (موضوع هذا الفصل) ولذلك فسوف أُوجز ما قالته وما سجلتُه في كراسة المسرح في اليوم نفسه وهو طويل قد يملأ مجلدات، ولكنني سوف أختصره قدر الطاقة. قالت «هدى»:
«هل تعلم أنني كنت محجَّبة؟ [تقصد ترتدي الطرحة] لقد كنت من أوائل الذين عرفوا الطريق إلى الله، فالتحقتُ بالعمل بصحيفة إسلامية، وشجعني زوجي على ذلك، ولم يَعترض والدي، وأنا أتمتع بقدرة كبيرة على التعبير، سرعان ما لفتت إليَّ الأنظار، فتركتُ الشئون الإدارية وعملتُ مساعدة لرئيس التحرير، وكان رجلًا تقيًّا ورعًا، فكلفني بإعداد بعض الموضوعات عن المرأة في الإسلام، ومن هنا انطلقت ولم ألبث أن أثبتُّ وجودي وتفوَّقت على خريجي كلية الإعلام بل وعلى القدماء في المهنة؛ إذ كانت لديَّ سيارة خاصة، وكنت «متحركة» وأحب الناس وأعشق الاستماع إلى أسرارهم وإن كنت لا أنشرها — بطبيعة الحال — وكانت الفترة التي قضيتها في المنزل قبل العمل قد زادت من وزني فبدأت نظامًا غذائيًّا مُحكمًا، وكنت كلما اكتشفت حقائق جديدة عن حياة المرأة بُحْتُ بها لقريبتي وصديقتي زوجة «محسن»، وكانت تتَّصل بي دائمًا حتى وأنا في العمل، ولا تكاد تَشبع من أخباري أول قل من أخبار الناس وأسرارهم.
وذات يوم أثناء حديث عابر مع إحدى الزوجات المُسلمات، أحسستُ أنني زوجة مظلومة، وأن الحرية التي يُتيحها لي زوجي والتي لا يُتيحها زوج المسلمة المذكورة لها، ستار يُخفي إهماله لشيء مُهم، أو قل عدم كفاية أدائه لذلك الشيء، وزاد عندي ذلك الإحساس حتى أصبح هاجسًا أو هواجس، وعندما أفضتُ في هذه الهواجس لقريبتي وصديقتي ضَحِكَتْ وقالت إنها على العكس مني تمامًا، وإنها لا تقبل إلا أن تعيش حياتها كاملة غير منقوصة، فلقد حصلت على البكالوريوس، وهي تكتفي بعملها في «المصلحة» صباحًا ثم تتفرَّغ لزوجها وابنتها ومنزلها مساءً، وقَدَّمَتْ إليَّ عدة نصائح حاولت العمل بها لكنني لم أفلح. وبدأ العذاب الذي كان في منشئه لا يزيد على بعض الأسى، ولم يكن لديَّ سوى قريبتي أشكو إليها، فأكثرت من التردُّد عليها وكنت أفضل أن أترك المنزل الخالي في المساء لأسهر معها، أو على الأقل لقضاء ساعة أو بعض ساعة معها ومع زوجها. وكان الجلوس معهما مصدر سرور وعذاب معًا؛ إذ بدأت أشعر بالحزن لما أنا فيه، وأنا زوجة مُخلِصة لم يرزقني الله بأطفال، ومع أن زوجي لم يكن يفتح موضوع الأطفال معي إطلاقًا، إلا أنني كنت أحسُّ بأن الإنجاب قد يقضي على الهواجس التي تنتابني، ولم أكن أخشى، مثل كثير من الزوجات اللائي أجريتُ معهنَّ مُقابلات صحفية، أن يتركني زوجي من أجل إنجاب طفل من أخرى؛ إذ كان الأطباء يؤكدون أنني قادرة على الإنجاب، وأن الأمر بيد الله وحده، لكنني اكتشفتُ — ويا لهول ما اكتشفت ذات يوم — أنني لا أرغب حقًّا في الإنجاب من زوجي، وأنني ربما كنتُ أرفضه في أعماقي، بل — وهذه هي الطَّامَّة الكبرى — أنني أشعر بنشوة تطير بي إلى السماء السابعة عندما أنظر إلى «محسن» زوج قريبتي أو أستمع لصوته — لو في التليفون!
