بين العِلم والتعالُم
التظاهر بالعلم «فن» من أقبح الفنون وأشأمِها فألًا وأنقعِها سُمًّا.
(١) تجارب الفكر Thought Experiments
«التجربة الفكرية» هي تجربةٌ تتمُّ بالكامل في الذهن، وتتعامل مع مواقف لن تُفحَص في المُختبَر، وتفترض أحيانًا مواقف لا يُمكن أن تُفحَص ولا يُمكن أن تحدُث في الطبيعة. وتُعتبَر تجارب الفكر أداةً علمية وفلسفية حقيقية. وإذا كنَّا في التجربة العادية نُحدِث بالفعل مسلسلًا من الأحداث، فنحن في تجربة الفكر مدعوُّون إلى تخيُّل مسلسل. وبوسعنا عندئذٍ أن نتبيَّن أن نتيجةً ما سوف تترتَّب أو أنَّ وصفًا مُعينًا هو وصفٌ ملائم، أو أن عجزنا عن وصف الموقف يحمِل في ذاته نتائج مُعينة.
(٢) تجربة سيرل
(٣) حجرة (صندوق) اللغة الصينية Chinese Room (Box)
ولكن هل هذا هو كلُّ ما هنالك في عملية الفهم؟
يقول جون سيرل بإصرار وحسم: كلَّا، ويهيب بك أن تتخيَّل أنك تقعُد في حجرةٍ ضيقة بلا نوافذ، وعند قدميك سلةٌ كبيرة تحتوي على كمٍّ ضخم من الأحرُف الصينية البلاستيكية، وإن تكُن على جهلٍ تام بما تكونه هذه الأشياء؛ فأنت تجهَل الصينية، وكل ما بمقدورك أن تُحدِس به هو أن هذه الوحدات بالسلَّة، ربما تكون زخارف من البلاستيك أُعدَّت لتصميمٍ تجريدي: خربشات. تخيَّل الآن أنك، من خلال شقٍّ بالجِدار تستقبِل كلَّ حينٍ دفعةً من الأحرُف الصينية، ورغم أن هذه الأحرف لا تعني شيئًا بالنسبة لك فأنت مُزوَّد بدليلٍ إرشادي طوع يدَك (مكتوب بلُغتِك الأم) يُرشِدك — إذا ما شهِدْتَ تتابُعًا بعينِه من الخربشات البلاستيكية يأتي من خلال الشق — بأن عليك أن تُقدِّم تتابُعًا مُعيَّنًا آخر من مخزونك بالسلة، مُعتمدًا في تمييز الخربشات على الشكل المحض. وتخيَّل أنك قد تمرَّستَ بذلك وصِرتَ ماهرًا فيه بل صِرْتَ مع الوقت ضليعًا في هذه العملية تحفَظُ عن ظهر قلبٍ دليلًا إرشاديًّا ضخمًا، وتُقدِّم تتابُعًا من الخربشات ردًّا على كلِّ تتابُعٍ يُقدَّم إليك، وتؤدِّي ذلك للتوِّ واللحظة، وبشكلٍ يكاد يكون تلقائيًّا.
تخيَّل الآن أن هناك خارجَ الحجرة مجموعة من العلماء الصينيين، لست تدري بوجودهم على الإطلاق، وأنهم يدفعون إلى غُرفتك بأرتالٍ من الخربشات هي عبارة عن أسئلةٍ باللُّغة الصينية، وأنت تردُّ بأرتالٍ من الخربشات تبلُغ أن تكون إجاباتٍ عن هذه الأسئلة. مثال ذلك أن أحدَهم قدَّم سلسلة من الرموز تعني بالصينية «من هو فيلسوفك المُفضَّل؟» فقدمتَ بدورك، مُسترشدًا بالدليل الضخم، سلسلةً من الرموز تعني باللغة الصينية (وإن كنتَ تجهل ذلك) «فيلسوفي المُفضَّل هو دونالد دافيدسون، وإن أكن أيضًا معجبًا بمارتن بيوبر أيما إعجاب.» إنك بغَير شكٍّ ستُثير دهشةَ المُتحدِّث وستبدو للعلماء الصينيين كما لو كنتَ تعرِف الصينية، ولكنك في الحقيقة لا تفهم الصينية، إنك تسلُك «كما لو كنت» تفهم، إنك تسلُك مثل آل سيمانتية وتملك كلَّ ما يُمكِن للذكاء الصناعي أن يضَعَه فيك عن طريق أحد البرامج الكمبيوترية، ولكنك لا تفقَهُ من الصينية حرفًا، ومَبلَغُك أنك تُقلِّد الناطق بالصينية.
