الفصل الخامس
١
فأما الحكاية الأولى فهي حكاية رجل وهبه الله موهبة فنية فذة، فكان يستطيع أن يتأمل الحياة والناس تأملات تتسم بالأصالة والجدة، وأن يضع هذه التأملات في صور نابضة تصل بسهولة إلى قلوب القراء، وكانت تلك في نظري قدرة أو طاقة فنية فذة، إذ كان يستطيع أن يتحدث لغة الناس «وفكر الناس» بمعنى القدرة على «التواصل الحي» مع الجمهور، فيصل إلى قلوبهم، ويمس اهتماماتهم الأساسية في كل ما يكتب، وكان من أهم ما قرَّبني إليه في بواكير حياتي الأدبية «قدرته» على التمييز بين القناع الواقع، فإذا تزلَّف إلى أحد المسئولين قال لي إنه كان يفضل لو أن الحياة لم تتطلَّب التزلف لكن الواقع يقتضيه ولا مهرب من الواقع، وقد شهدته ذات مساء يُداهن موظفًا كبيرًا أو قل مسئولًا كبيرًا (رحمه الله) فإذا به مبدع في التزلُّف، ينتقي الألفاظ بعناية ويُلقي كلماته بما يشبه الاقتناع الكامل، ويرسم للزلفى حدودًا لا تتعداها حتى لا يَفقد مصداقيته، وكنت أستمع إليه في دهشة وإعجاب، فإذا خلوت إليه سألني رأيي فيما قال وفعل، وانثنى يشرح «أصول اللعبة»، وكان إقرارُه بالخطأ لا يدع لك مجالًا للَّوم أو الانتقاد؛ فقد تصالح مع «الوعي» فلم يَعُد يُؤلمه، وكنا — أنا وسمير سرحان — نُطلق عليه ملك التبرير؛ إذ كان يكاد يتخصَّص في تبرير ما يفعل، بمعنى أنه كان يستطيع أن يجد أسبابًا منطقية (تكاد تكون مقنعة) لأفعاله مهما بلغ من شطط خياله في تصويرها، فكنت أراه في حياته «يؤلف» مثلما «يؤلف» في كتاباته، وعندما ذكرت ذلك لسعد الدين وهبة ضحك وقال إنه مثل عبد الرحمن الخميسي المبدع في الحياة والفن جميعًا، وقصَّ عليَّ بعض القصص التي تُؤكد — من وجهة نظر سعد وهبة — تداخل الخيال والواقع لديه، وكان رأيي آنذاك (وربما كنت مخطئًا) هو أنه يَختلف عن الخميسي في أنه لا يرى قداسة للواقع، فهو يتجاوَزه بخياله مدفوعًا بقوة ذلك الخيال أو «المخيلة المبدعة». وأذكر أنني زرته ذات يوم في منزله مع سمير سرحان، في شارع حسن الأكبر، في عابدين، وجلسنا نستمع إلى قصة يرويها عن مرض أصابه، وأسرف في سرد التفاصيل بحيث شدَّني شدًّا إلى روايته حتى انتهى منها، وعندما خرجنا أبديت لسمير تعاطُفي معه فضحك وقال «وهل صدَّقته؟» ونظرت إليه دهشًا فقال: «إنها قصة ملفَّقة من ألِفها إلى يائها، وأما ما أصابه فهو شخص خيالي يكتب عنه الآن سباعية في الإذاعة!» وسألته عما دعاه إلى نسبة المرض لنفسه (وفي هذا «تفويل» مكروه) فقال: «إنه كان يؤلف بصوت عالٍ، و«يجرب» تأثير القصة في المستمع!» ولما أبديتُ شكوكي في هذا، قال سمير: إن صاحبنا كان في الفترة التي نسَب إلى نفسه المرض فيها يعمل في العراق مع قادة الثورة الوليدة — وكنا في مطلع الستينيات — وكانت أحاديثُه تملأ الصحف ومحطة الإذاعة! ولم أعجب بعد ذلك من أي شيء يرويه، إذ وطَّنْتُ النفس على تقبُّل رواياته تقبُّل القارئ لعمل أدبي!
ورأيت حينذاك أن خيالات الشعر دليل على «قدرة» باطنة على الإبداع، ولذلك أقمت في ذهني «رابطة خفية» بين انطلاقات خيال صاحبنا وبين طاقته الفنية، بل أسرفت في تصور دلالة تلك الانطلاقات على وجود طاقة النفس التي تحدثت عنها في الصفحات السابقة، والحق أنه كان ذا طاقات نفسية لا شك فيها، وإن كنت في أعماقي غير راضٍ عن طموحاته البادية في سلوكه، ونزوعه إلى التقرب من الكبار، واهتمامه الشديد بالمال، ولم يكن في الواقع بخيلًا، بل كان ينفق ذات اليمين وذات الشمال، لكنه كان يبدي احترامًا دفينًا للمال في ذاته، وكان ذلك يتناقَض في نظري مع طاقاته الفنية.
وعندما عدتُ من البعثة عام ١٩٧٥م كان صاحبنا قد أصبح يشغل مركزًا مهمًّا في إحدى الصحف، ثم ما لبث أن ترك المنصب إلى «العمل الحر»، وبدا لي أنه تَناسى مبادئه الاشتراكية القديمة، واشترى سيارة فارهة، ثم اختفى في أواخر السبعينيات وانقطعت أخباره، وكان لديَّ ما يشغلني عنه فلم أسأل ولم أكترث، بل لم أكن أعرف أين يقيم — هل في مصر أم في الخارج — حتى فوجئتُ باتصال تليفوني وأنا في جدة، أثناء عملي بجامعة الملك عبد العزيز — يقول لي فيه: إنه يُريدني لأمر هام، وفرحت لسماع صوته، وكان ذلك في شتاء عام ١٩٨٣م، فرحبت به واتفقنا على موعد في فندق «جراند هيات» القريب من محل إقامتي في جدة، وعندما التقينا وجدت شخصًا بالغ الاختلاف؛ إذ كان يتحدث بلهجة رجال الأعمال، وكان يشير إلى مقر عمله باسم «المكتب»، وبعد اللقاء الذي استمر ثلاث ساعات، صحبني بالسيارة الفارهة التي كان يقودها سائق خاص من إحدى البلدان العربية (الأفريقية) إلى منزلي، بعد أن اتفقْنا على مواصلة اللقاء في موعد لاحق، وهاك ملخصًا لما قاله وما عرفته منه، والله وحده يعلم نِسبة الخيال فيه إلى الحقيقة، وإن كنت لن أذكر هنا إلا ما أتصوَّره «حقائق»، وهي التي أكَّد صدقها ما رواه آخرون وما شهدته بنفسي.