لك أن تتصور العذاب الذي عشت فيه، وكان أفظع ما فيه عجزي عن البَوح لأحد! كان عليَّ أن أتحمَّل وحدي هذا العذاب، فقررتُ الانقطاع عن زيارة قريبتي، وضاعفت من نشاطي في الصحيفة، لكنها أُغلقت في مطلع الثمانينيات، وأصبح لديَّ فراغ قاتل، ألجأني إلى والدي ألتمس العون، فإذا به يُعاني من مرض عضال، فشُغلت بعلاجه شهورًا متوالية نسيت فيها أحزاني وكل ما يتعلق بحياتي الخاصة، فلقد كان أكثر من أبٍ، وكان يُمثل ركن الثبات في حياتي، وعندما أتى أمر الله تقبلتُه راضية بالقضاء، لكنني أصبحت لا أطيق أن أرى زوجي أو أعود إلى منزلي معه.
وكان زوجي شهمًا وكريمًا — على عكس الكثيرين من أزواج اليوم — فتركني دون الدخول في المفاوَضات المألوفة، فكان طلاقي طلاقًا مثاليًّا، بل إنه ترك القاهرة كلها وانتقل إلى العياط حيث كان مقر عمله في المزرعة أول الأمر مع والدي. وأحسستُ لأول مرة بالحرية، رغم الفراغ؛ فأنا لا أعمل، وليس لديَّ أسرة، وأقربائي — كلهم أو معظمهم — في الصعيد، ولا أجرؤ للأسباب التي ذكرتُها لك على زيارة قريبتي حتى لا أرى «محسن»!
كنتُ أعاني في تلك الأيام من بلبلة لم أعهدها في نفسي من قبل، فلقد حُرِمْتُ من حنان الأب وأنا في مسيس الحاجة إليه، ومن العمل الذي كان يُمكن أن يمتصَّ جهدي في التفكير (بل وفي الإحساس) ومن الزوج وإن لم يكن الزوج الذي أرجوه، ومع ذلك — وهذا مصدر البلبلة — كنت أشعر بسعادة لأنني أستطيع أن أتخيل وجودي مع «محسن»، وأن أضع في خيالي حوارات طويلة معه عن الحياة والمصير والأقدار؛ فهو مثقَّف ومُتحدِّث بارع، بل وكنت أسمح لخيالي أن يشتط بي فيتجاوز الواقع بكل عراقيله، وأنت تعرف ما أعني حين يعيش الإنسان في خيالات لا حق له فيها! وكأنما كان القدر لي بالمرصاد، فلم تمضِ شهور ثلاثة — وكنا في رمضان — إلا ووجدت مَن يطرق بابي على غير انتظار، وكانت قريبتي وصديقتي القديمة زوجة «محسن»! ورحبتُ بها كل الترحيب وأسرعت بالاعتذار عن انقطاعي عن زيارتها بسبب ظروفي، لكنها فاجأتني بما لم يكن في الحسبان. لقد اتهمتْني بأنني أخونها مع زوجها، وقالت إنها تعلم «كل شيء» ورمتْني بأفظع الصفات، وأعلنتْ أنها لن تقبل أن أختطفه من يدها، وأنها سوف تُحارب ذلك بكل ما أُوتِيَتْ من قوة، وأنه إذا كان يريد أن يطلقها فعليه أن يَبيع كل شيء لدفع مؤخر الصداق «المعجز»، وأنها لن تتنازل عن أي شيء؛ فسوف تظل في الشقة لأنها حاضنة، وسوف تؤلب عليه المعارف وتفضحه في مقر عمله، واستمرت في ذلك السيل العارم نحوًا من ساعة، فوجدتُني أنهار باكية وأقسم أغلظ الأيمان على براءتي، وهي تزداد قسوة وغلظة، ثم انتهت بأن قالت: «لقد اختفى منذ مدة! وأنا أعرف أين تُخفينه أيتها اللصة التي ائتمنتها على بيتي!» ثم صفقت الباب وراءها وخرجت.