هكذا يُفنِّد سيرل نظرية التمثيل القائمة على فكرة أن العقل آلة سيمانتية وأن العمليات الذهنية عبارة عن تناوُلٍ صُوري لرموزٍ غير مُفسَّرة. غير أن التجربة تُثبِت أن العقل أكثرَ من ذلك. إنَّ الإنسان الآلي أو جهاز الحاسوب يخدعُنا بسلوكٍ مُبرمَج، ويُوهِمنا بأنه ذكي وبأنَّ لدَيه عقلًا، بينما هو في الحقيقة دون ذلك، وقصاراه أنه يتظاهر بالذكاء ويُقلِّد الفهم.
(٤) نقد تجربة سيرل
(٥) الجانب الصائب من تجربة سيرل
حين عرضتُ بغير قليلٍ من التفصيل لتجربة سيرل، لم يكن يعنيني موقعها من فلسفة العقل، بل مُتضمَّناتها في صميم حياتنا. وحين قلتُ إنها استُهدِفتْ للنقد لم يكن يعنيني وجهُها المغلوط، بل وجهها الصائب. إن في تجرية سيرل جانبًا يبقى صائبًا على الدَّوام وشديدَ الأهمية حتى في نظر مُنتقديه. ونحن نجتزئ هنا بهذا الجانب الذي لا يُمكن أن يجحَدَه أحدٌ سواء كان مُتفِّقًا مع سيرل في مُجمَل مذهبه أو لم يكن. إنه صائب في توكيده على أن تجربته تُظهِرنا على أن شيئًا ما أو شخصًا ما يُمكن أن يبدو ذكيًّا وهو غير ذكي، ويبدو فاهمًا وهو لا يفهم، ويبدو مُحاورًا وهو لا يُحاور. ونحن في حياتنا الخاصة كثيرًا ما نتظاهر بسماتٍ أو قدراتٍ ذهنية لا نمتلِكها في واقع الأمر، ونسلُك «كما لو» كنَّا نعرِف ونحن لا نعرف؛ فالسلوك الظاهر قد يُخفي الجهل ويُواري الأميَّة الصميمة وراء قناعٍ صفيق.
ويبدو أن هذا الداء قد استفحلَ عندنا حتى أصبح التظاهُر بالعِلم فنًّا قائمًا بذاته، وبرنامجًا حاسوبيًّا يُعلِّمك من غير مُعلِّمٍ كيف تتشدَّق وتتعالَم وتختلِب الجهل بظاهر المعرفة. ونحن نُصادِف ذلك في صورته الكاريكاتورية لدى زُمرةٍ من كُتَّابنا الأُميِّين، أي الذين لا يقرءون، غير أنهم يكتُبون! فكيف كان ذلك؟ … بالحجرة الصينية! إن كُتَّابنا الأميِّين لا يكتبون حقًّا بل يتقمَّصون شخصية الكُتَّاب الحقيقيين ويَلُوكون رطانتَهم وأساليبهم، ويُقلِّدون ما يتصوَّرون أنه حال الكتابة وما تُشبِهُ أن تكون، ولا يتورَّعون عن نقل فقراتٍ برمَّتها من بطون الكتُب لا صِلة لها بموضوعهم فيتمحَّلون لها الصِّلة، ويزجُّون بها زجًّا ويُقحِمونها إقحامًا؛ ليُموِّهوا بها على هزالهم وفقْر