ولم أشأ أن أدخل في التفاصيل حتى لا يتصوَّر أنني وافقت بصورة نهائية، وكان الظن يلازمني بأن الخيال يلعب هنا دورًا مهمًّا، خصوصًا عندما بدأ يتحدث عن التوسُّع في المشروع بالترجمة إلى اللغة الإنجليزية، خصوصًا ترجمة الكتب الإسلامية التي تصادف رواجًا كبيرًا في بلاد المسلمين الناطقين بالإنجليزية، وكان يَذكر أرقامًا خِلْتُ أنه يبالغ فيها عن حجم المبيعات المتوقَّع، وحجم الأرباح المنتَظَرة، لكنني لم أعلق، حتى بدا لي أنه انتهى من عرض «المشروع» فسألته إن كان ذلك هو العمل الذي يمارسه حاليًّا، وإن كان قد هجر الكتابة الإبداعية؟ وهنا أفصح عن بعض ما كان يشغلني في تلك الفترة الانتقالية في المجتمع المصري؛ ألا وهو تحول المال في أيدي الناس من وسيلة إلى غاية، ولم يُحاول اللفَّ والدوران، بل قال بأسلوب وبنغمات تنم عن الاقتناع التام: «المال هو القانون الأعظم للحياة! فالمال هو القوة، وهو الطاقة وهو القدرة! يكفي أن تكون ذا مال حتى تكسب احترام الناس، وأرجو ألا تفهم من ذلك أنهم يتوقَّعُون أن تعطيهم شيئًا من مالك، بل ولا يلزم أن تنفق شيئًا منه حتى تنال ذلك الاحترام! انظر إلى محمد الفايد في لندن! وانظر إلى منافسه اليهودي صاحب جريدة «الأوبزيرفر»! إنهما من الأباطرة! فهما يتراشقان بالتهم علنًا وعداؤهما لبعضهما البعض صريح ومُعلَن، ولكن الحكومة البريطانية لا تستطيع أن تمسَّ أيًّا منهما أو تنحاز إلى صف واحد ضد الآخر؛ ففي أيديهما خيوط يشدَّانها فيُحرِّكان مجريات الأمور! وانظر إلى اليهود في أمريكا! وذاك حديث معاد مكرر! إن مال اليهود يتحكم في سياسة أكبر دولة في الأرض، وإحدى الدولتين الأعظم، (ولم يكن الاتحاد السوفييتي قد انهار بعد) وهو الذي يُشكِّل اتجاهات الفن والأدب في أجهزة الإعلام! المال هو القوة والقدرة والطاقة!»
وقلت له: إنَّ هناك فرقًا بين القوة وبين الطاقة أو القدرة فضحك وقال إن تلك فلسفة فارغة، وإنه يتكلم بعد أن عرك الحياة وخبرها، ولذلك فهو يتكلَّم من موقع العارف الخبير، وجعل يقص عليَّ قصصًا تبرهن على صدق ما يقول، وأظنُّ أن بعضها ملفَّق أو مبالغ فيه، ثم انتهى إلى القول بأن غاية الإنسان هي السعادة، والسعادة طريقها القوة، وهو يعرف الآن القوة بعد أن أصبحت له حسابات في بنوك أوروبا وأمريكا، وبعد أن ثأر لنفسِه من حياة الفقر الكئيبة التي عرفها في مصر، وأنه قد هجر الكتابة لأنَّ «الكتابة مهنة العاجز»، فالكاتب يتصوَّر — في نظره — أنه يُخاطب الناس ويؤثر فيهم، ولكن الغالبية لا تقرأ، ومن يقرأ لا يستوعب، ومن يستوعب لا يصدق، ولذلك فلا أجمل من «البيزنس» (وربما كان يقصد التجارة) فهو الآن شريك في بعض شركات الأفلام الأمريكية التي تدرُّ ربحًا مضمونًا، وهو ذو «مكتب» يقصده علية القوم، وهو يتنقل بين البلدان كما يحلو له، ويقابله كبار المسئولين باحترام، واختتم حديثه بتكرار عرض مشروع الترجمة، قائلًا إنه يَعدُني بأن أصبح رئيس المشروع، بشرط الاستقالة من الجامعة والتفرُّغ له، فأنا في رأيه ذو معرفة بما يجب أن يترجَم وكيف يترجَم ومَن يترجِم، وهذه — في نظره — خبرة لها وزنها في دنيا «الأعمال»، ولم أعده أنا بشيء، فأنا حريص على عملي الجامعي الذي يُتيح لي الوقت اللازم لهوايتي في الكتابة والترجمة، لكنَّني — وكنا قد تجاوزنا الحادية عشرة مساءً، وبدأ رواد الكافيتريا يَنصرِفُون — قلت له إنني واثق أنه يَشتاق إلى الكتابة الإبداعية، وأنه ما زال يحنُّ إلى كتابة المسلسلات الإذاعية التي يحقِّق فيها «رؤاه» عن الإنسان والمجتمع، فقال إن ذلك صحيح، غير أنه لا يجد الوقت اللازم لذلك، ومال عليَّ كأنما يَهمس لي بسر خطير قائلًا: لقد كانت الكتابة وسيلة، ولقد أوصلتني الوسيلة إلى غايتي، وأستطيع أن أكتب متى شئت، فأنا لم أفقد القدرة على الكتابة، ولكنَّني اكتشفت في نفسي طاقة أثمن وأجدى وهي «القدرة» على التعامل مع الناس؛ فالناس في أعماقهم بشر بسطاء، ولكلٍّ منهم مدخله؛ أي مفتاحه، فإذا عثرت على المفتاح انفتح الباب على مصراعَيه!