وأحسستُ بالدوار حتى إنني فكرتُ في أن أفطر ذلك اليوم، لكنني تحاملت على نفسي حتى حان موعد الإفطار فشربت بعض الماء ونمت، واستيقظت على صوت رنين التليفون، وكان صوت زميل لي في الصحيفة التي أغلقتْ أبوابها، يقول لي إن هناك مجلة عربية تبحث عن مراسلات يكتبن عن أحوال المرأة في مصر، وإنه رشَّحني للعمل بسبب خبرتي السابقة بشئون النساء! واستمعت إليه وأنا بين النوم واليقظة — وعندما أفقت تمامًا؛ طلبته في التليفون وسألته إن كان قد اتصل بي حقًّا؛ فدهش وقال: «طبعًا! ولماذا لم تُصدِّقي؟» فلم أجد ما أقوله وشكرته، واتصلت على الفور برقم المجلة الذي أعطاني إياه، فتأكد صدق الخبر، ولم أُضِع وقتًا فقد كنت أحاول نسيان تلك المرأة وما قالته، وخرجت بسيارتي وقابلت رئيس المكتب فرحَّب بي وكلَّفني ببعض المهام، ووقَّعت عقد العمل وخرجتُ لأتناول طعام الإفطار الذي كنت نسيته.
قد لا تصدقني إن قلت لك إنني أنجزت في رمضان ما يتعذر إنجازه في أيام الإفطار، وكنتُ كلما أحسستُ بأنني انتهيت من موضوع فكرت في موضوع آخر وعرضته على رئيس المكتب حتى يتصل بمقر الصحيفة ويعطيني الضوء الأخضر، ولم يأتِ العيد حتى أحسستُ أنني نسيت أو كدت أنسى قريبتي وزوجها، ولكن المكتوب مكتوب؛ إذ كنت عائدة من زيارة قبر والدي في الصعيد — وكنتُ أحمد الله على نجاتي من حادثة سيارة كادت تقضي عليَّ في طريق العياط (وكان الخطأ خطئي أنا بسبب عادة «السرحان» التي اكتسبتُها) — وكنت أحاول أن أجد مكانًا للسيارة وسط الزحام، حين لمحت «محسن» واقفًا يُشير إليَّ بيده! لم أملك أن أتجاهله؛ فالواضح أنه كان ينتظرني، وكنتُ — مهما أنكرت — أحس بالعذاب في بُعْدِي عنه، فرددتُ الإشارة، وتركت السيارة للسائس، وتحكمت في مشيتي وتعبير وجهي حتى لا أبدو متلهِّفة على لقائه — وسلمت عليه ثم سرنا خطوات في الشارع، دون أن نتبادل كلمات كثيرة، ثم توقفتُ كأنما لأستجمع شجاعتي وأواجهه — وإن كنت لا أعرف ماذا يمكنني أن أقول له! إنه موقف يتطلب أديبًا محترفًا حتى يفرد له الصفحات، لكنَّني أقول لك فحسب إنني أحسست في داخلي دموعًا لا أسمح لعيني بأن تَذرفها، وشعرت بأنني أريده أن يَختطفني فيطير بي بعيدًا عن العالم الذي لم يعد له طعم ولا لون! لكنني تجلدت، وعندما طلب مني أن أسمح له بأن يُكلمني في التليفون وافقت. واستأذن ومضى.
لم أنم تلك الليلة في انتظار المكالمة غير أنها لم تأتِ إلا صباح اليوم التالي، ولم تكن مكالمة طويلة، لكنها كانت الروح التي أعادتني إلى الدنيا، فلقد طلب مني أن أتزوَّجه واشترط أن تقتصر إجابتي على «نعم» أو «لا»، فإذا كانت بالموافقة فلي أن أصمت وسوف يُفسِّر الصمت على أنه قبول، وصمتُّ لا لأنَّني وافقت ولكن لأن الذهول عقد لساني، فجاءني صوته يقول: «إذن خير البر عاجله! وسوف نذهب في الصباح إلى المأذون مع بعض أصدقائي ولا تَحملي همًّا لشيء! سوف أحادثك في المساء اليوم للاطمئنان.» ثم وضع السماعة.