مادَّتهم، ويتعمَّدون إقحام أسماء مذاهب «كبيرة» وأسماء أعلام جهيرة حتى يُوهِموا القارئ أنهم يُلِمُّون بهذه المذاهب ويعرفون هؤلاء الأعلام. ودأبهم في ذلك أن يمَسُّوا الأفكار الكُبرى مسًّا خارجيًّا لا يتجاوَز القُشور، وألَّا يُوغِلوا في العُمق شبرًا واحدًا حتى لا يُفتَضَح أمرهم وينكشِف جهلهم بما يتحدَّثون عنه، وأن يتشبَّثوا دائمًا بعلامات التنصيص والفقرات المُقتبسة يَرتُقونها معًا كمَرْقَعة الدراويش، فلا يفرُغ القارئ الأخضر من قراءتهم إلَّا وقد وقَرَ في ظنِّه أن هذا الدَّعِيَّ أو ذاك لا بدَّ أن يكون حبرًا باقِعةً لا همَّ له إلا العِلم ولا شُغل له إلا التحصيل. ولا يدري أن صاحِبَنا الكاتب جَهولٌ أميٌّ لا يقرأ ولا يعرِف، ولكنها بركة الحجرة الصينية.
(٦) علم اللغة، الحاسوب، البرامج
لعلَّ شيئًا قريبًا من هذا هو ما كان يعيق الكثير من برامج إعادة التأهيل المعرفي لمرضى الفِصام، والتي كانت تقوم على تدريب المريض بشكلٍ فرديٍّ على أداء مهمَّةٍ معرفية مُحددة؛ فكثيرًا ما كان الباحثون يُصابون بالإحباط إذ يكتشفون أنَّ تَمرُّس المريض بأداء مهمَّةٍ معرفية مُعينة من خلال تدريبٍ حصري مُحدَّد لا تضمن لهذه المهارة أن تَعمَّ لتشمل مهامَّ أخرى شبيهة، فانتهى بعض الباحثين إلى أن أفضل عَون يُمكن تقديمه لتحسين الأداء المعرفي للمريض هو تطوير برامج تدريب من الواقع الحقيقي أو شبيهة بالواقع الحقيقي.
(٧) تعليمنا والحجرة الصينية
منذ عقودٍ خلت تُفرِّخ مدارسنا وجامعاتنا ملايين من الخريجين، من بينهم مئات بل ألوف تُنبئ درجاتهم بنبوغٍ استثنائي (مائة بالمائة، تقلُّ قليلًا أو تزيد قليلًا!)
ألوف/مائة بالمائة؛ إنها أرقام غريبة مُريبة أوسع ممَّا يَشي به الحال وأسخى ممَّا عهِدْناه من شِيَم الزمان. في الأمر لا بدَّ خُدعة، وربما كَيد واحتِيال.
أما أنَّ في الأمر خُدعة فهو أظهَرُ من أن نقِف عنده. ويبقى السؤال الجادُّ الحقيقي هو: كيف كان ذلك؟ وأحسبُ أن الجوابَ الآن قد أسفرَ وأبلَجَ وكاد يفقأ عينَ أوديب: «الحجرة الصينية»!
ولا يكاد الصبيُّ يبلُغ المدرسة ويستقرُّ أيامًا حتى يشعُرَ بأنَّ أمامه غايةً يجِبُ أن يبلغها، وهي أن يؤدي الامتحان وينجح فيه.