ولم تُتح لي الفرصة لمقابلة صاحبي إلا بعد عشر سنوات، وكان يعاني من مرضٍ عُضال، وكنت قد عدت لتوي من فرنسا بعد فترة العلاج التي طالت فأمعنت في الطول، وكان لقاؤنا قصيرًا وأكاد أقول عصيبًا؛ إذ لم أتعرف عليه أول الأمر، فلقد كان هزيلًا شاحبَ الوجه غائر العينين، وكان يلبس «كاسكتة» تغطي صلعته، ولم أتبين من صوته ومن تحيته ما يدلُّ على ما كنت أحبه فيه من مرح و«طاقة» فنية إبداعية، بل رأيت وأحسستُ استسلامًا (كنت أرفضه) للدنيا، وكنت أوشك أن أستقل سيارتي أمام هيئة الكتاب حين ناداني، ومكثنا عشر دقائق تقريبًا نتحادث فعلمت منه أنه تعرَّض لنكسة أو لنكسات في أعماله التجارية، وأنَّ المرض استنفد مدَّخراته، وكان يتكلَّم بمرارة عن الحياة والناس، وكيف «خانه» الجميع، ورددتُ عليه بأن لدينا في أنفسنا طاقة الصمود، وأننا نستمد من أعماقنا القوة، أو قُل إنني لخَّصتُ له ما سبق أن عرضته من آراء في هذا الفصل، ولكنه ظل على موقفه وافترقنا، وبلغني أنه توفي في العام التالي، وقال لي من أبلغني بوفاته إنه مات كسير القلب، بل إنه لم يتوقف عن التعبير عن المرارة حتى آخر لحظة. وتألَّمتُ أشد الألم لهذه النهاية، على ما ألهمتنيه الحكاية من أفكار لا تخصُّه وحده، بل تخصنا جميعًا. كنت أقول في نفسي دائمًا ليته قرأ الفقرة العاشرة من القصيدة المشار إليها، ولسوف أوردها الآن ختامًا لهذا القسم، مثلما بدأته بالفقرة التاسعة (من البحر نفسه):
٢
للإنسان أن يَستعيض عن فقدان بهاء رؤى الطفولة بعدة أشياء يستمد منها القوة، حسبما يقول وردزورث الذي يُجمِلها كما قلت في هذه الأبيات:
لقد عجز صاحبنا عن التحلِّي بأيِّ صفة من الصفات التي سبق أن أوردتها، ولم يتعلَّم في غمار تجاربه والخبرات التي كان يفخر باكتسابها أن يجنح ولو أحيانًا إلى الحكمة، ولو فعل ما انتهى تلك النهاية الأليمة، وأنا لا أقصد المرض أو الموت (فهما يُصيبان الجميع كبارًا وصغارًا)، بل أقصد العزلة التي شعر بها بعد أن تمزقت روابط الحب الأولى — وأظنُّ أنها لم تُوجد أصلًا في حالته — وبعد أن عجز عن نشدان السلوان في أي شيء، وبعد أن عجز أيضًا — وذلك هو العنصر الأساسي — عن التحلِّي بالإيمان. وإذا كنت قد سلطت الأضواء عليه — كما يقولون — فذلك لأنه — رحمه الله — لم يترك ما يجعل له مكانًا في متن كتاب الأدب العربي، بل هجر الكتابة فور عثوره على منصب مُناسب، وكان «يغازل» الكتابة أحيانًا فتشيح عنه بوجهها وتأبى وتستعصم، ولأنه — رحمه الله — قد أصبح هامشًا من هوامش ذلك الكتاب، قد يحذفه المحرِّر إن شاء وقد يبقي عليه، ولأنه نموذج للكثيرين ممن لا يزالون بقيد الحياة بيننا، يعيشون لحظات القوة في لذة تُشبه لذة السُّكر الذي يُغري بالمزيد! وأظنُّني لست بحاجة إلى أن أشير إلى نماذج محدَّدة من هؤلاء، بل سأنتقل إلى آخر حكاية من حكايات هذه الواحات، وهي حكاية أرجو ألا تطول.
ولسوف أوجز القصة على لسان صاحبها، فهي حية في ذهني ونفسي ووقائعها مسجَّلة في مفكرتي، وكلماته أبلغ في التأثير من تحليلاتي وتعليقاتي، والرجل حيٌّ يُرزَقُ، ولا بد إذن من إخفاء أسماء «أبطال» القصة، بعد تقديمهم إلى القارئ باختصار. أما الرجل فهو يشغل منصبًا مرموقًا، بعد أن ترقى في سلم الوظائف الحكومية فوصل إلى غايته، وكان قد تجاوز منتصَف الخمسينيات حين بدأت «الأحداث»، وكانت هي قد تخرجت قبل سنوات معدودة، وعُيِّنَتْ في مكتب مجاور لمكتبه، فكان يراها من حين لآخر، وإن لم تكن هناك دواعٍ عملية للحديث خارج العمل. وكانت — كما وصفها لي — فتاة عادية لا يميزها عن سواها سوى الجد والاجتهاد، فلم تكن ذات جمال أخَّاذ يشد العيون أو «يُدير رءوس الرجال» — كما يقولون — ولم يكن الزائر إلى مكتبه أو مكتبها يمكن أن يتوقع حدوث أي شيء غير عادي. وكنت على وشك مشاهدتها حين اقترح إرسالها إليَّ في «مهمة رسمية»، ولكن المهمة سرعان ما أُنجزَتْ فلم يرسلها، وبعدها جاءتني مكالمة تليفونية منه يطلب فيها أن يمرَّ عليَّ في الجامعة أو في هيئة الكتاب، فصداقتنا ترجع إلى أيام دراستنا في إنجلترا، وإن اختلفَ تخصُّصه عن تخصصي، وضربت له موعدًا لم يخلفه، وتوالت المواعيد والمحادثات التليفونية حتى اليوم.