كنت أريد أن أعرف ما حدث بينه وبين زوجته، وأريد أن أعرف ما لا يحصى من الأشياء، لكنَّني كنتُ كالمُسيَّرة مسلوبة الإرادة، أو كالمنوَّمَة تنويمًا مغناطيسيًّا، وحتى حين حادثته في التليفون ذلك المساء كنت أشعر أن صوتي يأتي من مكان غريب عن جسدي، وكان رنينه يدهشني، ولم يكن إحساسي — قطعًا — إحساس من تُقبِل على الزواج، فلم أكن أشعر أنني عروس أُزَفُّ إلى عريس، والواقع أنني لا أعرف بمَ كنت أشعر! وبينما أنا أحاول النوم رنَّ جرس التليفون وكان الصوت صوت سكرتيرة مدير المكتب، فسألتُها ما الخبر فقالت إن النقود قد وصلت وعليَّ أن أمرَّ على المكتب في الصباح لتسلُّم المال! لم أعرف ماذا أقول ولكنَّني تمالكت نفسي وقلت لها إنني لن أستطيع لأنني سوف أتزوج في الصباح عند مأذون الدقي، فقالت لي مبروك وانتهت المكالمة! وأحسستُ عندما قلت ذلك أنه أصبح حقيقة واقعة لا رجوع عنها، فنمت نومًا عميقًا وصحوت في الفجر واتجهت وحدي بالسيارة إلى مأذون الدقي، ففوجئتُ بحشدٍ حاشد من أصدقاء «محسن» ومن العاملين في مكتب المجلة، وبعد عقدِ القران اتَّجهنا بسيارتي إلى فندق مينا هاوس حيث كان قد حجز غرفة كبيرة لنا.»
وقالت «هدى» بعد الاستغراق في هذه التفاصيل الدقيقة إن ذلك كان يمثل بداية الوقوع في «بحر العسل» (وهو التعبير الذي استخدمه «حسن» المخرج فأعاد إلى ذهني هذه القصة) وكانت تقصد أنها كانت تتمتَّع بكل دقيقة في حياتها الجديدة، حتى بعد أن اكتشفت أن قريبتها (وصديقتها القديمة) ما زالت «على ذمَّة» زوجها! وكانت تقصد أنها لم تحاول أن تطلب من «محسن» تطليق زوجته، فربما كان ذلك يتطلَّب نفقات لا يستطيع تحمُّلها، كما أنه مسئول شرعًا عن تربية ابنته، وربما كان لا يزال يحب زوجته الأولى فهي لا تَعرف الكثير عن «نفسية الرجال» — كما تسميها — ولا تريد أن تستبق الأحداث فتعكر صفو الهناء الذي تعيش فيه. واهتدى ذهنها إلى حيلة تنقذها من الحيرة وهي أن تقنع نفسها بأن زوجها قد طلَّق زوجته القديمة، وأنه قد أصبح لها وحدها، وقضت شهورًا طويلة — وكان ذلك في صيف عام ١٩٨٣م — وهي لا تُريد أن تعرف إلا أنها قد تزوَّجت من هذا الرجل «الحلم» كما كانت تُسمِّيه، ورسَّخت في نفسها الاعتقاد بأن زوجته الأولى قد أصبحت «طليقة»، خصوصًا لأنه كان يقضي كل وقته معها هي، ولا يكاد يزور الأولى، ثم أقنعها هو آخر الأمر بأن تنتسب إلى كلية الآداب، فحصلت على الثانوية العامة من جديد، واختار لها قسم الفلسفة بعد أن ترقَّى فأصبح موجهًا أول للفلسفة، وانتدب للعمل في ديوان الوزارة، وكان يتنافس على الحصول على منصب مستشار الفلسفة (أو العلوم الاجتماعية) مع بعض أقرانه وأذكر أنني كنتُ لمحتُ اسمه ذات يوم على أحد كتب الوزارة وإن كنت غير واثق، فاسمه مألوف، ويتسمَّى به المئات بل الألوف من أبناء مصر.
وسوف أقف هنا عند مفهوم «بحر العسل» الذي شغلني على امتداد عام ١٩٨٩م، فلقد استوعبت رواية «هدى» لما حدث لها، وأزحت التفاصيل جانبًا وركزت على الدور الذي يلعبه الوعي في بناء هناء الإنسان أو شقائه؛ إذ كان من الواضح لي أن «هدى» كانت تخدع نفسها واعيةً، وكانت تدرك تمامًا ما قرَّرت أن تفعله بحياتها بعد تجربة زواجها الفاشلة، وساعدها في ذلك توقُّد ذهنها ورجاحة عقلها، وعزيمتها التي كثيرًا ما ألمح نظائر لها في أبناء الجيل الجديد؛ فهي من مواليد الخمسينيات كما قالت وإن لم تُحدِّد لي السنة، وأنا أرجِّح أنها من مواليد أوائل الخمسينيات كما أنها تَنتمي إلى الجيل الذي كان يؤمن بالعلم والعمل، ولم يَحُلْ ثراؤها النسبي دون مواصلة الدراسة وحُب الكتابة والقراءة، وكان واضحًا لي في إبَّان عام ١٩٨٩م أنها تمر بأزمة، وأن زوجها كان يمر هو الآخر بأزمة، ولذلك استعنت بعين الكاتب (التي أشرتُ إليها في فصل سابق) في وضع كل منهما في مكانه باعتباره من الشخصيات التي سوف أعود إليها عندما يُجبرني عمل مسرحي ما على نشدان مثل هذه النماذج، وإن كنت في أعماقي أُكِنُّ إعجابًا لكل من يستطيع إنهاء علاقة والشروع في أخرى، فأنا أرى أن ذلك يتسبب في زلزلة كيان الإنسان نفسيًّا وذهنيًّا — إلى حد لا أستطيع تقبله ولو في خيالي!
