مقدمة
يشتمِل هذا الكتاب على فصولٍ أربعةٍ، هي بِمثابة هوامش على وَضْعنا الفكري الراهن الذي بلغ من التخبُّط والتَّردِّي مبلغًا لا يصلُحُ معه إلا مُراجعة الأسس والعودة إلى المنابع؛ وأعني بها منابع الفكر المُعاصر التي أصبحت حقًّا إنسانيًّا مُكتسبًا وإرثًا بشريًّا مشاعًا غير مقصورٍ على أمةٍ دون أمةٍ أو موقوفٍ على قومٍ دون قوم.
(١) بين العِلم والتعالُم
(٢) فقه الديمقراطية
ونعرِض في الفصل الثاني لقضية الديمقراطية، فلا نجِد بُدًّا من العودة إلى أبجديتها كما وضعها مُعلِّمو الديمقراطية الكِبار من أمثال جون ستيوارت مل وجون ديوي وشارلس فرانكل وكارل بوبر؛ ذلك أننا نستخدِم هذه اللفظة في مُماحكاتِنا الهزليَّة استخدامًا يَزيغ بها عن معناها القويم الذي قَصدَه بها أئمتها، والذي يجعلها الآلية السياسية التي من شأنها أن تخلُق مُجتمعًا قادرًا على حلِّ مشكلاته وتصحيح أخطائه وتعديل وجهته دون كُلفةٍ باهظةٍ ودون إراقة دماء.
والديمقراطية قبل كلِّ شيءٍ منُاخ.
لسنا نعني بذلك أن الديمقراطية مفتاحٌ سحري يَحلُّ جميع المشكلات أو حجابٌ موصوفٌ يحفظ حامِلَه من العين، أو باب مغارةٍ أسطوريةٍ يفضي إلى الكنز في لحظةٍ فارقةٍ تفصل بين الشقاء والنعيم.
(٣) الطب النفسي ونظرية الأنظمة
تقدِّم نظرية الأنظمة هذا النموذج البديل الذي يؤكِّد على الكلِّ العُضوي، ويرى إلى الإنسان ككائنٍ فاعلٍ إيجابي نشِط، يعيش في عالمٍ رمزي ويميل نحوَ التنظيم الأعلى الذي تُتيحُه طبيعة النظام المفتوح للكائن العضوي الحي، ويفسح مجالًا للقيم المقصورة على الإنسان والقِيَم «فوق-البيولوجية» داخل النظرية العلمية للعالم.
(٤) ألوان من النسبية
وفي القسم الرابع عَرضٌ مُفصلٌ لضروبٍ من النسبية، هو بمثابة هامشٍ مُطوَّلٍ على متن «صراع الثقافات». وهو في الأصل قراءة في موسوعة ستانفورد الفلسفية أثريتُها بقراءاتٍ عديدة في الفكر العلمي الجديد وفلسفة القيم. يقوم هذا الجهد على فكرة أن المعرفة قوةٌ مُغيرةٌ مُحرِّرة. ونحن حين نقِف على الآليات التي تجعلنا نرى العالم من زاويةٍ واحدة فرضتْها علينا ثقافتنا التي نشأنا عليها، نكون في الوقت نفسه وبالفعل ذاته قد تحرَّرْنا بشكلٍ ما من سجن الإطار ومَلكْنا مفتاحه. عندئذٍ فقط نكون في موضعٍ نملك منه أن نُفرِّق بين الضروري والعرضي، بين الأزلي والتاريخي، بين الإلهي والبشري، بين الكوني والمحلي، بين المُطلَق والنِّسبي.
من شأن الصدام بين الأُطر الثقافية المُختلفة أن يُولِّد الحسَّ النقدي الذي يُحرِّر سُجناء الأُطُر من انحيازاتهم اللاشعورية، ويُخلِّصهم من مفاهيم برمَّتها تشرَّبوها مع ثقافتهم المحلية ومن نظرياتٍ بأكملها ابتلعوها مع لُغتهم القومية التي لُقِّنوها صغارًا. وليس من قبيل المُصادفة أنَّ الحضارات الكبرى كانت ثمرةً لصدامٍ ثقافي؛ فالصدام الثقافي خيرٌ لا شر. ومن تلاقُح الآراء وتبادُل النقد ينشأ العلم وتنمو المعرفة.