«كان لدينا مؤتمر دولي، وكان التحضير له يقتضي العمل طول اليوم بل في المساء وحتى ساعة متأخِّرة من الليل، وكان الجميع يشعرون بحجم المسئولية ولا يدخرون وُسْعًا في معاونتي لا من باب «تنفيذ الأوامر» بل من باب الحرص على النجاح؛ إذ كان النجاح يمثل لكل منهم «أكاليل غار»؛ فنحن قسم صغير، ولم يكن الوزير يتصور أننا نستطيع أن ننهض بعبء المؤتمر كله وحدنا، ولكنَّنا اجتهدنا، وعملنا كأننا في منافسة أو في سباق مع أنفسنا، ونجح المؤتمر، وجاءتنا خطابات الشكر والمكافآت، ولكنَّني خرجت من المؤتمر مُنهكًا لا أكاد أقوى على مواصلة العمل وأشعر بضعف لا أدري كنهَه. وقررت أن أستريح يومًا أو يومين، فمكثت في المنزل يومًا كاملًا أحسست فيه بملل قاتل، وعندما حل المساء خرجت بالسيارة للنزهة وحدي، وكان الزحام شديدًا ولكن برد المساء خفف عني عذاب المرور، فانطلقت إلى مقهى في الهرم أرتاده حين يَعتريني الضيق، وكان معي كتاب أحاول الانتهاء منه، لكنني قبل أن أفتحه وجدت تلك الفتاة تجلس وحدها وفي يدها كتاب، فحدست أنها تنتظر صديقًا، وشعرت بالحرج فقمت وجلست في ركن بعيد حتى لا تلمحني.
ولكن الوقت مرَّ، ولم يأتِ أحد ليشاركها مجلسها، فجعلت أخالسها النظر فأحسست كأنما كنت أراها للمرة الأولى. لا أعرف ما حدث ولا أعتقد أنني سأعرفه يومًا ما، لكنني أصدقك القول إنني شعرت كأنما كنا في إنجلترا — ولعلك تذكر تلك الأيام — وأنني كنت أشاهد فتاةً أجنبيةً متحرِّرة مستقلة، قادرة على الخروج وحدها لقراءة كتاب في مكان خلوي! وما إن داهمني هذا الإحساس حتى وجدت عيني وقد ثبتت عليها، لا تفارقها ولا تحول عنها، وخفت أن أسبب حرجًا لها لو شاهدتني فلبست نظارة شمس أتخفى بها، فإذا بها تزيد من جمالها، كانت رشيقة ينسدل شعرها الطويل على ظهرها كالشلال المتدفِّق، ولا تكاد ترفع عينها عن الكتاب، وكنت أتصور أن تنظر إلى ساعة يدها من فترة إلى فترة إن كانت تنتظر صديقًا، لكنها لم تفعل، بل لم تكن تغير من جلستها إلا على فترات طويلة! لم أدرِ ما أصابني آنذاك! لا أذكر طبيعة الإحساس ولا أستطيع أن أصفه لكنني أذكر وحسب أنني ابتعدت عن مصر آلاف الأميال، وعن اللحظة الحاضرة عشرات السنين، فكأنما لم أكن الرجل الذي أعرفه، وتدافعت في مخيلتي صور إنجلترا ومن قبلها صور مصر — القاهرة — في الخمسينيات، وتراءت في مرآة الذهن صور الشباب، صور التحرر والانطلاق والأحلام، وتذكرت رحلة قمنا بها ونحن طلَّاب في الجامعة إلى القناطر الخيرية حيث لهونا ولعبنا وغنينا أغاني عبد الحليم حافظ، وماج عقلي بالصور المتداخلة فكدت أذهل عن المقهى، وعيني مُثبتة عليها لا تكاد تفارقها! هل اشتقت إلى الشباب آنذاك؟ هل تحوَّلت الفتاة إلى صورة مضت من حياتنا إلى الأبد وأحزنني فقدها؟ أقول لك لا أعرف، لكنني متأكد أنني كنت ذاهلًا عن مكاني في المقهى، وربما عن ساعات المساء التي فرت سراعًا، حتى أيقظني صوت النادل يسألني إن كنتُ أريد شيئًا آخر قبل انصرافه. ولم أكن أريد شيئًا، فدفعت له «الحساب» ونهضت متثاقلًا وقلت في نفسي ليتني كنت شاعرًا لأصوِّر ما اعتراني!
ويبدو أن حالة الذهول كانت لا تزال تلازمني وأنا في طريق الخروج، فلم ألحظ أن الفتاة قد سبقتني، ولكنني فوجئت بها وأنا في طريقي للسيارة فوقفت جامدًا كأنما كنت أخشى أن تكتشف ما بي، ووقفتُ، وفي لحظة تغلبتُ على الإحساس الذي داهمني أول الأمر بأنني «ذكرى رجل» (ولا أقول ذكريات رجل) وتظاهرتُ بأنني لم أشعر بشيء، وأصبحت فجأةً ألعب دور «كبير الموظفين» — ويا له من دور سخيف — فألقيت عليها تحية المساء، وردت ردًّا مهذبًا، ولم أستطع أن أتبادل معها العبارات الاجتماعية المألوفة أو أطرح عليها أي أسئلة، لا لأن ذلك «لا يجوز» ولكن لعجزي وحسب عن الكلام. وأخيرًا سألتها إن كانت تحتاج إلى «توصيلة» بالسيارة لأن الوقت قد تأخر، فقالت إنها سوف تعود إلى منزلها بالتاكسي، لكنني أشفقتُ عليها من ذلك وأصررت على توصيلها، فركبت إلى جواري، ولم نتبادل كلمات كثيرة، بل تركت أنغام البرنامج الموسيقي تملأ السيارة، وأدرت جهاز التكييف بعد إغلاق النوافذ، وعندما اقتربنا من القاهرة طلبت مني أن أتوقف حيث تُفضِّل استكمال الرحلة بالتاكسي. وأوصلتها إلى أقرب نقطة إلى التاكسي وخَرَجَتْ.