بدأ محسن حديثه بأن طلب مني التوسُّط بما يظنُّه لديَّ من نفوذ في وزارة التربية والتعليم حتى يصدر الوزير قرارًا بمد خدمته عامًا آخر؛ إذ كان سوف يُحال إلى التقاعد في العام التالي، وهو في مسيس الحاجة إلى العمل، ووعدته خيرًا — بطبيعة الحال — وإن كنت أشكُّ في إمكان تحقيق مطلبه، ثم تطرق الحديث إلى ابنته التي أصبحت في الثانوية العامة و«تحلم» بالالتحاق بقسم اللغة الإنجليزية، وفهمت الرسالة أيضًا، وكنتُ أريد أن أسأله أسئلة «شخصية» لكنني ترددت وإن كنت آمُل في أعماقي أن يتحدَّث هو دون أن أسأل، وذلك ما حدث فعلًا؛ إذ بدأ بالإشارة إلى تصوير «خاتون» في مسرحيتي، وهي الفتاة التي تعيش في خدر من خدور القصر وتحلم بعريس الأحلام، وأسرع يقول لي إن هذه هي الفتاة المصرية الحقيقية، لا الفتاة العاملة التي تنقلب على زوجها حين تُواتيها الفرصة، كما فعلت زوجته الأولى، وذكرني بما قصَّه عليَّ منذ أربع سنوات تقريبًا، ولم أكن قد نسيته، ثم أضاف إن المجتمع قد أخطأ حين سمح للمرأة بالتعليم ومنحها جميع الحقوق التي يتمتَّع بها الرجل انطلاقًا من افتراض المساواة الكاملة بين الجنسين، وتساءل في شبه مرارة: «ولكن هل هذا افتراض صحيح؟ إذا كنا نبني هذا الاستنتاج أو تلك النتيجة على أساس «مقدمة منطقية» غير مؤكَّدة الصحة، فلن تكون النتيجة مؤكدة الصحة!» وقلت له إنه يستخدم منطق أرسطو فيما لا يصحُّ فيه منطق أرسطو؛ فالمقدمة لا تَفترض المساواة في كل شيء بل في الحقوق والواجبات فقط وهي التي لا بدَّ أن يتساوى فيها جميع أبناء البلد الواحد في المُجتمَع المدني، وأمام القانون، وكنت سأمضي في شرح ما هو معروف حين قال لي فجأة: «المرأة هي المرأة في كل عصر وفي كل مكان، وهي لا تُريد إلا امتلاك الرجل بدافع الأمن لحياتها، فغريزة الإنجاب والأمومة قائمة ومركَّبة فيها ولو لم تنجب! إن علاقتها بالآخرين علاقة مَنْ تخرج الإنسان من بطنِها إلى الحياة فتتصوَّر أنه جزء منها ويَنتمي إليها، سواء كان رجلًا أم امرأة، ومن هنا جاء حب الامتلاك والسيطرة!»