هكذا يتبيَّن أن الصدمة الثقافية التي تتعرَّض لها اليوم جميع الأُمم في عصر «السماء المفتوحة» هي شيءٌ يدعو للاستِبشار والتفاؤل أكثر ممَّا يدعو للهَلَع والتوجُّس. إن ثورة المعلومات، وتقنيات الاتصال التي فاقَتِ التوقُّع، قد جعلت «الآخر» يُقاسِمنا دارَنا ويؤاكِلنا في صحْنِنا! ذلك خير؛ فإلمامُنا بثقافات الآخرين وطرائقهم يجعلنا أقْدَرَ على غربلة مفاهيمنا وتطويرها وإثرائها، ويجعلنا أقدَرَ على فصْل العابر من الدائم والمُتحوِّل من الثابت، ويجعلنا، مثلما نود؛ أنفذ بصيرةً بما هو مُقدَّسٌ مثاليٌّ مُفارِقٌ سرْمَد.
يستدعي ذلك في الذهن قول هيجل «ينبغي أن أتعرَّف على نفسي في الغريب.» لقد قدَّم هيجل تصوُّرًا للثقافة يُقرِّبها من مفهوم «البيت» — أي المكان «المُجرَّد»، حيث تأوي الرُّوح في نهاية المطاف — كمقابلٍ ﻟ «المنزل» أي المكان العياني الملموس الذي أدخُلُه متى شئتُ وأخرج منه، وأبنيه وأهدمه. وهو تصوُّرٌ غير بعيدٍ عن تصوُّر هيدجر للثقافة بوصفِها تَقصِّيًا تاريخيًّا للجوانب المُشتركة مع الآخرين، وغير بعيدٍ عما ذهب إليه هيدجر من أن فكرة الثقافة نفسها — الثقافة المُفرَدة الواعية بذاتها — تتطلَّب، من أجل تحقق هويتها، المُقارنة بالثقافات الأخرى. «أن يتعرَّف المرء على خاصَّتِه في المُغاير، أن يكون «في بيته» وهو في المُغاير — تلك هي الحركة الأساسية للرُّوح؛ الرُّوح التي يتألَّف وجودها من العودة إلى نفسها ممَّا هو آخر.»
يؤكد هيجل على أن الثقافة ليست حيِّزًا عيانيًّا كالمنزل، وإنما هي بُقعة أكثر تجريدًا كالبيت. ويذهب أيضًا إلى أن المرء لا يتأتَّى له أن يُميِّز ثقافةً ما ويُقدِّرها — حتى ثقافته الأم — إلَّا بالتأمُّل في الثقافات الأخرى والانعكاس عليها. والحقُّ أن ما يقوله هيجل هو أكثر من مُجرَّد مُصاداةٍ لفكرة التعرُّف الذاتي التي يتضمَّنها تصوُّر هيدجر عن الثقافة كطريق أو مسلك، والتي تقول بأن ليس لدَينا معالم نُحدِّد بها مسار طريقنا سوى النظر إلى الطُّرق الأخرى. أن أُمَيِّز نفسي في الغريب ليست مسألة نظرٍ أو حتى حركةً جسدية؛ فالتِقاء الثقافات الذي يتطلَّبه وعيُ أنَّ أي ثقافةٍ بذاتها لا يُشبه تغيير المنازل، إنما هو عند هيجل مهمةٌ أصعب من ذلك بكثير: مهمَّة أن أجعل بيتًا لنفسي في الغريب — أن نتَّخِذ ثقافاتٍ بديلةً بأن نجد بيوتًا هناك — في تلك الثقافة الجديدة — وأن نعود إلى أنفسنا إذ ذاك!
وبعد:
ليست السُّكنى في الغريب واتِّخاذ بيتٍ في المُغاير شيئًا ثانويًّا أو ترفًا زائدًا يُمكن أن يتمَّ الأمر بدونه، بل إن «روح الثقافة نفسها تتألَّف حصرًا من العودة إلى ذاتها مِمَّا هو آخر.» فأن نكون في بيتنا حقًّا في مكانٍ ما يتطلَّب منَّا أن نكون في بيتِنا في أماكن عديدة!
الكويت في ٢٣ / ١ / ٢٠٠٤م