تظاهرت في الأيام التالية بأنه لم يحدث شيء، ولكن شيئًا ما قد حدث بالتأكيد، ولم أكن أجرؤ على الإفصاح به فنحن في مصر، والواقع بأثقاله يَجثم على صدورنا، فكنتُ أستعيد ذكرى اللحظات التي بدت خارج الزمن، وأتمنَّى أن أستعيدها أو أعيدها، فأكثر من التردُّد على ذلك المقهى، وأفحص الرواد عسى أن أجدها، عبثًا، وأخيرًا لاحت فرصة نقلها إلى مكتبي، فاجتهدت حتى تحقَّق ذلك، على الورق على الأقل؛ إذ إنها ما إن تسلَّمت الخطاب حتى جاءتني وقالت إنها تُفضِّل أن تظل في مكانها! وأسرعت بالموافقة، وقد تنازعني الخوف والرغبة، وسألتها عن السبب فقالت إنها تدرس للحصول على الماجستير، وعملها في مكتبها يتيح لها التركيز، فقلت من الكلام ما يتطلَّبه الموقف وما تقتضيه الوظيفة وانتهت المقابلة، لم أكن أدري أن الأيام تُخفي مفاجأة لي، لكنَّني كنت أتطلَّع إلى مشاهدتها، مجرَّد النظر إليها، وأستعيد في خيالي لحظات المقهى وذكريات إنجلترا وقاهرة الخمسينيات، فغدوت أحسُّ أن أثقال الواقع «الحاضر» قد خَفَّتْ، وأن في الماضي صورًا لو نجحنا في التصالح معها لتوافر لنا قدر أكبر من السعادة، وكنت أختلق الأسباب للحديث مع صاحبة تلك اللحظات الساحرة، كأن أُكلِّفها بعمل أو أسألها عرضًا عن دراستها، حتى جاء يوم كنا فيه وحدنا في المكتب فإذا بها تقول لي: لماذا لم تعدْ تذهب إلى المقهى؟»
وقص عليَّ صاحبي تفاصيل المكاشفة بينه وبين حبيبته، وكيف «فتح» كل منهما قلبه لصاحبه، وكيف اندفعا في علاقتهما غير عابئين بأثقال المجتمع — ما يُسمِّيها — وكيف مرَّ من جديد (في المراهقة الثانية؟) بكل عذابات الحب من لهفة وتوقع ولقاء وافتراق وود وبعاد! فكأنما عاد شابًّا وجد ذاته في هذه العاطفة الجياشة، وكانت صاحبتُه تشاركه مشاعره في كل لحظة بإخلاص وصدق مُذهل! لم يكن يعرف أيٌّ منهما أي مصير لتلك العلاقة، وكان يُوافيني من حين لآخر بتفاصيلها، فهي ملتهبة دائمًا متأجِّجة لا ينطفئ لها أوار!
وبعد عام أو بعض عام زارني وقال لي: «إنها المعنى الذي كنت أبحث عنه! إنسان مُستقل له أفكاره ومشاعره، إنسان لا ينظر إلى العلاقة الإنسانية من وجهة نظر المجتمع الذي لا يعرف إلا الزواج والإنجاب! هل أصدق أنها تُحبني رغم فارق السن الذي يفصل بيننا؟ هل أصدق نفسي في اندفاعي، وفي تحايلي على إخفاء كل شيء عن الجميع؟ إنني أرى فيها ذكريات الصبا فأعيشها من جديد كأنما لم يفعل الزمن بي ما فعل! وأكاد أذوب شوقًا إليها كلما غابت عني يومًا أو يومين! إنها علاقة بلا مُستقبل، ولكنها حقيقية، وليت شاعرًا أو كاتبًا يكتب عنها!»
كنتُ أعرف أن تلك «الخبرة» الحقيقية لا تتطلَّب شاعرًا بل روائيًّا، أو قصَّاصًا بارعًا مثل تشيخوف يستطيع أن يغوص إلى الأعماق، فيقول لنا كيف اجتمع الكهل والصبيَّة، وكيف وُلِدَ من جديد على يديها، وكنت أرسم لها في مخيلتي صورًا متعدِّدة؛ فلم أكن رأيتها ولكنها كانت تلتقي جميعًا عند بؤرة «الزمن الأول»، فصاحبي قد يعود معها إلى قاهرة الخمسينيات أو يعيد خلقها في ذهنه، وقد يعود معها إلى أيام دراسته في إنجلترا، وهو عهد الأحلام الكبرى؛ إذ كانت الدنيا تتغيَّر في مصر وهو لا يدري (أو يحس) بالتغيير، وكان على تفوقه في تخصصه يتمنى أن يمارس الكتابة ظنًّا منه أنها تعتمد على «القدرة» على التعبير فحسب، ولا شك أن قدرته كانت كبيرة، ولم يكن قد تبين مكابدتنا في طرح الأفكار ومعالجتها وبسطها على الورق، وكانت الشهور تمضي وهو يزداد «طاقة» على العمل ويَنشر البحوث في «الدوريات» الأجنبية، بل سافَرَ مرتَين في عام واحد إلى روما لحضور مؤتمرَين مختلفَين عقدتهما منظمة الأغذية والزراعة، وكانت صلتي قد انقطعت بتلك المنظَّمة بعد تدهور القسم العربي فيها (قسم الترجمة والتحرير) وانتقال نشاطه إلى مقر القاهرة، وأذكر أنه اتصل بي بعد عودته من أحدهما؛ ليقول لي إن عبد الرازق إبراهيم يبلغك سلامه، وكان آنذاك رئيسًا للقسم العربي المتضائل، ويصف لي محاسن روما وجمالها الأخاذ وكيف ذكرته بقاهرة الخمسينيات، وأنهى المكالمة — إذا صدقت ذاكرتي — بأن قال إنه كان يرى حبيبته في كل زهرة إيطالية تسير على النهر أو في حدائق المدينة، بل وفي كل جمال رآه في الأرض أو في السماء، وكثيرًا ما كان صوته يأتيني كأنما من الماضي فأعجب وأدهش ولا أقدر على الرد!