وطلبت المزيد من الشاي، وانطلق هو فقصَّ عليَّ كيف تتنازعه امرأتان، وهو يشعر بأنه ظالمٌ لكلَيهما، وأن ما تُطالبانه به أكثر من طاقته البدنية، فلم يعد شابًّا، وأنه أخطأ مرتين، الأولى حين ساعد زوجته الأولى (التي كانت ما زالت في عصمته) على الارتقاء في سلَّم التعليم إلى نهايته، فانقلبت عليه وأصبحت لا تُريده أن ينظر إلى سواها من البشر، ولا أن يُفكِّر إلا فيها، وكانت تراقبه مراقبة مُضنية وتحرمه أحيانًا مما هو حق له، فتمرَّد وأعلن حريته بالزواج من هدى، وكانت المرة الثانية حين تصوَّر أن «هدى» سوف تُعطيه حقوقه دون تنغيصٍ أو امتلاك، فإذا بها نسخة مُكرَّرة من زوجته الأولى مع فارق أساسي هو أنها لم تنجب فأصبحت تعتبره ابنًا لها، وتصحبُه معها في كل مكان، «مثلما حدث عندما زُرناكم في المنزل!» فقلت له إنني كنت أتصوَّر أنك أنت الذي أصررت على اصطحابها، فضحكَ ضحكة مريرة وقال: إن أخشى ما أخشاه هو المعاش (التقاعد)، فأنا الآن أتهرَّب منها بحُجة العمل، وأما حين أتقاعد فكيف أهرب من قبضتها؟ ومن ثمَّ كرر «محسن» طلبه لي بأن أتوسَّط لدى مَن أعرفهم في مكتب الوزير؛ فهو يعرف أنني أعرف الكثيرين، ويعرف أنني «خدوم» ولن أتأخر عن فعل ما أستطيع لمساعدته، وعندما بدأت أرد على حُجَجه الخاصة بالامتلاك وأنانية المرأة؛ لأقول له إن الرجل هو الذي لا يُريد لأحد أن يشاركه «ما يملك»، سمعنا التصفيق في الصالة، فنهض كأنما لإنهاء الحوار احتجاجًا بانتهاء المسرحية، وإن كنتُ واثقًا أنه يتهرب من مواجَهة ما كان واضحًا لي — أو ما اتَّضح لي آنذاك — كل الوضوح، ونهضت أنا أيضًا ولكن المسرحية لم تكن قد انتهت، فخطا خُطوة متردِّدة نحو الباب ثم مال عليَّ هامسًا:
«هل تعرف أنها كانت محجَّبة؟ وأنني أنا الذي أقنعتها بالتحرُّر من الطرحة استنادًا إلى أقوال الإمام الغزالي — رحمه الله — فلا يوجد شيء اسمه الزي الإسلامي، بل توجد الحشمة أو لا توجد، والحشمة قد تكون في الملبس أو في السلوك أو في داخل النفس! أنا الذي حررتُها من التظاهر وعلمتها فضيلة الصدق مع النفس … حررتها فاستعبدتني بكل معنى الكلمة! أليست هذه مفارقة؟»
وقلت له وهل فكرت في أن تتركها؟ وشرحتُ بسرعة ما أعني كي لا يغضب: «أقصد إن كنت ترى في العلاقة استعبادًا فتحرَّر منها!» فإذا به يقول في أسى: «ليتني أستطيع! لقد أعادت صياغة حياتي في هذه السنوات العشر؛ فأنا أرى فيها شبابي، ولو أنها شارَفَت على الأربعين، إنها امرأة نادرة، ولن تتكرَّر!» وأدركت أنه قد وقع هو الآخر في «بحر العسل» دون أن يدري، ودون أن تخطر العبارة بباله! وانتهت المسرحية، وخرجت «هدى» فاطمأنَّت على أنه كان معي طول الوقت، وتأكَّدَتْ أنني حصلت منه على رقم التليفون، ثم خرجا معًا، وخرجتُ وحدي — لم أكن أريد أن أسمع تعليقات أو انتقادات أو حتى مدائح، إذ شغلتني كلماته، مثلما شغلتني كلمات «هدى» من قبل، وتمنيت في تلك اللحظة أن أكون كاتبًا روائيًّا حتى أسجل التفاصيل التي ازدحم بها ذهني، وأن أملأ فجوات القصة من نبع خيالي، فما أكثر ما كنتُ أجهله، خصوصًا عن الزوجة الأولى والابنة — وما أكثر ما كنت أريد أن أعرفه!