وإذن فالصبيُّ منذ يدخل المدرسة مُوجَّه إلى الامتحان أكثرَ ممَّا هو مُوجَّه إلى العلم، مُهيَّأ للامتحان أكثرَ مِمَّا هو مُهيَّأ للحياة … وإذن فقد استحالتِ المدرسة إلى مصنع بغيض يُهيِّئ التلاميذ للامتحان ليس غير … وأظنُّك تُوافِقني على أنَّ هذا كلَّه شيءٌ والتعليم شيءٌ آخر، وأظنُّك تُوافِقني أيضًا على أن تصوُّر الامتحان على هذا النحو قلْبٌ للأوضاع، وجعل التعليم وسيلةً بعد أن كان غاية، وجعل الامتحان غايةً بعد أن كان وسيلة. وحسبُك بهذا فسادًا للتعليم، ولكن هذا لا يُفسِد التعليم وحدَه كما قلت، بل يُفسِد العقل والخُلق أيضًا. وما رأيك في الصبيِّ الذي ينشأ على اعتِبار الوسائل غاياتٍ والغاياتِ وسائل، فيفهَم الأشياء فهمًا مَقلوبًا ويحكُم على الأمور حُكمًا معكوسًا؟! ومن هنا لا ينبغي أن نُنكِر ما تراه من عناية شبابنا بالتَّافِه من الأمر وإكبارهم للسَّخيف وإعراضهم عن عظائم الأمور، بل عجزهم عن الشعور بعظائم الأمور؛ لأنَّ هؤلاء الشباب ينشئون على العناية بالامتحان وهو تافِه، وعلى إكبار الشهادة وهي سخيفة، وعلى الإعراض عن العِلم وهو لبُّ الحياة وخُلاصتها.
وليس الغشُّ هو الذي يُقترَف ويُضبَط أثناء الامتحان فحسب، بل هناك غشٌّ آخر لعلَّه أشدُّ من هذا خطرًا؛ غشٌّ خفيٌّ نُحِسُّه ولا نكاد ندلُّ عليه، ولعلَّ أخلاقَنا الدِّراسية أن تُبيحَه أحيانًا، غش يشترِك فيه المُعلِّمون والمُتعلِّمون حين يُهيِّئ المعلمون تلاميذهم تهيئةً خاصة لأداء الامتحان، وحين يقِفون بهم فيطيلون الوقوف عند هذا الجُزء أو ذاك من أجزاء البرنامج، وحين يُعيدون معهم المُقرَّر فيُلحُّون عليهم في استِذكار هذه المسألة أو تلك، وحين ينشرون لهم الكُتُب التي تشتَمِل على نماذج للأسئلة التي يُمكِن أن تعرِض في الامتحان.»
انتهى كلام العميد وأظنُّك الآن قد وقفتَ على السرِّ الذي يجعلك تُخاطب طالبًا من نوابغ هذا الزمان فيفجَعُك بذهنٍ سُوقيٍّ أمي، وعلى السرِّ الذي كان يجعل كِبار الأساتذة من جيل العمالقة يُصابون بخيبة أملٍ في طلَّابهم النوابغ بعدَ أن يتخرَّجوا ويتبوَّءوا مناصِبهم بهيئة التدريس؛ إذ يتكشَّف أن أكثرهم خلوٌ من أيِّ قُدرة بحثيَّة وعاطلٌ من أيةِ ملَكَةٍ إبداعية أصيلة؛ ذلك أن طالبهم النابغ كان يدرُس ويُمتحَن على طريقة الحجرة الصينية: تَوثين للامتحان، وبرمجة آلية، وتمرُّس بتقديم إجاباتٍ جاهزة عن أسئلةٍ جاهزة، وتعويل على الذاكرة المحض. فلمَّا أن خرج من الحجرة الصينية إلى العالم الحقيقيَّ تاركًا بالحجرة سلَّتَه ودليله الإرشادي تكشَّف أنه، ببساطة، لا يعرف شيئًا.
(٨) الألفية الثالثة
الألفان خيال منطقي، وحدٌّ اعتِسافي يفرِضه النظام العددي العشري.
وليس عام ألفين سوى امتداد طبيعي لِما قبله وتحصيل حاصل.
غير أن الخيال المنطقي الحسابي هو حقيقة نفسية أصيلة، وبعض النقاط الحسابية هي أيضًا نقاط توقُّفٍ إجباري لمُحاسبة النفس وتأمُّل الذات، ومواعيد للتحوُّل والتغيير مضروبة بين الطباع الراسِخة المُتحجِّرة والزمن المُتدفِّق السيَّال.