ومرَّت ثلاثة أعوام تغيَّر فيها صاحبي فأصبح أكثر توافقًا مع نفسه ومع الناس، وكان كلما صارَحني بما يَحدث اعترضت لأنني لا أرى إلا فارق السن، وكنت أحاول تفسير تلك العلاقة بالمنطق العلمي وما أعرفه في علم النفس، فإذا ذكرتُ له أيًّا من ذلك استمع بصبر وقال إن العلم نفسه ينهار في لحظة اللقاء معها، لحظة الجمال المطلق، لحظة التقاء نفسين، فهي ليست مجرد امرأة جميلة أو عادية؛ إذ حَصَلَتْ على الماجستير وهي تدرس للدكتوراه وتُراسل جامعات أجنبية، وهي تتمتَّع بقدرٍ كبير من اللماحية والذكاء، لكنها لا تعبأ بما نُسميه المستقبل، بل هي تفعل ما تراه صوابًا، وكان يردُّ على اعتراضاتي بأنني على البر ولستُ في خضمِّ البحر، حتى جاء يوم هزَّه هزًّا وأصر على مقابلتي؛ إذ إن صاحبته خُطِبَتْ وبدأت تستعد للزفاف! ووصف لي ما انتابه عندما أبلغَتْهُ النبأ بثبات الإنجليز وواقعيتِهم؛ فأهلُها مُصرُّون، وقد فعلت كل ما تستطيع لتأجيل الموضوع، فتأجل عدة مرات، ولكنها لم تستطع الصمود في النهاية فوافقَتْ، ولم تشأ أن تخبره آنذاك لأنها كانت تأمُل في التأجيل «إلى أجل غير مسمًّى» كما يقولون، لكن «الأمور تطورت» بسرعة، ولم يعد هناك مفر من المصارحة، خصوصًا وأنه على مشارف التقاعد ولا بد من وقفة لمناقشة المستقبل.
قال صاحبي: «كانت تلك أول مرة أسمع فيها منها كلمة «المستقبَل»، فقلتُ لها فيما يشبه الهزل من الجد: إنني على استعدادٍ للزواج منها إن كان في ذلك حلٌّ للمشكلة، لكنها ردَّت بسرعة فنفتْ أن مثل هذا الحل «وارد»؛ فأهلها قد عقدوا القران، والعريس لا بأس به، ولم يعدْ هناك مجال للتراجع، وبعد صمت طويل غالبتُ فيها الدموع وَدَّعْتُهَا وأنا أحسُّ أنني أتمزَّق، وأحسُّ جادًّا بأن الحياة قد انتهت، لولا بقية من جَلَدٍ وإيمان.»
وانقطعت عني أخبار صاحبي نحو عامَين، حتى رأيته من جديد في ربيع عام ٢٠٠١م، وكنت أحضر مؤتمرًا عن المياه في شرق العالم العربي عقَدته الأمم المتَّحدة، ولم أكن أدري أنه ترك مصر ليعمل في هيئة من هيئات تلك المنظمة الدولية، وكان كعهدي به بشوشًا عفَّ اللسان، ولم يكن يبدو عليه أنه قد تأثَّر بتلك «الحادثة الشخصية»، فلقد التقينا مصادفةً في الكافيتريا، وكان كل لقاء خارج مصر يجتذب المصريين فانضمَّ إلينا أستاذ أو أستاذان، وناقشنا ترجمة مصطلحات المياه والري، ثم افترقنا بعد أن طلب مني أن أزوره في الفندق، ولما كان الجو معتدلًا خرجتُ عن عادتي في التزام غرفتي في المساء وسعيت إليه وتحادثنا طويلًا، وهاك مُلخصًا للحديث.
قال صاحبي: «تذكُر ما قلته عند وداع صاحبتي؟ لقد تدرَّعت ببقية جلَدٍ وإيمانٍ فإذا بتلك البقية تنمو وتُصبح نبعًا صافيًا من الجلَد والإيمان! لقد أيقظَتْ تلك التجربة في نفسي طاقة لم أكن أعهدها، وتحوَّلت إلى قوة جبارة أحيا بها ولها، فلقد تخطَّيت الستِّين، لكنني أجد الزاد الروحي أو النفسي في كل ما مضى وانقضى، وكلما خلوت إلى نفسي برزت صورة تلك الفتاة (الدكتورة الآن) فأحيَت ذكريات أبعد وأجمل، ولو مررت أنت بتجربة مماثلة لكتبت ديوانًا لا قصيدة واحدة؛ فأنا — كما يقول عبد الوهاب — أعيش و«صور الماضي ورائي وأمامي!» ولقد تعلمت من هذه الصور رهافة في السمع والبصر، وإيمانًا متزايدًا بجدوى العمل، ولقد وضعت لنفسي برنامجًا للحياة خارج مصر لا أحيد عنه، فأنا أقرأ وأدرس مثلما كنا نفعل في إنجلترا، وأخصِّص وقتًا كل يوم للسير — ولا أقول للنزهة — حيث أتأمل نفسي وأتأمل الحياة، وأتمنى أن أكون شاعرًا حتى أعبر عما أحسُّه، فأنا واثق أنه يصلح للشعر!»