وتأملت ظلَّ الزوجِ وزوجته وهما يسيران جنبًا إلى جنب خارجَين من المسرح، وتابعتهما ببصري وهما يركبان السيارة ثم ينطلقان بصعوبة إلى ميدان العتبة، وقلت في نفسي: إن «الوعي» هنا جحيم أُلقيَ بهما فيه، سواء كان ذلك بإرادتهما أم رغمًا عنهما، فكلٌّ منهما يعي حاله تمامًا ولا يخدع نفسه قطُّ، وكل منهما يحتمل لظى الوعي وشواظ لهيبه، وكلٌّ منهما يدور في «حلقة مفرغة» لا نهاية لها؛ لأن الوعي يمنع من كسرها ويحافظ على استمرارها، وقلت في نفسي، بعد أن انصرف الجمهور وعلى وجوههم تعبيرات مُتباينة، كم منهم يدور في دورة الوعي الجهنمية نفسها؟ ترى ما حال الزوجة الأولى التي يُصوِّرها كل منهما في صورة شيطانية؟ ترى ماذا تفعل في هذه الليلة مع ابنتها التي تُكابد أهوال الثانوية العامة؟ تُرى ما دخل العامل المادي (المال) في هذه العلاقة أو هذه العلاقات المتشابكة؟ وعندما عدت إلى المنزل جلست إلى المكتب فسجلت ملخصًا وافيًا لما دار في ذلك المساء، ولم أعد إليه إلا بعد سنوات!
٦
لم يُكتَب لي أن أعرف المزيد من التفاصيل عن قصة «هدى» و«محسن» قبل أن أشهد نهايتها، وإن كنتُ رأيت نظائر لها في بعض ما شهدته من أحداث، فهي تشبه في بعض ملامحها قصة صديقة لأخت زوجتي، وقصة صديق لي أعرفه منذ الصبا، وفي كل قصةٍ أجد أن «جحيم الوعي» أفظع كثيرًا من الأقنعة الرحيمة التي تحدثت عنها في الفصل الأول، فعلى نحو ما يقول ت. س. إليوت في إحدى مسرحياته، لا يستطيع الإنسان أن يحتمل جرعة أكبر مما يَنبغي من الواقع، وكلما ازدادت الجرعة ازداد نشدانًا لما يُخفِّف منها أو يساعده على تحملها، إما بالتدرع بالقناع أو بالهروب إلى ما يحميه من الواقع، وأنا نفسي ألجأ إلى العلاجين؛ فأحيانًا ما أرتدي قناع الأديب المبدع، على صغر حظي من الموهبة الأدبية أو الإبداعية، أو أهرب إلى مشاغل الترجمة والمعرفة هربًا من الواقع الذي يجثم على صدري منذ أن عربد مبضع الجراح في وجهي فشوَّهه، وكنتُ بعد في مطلع الخمسينيات من عمري أضع الخطط للمستقبل وأرسم أحلام الإنجاز والنبوغ! لكن الوعي لا يترك لي فرصة الهناء بالقناع أو بالهرب، فأتحوَّل فرارًا من نفسي في أحيان أخرى إلى الناس، فأجد فيهم العزاء والسلوى، وأجد في تأمل ما يزخر به الماضي من الأحداث، مهما يكن خطرها، قُدرة خاصة على التسرية والتلطيف، ولا بد أن صنعة المسرحي قد ساعدتني على ارتداء أقنعة كثيرة، واستعارة أقنعة الكثيرين، أو تقمُّص أدوارهم، نشدانًا لحيوات أخرى داخل نفوسهم، فحياة واحدة لا تَكفي، وزمن الرومانسي كثافة وعمق كما ذكرت من قبل.
وعندما أضيئت أنوار الصالة وجدت «هدى» بشحمها ولحمها مقبلةً عليَّ هاشَّة باشَّة، ومن خلفها شابٌّ فارع الطول تُوحي ملامحه بالقرابة لمحسن، وإن كان في مُقتبل العمر قوي البنيان مفتول العضل، وعقدت الدهشة لساني فلم أدرِ ما أقول، ولكن «هدى» انطلقت تتكلم عن المسرحية وجمال الترجمة، ثم قالت كأنما بعبارة عارضة «كانت من أحب المسرحيات إلى قلب المرحوم «محسن»!» وأدرَكَتْ بفطنتِها أنني لم أكن أعلم بوفاته فأسرعتْ تضيف «لم يُطقْ صدمة المعاش فمات!» وتمتمتُ أنا «الله يرحمه» و«البقية في حياتك»، ولكنها تجاهلت مجاملتي وتحولت إلى الحديث عن مرضي فأكَّدتْ لي أنها كانت دائمة السؤال عني، ولو أنها لم تتمكن من الاتصال بي بسبب غيابها خارج مصر، إذ صَحِبَتْ زوجها الحالي (وأشارت إلى الشاب مفتول العضل) في إعارته إلى بلدٍ عربي شقيق! وظللتُ أسمعُ ولا أكاد أتكلَّم حتى أمر المخرج بعودة الممثلين إلى المسرح، واعتذرَتْ هي عن متابعة البروفة قائلةً: إن لديها مشاغل ملحَّة وخرجتْ مع زوجها إلى حيث يعلم الله!