وسألته ما إذا كان قد قطع «علاقته» نهائيًّا بحبيبته، فضحك وقال إنه لا يمكن أن «يقطع» أي شيء! فلقد أصبحت الحياة في نظره تتَّسم بالتحوُّل الدائب، تمامًا مثلما يحدث في الطبيعة، ولقد تحوَّلت العلاقة التي كان من المُفترَض أصلًا أن تكون أبوية إلى علاقة «أبوية» حقيقية، وكان ذلك هو «المؤلم» حقًّا في نظره فهو لم يكن قد «دخل» تلك العلاقة بوصفِه أبًا بل بوصفه حبيبًا، وكان التحوُّل معناه وقوع تناقض شديد بين ما يحسُّه في أعماقه وما يتبدَّى في مظاهر سلوكه، لكنه ابن مخلص للمجتمع المصري، ولا يقبل أن يواصل شيئًا «قطعه» المجتمع!
وأعجبني تلاعبه بكلمة «قطع» فسألته مباشرةً إن كان يراها ويُحادثها، فقال ببساطة إنه لا يزال يزور المكتب، وهي لا تزال تعمل فيه بعد أن ترقَّت وأصبحت في حكم نائب رئيس القسم، وقد بلغه من «الزملاء» أنها أنجبَت طفلًا جميلًا، وإن لم يَحُلْ ذلك دون مواصلتها الدرس والإنتاج، فهي ذات طابع عملي وتعيش في هذه الدنيا بكل ما فيها، وعدت أسأله إن كان لا يزال يحمل في نفسه «لواعج» الحب الأول، فقال ما أذهلني إذ ذكرني بقصيدة وردزورث التي ما فتئت أقتطف منها الفقرة تلو الفقرة.
قال صاحبي: «وقدة النار خَبَتْ! لكنها أصبحت صورة ثابتة متعددة الألوان والأشكال في ذهني! ولقد حاولت استعادة تلك الوقدة عدة مرات وفشلت! وكانت النتيجة محبطة لي أول الأمر، ثم وطَّنت النفس على تقبُّل الواقع، لكنني كنت أستعيض عن الوقدة بتذكر ما فات ومر، وكنت في كل مرة أجده قد اكتسى طابعًا جديدًا، فأدركت أن الزمن هو الذي يتدخل ليحدث ذلك التحول، فأنا أسير نحو النهاية وهي تسير نحو البداية — كما كنت تقول لي دائمًا — وطبيعة الأشياء ترفض التقاء النهاية بالبداية! وأما الطابع الجديد الذي أراه يكسو ذكرياتي اليوم فهو طابع يمزج بين عقل المحب وقلب المفكر! لاحظ أنني نسبت العقل للمحب والقلب للمُفكِّر، على عكس المعتاد، فأنا الآن أجد متعةً في التأمل الذي يهب الحياة عمقًا لم أكن أحسُّه قبل حبِّي لها، وأجد في ذكريات مَشاعري أبعادًا لا سبيل إلى تكرارها! إنها حياة جديدة متجدِّدة، تتغيَّر مع الدنيا ومع كل شيء!»
وعندها قرأت عليه قصيدة وردزورث — كلها — فأنا أحفظها منذ بواكير الصبا، فاغرورقت عيناه بالدمع، خصوصًا عندما أتيت إلى الفقرة الختامية، وما لبث أن قال إن ذلك ما كان يعنيه بأن التجربة لا بد لها من شاعر، وبأنها تجربة شعرية خالصة، لكنني رأيت فيها تحقيقًا لقدرات باطنة وهبت صاحبها قوةً جديدةً فتحت أمامه طريق حياة مزهرة، فلقد استمد من طاقة الحب أو النزوع إلى الشباب أو تحقيق الذات مع «الآخر» — كما يقولون — قوة على العمل فالجلد فالصبر فالحكمة! وعندما عدت إلى غرفتي نمت وصحوت في الفجر فترجمت الفقرة الختامية. وها هي ذي:
يُواصل الشاعر خطابه إلى «الفرح» في الفقرة التاسعة بخطاب إلى «الأطيار» في الفقرة العاشرة، ثم يتحوَّل إلى عيون الماء والمروج والتلال والخمائل:
لقد اختلطت عندي الخبرة الأدبية بخبرات الحياة، ولا مجال لإنكار هذا الاختلاط، كما أنني لا أستطيع إنكار تأثير شاعر مثل وردزورث في حياتي، وكيف أنكر تأثير من درست شعره سنوات عشر، وحفظت منه مئات الأبيات، حتى تغلغلت في فكره ومشاعره، بل لقد كنت أحس في خبرات الآخرين بهذه الأفكار والمشاعر، ويبدو أنني قد اخترت ما أروي من حكايات هنا اهتداءً بذلك كله، ولا ضير في ذلك — في نظري — ما دامت هذه وتلك مما نَشترك فيه جميعًا، بل ومما يَربطنا بعضنا إلى البعض وإلى الحياة بظواهرها المنوعة من حولنا! وقد لا يكون في تأملاتي شيء جديد، فهي من حصاد قراءات وخبرات شائعة، ولكنني أزعم أن حكاياتي قد تدفع القارئ إلى التفكير، وقد يختلف معي وقد يتفق، وهذا في ذاته هدف يسعى إليه كل كاتب جاد، وأنا لا شك أقصد مثل كل كاتب إلى تحقيق هذا الهدف!
٣
سوف أقتصر في هذه الصفحات الأخيرة على ذكر حادثتين هزَّا كياني هزًّا في عام ٢٠٠٢م، وهما وفاة والدتي وحصولي على جائزة الدولة التقديرية في الآداب.