وتساءلت في نفسي تُرَى كم عمرها الآن؟ لا بدَّ أنها قاربت الخمسين! لكنني أحسست بأن الهواجس الخبيثة هي التي تُملي ذلك الرقم فاستعذتُ بالله من الشيطان الرجيم وقلت ما أقوله أحيانًا حين أسمع تلك الهواجس «ربنا يسهل لها! خلْقُ الله في مُلْكِ الله!» ولكن خبر وفاة «محسن» هزَّني هزًّا، ولا أذكر أنني اهتززتُ لوفاة أحد قبل ذلك إلا عندما قرأت نعي صديقي عبد الفتاح العدوي قبل عشر سنوات، وعلمت في غضون شهور من وفاته بوفاة الدكتورة سامية أسعد — الأستاذة في قسم اللغة الفرنسية وزميلتي في «فريق الترجمة الطائر» (أي العامل بالمؤتمرات الدولية) إذ تبرز هذه اللحظات في أعماق وعيي كلما استغرقني تيار الحياة وجرفتني الأحداث اليومية المتلاحقة بتفاهاتها التي لا تنتهي.
كيف اجتمعت هذه الأحداث في أعماق وعيي وأنا أسمع نبأ وفاته؟
وقد يكون ذلك صحيحًا، فلماذا أعفي محسن من مسئولية ما أصابه؟ ولماذا أستبعد زوجته الأولى من الصورة؟ هل لأنني رجل استوعبت أدب الرجال فحدَّد مسار وعيي بالأرض الأم التي ابتدعها أدباء من الرجال؟ نعم! ها أنا ذا أعود إلى الوعي، ولذلك نشط من نقاد الأدب اليوم مَن يصُبُّون اهتمامهم على قضية تشكيل الوعي، ويجعلون للقارئ دورًا مهمًّا في مسار وعي الكاتب، وهو ما يُسمى بمنهج نقد «استجابة القارئ»، وفي ظني أن كولريدج قد سبق المحدثين (ومن قبل الجميع أبو العلاء المعري) في الإشارة إلى ذلك؛ إذ قال: إن كل كاتب يشارك في تشكيل «الذوق» الذي يَلزم لتذوُّق إبداعاته، و«الذوق كلمة قديمة لما أفضِّل أن أسميه «الحس» الجمالي الكامن في الوعي» — وسوف أفصِّل القول في ذلك.
ومعنى ذلك أن الأديب يستطيع التحكُّم في «الذائقة»، مهما يكن الاختلاف البادي بين المتلقِّين فيها؛ أي على تفاوت درجات نموها أو قصورها لديهم، حين يحكم السيطرة على ما يُتيحه من المادة التي يستطيع الوعي استيعابها في غضون قراءة العمل الأدبي أو تلقيه (سماعه أو مُشاهدته).
ولقد تعمَّدت أن أكون محايدًا قدر الطاقة في نقل رواية كل من هاتين الشخصيتين لما حدث له، خصوصًا عندما قابلت «هدى» في مسرح الطليعة وأبلغتني بنبأ وفاة «محسن» — لكنني أشعر الآن وبعد أن فرغت من رواية الحدث المجرَّد أنني كنت في أعماقي حزينًا على الرجل، وأنني لم أبذل الجهد اللازم للتعاطُف معها أو مع الزوجة الأولى وابنتها، وما أقصد من ذلك كله إلا تأكيد صحة ما أذهب إليه من أننا نجد حياتنا الحقة في الوعي، وإذا صدق البوذيون في تصور خلود الوعي، رغم محاولاتهم الدائبة لتحقيق الفناء، فإنهم يكونون قد اقتربوا من فكرة الخلود التي أرشدتْنا إليها الأديان السماوية، وأرشدتْهم إليها الفطرة الإنسانية ولو لم يُرسَل إليهم رسول.