حين علمتْ والدتي — رحمها الله — بمرض خالي الدكتور مصطفى كمال بدر الدين وباستعصاء شفائه ثم بوفاته (وكان ذلك في مطلع العام الحالي — ٢٠٠٢م) أصابها الانطواء والانعزال عن أحوال العالم، كأنما كانت تشهد نهاية «دنيا كاملة»؛ إذ كان خالي رحمه الله رمزًا للصلة التي تربطها بدنيا الأحياء، عالمًا في الطب لا حدود لعلمه، متواضعًا لا حدود لتواضعه، مؤمنًا بالله لا حدود لإيمانه، وكان يليها في ترتيب إخوتها من حيث السِّن، لكنها كانت ترى في نفسها أُمًّا ثانيةً له، وتحبه حب الوالدة لولدها، وعلى إيمانها الديني العميق الذي لم أشهد له نظيرًا (إلا في خالتي الحاجة لطيفة — أصغر أخواتها — متعها الله بالصحة وطول العمر) فلقد كانت وفاته ضربة قاصمة لها دفعتها إلى الانزواء ولم تدع لها اهتمامًا واحدًا يربطها بدنيا الأحياء، ولم تكد تمرُّ أيام معدودة على وفاته حتى أصابتها غاشية سقطت على أثرها سقطة موجعة، وأكاد أجزم بأن السقطة كانت نفسية لا عضوية؛ إذ أجمع الأطباء على سلامتها البدنية، لكنها كانت في ظني تتمنَّى اللحاق بأخيها، وعلى امتداد شهرين كاملين حاولنا — أنا وأخواي حسن ومصطفى — أن نُعيد لها الأمل والرغبة في العيش، ولكنها كانت كأنما ترفض الحياة الدنيا، وما لبثت أن فارقتها في ٩ مارس — الشهر الذي شهد وفاة والدي قبل خمسة عشرة عامًا (وشهد مولده قبل ذلك بأكثر من سبعين سنة).
كانت وفاة والدتي صدمة كبيرة لنا — ولي شخصيًّا — مع أنها كانت قد تخطَّت الثمانين، فكأنما سقط ركن من أركان دنياي، وعندما ذهبنا إلى رشيد لدفنها في مدافن الأسرة كانت الرحلة تشبه الوداع لدنيا كاملة، أو لعالم كامل انطوت صفحته، فكنت أحس أنني أعود معها إلى الأرض التي خرجت منها، وأن روحها أصبحت تصحبني في غُدُوِّي ورواحي، وأن دورة الحياة هنا قد اكتملت كمال النهاية، وأنها بدأت دورة أخرى تُبشر بكمال نهايات أخرى؛ ومن ثم انكببت على أوراقي القديمة أنبشها وأستخرج منها مادة هذه الحكايات، وقد غمرني — كما يقول وردزورث — الإيمان الذي ينظر إلى ما وراء فناء الجسد.
وفي غضون انشغالي «بالواحات» وحكاياتها كان شِعر وردزورث يُمثِّل النبع الصافي الذي أنهل منه، ووجدت الأبيات التي عاشت في وجداني ترنُّ بأصدائها في أعماقي كأنما ترسم لي طريقًا يتجاوز الموت، فعكفت أولًا على خاطرات الخلود أستكمل ترجمتها، وقد أرفقت النص الكامل هنا لأنَّ معنى الحكايات لا يكتمل دونها، وما إن اكتمل هذا الكتاب أو قارب الاكتمال حتى وجدتني أعيد قراءة ديوان ذلك الشاعر، فأجده يتحدَّث بلساني، وأرى في تنوع إيقاعاته وأفكاره وصوره الشعرية ما يرسم لوحات كاملة قد تغنيني عن قول المزيد؛ ومن ثم ترجمت ثماني عشرة قصيدة تتراوح طولًا وقصرًا وإحساسًا وفكرًا، وشُغلت بها شهورًا حتى اكتمل لي ديوانٌ صغيرٌ من الشعر الرومانسي المترجَم نظمًا، وكُتب له أن يُنشر قبل هذه «الحكايات»!
ومرَّت الأيام وإذ بشهر يونيو يأتيني بخبر من أخبار الدنيا، خبر فرحتُ به لكنه لم يلعب برأسي، وهو حصولي على جائزة الدولة التقديرية في الآداب، التي كانت أرفع جائزة حتى عهد قريب، قبل استحداث جائزة الدولة للتفوق (وقد حصلت عليها) وجائزة مبارك الكبرى عام ١٩٩٩م! كانت الجائزة تقول: إن الله لا يضيع أجر العاملين حتى في دار الفناء، وكنت أسمع صوت أم كلثوم وهي تُردِّد قول أحمد رامي في نشيد الجامعة «واعملوا فالله يجزي العاملين»! وكانت الجائزة تقول: إنني أصبت نجاحًا في مسعاي الذي اخترته، وأنني وفقت والحمد لله في أن أخاطب من حولي وأن أفيد بعضهم، كاتبًا ومترجمًا ومعلمًا، وأن مسيرة الحياة الحافلة قد كللت بما يؤكد جدوى الكفاح، وإن كان في ذلك التشريف تكليف باطن، وهو أن أواصل الجهد ما وسعتني الطاقة فيما بقي لي من العمر.
وتذكرت غداة حصولي على الجائزة أيام المرض اللعين الذي أقعدني شهورًا قبل عشر سنوات، وذكرت ما أبديته من إصرار على الاستمرار، غير ملتفت إلى الندوب الجسدية والنفسية التي خلفها المرض، وذكرت حب الأهل والأصدقاء ووقوفهم إلى جواري في المحنة، وحب الأغراب وتعاطفهم، فكان لسان حالي يردِّد أبيات وردزورث الأخيرة في القصيدة المشار إليها: