فقه الديمقراطية
(١) تمهيد
ربما تكون قلَّةٌ منَّا، نحن الأثينيين، هي القادرة على وضع السياسات، لكنَّنا جميعًا نملك القُدرة على الحُكم عليها. وبدلًا من أن ننظُر إلى الحوار على أنه حجر عثرةٍ في طريق الفعل، فنحن نراه مُقدِّمةً لا غِنى عنها لأي فعلٍ سديدٍ على الإطلاق.
لماذا تُثار اليوم مسألة الديمقراطية؟
لماذا تتنادى الأصوات بهذه اللفظة العتيقة في هذا الوقت العصيب الذي يشهد أحداثًا كُبرى تأبى أن يعلوَ فوق صوتها صوت؟
لماذا تمتدُّ الأيدي إلى هذا الملفِّ المَنسيِّ تُريد أن تمسح عنه التراب وتقرأ فيه مزيدًا من الصفحات وتتبيَّن منه مزيدًا من الأسطُر؟
أخشى أنَّ الجواب مُؤلمٌ كغسيل الجُرح، وأن مسألة الديمقراطية ما كانت لتُثار بكلِّ هذا الإلحاح، وتتوارَد في كلِّ هذه الخواطر، لو لم يكن الجميع قد استشعَرَ في نفسه، على اختلاف الدرجة، أنَّ الوطن مريضٌ وأن غياب الديمقراطية لعقودٍ طويلة ربما يكون وراء هذا الداء الذي أصابنا والهزال الذي ألمَّ بنا.
لقد امتُحِنت الأمة في نفسها امتحانًا قاسيًا كشف أنَّ ثِقَلها في الميزان هينٌ وأوراقها على الطاولة قليلة، وأنها لم تَعُد «تفعل» في المُلِمات بل «تنفعِل».
لقد تراكمت عليها الواجبات إذن وأصبح عليها أن تفعل أشياء كثيرةً على المدى الطويل، وأصبح عليها مهامُّ جسامٌ لا بدَّ من القيام بها إن كان لها أن تسترِدَّ شيئًا من عافيتها المُهدَرة، وتستعيد شيئًا من إبائها الجريح.
لا بدَّ من مُراجعةٍ شاملةٍ لكلِّ سياساتنا بدءًا من النظام السياسي الذي خلَّف فجوةً بين النُّظم والشعوب، ومرورًا بنظام التعليم الذي أخلف أجيالًا رُوبوتية تُكرِّر ولا تُبدِع، ولُغتنا التي تذبُل وتهزُل ولا تُعيننا على التعمُّق والابتكار، وانتهاءً بمنظومة القِيَم التي شغلتْنا بتافِهِ الأمور عن هائلها.
لا بدَّ من تسليط أضواء النقد على كلِّ جوانب حياتنا وأولها قُدرتنا ذاتها على تحمُّل النقد.
(١-١) فقه الديمقراطية
الديمقراطية منهج سياسي له أصوله وفلسفته، وله أئمةٌ مُنظِّرون يُعلِّمون الناس أبجديَّتَه ويُبصِّرونهم بمَرامِيه. ولعلَّ أقصر الطُّرق إلى فهم الديمقراطية هو أن نتَّجِه مُباشرة إلى هؤلاء، فنكون كمن يَرِد المنابع فيَغْنى بها عن سقاياتٍ شحيحةٍ لا تَشفيه ولا تَرويه، ولا يدري كم تداوَلتْها من أيدٍ وكم خالَطتْها من أوشاب.
تقوم الفكرة الديمقراطية على أن الناس سواسية قانونيًّا وسياسيًّا. صحيح أنهم خُلِقوا غير سواسية في المواهِب الطبيعية، إلَّا أن هذا التفاوُت ليس حُجَّةً ضِدَّ المساواة وإنما هو حجةٌ لها؛ فالمساواة أمام القانون ليست «واقعة» موضوعية ولا قانونًا طبيعيًّا، إنما هي «مطلب» سياسي قائم على قرارٍ أخلاقي، ولا علاقة له البتَّة بالنظرية القائلة بأنَّ الناس وُلِدوا سواسية بالطبيعة، بل إنَّ المُساواة (تُساوي الفرصة) هي التي تضمَن وترعى التفاوُت العقلي بين بني البشر؛ لأنَّ مُساواة الفُرصة تضمَن للمواهِب الفردية حقَّ التميُّز والنموِّ وتَحمي أصحاب المواهِب من أن ينالَهم اضطهادٌ ممن يقلُّون عنهم مَوهبة.
وتقوم الفكرة الديمقراطية أيضًا على أن الحرية الإنسانية هي حُرية العقل بالدرجة الأساس؛ حُرية الإيمان والضمير، حُرية الرأي والاجتماع لتبادُل الرأي، حُرية الصحافة كوسيطٍ للاتصال. وبِغَير هذه الحقوق لن يعود الأفراد أحرارًا للارتقاء، وسيُحرَم المجتمع من جُهدهم ومواهبهم وأفضل إسهاماتهم. وأنت حين تسلُب الإنسان حُرية عقله وتتولَّى عنه مهمَّةَ القرار فأنت تُعفيه أيضًا من المسئولية وتسلُبه الإحساس بالصالح العام، وتبثُّ فيه رُوح السلبية والاكتفاء من العمل بأقلِّ القليل. إنك تَحمِله على أن يتبنَّى أسلوب العمل «الدفاعي» الذي لا يهدُف إلَّا إلى أن يَقيَهُ من عِقاب التقصير، والذي يتجنَّب المُبادأة والمُغامَرة والإبداع.
(١-٢) لماذا تفشَلُ الديمقراطيات
لماذا تتلكَّأ بعض المجتمعات في الأخذ بالنظام الديمقراطي؟
ولماذا تنهار بعض الديمقراطيات الناشئة ويفضل الناس عليها أنظمةً أوتوقراطية؟
(١-٣) الديمقراطية لا تتجزَّأ
(٢) تشارلس فرانكل
ربما لذلك يُحسُّ المرء أن الريح خفَّتْ عندما يُسافِر من مجتمعاتٍ مُتسلِّطة إلى مُجتمعاتٍ حُرَّة.
يُعدُّ شارلس فرانكل (١٩١٧–١٩٨٠م) واحدًا من أولئك الأئمة الثِّقات في فِقهِ الديمقراطية. وقد قام بتدريس الفلسفة بجامعة كولومبيا، وكان من المؤثرين الكبار داخل حلقة البراجماتية الليبرالية بالولايات المتحدة في مجال الفلسفة السياسية والاجتماعية والفكر التربوي.
يتساءل فرانكل: لماذا الديمقراطية؟ لماذا نختار الديمقراطية من بَين غيرها من النُّظم السياسية المُمكنة؟ ويُطلِق العنان لتأمُّلاته التي تضع اليدَ على الجواب الصحيح؛ لأنها وضعتْها على السؤال الصحيح؛ السؤال الذي يلمس مواضع الغموض ويُمسك بجُمع المشكلة. يقول فرانكل: لقد تعرَّضْنا في هذا القرن (العشرين) للتجريدات الأيديولوجية والسياسية بدرجةٍ مُفرِطة، ورأينا مدى استعداد الناس لأن تُضحِّي في سبيل اليقين الأيديولوجي. وليس من المُستغرَب أن يكون أصحاب الوعي المُرهَف قد تكوَّن لديهم شيءٌ قريبٌ من أيديولوجية الارتِياب، وأنهم لا بدَّ أن ينظروا بعين الشكِّ والسُّخط إلى جميع المسائل المُتعلِّقة بتبرير الأنظمة السياسية؛ لماذا نختار الديمقراطية؟! وهل بوسعِنا — وقد تثقَّفْنا في مدرسةٍ واقعيةٍ صارمة علَّمتْنا ما هي مخاطر الاعتقاد — سوى أن نقول إنَّ التعصُّب شيءٌ مقيتٌ وإنَّنا يجِب أن نختار الديمقراطية لأنها لا تدعونا إلى الاعتقاد إلَّا في أقلِّ القليل؟
بل هي تدعونا إلى الكثير من الاعتقاد! وإنَّني لا أظنُّ أنَّ بإمكاننا أن نُثبِتَ أن الحقيقة الداخلية عن العالم أو عن التاريخ الإنساني أو النفس البشرية تَحمِلنا على أن نتبنَّى مُثلًا ديمقراطية. فاختِيار مثالٍ سياسي هو أمرٌ مُختلفٌ عن عملية إثبات صِدقِ مُبرهنةٍ من المُبرْهنات في نَسَقٍ هندسيٍّ ما. وإن أولئك الذين يَظنُّون أن الديمقراطية تحتاج إلى هذا النوع من التبرير إنما يُثيرون حولها الشكوك بشكلٍ غير مباشر. فعلى الرغم من التضخُّم السيمانتي (الدلالي) الذي يُعاني منه النِّقاش الرَّاهن حول المُثل السياسية، فإن الأسباب التي تدعونا إلى اختيار الديمقراطية ليست غامضةً ولا صعبة، غير أنها أسبابٌ مُقلقةٌ تهيب بمُعتنِقِيها أن يُراهنوا رهانًا كبيرًا على قُدرتهم على العَيش وفقَ ما وقع عليه اختيارهم.
(٢-١) أهمية المنهج السياسي الديمقراطي
في مجالٍ كهذا يعجُّ بالدعاوى الطنَّانة، من الأسلم لنا أن نبدأ باستعمال كلمة «ديمقراطية» بأضيَقِ معنًى لها؛ فالديمقراطية وفقًا لهذا التصوُّر الضيق هي المنهج الخاص باختيار حكومةٍ عن طريق الانتخابات التنافُسيَّة التي يُشارك فيها من هُم غير أعضاء في الجماعات الحاكمة. من المؤكد أن الديمقراطية بهذا المفهوم ليست هي المثال الأعلى للحياة مهما قُلنا في مزاياها أو في عيُوبِها، وما نظنُّ أحدًا قطُّ نظر يومًا إلى حقِّ تنظيم اقتراعٍ — مرةٌ كلَّ عامٍ أو نحو ذلك — على أنه غايةٌ في ذاته. غير أنه من المؤكَّد أن المجتمع الذي ترسَّخ فيه المنهج السياسي الديمقراطي، لديه مصدرٌ هائلٌ للطمأنينة؛ فهو يمتلك منهجًا آمنًا سلميًّا لتحديد من سوف يتولَّى السلطة، ولإحداث تغييراتٍ في بِنية السُّلطة. إلا أنَّ السلام نفسه ليس أكثر من قيمةٍ واحدة بين غيرها من القِيَم. صحيح أن توفير الأمن والنظام هو أمر له قيمته، ولكن تقدير هذه القيمة على وجه الدقَّة هو شيءٌ مُتوقِّفٌ على نوع ذلك الأمن وهذا النظام. إن أهمية المنهج السياسي الديمقراطي إنما تكمُن في نَواتِجه غير السياسية بالدرجة الأساس. إنه منهجٌ مُهمٌّ؛ لأنَّ المُجتمع الذي يترسَّخ فيه هذا المنهج سيكون من المُحتمَل أن يتميَّز عن غيره بجوانب أربعةٍ على الأقل: سيكون مُتميِّزًا من حيث الأوضاع التي تحمي حُريَّاته، ونوع الإجماع السائد، وطبيعة الصراعات الدائرة داخله، والطريقة التي يُربِّي بها حكَّامه ومواطنيه.
ولنبدأ بالحريَّات. إن الديمقراطية، مُحدَّدة بصرامةٍ كمنهجٍ لاختيار الحكومات، لا تضمَنُ الحريات الشخصية للمواطن، فكم تعدَّت حكومات ديمقراطية على الحُريَّات الشخصية كما كان يحدُث في مُستعمرة نيوإنجلند، وكم أمَّنَتْها حكوماتٌ غير ديمقراطية كما في فينا قبل الحرب العالمية الأولى. إلا أنَّ للانتخابات التنافُسية مزاياها. وليس السَّماح للمجتمع باختيار حكومته غير واحدةٍ من هذه المزايا؛ ذلك أنه من أجل الحفاظ على الانتخابات التنافُسية فمن الضروري أن تكون لدَينا مُعارضة، ولا بد أن تكون للمُعارَضة بعض الحقوق والسُّلطات الخاصَّة بها؛ فالآراء السديدة لبعض من هُمْ خارج الحكومة يجِب أن تُلتمَس، ويجِب أن يتمتَّع بعض أعضاء المجتمع بضروبٍ من الحصانة ضِدَّ انتِقام السُّلطات القائمة. وهذا يستتبِع رتلًا كاملًا من المؤسَّسات: مَحاكم لا تخضع لغَير قوة القانون، صحافة غير مُكرَّسة كليًّا لتعزيز مصالح من هُمْ في السلطة، وكالات مُستقلَّة للتحقيق والنقد الاجتماعيين …
إنَّ هذه الأوضاع اللازِمة للانتِخابات هي ما يُضفي على الانتخابات أهمِّيتها على المدى الطويل. وبخصوص الديمقراطية السياسية فإنَّ هذه الأوضاع هي مُجرَّد وسائل لغايات؛ فهي تجعل الانتخابات التنافُسية مُمكنة، ولكن ما كان لهذه الأوضاع أن تُبرِّر ذاتها لو لم يكن نظام الانتخابات التنافُسية يتطلَّبها ويتعهدها. إن الأوضاع اللازمة للحفاظ على نظام انتخابي صحيح هي السبب الأقوى الذي يدعونا إلى الحفاظ على هذا النظام. والحقُّ أن المرء قد يُقدِّر مثل هذا النظام حتى لو كان يرى أن جميع الانتخابات هي عبَثٌ وحماقة، وقد يكون لديه سببٌ لهذا التقدير مُعادلٌ أو ربما أقوى مِمَّا لدى ذلك الشخص الذي يجِد نفسه دائمًا يُصوِّت بسعادةٍ للطرف الفائز. إن غير المُنتمي، وكذلك الخاسر، هما المُستفيدان بوجهٍ خاص من وجود نظامٍ سياسي يخلق مُؤسَّساتٍ ذات مصلحةٍ مكتسبة في الحرية.
يُساعد النظام السياسي الديمقراطي فوق ذلك على تبنِّي نوعٍ مُختلف من الإجماع الاجتماعي. صحيح أنَّ هناك ضروبًا كثيرة من التنظيم السياسي قد أتاحَتْ للناس أن يشعروا أن الحكومة التي يعيشون تحت إمرتها هي حكومتهم، وليس هناك ما يدلُّ على أن الديمقراطية هي بالضرورة أفضل من غيرها من النُّظم في تعزيز هذا الشعور بالتوحُّد بين الحُكَّام والمحكومين، ولكن الفضيلة التي تنفرِد بها الديمقراطية هي أنها تُسبِغ الطمأنينة على أولئك الأفراد الذين لا يَعتبرون قادَتَهم السياسيين من فصيلهم، والذين هم حَريُّون حقًّا أن يفقدوا احترامهم لذاتهم إذا قدَّموا ولاءهم غير المشروط لأي مؤسَّسةٍ بشرية. ورغم كلِّ ما يُقال عن ضغوط الديمقراطية نحوَ الإذعان (استبداد الأغلبية)، وهو حقٌ جُزئيًّا، فإن الديمقراطية تُكرِّس حقيقة الاختلاف وفضيلة الرأي المُستقل. وهي لكي تكون ديمقراطيةً بحقٍّ فإنها تتطلَّب موقفًا إنسانيًّا راقيًا بشكلٍ غير عادي؛ هو المُعارضة المُوالِية. إنَّ آية الإنسان المُتحضِّر، وفقًا لقاعدة جستس هولمز الشهيرة، هي أنه يستطيع أن يفعل باقتناعٍ في نفس الوقت الذي يشكُّ فيه في مبادئه الأولى ويضعها موضع التساؤل. والمُسوِّغ الأساسي لتنصيب حكومةٍ ديمقراطية هو أنها تسمح بالمُخالَفة وتُبقي عليها. وهي من هذه الجهة تحتلُّ نفس الموقع الأخلاقي للإنسان المُتحضِّر.
من شأن المنهج الديمقراطي أيضًا أن يُغيِّر طبيعة الصراعات التي تحدُث في المجتمع. إن المشكلة الأزلية لعِلم السياسة هي كيف تُدير الصراع، وما يجري في صراعٍ ما يتوقَّف على من هم المُشاهِدون للصراع وما هو ردُّ فعلهم وما هي سُلطتُهم وقواهم. ومن الحقائق الهامة عن الديمقراطية السياسية أنَّها تُوسِّع بدرجةٍ هائلة قاعدةَ المُشاهدين الذين يشهدون الصراع ويتأثَّرون به ويُشاركون فيه، وهو ما يجعل مواطني النظام الديمقراطي يشعرون في كثيرٍ من الأحيان أنَّ الديمقراطية مُضجرةٌ وأن مُجتمعاتهم هشَّةٌ دون غيرها من المُجتمعات. لقد كان هوبس (الذي قال عن نفسه إنه وُلد هو والخوف توأمين) يُؤيِّد الاستبداد من أجل الأمان النفسي والسلامة البدنية.
ولكن قولنا إنَّ الديمقراطية تُوسِّع مشهد الصراع، مُكافئٌ لقولنا إنها تقنية لصبْغِ الصراع بصبغةٍ اجتماعية؛ فهي تفرِض ألوانًا من الضغوط على المُتصارعين وتمدُّ من السيطرة الشعبية على المعارك الشخصية والترتيبات الخاصة. وهي تفعل ذلك سواء كانت هذه المعارك الشخصية داخل الحكومة أو خارجها. ولعلَّ ارتباط الديمقراطية بفكرة المُغامرة الشخصية لا يخلو من مُفارقة؛ فالنظم الشمولية تنطوي، بمعنًى ما، على مُغامرات شخصية (أي فوق المناقشة والرقابة الخارجية) أشدَّ هولًا مِمَّا نجده في النظم الديمقراطية. وتبقى مشكلة النظام الديمقراطي هي، حقًّا، معرفة أين نرسُم الخطة: أين نقول «من هُنا لا محلَّ للرقابة الخارجية.» (هذا الخطُّ يرسُمه بصرامةٍ شديدةٍ أولئك الذين يصنعون القرارات الهامَّة في المجتمعات الشمولية).
غير أن الخدمة الحاسمة التي تقدِّمها الديمقراطية وتُسبِغها على شخصية المجتمع الذي يمارسها إنما تأتي من طريق التربية. ولنبدأ ببيان تأثير الديمقراطية السياسية على قادتها. فالمنهج الديمقراطي، شأنه شأنُ أيِّ منهجٍ سياسي آخر، هو منظومةٌ من القواعد التي تحكُم التنافُس السياسي. تتمتَّع مثل هذه القواعد بسطوةٍ انتقائية وأخرى تربوية. إنها تُحبِّذ أنواعًا مُعيَّنة من الناس، وتجعل أصنافًا مُعينةً من الفضائل أكثر جدوى، وتتيح أيضًا ظهور أصنافٍ مُعينة من الشرور. من هنا فإنَّ أهمَّ ما يُميِّز قواعد التنافُس في النظام الديمقراطي هو أنها تسمح للخاسِر أن يخسَرَ بكرامةٍ وكبرياء، وتُتيح له أن يبقى وأن يُحاوِل مرةً أخرى إذا شاء؛ فالرهانات ثقيلةٌ ولكن لها حدودًا (ليس في الديمقراطية «كروتٌ محروقة»، ولا «أفيال» تنزوي للموت، ولا معارك ديوكٍ لا بدَّ فيها من أن يموت الخاسِر)، وحتى نصيبها المقسوم من الفساد لا يعدِم مزيةً تُقال في حقه؛ فهي تُعرِّض أعضاءها للمُساءلة لا للهلاك، للتُّهمة لا للإدانة. إن الكفَّ المُلوَّثة بالشَّحم بغيضة ولكنها أهونُ على كلِّ حالٍ من لكمةِ القبضة الحديدية.
ويرتكِز المنهج السياسي الديمقراطي، فوق ذلك، على الشورى المُتبادَلة بين القادة والأتباع. وهناك طرُقٌ عديدة للحصول على تأييد الناس لسياسات القادة في النظام الديمقراطي. غير أن أهمَّ شيءٍ هو ذلك الإحساس الذي تمنحه الديمقراطية للناس بأن رأيهم قد تمَّ أخذُه وأن وجهة نظرهم قد تمَّ وضعُها في الاعتبار. من شأن ذلك أن يجعل القيادة في النظام الديمقراطي أمرًا مُرهِقًا. والحق أنَّ من أكبر المخاطر التي ينطوي عليها النظام الديمقراطي هو، ببساطة، أنَّ القادة فيه يفتقِرون إلى الخصوصية والهدوء اللَّازمَين لأي قراراتٍ بعيدة المدى واضحة الرؤية. غير أن هذا خللٌ في فضيلة؛ فالسلطة، بصفةٍ عامة، عُزلة، والنظام الديمقراطي هو مُحاولةٌ محسوبةٌ لكسْر هذه العُزلة، فالشروط والأوضاع التي يتقلَّد تحتها القادة الديمقراطيون السلطة هي شروط تُبصِّرهم بتعقيدات المشاكل التي حُمِّلوا مسئوليتها، وتُفقِّههم في دقائق الأمور التي انتُدِبوا لها.
وهناك وجهٌ آخَرُ لنفس العُملة. كان بركليز يقول: «ربما تكون قلةٌ مِنَّا، نحن الأثينيين، هي القادرة على وضع السياسات، ولكننا جميعًا نملِك القُدرة على الحُكم عليها. وبدلًا من أن ننظُر إلى الحوار كحجر عثرةٍ في طريق الفعل، فنحن نراه مُقدِّمةً لا غِنى عنها لأيِّ فعلٍ سديدٍ على الإطلاق.» ولكن ثِمار الحوار الحرِّ لا تُفصِح عن نفسها في السياسة العامة فحسب، إنَّها تُفصِح عن نفسها أيضًا في اتجاهات المُتحاوِرين أنفسهم وفي مواقفِهِم وقُدراتهم. إن الترتيبات السياسية الديمقراطية هي من بين العوامل التي أنتجت واحدةً من السِّمات المؤلمة والواعدة للحياة الحديثة؛ ألا وهي إحساس الناس بأن تعليمهم قاصر، وتأكيدهم بأنَّ لهم الحقَّ في التعليم. كما ساعدَتِ الديمقراطية على تعزيز تَصوُّرٍ كلاسيكي للتعليم: وهو أنه يجِب أن يكون تعليمًا اجتماعيًّا فضلًا عن كونه تقنيًّا، عامًّا فضلًا عن كونه خاصًّا، حُرَّا وليس نظريًّا مُنْبَتًّا عن الواقع العملي. وبمقدورنا أن نعكس التصوُّر التقليدي للعلاقة بين التعليم والديمقراطية دُون أن نُجانِب الصواب: إن التعليم ليس مُجرَّد مُتطلَّبٍ أساسي للديمقراطية، إنما الديمقراطية ذاتها إسهامٌ في التعليم.
(٢-٢) فوائد الديمقراطية
ولكن بحسبِنا ذلك من حديثٍ عن الأنظمة السياسية؛ فما السياسة، في أيِّ نظرةٍ حرةٍ إلى الحالة البشرية، سوى مؤسَّسةٍ تابعةٍ وعملٍ من الدرجة الثانية.
ذلك أن الفكرة الديمقراطية تقوم على فرضية أن الغايات الهامَّة للحياة يُحدِّدها الأفراد كأفرادٍ في مساعيهم الإرادية الخاصَّة. السياسة بالنسبة للديمقراطية الليبرالية هي مُجرَّد جانبٍ واحدٍ من جوانب الحضارة، هي شرطٌ من شروط الحضارة وليست كلَّ شيءٍ في مناخ الحضارة وبيئتها. ربما لذلك يُحسُّ المرء بأن الرِّيح خفَّت عندما يُسافِر من مُجتمعاتٍ مُتسلِّطة إلى مجتمعاتٍ حُرَّة. إن المرء ليتلقَّى انطباعًا بالحيوية؛ حيوية المارَّة الذين يَمضُون لشأنهم الخاص ويُولِّدون زخمهم الخاص. لعلَّهم يَضطربون في اتجاهاتٍ أكثر اختلافًا مِمَّا يفعل أعضاء المجتمعات المنظمة مركزيًّا، غير أنَّ الاتجاهات هي اتجاهاتهم هم. من هنا يكون أهم سببٍ لاختيار الديمقراطية هو تلك الكيفيات التي يتسنَّى للديمقراطية أن تَجلُبها إلى حياتنا اليومية، والطرائق التي تُؤثِّث بها أذهاننا ومُخيِّلاتنا وضمائرنا. هذه الكيفيَّات هي: الحرية، والتنوُّع، والوعي بالذات، والموقف الديمقراطي نفسه.
هناك رغم ذلك حقائق مُعينةٌ علينا أن نضعها بمُقابل هذه الاتجاهات التي تُغذِّيها الديمقراطية؛ أولًا أن المُجتمعات الديمقراطية توفِّر لمواطنيها بعامَّة كمًّا أكبر من خِبرات الحياة، وثانيًا أنَّ توأم المُساواة هو رُوح الإنجاز وخُلق التحصيل. ثمة توترٌ بين ارتياب الديمقراطية في الإنسان المُعتزل وإعجابها بالإنسان المُشارك، ولكن عداءها للتمييزات الاجتماعية المُتباهية مُتأصِّل عادةً في الإيمان بأنَّ كلَّ إنسان يجِب أن يُعطى الفرصة، دون عونٍ خارجي؛ لكي يُظهِر ما يستطيع أن يفعل. وأخيرًا فإن الضغوط تجاه التجانُس كبيرة في كلِّ المجتمعات، فهل الارتياب في الشواذِّ في أمريكا الميتروبوليتانية المُساواتية أكبر مِمَّا كان عليه في ريف القرْن الثامن عشر؟ صعبٌ أن نقول ذلك. وقد بَيَّن برتراند رسل أنَّ «مُغالطة الأرستقراطي» هي في الحُكم على مُجتمعٍ ما من خلال صنف الحياة التي يُقدِّمها لقلةٍ متميزةٍ منه. إنَّ التفرُّد يتطلَّب شجاعةً في كلِّ مكان، ويتطلَّب مالًا أيضًا في المُعتاد، ويتطلَّب دائمًا ضمانًا بأن يبقى الفردُ مُحتفظًا بحقوقه الأساسية. ومن هذه النواحي فإنَّ الديمقراطية الليبرالية الحديثة، برغم ما تُتَّهم به من تعزيز التجانُس، قد يسَّرَت للإنسان العادي غير المُتمتِّع بامتيازاتٍ أن يتفرَّد ويَبرُز إذا شاء، وأتاحت له في ذلك ما لم يُتِحْه أي نوعٍ آخر من المجتمعات عرفها التاريخ.
ذلك أنه مهما يكُن من التِباس بعض الحقائق فإنَّ الالتزام الرسمي للديمقراطية هو للرأي القائل بأن لكلِّ إنسانٍ بِنيتَه ومِزاجَه الخاص، وأن هذه الخصوصيات الشخصية تستوجِب الاحترام، وأنه إذا كان الفرد لا يعرِف مصلحته فمن المُستبعَدِ أن تعرفها له صفوةٌ جاثمةُ لا تتبدَّل. وليس هذا مُجرَّد التزام رسمي بل إن المُؤسَّسات في النظام الديمقراطي لتُجسِّده تجسيدًا عيانيًّا إلى أبعدِ حد. وعلى افتراض أنَّ أعضاء المجتمع الديمقراطي لا يتمتَّعون من الضمانات الاقتصادية إلا بأقلِّ القليل، فإن وضعَهم يتمتَّع بمرونةٍ لا يحظى بها كثيرٌ من الأفراد العاديين في الماضي، فإذا لم ينالوا الحظوة مع إحدى الجماعات الحاكِمة فما يزال بإمكانهم أن يتحوَّلوا عنها ويلتمِسوا السبيل في جهةٍ أخرى.
ليس ثمة أدنى شكٍّ في أنَّ هناك تركيزًا للسلطة في المُجتمعات الديمقراطية، يتمثَّل في مجموعات كبيرة من مراكز القوى، ومن المُتيقَّن بنفس الدرجة أنَّ هناك شيئًا من الحرية في أي مجتمع من المجتمعات، أما عن تركيز السلطة فهو يحدُث لأن الأذكياء من الناس، أينما كانوا، يعرفون كيف يلعبون أدوارًا محورية. غير أن المجتمع الديمقراطي يشتمِل على عددٍ أكبر من الأدوار المحورية لكي تُلعب. وأما عن الحرية فيجِب أن نُدرك أن حرية الاختيار الفردية ليست قيمةٌ مُطلقة، وأنه ينبغي على كلِّ مجتمع أن يحدَّ منها. فحقيقة الأمر أن حرية شخصٍ ما كثيرًا ما تقوم على تقييد حرية شخصٍ آخر. ولكن في حين أن حرية الاختيار ليست قيمةً مُطلقة، فإن النظام الديمقراطي، إذ يذهب إلى أن لكلِّ إنسانٍ حقوقًا أساسية مُعينة، فهو يُقيِّض لحرية هذا الإنسان قيمةً جوهريةً صميمة، بحيث نشعُر كلَّما اضطُرِرنا إلى تقييدها بأنَّ قيمةً كبرى قد أُهدرت وشيئًا ثمينًا قد تمَّت التضحية به؛ لهذا السبب يختلِف التخطيط الاجتماعي في النظام الديمقراطي اختلافًا أساسيًّا عن التخطيط في البيئات غير الديمقراطية. من هنا فإن التعبير الغامض «المصلحة العامة» حين يرِدُ في السياق الديمقراطي فإنه يحمِل ضمنًا قيمة حرية الاختيار، حرية كلِّ فردٍ من أفراد المُجتمع، كعُنصرٍ من عناصره.
ولكن أيَّ فرقٍ ينتُج عن هذا؟
أول فرقٍ هو تعزيز التنوُّع. والفرق الثاني هو تربية الأفراد في حالةٍ من الوعي الذاتي. وغنيٌّ عن القول أن التنوُّع ليس هو كل شيء، وأن للتنوُّع حدًّا؛ وهل علينا أن نحمي بائعي المُخدِّرات باسم التنوُّع؟! على أنَّنا كثيرًا ما نُغفِل المغزى الحقيقي للتنوُّع، وأهمية وجود الاختلافات والبدائل بحدِّ ذاتها، فهي لا تمنَحُنا اختياراتٍ أكثر فحسب، أو تكسِر لنا الرَّتابة فقط، بل هي تؤثِّر على الكيفية المُباشرة لخِبرتنا، وتُغيِّر علاقتنا بأيما شيء اخترْنا أن نملِكَه أو نفعله أو نكونه. هذا هو ما يفوتُنا إدراكه عندما نُعَرِّف الحرية بأنها مجرَّد غياب الإحباطات المُحسَّة، أو حين نظنُّ أن المرء إذا نال كلَّ ما يريد فلا فرْق بين أن يكون مُختارًا أو غير مُختار. إن الخير الذي يختاره المرء بإرادته والذي يملِك دائمًا إعادة النظر فيه، هو خيرٌ ينتمي إليه بطريقةٍ تختلِف عن الخير الذي يتلقَّاه بطريقةٍ سلبية. إنه مسئوليته.
وهذا يعني فائدةً أخرى للتنوُّع الديمقراطي؛ لسنا نقول إن الديمقراطية تجعل الناس أكثر حِكمةً أو فضيلة، ولا هو بوسع أحدٍ أن يجزم بذلك، غير أنَّ الديمقراطية تدعو الناس إلى أن تُفكِّر باحتمال وجود بدائل أخرى للطريقة التي يُحكَمون بها، وهي إذ تُذيب الحواجز الطبقية والامتيازات الموروثة التي تفرِّق بين الناس فإنها تُتيح للفرد معرفة المزيد من أصناف البشر وألوان الخِبرات، وترفع من قُدراته على التكيُّف مع كلِّ ما هو جديد ومُختلِف. بذلك فإنَّ الديمقراطية السياسية وحِراكها الاجتماعي تُفضي بالفرد إلى درجةٍ أعلى من الوعي بنسبية أساليبه الحياتية ودرجة أعلى من الوعي الذاتي في اختيار المعايير التي يعيش بها، الأمر الذي يُهيئ له وفرةً من الخبرة الشخصية المُكثَّفة، ويُعدُّ هذا الإسهام الديمقراطي في إثراء خبرة الفرد من أهم أسباب تقدُّم الحضارة الليبرالية.
لا يخلو التَّمادي في هذه الاتجاهات من مخاطر (وهو مِمَّا يُفسِّر كثيرًا من تردُّدنا حول ما تعنيه الثورة الديمقراطية)، فالموضات والتقاليع تشغل وتُشتِّت جماعاتٍ أكبر في المجتمعات الديمقراطية الحديثة، والحَراك الاجتماعي رغم أنه يُوسِّع مَدارك الإنسان ويُنوِّع خبراته، فهو يُقصِّر إحساسه بالزمن، فحين يَنبتُّ مواطنو الديمقراطية عن الرُّتَب الثابتة والمحطَّات المُحدَّدة (ولكلٍّ منها أسطورتها وأساسها المنطقي وحسٌّ بوظيفتها التاريخية) فإنهم يواجهون إغراءً غريبًا بالحياة التجريبية، وفق الطبعة الأخيرة، كما لو لم يسبقْهم بشرٌ في الحياة من قبل. غير أن هذه مخاطر الحداثة لا الديمقراطية، ومن المُمكن السيطرة عليها؛ فمن شأن مرافق مثل المحاكم والنقابات المِهنية ودُور العبادة والجامعات أن تكون ذُخرًا من الخبرة المُدَّخرة، وبمقدورها في المُجتمعات التي تمنحُها استقلالًا عن الإلحاحات السياسية العابِرة أن تعمل كوقاءٍ ضدَّ طُغيان الحاضر الغرَّار. إن الحداثة تتضمَّن ثورةً في الوعي الإنساني. والترتيبات الاجتماعية الديمقراطية تعكس هذه الثورة وتتقبَّلها، ولكنها تقدِّم الأدوات التي تُرشدها وتسيطر عليها. وليس هناك نظامٌ مُنافسٌ للديمقراطية في الوقت الحالي يملِك هاتَين الصِّفَتَين بنفس الدرجة.
حقيقة الأمر أنَّ مخاطر الديمقراطية هي، ببساطة تلك المخاطر التي ينطوي عليها الإيماء للناس بأنَّ ليس هناك أجوبة عن كل شيء. فالديمقراطية تجسيدٌ سياسي للمبدأ الذي يحكُم المجتمع العلمي أيضًا، وهو أن التساؤل ينبغي أن يظلَّ مفتوحًا، وأن ليس ثمَّةَ بياناتٍ مُقدسة، وليس هناك إجاباتٌ نهائية. إن الرياء والظلامية والأكاذيب تُمثِّل بالطبع شطرًا كبيرًا من غِذاء مُعظم الديمقراطيات؛ فالإنسان حيوانٌ خائفٌ من الحقيقة. وإنها لتكون مُعجزة لو استطاع أيُّ نظامٍ اجتماعي أن يُغيِّر هذه الحقيقة وشيكًا. غير أن مؤسَّسات الديمقراطية الليبرالية تتفرِد في أنَّها لا تتطلَّب من الناس أن يعتقِدوا اعتقادًا نهائيًّا في أيِّ شيءٍ عدا منهج النقد الحرِّ نفسه والتغيير السلمي، والأخلاق التي يقوم عليها هذا المنهج. الولاء الأعلى في مِثل هذا النظام الاجتماعي هو لاستمرار البحث عن الحقيقة كيفما كانت، لا لاعتقاداتٍ بشريةٍ مُؤقتةٍ ولا لمؤسَّساتٍ زائلة. حقيقة الأمر أنَّ الأساس المنطقي للديمقراطية هو بالضبط أنها في غِنًى عن الادِّعاء الأحمق المَغرور بأنها تقوم على حقائق معصومة، وبوسع الناس أن تعتقِد في الديمقراطية وتبقى رغم ذلك مُوقنةً بأن الحقيقة أكبر من أي شيءٍ يظنُّون أنهم يعرفونه.
ويبقى رغم ذلك سؤالٌ لعلَّه أشدُّ الأسئلة إزعاجًا لنا وتنغيصًا:
الحرية، التنوُّع، الوعي بالذات، الوعي الحصيف بأن البشر غير معصومين، الولاء لمبدأ التساؤل المفتوح، كلُّ هذه فضائل واضحة، غير أنها فضائل راقية رفيعة، فهل ترفَّعت الديمقراطية الليبرالية وتأبَّتْ على المنافسة؟ هل لدَيها أي شيء تقوله، لا لأولئك الذين عرفوها بالفعل وذاقُوا حلاوتها، بل للأغلبية البشرية الذين ينبغي أن يَهتدوا إليها وينشُدوها إذا كان للحُرِّيات الإنسانية أن تعمَّ قليلًا في العالم وتزداد حصَّتُها عمَّا هي عليه الآن؟
من الأوهام المُدمرة لدى الكثير من الليبراليين الغربيين ظنُّهم بأن قِيَم الثقافة الليبرالية هي قِيَمُنا نحن (الغربيين) وأنها لا تصلُح لأولئك الذين ينظرون إلى العالم على نحوٍ مُختلف، ولا تصلُح على الإطلاق لمن يعيشون حياةً فقيرةً همجية قصيرة. ورغم أن المُستعمرين قد روَّجوا هذه النظرة لأغراضٍ مُختلفة فقد شاركوا فيها، وهي نظرة تنمُّ عن فَهم مغلوط لطبيعة القِيَم الليبرالية؛ الحرية والتنوع والوعي بالذات والبحث عن الحقيقة. كل أولئك خبراتٌ مُرهقةٌ ومن الصعب أن يَتصوَّر مزاياها من لم ينعَمْ بها قط، ولكن على الرغم من المتاعِب التي تجرُّها هذه القِيَم فإنَّ الدلائل، فيما أرى، تُشير إلى أن مُعظَم البشر سوف يُسعدهم أن يَحوزوا عليها، وسوف يرَون حياتهم قد ارتقتْ بها. تتجسَّد مشكلة القِيَم الليبرالية المُميَّزة لا في أنها ضيِّقة الأُفق بل في أنَّ الشعوب المقهورة لدَيها احتياجاتٌ أشدُّ إلحاحًا: الدواء والتعليم والخُبز والتحرُّر من المُرابين والانعِتاق من ربْقة الفساد والأنظمة الاستغلالية. تَعِدُ الأنظمة غير الليبرالية شعوبها بهذه التحسينات المادية الأساسية وتُقدِّمها لهم في أحيانٍ كثيرة. ومهما تحدَّثت البرامج الليبرالية عن الحُرية دون أن تمسَّ الفساد والاستغلال، فإنها ستكون عاجِزةً عن تقديم أي شيء بما فيه الحرية ذاتها.
ولكن ماذا نقول لأولئك المقهورين تحت إمرة الحكومات المُتسلطة، وكيف نُقنع هؤلاء الرازِحين تحت وطأة المُعاناة المُتلهِّفين لتوفير احتياجاتهم الأساسية. إن البرامج الليبرالية قادِرةٌ هي أيضًا على تحسين وضعهم المعيشي. وإن طريق الليبرالية، رغم كثرة تعاريجه والتفافاته، هو أفضل من طريق الاستبداد.
يُمكن أن نقول لهم، ببساطة شديدة، إن طريق التسلُّط طريقٌ ينغلِق وراء سالِكيه، طريقٌ لا رجعة فيه، بينما تمتاز الديمقراطية بأنها تسمح بالمُراجعة وإعادة النظر. فاختيار نظام تَسلُّطي هو بمثابة الرهان بكل شيءٍ في رميةِ نردٍ واحدة. فإذا كان الرهان خاسرًا فلا مخرج إلا من خلال العُنف، وهو اتِّجاهٌ لا يُرجى منه خيرٌ كثير. أما اختيار الطريق الليبرالي، وإن كان لا يُقدِّم ضمانًا ضدَّ الأخطاء، فهو يُقدِّم ضمانًا ضدَّ الخطأ القاتل الذي لا يقبَلُ أيَّ تَراجُعٍ مأمونٍ أو تصحيحٍ سِلمي.
على أن هناك سببًا آخر لاختيار الديمقراطية، وهو أنَّ الديمقراطية تصنع الديمقراطيين.
تخيَّل معي نظامًا مُلتزمًا تمامًا برفاهية من يحكمهم، وتخيَّل معي، رغم كلِّ المصاعب العملية، أنه نظامٌ ذكي صادق شجاع وغير مُضطر إلى التعامُل بأي صورة من الصور مع أي من التكتُّلات الدولية التي تسُود العالم الحديث، وتخيَّل أيضًا أن هذا النظام يهدف في النهاية إلى أن يغرس الديمقراطية والقِيَم الليبرالية في البلد الذي يحكمه، ولكن افترِضْ فقط أن هذا النظام يدَّعي أنه «في هذه المرحلة» هو النظام الوحيد الناطِق بلسان المصلحة العامة والجماعة الوحيدة في المجتمع التي تعرِف معنى الحقيقة والعدل. ماذا تكون النتيجة؟ النتيجة هي استحالة وجود توجُّه ديمقراطي. لقد وُصِف هذا الموقف بطرقٍ عدة؛ كحبِّ للحرية والمساواة والأخوة، وكاحترام لكرامة الفرد، واحترام دائم للحقوق الفردية. هذه الأوصاف ليستْ خطأ ولكنها نظرية بدرجةٍ مُفرطة؛ فالموقف الديمقراطي في حقيقة الأمر، هو، ببساطة، مزيجٌ من حُسن النية تجاه الآخرين والاعتقاد العامِل باحتمال تمتُّعهم بالعقلانية. هذا هو ما يُدمِّره النظام السياسي الاستبدادي، فما إن تُسيطر على مجتمعٍ فكرة أن زمرةً مُعينةً هي التي تستأثِر بالحِكمة كلها حتى ينقسِم هذا المجتمع إلى قِسمين: قسم مُستنير وقِسم دون ذلك. وحتى يقوم القِسم المُستنير بتحديد من سوف يتقلَّد عضوية المؤسَّسة الحاكمة. ومثل هذا الوضع في أي دولة حديثة يحُول دون نمو الثقة المُتبادَلة بين جماعاته المُتعارِضة، تلك الثقة التي تُعدُّ شرطًا أساسيًّا لنمو مجتمعٍ سياسي قوي وحرٍّ في الوقت نفسه.
والتنافُس الذي يحدُث في النظام الديمقراطي هو مثال للتنافُس التعاوني. إنه نضالٌ يعمل كلا طرفيه على الإبقاء على الشروط اللازمة للنِّضال المُهذَّب، وهو بالتالي يقوم على افتراض أن ليس ثمة صراعاتٌ مُستعصية على الحل، وأن من المُمكن دائمًا تسوية الخلافات والتفاوض فيها إذا صحَّت عزيمة الناس. مثل هذا النظام يتطلَّب أن يُعامِل الناس بعضهم بعضًا بصدقٍ وأن يبذلوا جهدًا مُخلِصًا للتوصُّل إلى اتفاقات وأن يصونوا هذه الاتفاقات بعد أن يتوصَّلوا إليها. وهذا النظام يقتضي منهم أن يُدرِك كل طرفٍ أنَّ الطرف الآخر له مصالِحه وأن يكون على استعدادٍ لتقديم تنازُلاتٍ من أجل هذه المصالح ما دامت لا تصطدِم بالمبادئ الأساسية. ليس معنى ذلك أن الخلق الديمقراطي يدعو أصحابه إلى أن يكونوا حمقى وأن يفترضوا أن خصومهم قد ألقَوا بكلِّ أوراقهم على الطاولة. غير أن التنافس الديمقراطي يغدو مُستحيلًا إذا فشِل أطرافه في استيعاب أن خصومهم سوف يُدركون انتصارهم إذا فازوا، وسوف يتعاونون معهم بعد ذلك. أما عقد النية على إفناء المُعارَضة أو على الانتصار بأيِّ ثمنٍ كان، فهو يُدمِّر أي احتمال للصراع المُنظَّم. بهذا المعنى تكون الديمقراطية مِرانًا خُلقيًّا لحُسن النوايا. إنها نظامٌ يجعل من الممكن للبشر، لا أن يُحبُّوا أعداءهم، بل على الأقلِّ أن يعيشوا دون خوفٍ منهم. هذا الصنف من الثقة المُتبادَلة بين الخصوم هو ما تُحطِّمه النظم التسلُّطيَّة.
لا جرم تبدو هذه الحُجَّة مُمعِنةً في الطَّيش عند من يعيشون في المجتمعات التي مزَّقها انعِدام الثقة قرونًا عدة، والتي لم تعرِف كلمة «حكومة» إلا كمُرادفٍ للقسوة والتضليل. إذا نجح مثل هؤلاء في تنصيب أنظمةٍ ديمقراطية في بلادهم، فسوف يفعلون ذلك بتمييز خصومهم وعدم الثقة بهم. ولكن العنف الذي يُصاحب أي ثورة اجتماعية عميقة (ما دام شرًّا لا بدَّ منه، وما دام محدودًا بحدوده) غير العنف حين يكون مذهبًا يفترِض أنَّ من المُحال على الناس أن يتعاونوا ما لم تكن لهم نفس المصالح والأفكار. مثل هذا الافتراض، كما تُشير كلُّ الأدلة، يُشجِّع على تبنِّي الإرهاب كسياسةٍ رسمية، ويحكم على المجتمع مدى الحياة بالخضوع لسُلطة احتكارية لا تَداوُلَ فيها ولا تبديل. وفي المجتمع الحديث حيث تتعدَّد الفئات السكانية، بل حقًّا في أي مجتمعٍ شرَعَ في حركة التحديث، فإن مذهب العِصمة الحكومية يُمرِّس الناس بالشكِّ والمؤامرة. ربما سيُحقِّق لهم هذا المذهب بعض الأهداف ويَجني لهم بعض الثمار، غير أن مذاقَها تحت الظروف سيكون مذاقًا مُرًّا.
ولا يقتصر مذهب العِصمة على تدمير النوايا الحسنة، بل يتنافَرُ أيضًا مع الاعتقاد في عقلانية الآخرين. أما اتخاذ الموقف الديمقراطي فيَعني أن تمضي قدُمًا وأنت تفترِض احتمال أن يكون للآخرين مُبرِّراتٌ مُقنعةٌ للتفكير بالطريقة التي يفكِّرون بها، فإذا ما اختلفوا معك في أمرٍ فإنَّ اختلافهم لا يجعلهم بالضرورة مُستحقِّين للتقويم والإصلاح. هذا هو المعنى البسيط للقول الذي يتردَّد كثيرًا بأن الديمقراطية تؤمِن بعقلانية البشر وتَساويهم، وهو إيمانٌ لا يعني الإقرار بأن جميع البشر عقلانيُّون أو أنهم سواسيةٌ من حيث عقلانية التفكير والمعيشة. إنه في حقيقة الأمر «إيمان براجماتي»؛ بمعنى أنه يُعبِّر عن سياسةٍ أو نهجٍ، هذا النهج هو ببساطةٍ أن تعترِف بعقول الآخرين وأذهانهم الخاصة (وتَعُدَّهم مسئولين عن أفعالهم) ما لم يثبُت عكس ذلك ببراهين قويةٍ ومُحدَّدةٍ تمامًا. مثل هذا الأسلوب يُتيح مساحة للفردانية ومُتنفَّسًا للطباع الشخصية الخاصة، وتسمح لألوان الذكاء البشري أن تبرُز وتُكشَف وتُستخدَم.
وأخيرًا فإنَّ من يسأل نفسه لماذا يجِب أن أختار الديمقراطية فإنما يسألها أن تُقرِّر مع أي نهجٍ من النَّهجَين يودُّ أن يعيش: مع النهج القائل بأن رفاقه خطِرون عليه وعلى أنفسهم، أم القائل بأنهم عُقلاء ما لم يتكشَّف خطرهم ويُسفِر عن وجهه. إن لكلٍّ من المَسلكَين مَخاطِره؛ لماذا ينبغي على المرء أن يختار أحدَهما دون الآخر؟ بإمكان المرء أن يجِد أحد الأسباب إذا سأل نفسه عن العواقب التي يؤدِّي إليها المسلك المُتَّبع تجاه المشاعر الأولية التي سوف يُضمِرها نحو رفاقه، لا في عالمٍ مُغايرٍ يتوسَّمه، بل هنا والآن. إن ميزة النهج الديمقراطي هي أنه يخلُق المشاعر الديمقراطية؛ فأولئك الذين يُريدون أن يرَوا كلَّ إنسانٍ ينعَم بملكيته الخاصة، ويؤمنون بأن الناس في نهاية المطاف سوف يُعامِلون بعضهم بعضًا بالاحترام والأخوة التي يُبديها الندُّ للنِّد، إنما يطلبون الديمقراطية باسم هذه الفضائل والتوجُّهات الأخلاقية. ولعلَّ السبب النهائي لاختيار المنهج الديمقراطي هو أنه يُقدِّم أرضًا للتدريب، هنا والآن، على هذه التوجُّهات بالتحديد.
(٣) «عن الحرية»: جون ستيوارت مِل
إنما الفرد على نفسه وبدَنه وعقله سُلطان.
(٣-١) الصراع بين الحرية والسلطة
إن الصراع بين الحرية والسلطة هو أبرَزُ سمات الأحقاب التاريخية التي نعلمها منذ القِدَم، وبخاصةٍ في تاريخ اليونان والرومان وإنجلترا. غير أن هذا الصراع كان في الأزمنة القديمة بين المواطنين (أو طبقات منهم) وبين الحكومة، وكانت الحرية تعني الحماية ضدَّ طُغيان الحكَّام السياسيين؛ إذ كان يُنظَر إلى الحكَّام على أنهم في وضعٍ مُضادٍّ بالضرورة للشعب الذي يحكمونه (باستثناء بعضٍ من الحكومات الشعبية عند اليونان). وكان الحكام عبارةً عن حاكمٍ واحد أو قبيلة مُهيمِنة أو طبقةٍ مُغلقة، وكلُّهم يستمدُّون سُلطتهم بالوراثة أو الغزو. وهم في جميع الأحوال لم يكونوا يتولَّون الحُكم بمشيئة المحكومين ورغبتهم، ولم يكُن سراة الناس يُغامرون، وربما لا يرغبون، بالدخول في صراعٍ مع الحكَّام، مهما تكُن ألوان الحصانة التي يتمتَّعون بها ضدَّ مُمارساتهم الجائرة؛ فقد كان يُنظر إلى سُلطة الحكَّام على أنها ضرورية، ولكن أيضًا على أنها شديدة الخطورة، فهي سلاحٌ خليقٌ بأن يستخدِمه الحكام ضدَّ رعاياهم استخدامًا لا يقلُّ بحالٍ عن استخدامه ضدَّ العدو الخارجي. ولكي تتمَّ حماية الأعضاء الأضعف في المجتمع من أن يقَعوا فريسةً لما لا حصر له من النُّسور الكواسر، فقد دعت الحاجة إلى وجود واحدٍ أشدَّ افتراسًا من الباقين تُفوَّض إليه مهمَّة كبْحِهم وإخضاعهم. غير أنَّ ملك النُّسور لن يكون أقلَّ ميلًا لافتراس القطيع من أيِّ واحدٍ من صغار الطامعين؛ وعليه فقد كان لزامًا على القطيع أن يكون في موقِف دفاعٍ دائمٍ ضدَّ مِنقاره ومخالبه؛ ولذا فقد كان هدف الوطنيين هو أن يضعوا حدودًا للسلطة التي يُسمَح للحاكم بمُمارستها على المجتمع. وكان هذا الحد من سلطة الحاكم هو ما يعنونه بالحرية. ولقد حاولوا تحقيق ذلك بطريقتَين: الأولى هي الحصول على اعتراف بضروبٍ مُعيَّنةٍ من الحصانة تُسمَّى الحريَّات السياسية أو الحقوق السياسية، والتي كان انتهاكُها من قِبل الحاكم يُعدُّ خرقًا لواجبه، وإذا انتهكها بالفعل فإن مُقاومته مُقاومةً خاصَّة أو التمرُّد عليه تمرُّدًا عامًّا يُعدُّ أمرًا له ما يُسوِّغه. والطريقة الثانية، وهي بصفةٍ عامَّة مُتأخِّرة زمنيًّا عن الأولى، هي تأسيس ضوابط دستورية بموجبِها تكون مُوافَقة المجتمع، أو هيئةٍ من صنفٍ ما يُفترَض أنها تُمثِّل مصالح المجتمع، شرطًا ضروريًّا لإجازة بعض القرارات المُهمَّة التي تتَّخِذها السلطة الحاكمة.
ولكن مع تقدُّم البشرية جاء الوقت الذي لم يعُد فيه الناس يرَون أي ضرورةٍ طبيعية في أن يكون حكَّامُهم سلطةً مُستقلةً مصلحتها في تَضادٍّ مع مصلحتهم. وبدا لهم أن من الأفضل كثيرًا أن يكون مُختلِف حكَّام الدولة مُفوَّضين أو مندوبين عنهم متى شاءوا. وبهذه الطريقة وحدَها يضمنون ضمانًا تامًّا ألا يُساء استخدام سلطات الحكومة ضدَّهم. ومن ثم فليس ما يدعو إلى الحدِّ من سلطة الحكَّام ما داموا في هوية مع الشعب وما دامت مصالحهم وإراداتُهم هي مصالح الأمة وإرادتُها. وليس ما يدعو إلى أن تحمي الأمة نفسها من نفسها! فما سُلطة الحكام إلا سُلطة الأمة ذاتها وقد تركَّزت في أيديهم بحيث تجعل الأمة قادرةً على استخدامها. وما الحكَّام في حقيقة الأمر إلَّا أداة الأمَّة أو «آلتها» في حُكم نفسها.
(٣-٢) طُغيان الأغلبية
لا جدوى بأن تلجِم الحكَّام بينما تترُك «ديموس» نفسه حرًّا طليقًا.
وكغيره من أصناف الطُّغيان كان طُغيان الأغلبية في بداية الأمر، وما يزال لدى العامة، يُرهَب جانبه بوصفِه يعمل من خلال قرار السلطات العامة. ولكن سُرعان ما أدرك المُتفطِّنون من الناس أن المجتمع إذا ما تحوَّل هو نفسه إلى طاغية (المجتمع ككل على الأفراد المُنفِصلين الذين يؤلِّفونه) فإن وسائل طُغيانه لا تنحصِر في قراراتٍ يُنفِّذها بأيدي موظفيه السياسيِّين. إن المُجتمع قادِر على تنفيذ أوامره الخاصَّة، وهو يُنفِّذها فعلًا. وإذا ما أصدر المجتمع أوامر خاطئةً بدلًا من الأوامر الصحيحة، أو إذا أصدر أيَّ أوامر على الإطلاق في أشياء لا دخل له بها، فإنه بذلك يُمارس طغيانًا اجتماعيًّا أشدَّ هولًا من كثيرٍ من ألوان الاضطهاد السياسي؛ ذلك أنَّ هذا الطغيان الاجتماعي، وإن لم تدعمه عادةً عقوباتٌ شديدة، هو أمكَنُ من سواه من ضروب الطُّغيان؛ فهو يَنفُذ نفاذا أعمقَ بكثيرٍ إلى تفصيلات الحياة ودقائقها، ويستعبِدُ الرُّوح نفسها.
التوقِّي إذن من طُغيان الحاكم لا يكفي، فلا بدَّ من الوقاية أيضًا ضدَّ طغيان الرأي السائد والشعور السائد، التوقِّي من مَيل المجتمع، بطُرقٍ أخرى غير الجزاءات المدنية، إلى أن يفرض أفكاره ومُمارساته الخاصَّة كقواعد للسُّلوك على أولئك الذين يخرُجون عليها، لكي يُعيق نموَّ أي فردية لا تأتلِف مع طرائقه (ويمنع تكوينها إن أمكن)، ولكي يُرغم كلَّ الشخصيات على أن تُشكِّل نفسها وفقَ النموذج الخاص به. إن هناك حدًّا للتدخُّل المشروع للرأي الجمعي في استقلالية الفرد، والعثور على هذا الحدِّ وصيانته من التعدِّي والانتهاك هو أمر لا يقلُّ أهميةً لرخاء البشر وسعادتهم عن الوقاية من الاستبداد السياسي.
حين ننتقِل الآن من هذا الصعيد النظري الذي لا خِلاف عليه إلى الصعيد العملي، ونسأل السؤال العملي «أين نضع هذا الحد؟» «أين نمدُّ هذا الخط؟» «كيف نصِل إلى التوافُق السديد بين استقلالية الفرد وبين الضبط الاجتماعي؟» نجِد أنفُسنا بإزاء مشكلة شديدة الصعوبة، لم يُحرِز البشر تقدُّمًا كبيرًا في حلها. إن تأمين حرية الفرد تعني أيضًا وضع حدودٍ لتدخُّل الآخرين، وإن كلَّ ما يجعل الوجود ذا قيمةٍ بالنسبة لأي فردٍ هو أمرٌ يعتمِد على فرض قيودٍ على أفعال الآخرين؛ ومن ثم فإن بعض قواعد السلوك لا بدَّ من فرضِها بالقانون في المقام الأول وبالرأي في كثيرٍ من المناحي التي لا تصلُح مجالًا لعمل القانون. فما هي هذه القواعد؟
من العجيب حقًّا أن الناس بصفةٍ عامَّة لا تجِد صعوبةً في هذه المسألة! وعلى الرغم من الاختلاف البيِّن في هذه القواعد بين عصرٍ وعصر وبين بلدٍ وبلد، اختلافًا يجعل كلَّ عصرٍ وكلَّ بلدٍ شيئًا عجيبًا في عين العصر الآخر والبلد الآخر؛ على الرغم من ذلك فإن الناس في أي عصرٍ وأيِّ بلدٍ تبدو لهم القواعد التي يرَونها حولهم أمرًا واضحًا بذاته ولا يحتاج إلى تبرير، وكأنها مسألةٌ تُجمِع البشرية عليها في كلِّ زمانٍ ومكان، وليس ذلك كله سوى وهمٍ عام، وهو أحد الأمثلة على التأثير السِّحري للعادات الاجتماعية. وهذه العادات كما يقول المَثَل السائر هي «طبيعة ثانية»، غير أنَّ الناس ما فتِئوا يُخطئون فيظنُّونها «طبيعة أولى».
يقول مِل إن تقرير مبدأ غاية في البساطة هو الهدَف من مقاله «عن الحرية» بوصفه مقالًا مَعنيًّا حصرًا بما يجوز وما لا يجوز للمجتمع في تعامُله مع الفرد بطريق القهر والسيطرة، سواء كانت الوسائل المُستخدَمة هي القوة المادية في صورة عقوبات قانونية أو في صورة إكراهٍ أدبي يُمارسه الرأي العام. يُفيد هذا المبدأ أنَّ الغاية الوحيدة التي تُبرِّر للبشر، فرادى أو جماعات، التدخُّلَ في حرية الفعل الخاصة بأي واحدٍ منهم هي حماية أنفسهم منه، وأن الغرض الوحيد الذي يحقُّ فيه استخدام القوة ضدَّ أيِّ عضوٍ في مجتمع مُتحضِّر، هو منعه من الإضرار بالآخرين. إن استِخدام القوَّة لمصلحة الفرد المادية أو الأدبية ليس مُبرِّرًا كافيًا؛ إذ لا يَحِقُّ لأحدٍ أن يُجبِره على أن يفعل شيئًا أولا يفعل لأن ذلك خير له، أو لأن ذلك سوف يجعله أسعد حالًا، أو لأن الآخرين يرون من الحكمة، أو حتى من الصواب، أن يفعل ذلك، فتلك مبرراتٌ وجيهةٌ للاعتراض عليه أو مناقشته أو محاولة إقناعه أو استعطافه، وليس لإكراهه أو إلحاق أي أذًى به إن هو فعل غير ذلك؛ فلا شيء يُبرِّر ذلك إلَّا أن يكون السلوك الذي يُراد صرفُه عنه من شأنه ومن المُقدَّر له أن يُلحِق الضَّرر بالغَير. إن الجانب الوحيد من سلوك الفرد الذي يجعله مسئولًا أمام المجتمع هو ذلك الجانب الذي يمسُّ الآخرين ويعنيهم، أما الجانب الذي لا يمسُّ غير صاحبه فإنه يخصُّه وحدَه وله فيه مُطلَق الحق، إنما الفرد على نفسه وبدَنه وعقله سُلطان.
يرى مِل أن هناك، في المجتمع، دائرة للفعل خاصة بالفرد وحدَه وليس للمُجتمع فيها، كمقابلٍ للفرد، سوى مصلحةٍ غير مُباشرة. تشمل هذه الدائرة كلَّ ذلك النِّطاق من حياة الشخص وسُلوكه الذي لا يؤثِّر إلَّا عليه، أو إذا أثَّر على غيره فبِرضاهم ورغبتهم الحرَّة ومُوافقتِهم ومُشاركتهم طواعيةً ومن غير خداع.
- أولًا: مجال الوعي الباطن الذي يقتضي حرية الضمير بأوسع معنى لها: حرية الفكر والشعور، الحرية المُطلقة للرأي والعاطفة في جميع الأمور عمليةً كانت أو نظرية أو عِلمية أو خُلقية أو لاهوتية. وقد تبدو حرية التعبير عن الآراء ونشرها خاضعة لمبدأ آخر ما دامت تلحق بذلك الجانب من سلوك الفرد الذي يمسُّ الآخرين، ولكن بما أن حُرية التعبير والنشر لا تقلُّ أهميةً عن حرية الفكر ذاته، وبما أنها ترتكِز إلى حدٍّ كبير على نفس المُبرِّرات، فإنها لا يُمكن عمليًّا فصلها عن حرية الفكر.
- ثانيًا: حرية الميول والأذواق والمشارب، وحرية تخطيط حياتنا وفقًا لشخصيَّتِنا الخاصَّة، وحرية أن نفعل ما نهواه مُتحمِّلين تبِعته دون إعاقةٍ من جانب رفاقنا من الخلق، ما دام فعلنا لا يُلحق بهم ضررًا، مهما بدا لهم تصرُّفنا أحمقَ أو شاذًا أو خطأ.
- ثالثًا: يترتَّب على هذه الحرية الخاصة بكلِّ فرد، وداخل نفس الحدود، حرية اجتماع الأفراد وحرية تضامُنهم لتحقيق أيِّ غرضٍ لا يتضمَّن الإضرار بالآخرين؛ بافتراض أن الأشخاص المُجتمِعين بالغون راشدون غير مُكرَهين أو مخدوعين.
والمُجتمَع الذي لا تُحترَم فيه هذه الحريَّات ليس مُجتمعًا حرًّا مهما يكُن شكل حكومته. وما هو بمجتمعٍ حرٍّ تمامَ الحرية ذلك الذي لا تتوافَر فيه هذه الحريَّات على نحوٍ مُطلَق وبدون تحفُّظ؛ فليس ثمَّةَ حرية تستحقُّ اسم الحرية غير حُريَّة سعْيِنا وراء صالِحنا الخاص بطريقتِنا الخاصة، ما دمنا لا نُحاول حرمان الآخرين من صالِحهم ولا نحاول إحباط جهودهم للحصول عليه. إنما كلُّ فردٍ هو القيِّم الحق على صحته سواء الجسدية أو العقلية أو الرُّوحية، والبشر يَربحون إذا تَركوا للآخر أن يعيش وفقًا لما يراه خيرًا له أكثر ممَّا يربحون بإكراهه على أن يعيش وفقًا لما يراه الآخرون خيرًا.
(٣-٣) في حرية الفكر والمناقشة
من الضروري أن نبحث هذين الفرضين كُلًّا على حِدة، فلكلٍّ منهما فرعٌ مُتميِّز يُقابله من البُرهان. إن من المُحال علينا أن نتيقَّن أنَّ الرأي الذي نُحاوِل خنقَه هو رأي باطل، وحتى لو فرضْنا أنَّنا على يقينٍ من بُطلانه فإن خنقَهُ سيظلُّ ضربًا من الشر.
أولًا: إنَّ الرأي الذي تُحاول السلطة قمعَه قد يكون صوابًا. وإن أولئك الذين يرغبون في قمعِه ليُنكِرون صوابه بطبيعة الحال، إلَّا أنهم غير معصومين، وليس لدَيهم سُلطة حسْم المسألة نِيابةً عن الجنس البشري وإقصاء أي شخصٍ آخر عن سبيل الحكم. إن كلَّ مُحاولةٍ لإسكات المُناقشة تتضمَّن زعمًا بالعِصمة من الخطأ، وبوُسعِنا أن نُدين هذه المُحاوَلة بناء على هذه الحُجَّة العامة، وبالأكثر لأنها عامَّة.
ولسوء الحظِّ وخيبة الأمل في الحسِّ السليم لِبني البشر، فإنَّ حقيقة قابليَّتهم للوقوع في الخطأ لا يُقيمون لها وزنًا في أحكامهم العملية قريبًا ممَّا يُقيمونه لها في أحكامهم النظرية. فرغم أنَّ كلَّ إنسان يعرِف جيدًا أنه عُرضةٌ للخطأ، فإنَّ قليلًا من الناس من يرَون ضرورة أخذِ أيِّ احتياطاتٍ ضدَّ إمكان وقوعهم في الخطأ، أو يفترِضون أن أيَّ رأيٍ يشعرون أنهم على يقينٍ شديدٍ به ربما يكون واحدًا من الأمثلة على خطأ اعترافهم بأنهم عُرضة للخطأ. إن الأمراء أصحاب الحُكم المُطلَق، أو غيرهم ممَّن اعتادوا أن يُذعِن لهم الآخرون إذعانًا لا حدَّ له، يشعرون عادةً بهذه الثِّقة التامَّة في آرائهم في جميع الأمور تقريبًا. أما من أسعَدَه الحظُّ وكان وضعُه يُتيح له أن يسمع آراءه تُناقَش أحيانًا ولا يجعله دائمًا فوق التقويم إن هو أخطأ، فإنه لا يضع هذه الثقة المُطلَقة إلَّا في آرائه التي يُشارِكه فيها جميع من حوله، أو يُشاركه فيها أولئك الذين اعتاد احترامهم؛ ذلك أنَّ الإنسان بقدْر افتقارِه إلى الثِّقة في حُكمه المُفرَد فإنه يستنِد عادةً إلى معصومية «العالم» بصفةٍ عامة، و«العالم» بالنسبة لكلِّ فردٍ يعني ذلك الجُزء من العالم الذي يتَّصِل به اتصالًا مُباشرًا: حزبه، طائفته، كنيسته، طبقته الاجتماعية … إلخ. قد يُوصَف الإنسان، على سبيل المُقارنة، بأنه على درجةٍ من التحرُّر وسَعة الأفق إذا اتَّسع معنى الوسط الذي يعيش فيه فشمل أيَّ نطاقٍ عريض مثل بلدِه أو عصره. غير أن إيمانه بهذه السلطة الجمعيَّة لا يهزُّه على الإطلاق علمه بأن عصورًا أخرى وطوائف أخرى وكنائس وطبقاتٍ وأحزابًا أخرى اعتنقَتْ وما تزال أفكارًا عكس أفكاره بالضبط، فهو يُحيل إلى عالمه الخاص مسئولية كونه في العالم الحقِّ بإزاء العوالم المُخالِفة التي يعيش فيها بقيَّة الناس، ولا يُقلق خاطره قطُّ أن المُصادَفة وحدَها هي التي حدَّدت أي هذه العوالم العديدة هو العالم الذي يستنِد إليه، وأن نفس الأسباب التي جعلتْه قسيسًا في لندن كان من المُمكن أن تجعله بوذيًّا أو كونفوشيوسيًّا في بكين. غير أن من الواضِح بذاته وضوحًا يُغنيه عن أي بيِّنة أن العصور والأجيال ليست أكثر معصومية من الأفراد، فما من جيل إلا اعتنق الكثير من الآراء التي بدَتْ في نظر الأجيال التالية، لا خطأً فحسْب بل خُلْفًا لا معقولًا. ومن المؤكَّد أن كثيرًا من الآراء الشائعة اليوم سوف ترفُضها الأجيال المُقبِلة، مثلما أنَّ الكثير من الآراء التي كانت سائدة ذات يومٍ هي الآن مرفوضة لدى الجيل الحاضر.
قد يعترِض مُعترضٌ بأنَّ إدراكنا لقابِليَّتنا للوقوع في الخطأ لا يُسوِّغ لنا ألا نستخدِم عقولنا جهدَ استطاعتنا وألا نسلُك وفقًا لأفضل قُدراتنا. ليس ثمة يقينٌ مُطلَق وإنما هناك ثقةٌ كافية لتحقيق أغراض الحياة البشرية. وربما افترضنا، بل لا بدَّ لنا أن نفترض، أن رأينا صواب وأنَّنا نهتدي به في سلوكنا، ونحن لا نزعُم أكثر من ذلك عندما نمنع الأشرار من إفساد المجتمَع بنشرِهم لآراء نعتقِد أنها كاذبة وخطرة.
يردُّ مِل على هذا الاعتراض قائلًا: بل تزعُم أكثر من ذلك بكثير! لأن هناك فرقًا كبيرًا بين أن تزعُم صحَّة رأيٍ ما لأنه صمَدَ لكلِّ مُحاولةٍ سنحت لمُناقشته وتفنيده، وبين أن تزعُم صِدقه لكيلا تسمح بتفنيده أو دحضه. إن إطلاق الحرية التامَّة في مُعارضة رأينا وتفنيده هو الشرط عينه الذي يُسوِّغ لنا الزَّعْم بصِدقه حتى نسير عليه في أفعالنا. وليست هناك أي شروط أخرى يُمكن بموجَبِها لموجودٍ له قُدراتنا البشرية أن يكون لدَيه أيُّ ضمانٍ عقلي بأنه على صواب.
يعزو مِل تقدُّم الجنس البشري عقليًّا وسلوكيًّا، رغم «لا معصوميته» إلى خاصِيَّةٍ جليلةٍ ينفرِد بها الذِّهن البشري، وهي قُدرته على تصحيح أخطائه عن طريق المناقشة والتجربة؛ ليس بالتجربة وحدَها، فلا بدَّ من المناقشة لتُبَيِّن لنا كيف ينبغي تأويل التجربة. وشيئًا فشيئًا تنكشِف الآراء والمُمارسات الخاطئة وتستسلِم للوقائع والبراهين. غير أن الوقائع والبراهين قلَّما تمتلِك القُدرة على أن تُفصِح عن نفسها، وإنما هي بحاجةٍ دائمًا إلى مُناقشات تكشف معناها. تكمُن قوة الحُكم البشري وقيمته إذن في خصلةٍ واحدة، وهي إمكان ردِّه إلى الصواب متى أخطأ. ولا يُمكن أن نضع ثِقتنا فيه ما لم تكن وسائل ردِّه إلى الصواب في مُتناول اليد بصفةٍ دائمة. انظر إلى أيِّ شخصٍ يتمتَّع بملكة حُكمٍ جديرة حقًّا بالثِّقة، فكيف واتَتْه هذه الملكة؟ واتتْه لأنه اعتاد أن يُفسِح صدرَه لنقدِ آرائه وسلوكه، ومُرِّن على الإصغاء لكلِّ ما يُمكن أن يُقال ضِدَّه، وأن ينتفِع بكلِّ ما يكون في هذه الانتقادات من صواب، وأن يعرِض لنفسه، وللآخرين إذا اقتضى الأمر، خطأ ما تبيَّنَ خطؤه؛ ذلك أنه وجَدَ أن الطريقة الوحيدة التي يستطيع بها الكائن البشري أن يتَّخِذ سبيلًا إلى معرفة كلِّ شيءٍ عن موضوع ما هي أن يُصغي إلى ما يُمكِن أن يقوله عنه أشخاصٌ مُتنوِّعون في آرائهم، وأن يدرُس جميع الزوايا التي يمكن لعقولٍ مُختلفة أن تنظُر إليه منها. لم يتَسنَّ لحكيمٍ قطُّ أنِ اكتسبَ حِكمته إلَّا بهذه الطريقة، ولا هو في طبيعة الفكر البشري أن يصير حكيمًا بأيِّ طريقة أُخرى.
والتاريخ، كما يقول مِل، مليءٌ بالأمثلة الصارِخة على استخدام سلاح القانون، بإخلاصٍ وحُسن نية، لاجتثاث أفضل الناس وأنبل المذاهب (وإن كُتِب البقاء لبعض هذه المذاهب فأصبحتْ بدورِها، ويا للسخرية، غطاءً يُبرِّر سلوكًا مُماثلًا تجاه أولئك الذين انشقُّوا عنها أو عن التفسير السائد لها).
- سُقراط: ما كان للجنس البشري أن ينسى أنه كان في قديم الزمان رجلٌ يُدعى سقراط قام بينه وبين السُّلطات القانونية والرأي العام في زمنِه صدامٌ مشهور. وُلد سقراط في عصرٍ وبلدٍ حاشِدَين بالأفذاذ من الرجال. وقد وصلَتْ إلينا أنباء هذا الرجل عن طريق أناسٍ كانوا أعلمَ الخلْق به وبعصره، وقالوا إنه كان أحسنَ أهل زمانه خُلقًا وفضيلة. هذا الرجل، الذي كان المُعلِّم الأكبر لعظام المُفكِّرين على مدار التاريخ، حكم عليه مواطنوه بالإعدام بعدَ أن أدانوه قضائيًّا لمُروقِه وفساد خُلقه؛ إذ كان يُنكِر آلهةَ المدينة، وكان في زعمهم يُفسِد الشباب بأفكاره وتعاليمه. لقد وجدَتْه المحكمة مُذنبًا، ولدَينا ما يدعونا إلى الاعتقاد بأنها وجدَتْه مذنبًا حقًّا وأدانتِ الرجل الذي ربَّما كان أجدَرَ أهل عصره بالإجلال، وحكمت عليه بالموت بوصفه مُجرمًا.
- المسيح: والمثال الثاني الذي يُورِده مِل هو مُحاكمة المسيح؛ لقد اتُّهم المسيح بالمروق (وهي نفس التُّهمة التي صارت تُلقى على الناس من أجله فيما بعد!) يقول مِل إن جميع القرائن تدلُّ على أن الذين حاكموا المسيح وأدانوه لم يكونوا من شِرار البشر، بل كانوا على العكس خيارًا يبلُغون حدَّ الكمال، وربما أكثر من الكمال، ومن العواطف الدينية والخلقية والوطنية لعصرهم وشعبهم. إن رئيس الكهنة الذي شقَّ ثِيابه عندما سمِع كلمات المسيح، كان على الأرجح مُخلِصًا في رُعبه وسُخطه، إخلاصَ عامَّة المُتديِّنين الأجلَّاء الآن فيما يُبدونه من مشاعر أخلاقيةٍ ودينية. وإن مُعظم الذين يأنفون اليوم من هذا السلوك لو أنهم عاشوا في زمنه ووُلدوا يهودًا لفعلوا بالضبط مِثلما فعل. وعلى المسيحيين الأرثوذكسيين، الذين ينجرِفون إلى الظنِّ بأن الذين رَجموا الشُّهداء الأوائل كانوا بالتأكيد أسوأ منهم، أن يتذكَّروا أن القديس بولس كان واحدًا من أولئك الذين اضطهدوا المسيحيِّين الأوائل.
- ماركوس أوريليوس: ويُضيف مِل مثالًا ثالثًا لعلَّه أبلغ الأمثلة جميعًا إذا كان هول الجُرم يُقاس بحكمة مُرتكِبه. ذلك هو الإمبراطور الرُّوماني ماركوس أوريليوس (١٢١–١٨٠) الذي كان الحاكم المُطلِق على العالم المُتحضِّر كله آنذاك. لقد بلغ هذا الرجل من الحِكمة والأُستاذية ما لم يبلُغْه أي واحدٍ من مُعاصِريه، وكان مثالًا لرقَّة القلب وللعدالة التي لا يشوبُها شيءٌ، اللهم إلا السَّماحة الزائدة. وكانت كتاباته هي أرفع ما أنتجَهُ العقل القديم في الفكر الأخلاقي، ولم تكن تختلِف اختلافًا يُذكَر عن أخصِّ تعاليم المسيح. هذا الرجل، المسيحي في كلِّ شيء إلَّا العقيدة، اضطهد المسيحية! لقد كان يعلَم أن المجتمع القائم في زمنه كان في حالةٍ يُرثى لها، غير أنه رأى أنَّ ما يُمسك هذا المجتمع ويحفظه من أن يصير إلى الأسوأ هو الإيمان بالآلهة القائمة وتوقيرها، ورأى أن مهمَّته كحاكمٍ للبشرية ألَّا يدعَ مُجتمَعَه يتفتَّت ويتفسَّخ، ولم يتصوَّر إمكان إقامة روابط جديدةٍ تُمسك المجتمع إذا ما أُزيلَت الروابط القائمة. ولما كانت المسيحية تستهدِف صراحةً حلَّ هذه الروابط، وكان عقله في الوقت نفسه يستغرِب حكاية الإله المصلوب ولا يُسيغها، فقد خَلُص أرقُّ الفلاسفة والحُكَّام جميعًا، مدفوعًا بالواجِب المقدَّس، إلى إصدار قرارٍ باضطهاد المسيحية. أيظنُّ من يُناوئُ حرية الفكر اليوم أنه أكثرُ حكمةً وفضيلةً من ماركوس أوريليوس، أو أكثر منه دأبًا في البحث عن الحقيقة والتزامًا بها إذا وجدها؟! فما لم يدع ذلك فليكُفَّ عن ادِّعاء العِصمة لنفسه ولجمُوعه وتكرار ما وقع فيه ماركوس أوريليوس العظيم وأدى إلى أوخم العواقب.
يخطئ من يظنُّ أن إخراس الهراطقة أمر لا تشوبه شائبة؛ ذلك أنه يؤدِّي إلى انعدام أي نقاشٍ عادلٍ ودقيق لآراء الهراطقة، والضَّرَر الأكبر إذ ذاك لن يقَع على الهراطقة بقدْرِ ما يقَع على غير الهراطقة، فيعوق نموَّهم الذهني ويُفقِدَهم شجاعة العقل. ولنا أن نتصوَّر كم يفقد العالم من العقول الواعدة حين ترتبِط بالجُبن ولا تجرؤ على مُتابعة أي سلسلة جسورة وفتيَّة من التفكير؛ خشية أن تُفضي بها إلى شيءٍ قد يُعدُّ مُنافيًا للأخلاق أو للعقيدة. لا يُمكن للمرء أن يُصبح مُفكرًا كبيرًا ما لم يُدرِك أنَّ واجبه الأول كمُفكِّر هو أن يقتفي فكرَه إلى النتائج التي يُفضي إليها كيفما كانت. وإن الحقيقة لتربَحُ من أخطاء من يُفكِّر لنفسه (مع البحث والإعداد اللازِمين) أكثرَ مِمَّا تربَحه من الآراء الصحيحة لأولئك الذين لم يعتنقوها إلَّا ليُعفوا أنفسهم من عناء التفكير.
ومن الناس من يظنُّ أن بحسْبه أن يعتقد، موقنًا، بما يراه حقًّا، وإن افتقد أية معرفة بأُسُس هذا الرأي وعجز عن تقديم أي دفاع معقول عنه ضِدَّ أتفَهِ الاعتراضات. ومن الطبيعي أن يرى مثلُ هؤلاء، وإن تسنَّى لهم أن يتلقَّنوا عقيدتهم من خلال سُلطةٍ ما، أن فتح باب المناقشة في عقيدتهم هو أمر يضرُّ ولا يُفيد. فإذا ما امتدَّ نفوذ هؤلاء لأصبح من المُستحيل رفْض الآراء السائدة عن تَبصُّرٍ وحكمة، وإن ظلَّ من المُمكن رفضُها عن تسرُّعٍ وجهل؛ ذلك أنَّ منع النِّقاش تمامًا هو أمرٌ غير ممكن، وحالما أُفسِح له المجال فإن الاعتقادات القائمة على غير اقتناع تكون خليقةً أن تنهار أمام أتفَهِ الحُجَج. ولنفترِض مع ذلك أنَّ هذا غير مُمكن (ولنزعُم أن الرأي الحقَّ يصمد في العقل، وإن كان يصمد كتحيُّزٍ وكاعتقادٍ مُنفصلٍ عن البرهان) فليست هذه هي الطريقة التي ينبغي على الموجود العاقل أن يعتنِق بها الحقيقة. ليس هذا عرفانًا بالحقيقة، وما الحقيقة التي يُعتقَد بها على هذا النحو سوى خُرافةٍ كبيرة التصقَتْ بالمُصادَفة بالألفاظ التي تُشير إلى حقيقة.
(٣-٤) أهمية التنوُّع والفردية في صُنع التقدُّم
ويكون العقل أكثرَ اتِّساقًا مع نفسه لو ذهب إلى أنَّ الله قد أسبغ على الطبيعة الإنسانية ما أسبغَ بهدَف تحقيق أغراضٍ أخرى غير مُجرَّد مَحوِها!
الحرية قيمةٌ كبرى، بل هي أساس القِيَم وشرطها، ووسيطها الذي يأتي بها إلى الوجود.
ومن ثمَّ فالحُريَّة لا تحدُّها إلا حريةٌ مثلها. وحرية الفرد لا تحدُّها إلَّا حرية الآخرين. وما دام الفرد لم يتدخَّل فيما لا يَعنيه ولم يُشكِّل إزعاجًا للآخرين، ولم يتحرَّش بغيره فيما يخصُّهم، ولم يَعْدُ أن سلك وفقًا لميوله وأحكامه فيما يخصُّه، فإن نفس الدواعي التي تُوجِب حرية الرأي تُوجِب أيضًا ترْك الفرد وشأنه في وضع آرائه موضع التطبيق على مسئوليته.
إن البشر غير معصومين، وإن الحقائق التي يرونها هي في الأغلب أنصافُ حقائق فقط، وإنَّ وحدة الرأي غير مُستحبَّة ما لم يكن ذلك نتاج مُقارنة كاملة وحرَّة للآراء المُتعارِضة، وإن التنوُّع ليس شرًّا بل خير إلى أن يبلُغ البشر قدرةً أكبر بكثيرٍ مِمَّا هم عليه الآن في تمييز جميع جوانب الحقيقة؛ تلك مبادئ تسري على طرائق الفعل لدى البشر بقدر ما تسري على آرائهم. ومثلما أنَّ من المُفيد وجود تنوُّع من الآراء ما دام الكمال في البشر غير وارِد، كذلك من المُفيد وجود كثرة مُتنوِّعة من تجارب العَيش، ومن المُفيد أن يُفسَح المجال لتنوُّع الشخصيات ما دام ذلك لا يمسُّ الآخرين بأذى. وباختصار، من المُستحَب، في الأمور التي لا تعني الآخرين أساسًا، أن تؤكد الفردية نفسها، فحيثما كانت قاعدة السلوك هي عادات الآخرين وتقاليدهم لا شخصية الفرد ذاته، فقد تمَّ إهدار مُكوِّن أساسي من مكونات السعادة البشرية وإهدارٌ للمُكوِّن الرئيسي بحقٍّ لتقدُّم الفرد والمجتمع.
إن ذلك الذي لا يفعل أيَّ شيءٍ إلَّا لأنه ما جرَتْ به العادة، لا يقوم بأيِّ اختيار. إنه لا يكتسِب خِبرة لا في تمييز ما هو أفضل ولا في الرغبة فيه؛ فالقدرات الذهنية والخُلقية، شأنُها شأنُ القدرات العضلية، لا تتحسَّن إلَّا بالاستِعمال. وليس ثَمَّةَ مرانة حقيقية لقُدرات المرء حين يفعل شيئًا لمُجرَّد أن الآخرين يفعلون هذا الشيء، ولا حين يعتقد شيئًا لمجرَّد أن الآخرين يعتقدونه. وإذا لم يتأسَّس رأيُ المرء على عقله الشخصي حصرًا فلن يُمكِن لتبنِّيه هذا الرأي أن يُقوِّي عقله، بل الأرجح أن يُضعِفه. وإذا لم تكُن بواعِث فِعله مُتَّفِقة مع مشاعره وشخصيَّته، فلن يؤدِّي هذا الفعل بمشاعره وشخصيته إلى غير التبلُّد والخمول بدلًا من النشاط والحيوية. ومن يترُك للعالم، أو لبُقعتِه التي يعيش فيها، اختيار خطَّته في الحياة نيابةً عنه، لا يحتاج إلَّا إلى ملَكةٍ واحدةٍ تمتاز بها القرود وهي ملَكة التقليد. لقد أصبح كلُّ فردٍ في زمنِنا الراهن، من أعلى طبقات المجتمع إلى أدناها، يعيش كأنه تحت عين رقابةٍ عدائية ومُخيفة، فنجِده في جميع الأمور، سواء منها ما يخصُّ الآخرين أو ما يخصُّه وحدَه، لا يسأل نفسه: ماذا أُفضِّل؟ أو: ما الذي يُتيح لأفضل ملَكاتي وأعلاها أن تنشَط على سجيَّتِها ويُمكِّنها من أن تنمو وتزدهِر؟ بل يسأل: ما الذي يليق بمركزي؟ أو: ما الذي يفعله عادةً من هم في مِثل وضعي وظروفي المالية؟ هكذا ينتفي الاختيار وتنتحِر القيمة، وهكذا ينحني العقل نفسه لنَير العبودية، وهكذا تذبُل الملَكات الإنسانية ولا تعود للشخص طبيعةٌ خاصة ولا آراء ولا مشاعر ولا رغبات. فهل هذه هي الحال المرجوَّة للطبيعة البشرية؟!
نعم هذه هي الحال وفقًا لنظرية «كلفن» التي تقول بأنَّ الإرادة الذاتية هي خطيئة الإنسان الكُبرى، وأن كلَّ الخير الذي يُمكن للبشرية أن تفعله ينحصِر في «الطاعة»: ليس لك من خيار، ومن ثَمَّ فإنَّ عليك أن تفعل كذا ولا تفعل غير ذلك. و«أيما شيء ليس فريضةً فهو ذنب»، هكذا يكون الخير هو استئصال الفردية وسحْق الملَكات والقُدرات والمشاعر. غير أن العقل يكون أكثرَ اتساقًا مع نفسه لو ذهب إلى أن الله قد خلق للإنسان ملَكات لكي تنمو، وقدراتٍ لكي تُستخدَم، ومُمكناتٍ لكي تتحقَّق، ويكون العقل أكثر اتِّساقًا مع نفسه لو ذهب إلى أنَّ الله قد أسبغ على طبيعة الإنسان ما أسبغ بهدف تحقيق أغراضٍ أخرى غير مُجرَّد محوها! إن الكائنات البشرية لن تكون شيئًا نبيلًا جديرًا بالتأمُّل بأن تقضي على كلِّ ما بداخلها من فرادةٍ وتميُّز، وتمسخَه إلى تشابُهٍ واطِّراد، وإنما تكون كذلك بأن تُشجِّع التفرُّد وتهيب به وتُنمِّيه من غير اصطدامٍ بمصالح الآخرين وحقوقهم. وكلما كانت حياة الفرد، الذي هو لبِنة المجتمع، أكثر امتلاءً كانت حياة المجتمع، الذي هو مجموع أفراده، أكثر امتلاءً أيضًا.
ويتحدَّث مِل عن أهمية الفكر الابتكاري والتلقائية المُبدِعة في حياة المجتمع البشري. إن المُبدِعين هم الذين يكتشِفون الحقائق ويُذيعونها، وبدُونهم ما كان للبشرية أن تعرِف شيئًا. والعقول العبقرية عادةً ما تكون قلةً مُتفرِّدةً من أعضاء المُجتمع، وعادةً ما يكون ذكاؤها وأفكارها غير مُنسجمة مع القوالب التي شكَّلها المجتمع واتَّخذَها. غير أن هذه القلَّة هم «ملح الأرض»، وبدونهم تتحوَّل حياة البشر إلى بُحيرةٍ راكدة؛ فهم لا يُقدِّمون فقط ما هو خير وصالح ممَّا لم يكن موجودًا من قبل، وإنما هم الذين يبعثون الحياة فيما هو موجود. إنَّ من الخير أن تكون هناك شخصياتٌ مُتعاقِبة من المُبدِعين يمنعون الحياة البشرية من التخثُّر، ويمنعون الحضارة من الانحِطاط، ويمنعون البشر من التحوُّل إلى قطيع، ويمنعون العقائد والمُمارسات من التحوُّل إلى محضِ تُراثٍ وعادات (أي إلى أمور ميِّتة ومن ثم لا تحتمِل أي صدمةٍ من أيِّ شيءٍ حي). إنهم دائمًا قلَّة، ولكن من الضروري لكي يظهروا أن نُحافِظ على التُّربة التي ينمون فيها؛ فالعبقرية لا يسَعُها أن تتنفَّس إلا في مناخ من الحرية، والعباقرة أكثر فرديةً من غيرهم من البشر، ومن ثم فهم أقلُّ قدرةً على أن يَضغطوا أنفسهم داخل قوالب المجتمع.
(٣-٥) نُخبة سعيد عقل
بيد أنَّ تطوُّرًا هامًّا حصل، فبِتنا اليوم وخطر الجُهَّال على القِيَم الكبيرة نستغلُّه لخير تلك القِيَم، نَشحذُها عليه، نزيدُها مضاء. وهكذا لم يتحفَّظ أينشتين في ركْز كونِه على نواميس تُناقِض الحسَّ العام؛ ذلك لا لأنَّ العامَّة — في أوروبا — ارتقت كثيرًا عمَّا كانت عليه عهد الاضطهادات، بل لأنَّ النُّخبة تكوَّنت، تكوَّنَت فراحَت تُشكِّل حول صاحب الرأي الجديد — مُحقًّا كان أم مخطئًا — درعًا يَقيه ثورة الخصوم؛ ثورتهم على شخصه فلا يُمَس — وما ذلك بشيءٍ هام — وثورتهم على أفكاره فلا تُخنَق في فمه — وهذا هو الأمر الأساسي — بل تُوَكَّل إلى المحكِّ المُختصِّ وحده، يُتوِّجُها أو ينتقي منها ما صلُح أو يُدحضُها جميعًا، مُمهدًا لعمل النسيان يأتي عليها.
لا لم يبقَ أحدٌ في عصرنا يخشى نِقمة العامَّة.
بشرطٍ واحد:
هذا والنُّخبة على الجُملة مناخ.
إن إيجاد التفاهُم بين العامَّة والخاصَّة لا يتم، بحالٍ من الأحوال، بإنزال هذه إلى مستوى تلك، بل برفْع تلك إلى مستوى هذه. إن الدلعة الديمقراطية في العصر عوَّدَتِ العامَّة شيئًا خطرًا؛ خطرًا حتى عليها، هو أن تُساير العامة الخاصة وتُجاري ما تظنُّ العامة أنه خيرُها، والعامة لن تعرِف خلاصَها، إلَّا إذا أُبقيَتْ على اتِّصالٍ بخُلاصة اكتشافات الخاصة، لا ما يُطبِّقه الصناعيُّون تكنولوجيًّا من اكتشافات الخاصَّة، بل ما تبحَثه الخاصَّة نفسها في دوائرها العُليا من نواميس. نعم ليس بإمكان العامَّة أن تفقَهَ النواميس، ولكن بإمكانها أن تَطَّلِع على رُوح النواميس. بإمكانها أن تُدرك اتِّجاهها، بإمكانها أن تعيش في مناخها الرفيع.
•••
من الحكمة أن نُفسح المجال لشيءٍ من «التجريب» في الفعل والسلوك، وأن نتحلَّى برَحابة العقل والصَّدر تجاه كلِّ غريبٍ مُختلف؛ ذلك أن تعدُّد التجارب البشرية دليلُ ثراءٍ وخِصب، مِثلما أنه سبيل تقدُّم وارتقاء. ومن شأن الزمن وحده أن يُبيِّن لنا أي هذه التجارب هو الأفضل والأجدى والأنجع فنأخُذ به كعادةٍ ونكتسِبه اكتسابًا. ليس من حقِّ أحد أن يفرض أسلوب حياته على غيره فرضًا، فالبشر ليسوا قطيعًا من نعاج، بل إن النعاج ليست فيما بينها تامَّة التشابُه، بل بينها اختلافٌ وتفاوُت. وما كان لإنسانٍ أن يجِد ثَوبًا يُناسِبه أو زَوجَين من الأحذية ما لم تكن قد فُصِّلت على مقاسه أو كان لدَيه مخزن كامل ينتقي منه. أيُمكن أن يكون اختيار طريق للحياة أسهل من اختيار ثوب؟ أم هل يتشابَهُ البشر جميعًا في تكوينهم البدَني والرُّوحي أكثر من تشابُههم في مقاس أقدامهم؟
ولو أن الأمر كان محصورًا في تنوُّع أذواق البشر لكان ذلك مانعًا كافيًا من صبِّهم جميعًا في قالب واحد، فما بالك إذا كان اختلاف الأشخاص يتطلَّب أيضًا تنوُّع الظروف الملائمة لنموِّهم الرُّوحي، تمامًا مِثلما تتطلَّب النباتات المُختلفة لنموِّها أجواءً مُختلفة. فالشيء نفسه الذي يُساعد شخصًا ما على الارتقاء بطبيعته العُليا وتنميتها قد يعوق نموَّ شخصٍ آخر، وقد يكون نَمَطٌ معينٌ من الحياة مُثيرًا صحيًّا لشخصٍ؛ يحفظ جميع ملَكات الفعل والاستمتاع عنده في أحسن حال، بينما يكون لشخصٍ آخر عبئًا مُشتِّتًا يوقِف نموَّ حياته الداخلية بأكملها أو يسحقها. تلك هي الاختلافات بين البشر في مصادر مُتعتِهم وفي استهدافهم للألم وتأثُّرهم بشتَّى العوامل المادية والأخلاقية، فما لم يُقابلها تنوعٌ آخر في طرائقهم في الحياة فإنهم لن ينالوا نصيبهم المُستحقَّ من السعادة ولن تنموَ جوانبهم الذهنية والخلقية والجمالية إلى غايةِ ما تسمَحُ به قُدراتهم.
ثمة مَيلٌ خبيث في العصور الحديثة يجعل العامَّة أشدَّ ميلًا من مُعظم العصور السابقة لأن يفرِضوا قواعد عامَّة للسلوك، ويُرغِموا كلَّ فردٍ على الانصياع للمِعيار السائد. وهذا المِعيار يُفيد، صراحةً أو ضِمنًا، ألَّا نرغب في شيءٍ رغبةً قوية، ومَثَلُه الأعلى للشخصية هو أن تكون خلوًا من أيِّ سمةٍ بارزة، وأن تطمِس بالضغط، كما تفعل الأحذية الصينية، أيَّ جُزءٍ من الطبيعة الإنسانية يبدو بارزًا، وألا يُسمَحَ للفرد بأن يشذَّ في مُجمله عن العادِيِّين من البشر.
إنَّ استبداد العادات هو في كلِّ مكانٍ العقبة التي تُواجِهُ التقدُّم البشري، والشطر الأكبر من العالَم لم يكن له تاريخ بالمعنى الصحيح؛ لأنَّ استبداد العادات فيه كان استبدادًا تامًّا. ذلك هو الحال في «الشرق» كله، فالعادات هناك، في جميع الأمور، هي المرجِع النهائي والفيصل. العدل والحقُّ هناك يَعني الانصياع للتقاليد. وها نحن نرى النتيجة؛ فهذه الأُمَم لا بدَّ أنها كانت مُبدِعةً يومًا ما، فلم يكن من فراغٍ ما شيَّدتْهُ من مدائن وما تضلَّعتْ فيه من آدابٍ ومن كثيرٍ من فنون الحياة، بل هي التي صنعت ذلك بنفسها. كانت يومئذٍ أعظم أُمَمِ العالم وأقواها، فما هو حالُها اليوم؟ رعايا أو تابِعون لقبائل كان أسلافُهم يهيمون في الغاباتِ عندما كان أسلافُ هؤلاء لدَيهم القصور الفخمة والمعابد الرائعة. غير أنَّ أسلاف تلك القبائل (الأوروبية الأولى) كانوا يَمتازون بشيءٍ واحد: هو أنَّ العادات لم تكُن تُمارَس استبدادًا كليًّا عليهم، بل تتقاسَم السُّلطة مع الحرية والتقدُّم. ويبدو أن شعبًا ما يُمكن أن يكون بسبيل التقدُّم فترة مُعيَّنة من الزمن ثُمَّ يتوقَّف. فمتى يتوقف؟ عندما يُفلِس من الأفذاذ المُتفرِّدين ولا يعود يمتلك الشخصية الفردية.
وما الذي حفظ أوروبا حتى الآن من هذا المصير؟ ما الذي جعل عائلة الأمم الأوروبية عائلةً مُتقدِّمة بدلًا من أن تكون قِسمًا راكدًا ثُبوتيًّا من الجنس البشري؟ السبب لا يكمُن في أيِّ امتيازٍ فائق فيهم (والذي إن وُجِد فبوصفِهِ المعلول لا العلَّة)، وإنما السبب هو تنوُّعُهم الملحوظ في الشخصية وفي الثقافة، فالأفراد والطبقات والأمم في أوروبا كانوا مُتبايِنين الواحد عن الآخر غاية التبايُن. لقد سلكوا طُرقًا مُتعددة جدًّا، يؤدِّي كلٌّ منها إلى شيءٍ ذي قيمة. صحيح أنهم لم يَسلموا من التعصُّب ومُحاولة كلٍّ منهم فرْض طريقه على الآخر، غير أن مُحاولة كلٍّ منهم إيقاف تطوُّر الآخر قلَّما أسفرت عن نجاحٍ دائم، بل كان كلٌّ منهم يُضطرُّ في نهاية الأمر إلى تقبُّل الخير الذي يُقدِّمه له الآخرون. وأوروبا، في اعتقادي، مدينة لهذه الكثرة من الطُّرق في تقدُّمها ونُموِّها المُتعدِّد الجوانب.
(٤) كارل بوبر: داعية المجتمع المفتوح
لو أنَّ هناك شيئًا من قبيل الاشتراكية المُقترِنة بالحُريَّة الفردية، لوددتُ أن أكون اشتراكيًّا؛ فليس أجمل من أن يعيش المرءُ حياةً مُتواضِعةً في مُجتمع مساواة. غير أنِّي أنفقتُ زمنًا قبل أن أُدرك أنَّ هذا لا يعدو أن يكون حُلمًا جميلًا، وأن الحُرِّيَّة أهمُّ من المُساواة، وأن مُحاولة تحقيق المُساواة من شأنها أن تُهدِّد الحرية، وأن الحُريَّة إذا فُقِدت فلن يتمتَّع فاقِدُوها حتى بالمُساواة.
إن ما يتضمَّنه كتاب «المجتمع المفتوح» لبوبر من دفاعٍ إيجابي عن الانفتاح الديمقراطي وعن التسامُح يبقى، ربما، أقوى دفاع يسطُره قلمٌ في جميع العصور.
يُعدُّ كارل بوبر واحدًا من أهمِّ أنصار الديمقراطية ودُعاة المُجتمع المفتوح، ويُعدُّ فوق ذلك من أشرس خصوم المجتمع المُغلق والشمولي واليوتوبي، وأشدُّهم بأسًا وأبلغهم حُجَّة، في كتابه «المجتمع المفتوح وأعداؤه»، الذي تَعدُّه بعض المؤسَّسات الثقافية الكبرى الكتاب الرابع في الأهمية بين ما كُتِب في القرن العشرين. يُبرهِن بوبر بالحُجَّة على أنَّ اليقين لا وجود له في السياسة مِثلما هو لا وجود له في العِلم؛ ومن ثَمَّ فإن فرْض وجهةٍ واحدة من الرأي هو أمرٌ ليس له ما يُبرِّره. وأسوأ صور المجتمع الحديث جميعًا هي تلك المجتمعات التي تفرِض تخطيطًا مركزيًّا ولا تسمح بالمُعارضة، فالنقد هو الطريق الرئيسي الذي يُمكِن به تنقيح السياسات الاجتماعية قبل تنفيذها، ومُلاحظة النتائج غير المرغوبة هي أوجَبُ سببٍ لتعديل السياسات أو نبذِها بعدَ أن يتمَّ تنفيذُها. يتبيَّنُ من ذلك أن المُجتمع الذي يسمح بالمُعارضة والحوار النقدي، أي المجتمع المفتوح، سيكون بالتأكيد أقدَرُ على حلِّ المُشكلات العملية لصُنَّاع السياسات من المُجتمع الذي لا يسمح بذلك، وسيكون تقدُّمه أسرعَ وأقلَّ تكلفة.
من ذلك يتَّضِح أن الأنظمة الكارهة للنقد تُخطئ خطأً مُضاعفًا: الأول حين تحظُر الفحص النقدي المُسبَق لسياساتها فتقَع في أخطاء فادِحة لا تكتشِفها إلَّا لاحِقًا، والثاني حين تحظُر الفحص النقدي للتطبيقات العملية لسياساتها، فتمضي في العمل بها وتُواصِل ارتكاب الأخطاء زمنًا يطول أو يقصُر بعد أن تكون الأخطاء قد جرَّتْ عواقب وبيلةً لم تكُن بالحسبان. هذا التوجُّه الذي يسِم الأنظمة الشمولية هو توجُّه غير عقلاني، ومآله بالنسبة للأنظمة المُتَّصِلة هو أن تَبيدَ مع نظريَّاتها الزائفة، وبالنسبة للأنظمة الأقلَّ تصلُّبًا أن تُحرِز تقدُّمًا معطوبًا ومُكلِّفًا وتمضي بُخطًى مُتعثِّرةٍ بطيئة.
(٤-١) ضرورة التقنية السياسية
ذهب بوبر إلى أنه في مجال السياسة ليس يكفي لأيِّ شخصٍ في موقع السُّلطة أن تكون لديه سياسات، بمعنى غايات وأهداف، مهما وضحت صياغاتها؛ فلا بدَّ أن يمتلك أيضًا وسائل تحقيقها، ومن ثَمَّ فمن واجبه أن ينظُر إلى شتَّى أنواع النظم والمؤسَّسات بوصفها «آلات» لإنجاز سياساته. وإن تصميم نظام سياسي بحيث يُؤتي الثمار المرجوَّة منه لهو أمرٌ مُضاهٍ في صعوبته لتصميم آلة مادية. فإذا قام مهندس بتصميم آلة جديدة وكان تصميمه غير صحيح بالنظر إلى الغرَض المطلوب، أو قام بتعديل آلة قائمة أصلًا دون أن يُجري جميع التغييرات المطلوبة، فإن نتاج الآلة لن يكون موافقًا لما أراده منها، بل لما هو بوسعها أن تُنتجه فحسْب، وهو نتاجٌ قد يكون مُخالفًا لجميع المواصفات المطلوبة، بل قد يكون مُؤذيًا خطرًا.
كان بوبر داعيةً للديمقراطية الليبرالية، يُعبِّر بعُمقٍ عن مشاعره الأخلاقية تجاه المسائل السياسية. غير أنه يتميَّز عن غيره من فلاسفة الديمقراطية بثرائه الفكري والغزارة المُنقطِعة النظير لأدلته وبراهينه العقلية. لقد كان الاعتقاد السائد في نِطاق عريض من الأمم والشعوب، في القرن العشرين بخاصة، هو أن منطق العقل والعلم لا بدَّ أن يُنادي بمجتمع مُنظَّم تنظيمًا مركزيًّا ومخطَّط بوصفه كُلًّا واحدًا لا انقسام فيه ولا تعدُّد. فجاء بوبر ليُثبت أنَّ هذا التصوُّر، عدا أنه استبدادي تسلُّطي، يرتكز على تصوُّر للعلم مغلوط وبائد، فكلٌّ من منطق العقل ومنهج العلم يُشير إلى مجتمع «مفتوح» وتعدُّدي، يسمح بالتعبير عن وجهات النظر المُتعارِضة وتبنِّي الأهداف المُتضادَّة، مجتمع يتمتَّع فيه كلُّ فرد بحرية البحث في المواقف الإشكالية، وحرية اقتراح الحلول، وحرية انتقاد الحلول التي يقترِحها الآخرون وبخاصَّة أعضاء الحكومة، سواء في مرحلة الشروع النظري أو التطبيق العملي؛ مجتمع تتغيَّر فيه سياسات الحكومة في ضوء المُراجعة والفحص النقدي.
ولمَّا كانت السياسات عادةً هي خطط ينادي بها ويُشرف عليها أناسٌ مُلتزمون بها بطريقة أو بأخرى، فإنَّ التغيير المطلوب حين يتجاوَز حجمًا مُعيَّنًا يقتضي تغيير الأشخاص، يترتَّب على ذلك أن تحقيق المجتمع المفتوح على أرض الواقع يستلزم أولًا وقبلَ كلِّ شيء أن يكون هناك مجال وإمكانية لإقصاء من هُم في السلطة على فتراتٍ معقولة وبدون عُنف، واستبدال آخرين ذوي سياسات مختلفة. ولكي يكون هذا خيارًا حقيقيًّا فإنَّ ذوي السياسات المُخالِفة لسياسات الحكومة يجِب أن يتمتَّعوا بحرية تشكيل أنفسهم ويتحدَّثوا ويكتُبوا ويطبعوا ويذيعوا ويُعلِّموا برامجهم المُنتقِدة للسلطة القائمة، وأن يكفل لهم الدستور مَنفذًا إلى خلافة الحكومة. يتمُّ ذلك، على سبيل المثال، عن طريق الاقتراع الدوري الحر.
-
مُفارقة
الديمقراطية Paradox of Democracy: لم تكن الديمقراطية التي تَصوَّرها بوبر مجرَّد حكومة تنتخِبها
الأغلبية من المحكومين؛ إذ إن هذه النظرة القاصرة من شأنها أن تفضي
إلى ما يُسمَّى «مُفارقة الديمقراطية»: هَبِ الديمقراطية هي مجرَّد تصويت
الأغلبية، فماذا لو صوَّتَت الأغلبية لصالح حزب، كالحزب النازي أو
الشيوعي أو ما شئت، لا يؤمن بالنُّظم الحُرَّة وجدير إذا قبض على زمام
الأمور أن يُطيح بها؟ إنَّنا هنا أمام مُعضلة حقيقية؛ فإذا منعنا مثل
هذا الحزب من نَيل السلطة نكون قد نبَذْنا الديمقراطية، وإذا تركناه
فإنه سيتكفَّل بالقضاء على الديمقراطية. وفي الحالتين تكون
الديمقراطية، إذا ما اقتصرت على تصويت الأغلبية، قد حملت في داخلها
جرثومة فنائها؛ تكون مفهومًا انتحاريًّا.
غير أن الخطَّ السياسي الذي اتَّخذَه تفكير بوبر لا يلتقي بهذه المُفارقة ولا يتورَّط فيها؛ ذلك أن من يلتزم بالتمسُّك بالمؤسَّسات الحرة فإن عليه، دون وقوعٍ في التناقُض الذاتي، أن يُدافع عنها ضدَّ أي خطر يأتيها من أي جهة، سواء من جهة أقليَّات أو من جهة أغلبيات. وإذا كانت هناك محاولة للإطاحة بالنُّظم الحُرَّة بالقوة المُسلَّحة فإن بوسعه، دون تناقُض ذاتي، أن يدافع عنها بالقوة المُسلَّحة. فالحق أن هناك مُبرِّرًا أخلاقيًّا لاستخدام القوة ضدَّ نظامٍ قائمٍ يفرض بقاءه بالقوة ما دام هدفُ المرء هو تأسيس نُظم حرة، وما دامت لديه فُرصة حقيقية للنجاح؛ لأن غايته عندئذٍ هي أن يستبدل بحُكم القوة حُكم العقل والتسامُح.١٥
- مُفارَقة التسامُح Paradox of Tolerance: يُشير بوبر إلى مُفارقات أخرى يجِب تفاديها، منها «مُفارقة التسامح»، ومُفادُها أنَّ المجتمع الذي يبسط ظلَّ التسامُح إلى غير حدٍّ مآله هو أن يزول ويزول معه التسامح! ومِن ثَمَّ فإن على المجتمع المُتسامِح أن يكون مُهيَّأً في بعض الظروف لأن يكبَحَ أعداء التسامُح (يتوجَّب بالطبع ألَّا يلجأ إلى ذلك ما لم يُشكِّل هؤلاء خطرًا حقيقيَّا وإلَّا أفضى به الأمر إلى الظُّلم والاضطهاد و«تَصيُّد السَّحَرة»). وينبغي أن يُحاوِل جهده أن يُلاقي هؤلاء أولًا على صعيد الحُجَّة العقلية. غير أنهم قد يُسارعون بشجْب كلِّ حوارٍ ويحظُرون على أتباعِهم الإصغاء إلى الجدَل العقلي لأنه خادع، ويُعلِّمونهم أن يُجيبوا على الحُجَّة باستخدام قبضتهم وباستخدام الرصاص. وما كان لمجتمع التسامُح أن يبقى إلَّا إذا كان مُستعدًّا في نهاية المطاف لتقييد مثل هؤلاء بالقوة. يجِب أن تُعتبَر الدعوة إلى التعصُّب جريمة، تمامًا كما نعتبِرها جريمةً أيَّ دعوةٍ إلى القتل أو الاختطاف أو العودة إلى الاستعباد وتجارة الرقيق.١٦
-
مُفارَقة
الحرية Paradox of Freedom: الحرية المُطلقة كالتسامُح المُطلَق؛ مفهوم يُدمِّر ذاته، بل هو مفهومٌ
حقيقٌ أن يؤدِّي إلى نقيضه، ذلك أنه في حالة فكِّ كلِّ القيود عن الحرية
فلن يكون هناك أيُّ شيء يوقف القَوِيَّ عن استعباد الضعيف (أو الخَنُوع).
الحرية الكاملة إذن من شأنها أن تقضي على الحرية، ودُعاة الحرية
الكاملة هم في حقيقة الأمر أعداء للحرية مهما خلُصَت نواياهم. وقد
أشار بوبر بصفةٍ خاصة إلى مُفارقة الحرية الاقتصادية التي تفتح
الطريق أمام استغلال الغَنيِّ للفقير وتؤدي إلى فقدان الفقراء لكل
حُريَّتهم الاقتصادية. هنا أيضًا ينبغي أن يكون لدَينا علاج سياسي؛
علاج شبيه بذلك الذي نستخدِمُه ضدَّ العنف المُسلَّح. لا بدَّ إذن أن نُشيِّد
مؤسساتٍ اجتماعية مُدعمة بقوَّة الدولة لحماية الأضعف اقتصاديًّا من
الأقوى؛ يعني ذلك بطبيعة الحال ضرورة التخلَّي عن سياسة عدم التدخُّل non-intervention (والتي يُطلَق
عليها الاسم الذي يفتقِر إلى الدقَّة laissez
faire، دعْهُ يفعل)، وعن سياسة الحرية الاقتصادية
غير المحدودة، وتبنِّي سياسة «التدخُّل» interventionism التخطيطي للدولة في الشئون الاقتصادية،
إذا شئنا ضمانًا للحرية. وبتعبيرٍ آخر لا بدَّ أن تنتهي الرأسمالية
المُطلقة ويحلَّ محلَّها مذهب التدخُّل الاقتصادي.
إنَّ مُناهضي مذهب تدخُّل الدولة يرتكبون خطأ التناقُض الذاتي، فأيَّة حرية يجِب أن تحميها الدولة: حرية سوق العمل أم حرية الفقراء أن يتَّحِدوا؟! فأيما قرار سوف يُتَّخَذ سوف يُفضي في ظلِّ جميع الظروف إلى اتِّساع المسئولية الاقتصادية للدولة شِئنا ذلك أم أبينا. وبصفةٍ أعمَّ «إذا الدولة لم تتدخَّل فقد تتدخَّل عندئذٍ تنظيمات شِبه سياسية مثل الشركات والاتحادات الاحتكارية وما إليها، فتختزل حرية السوق إلى وهم.» ومن جهة أخرى فإن من الأهمية بمكانٍ أن نُدرك أنه في غياب الحماية اللصيقة للسوق الحرة فمن المُحتَّم أن يتوقَّف النظام الاقتصادي برمَّته عن تأدية الغرَض الوحيد المنوط به، وهو أن يفي بحاجات المُستهلك. إن التخطيط الاقتصادي الذي لا يُحقِّق الحرية الاقتصادية بهذا المعنى سوف ينتهي به المطاف إلى شيء قريب من الشمولية.
في جميع هذه الأحوال نجِد أنَّ غاية التسامُح (أو الحرية) المُمكنة هي دائمًا قدرٌ محسوب وليس مُطلقًا؛ إذ لا بُدَّ للتسامُح والحرية أن يكونا محدودين إن شِئنا لهما أن يُوجَدا على الإطلاق! ومن البَيِّن أنَّ التدخُّل الحكومي، وهو الضمان الوحيد لوجودهما، هو سلاح ذو حدين؛ فبدونه تموت الحرية، وبزيادته عن الحدِّ تموت الحرية أيضًا! وهكذا نجد أنفسنا نعود أدراجنا إلى ضرورة الضبط، والذي يعني إمكانية تغيير الحكومة بواسطة المحكومين كشرطٍ أساسي للديمقراطية. غير أن هذا التغيير، وإن يكُن شرطًا ضروريًّا، ليس شرطًا كافيًا؛ فهو لا يضمَنُ بقاء الحرية، إذ لا شيء يضمَن بقاءها، فثمن الحرية هو اليقظة الدائمة. إن النظم أو المؤسسات، كما أشار بوبر، هي كالحصون: ليس يكفي أن تكون شديدة البنيان، بل يجِب أن تكون أيضًا مُزوَّدة برجالٍ أشداء.
-
مُفارقة الحُكم
(السيادة) Paradox of Sovereignty: دأَبَ الفلاسفة السياسيون بعامَّة أن يَعدُّوا السؤال الأهم في مجالهم
هو «من الذي ينبغي أن يحكُم؟» ثُمَّ يُبرِّروا جوابهم عنه كلٌّ حسب توجُّهه
الخاص: شخص واحد، الشخص الحسيب، الغني، الحكيم، القوي، الخيِّر،
الأغلبية، البروليتاريا، إلخ. ولم يَجُل بخاطر أحدٍ أنَّ السؤال نفسه
مغلوط! وذلك لأسبابٍ عديدة: فهو أولًا يُفضي مُباشرةً إلى ما أسماه
بوبر «مُفارقة الحكم»: هَبْنا أسلمْنا مقاليد السلطة ليدِ أكثر الناس
حِكمة، إنه قد تقتضيه حِكمته العميقة أن يقول: «ليس أنا، بل الأحسن
خلقًا هو من ينبغي أن يحكم.» فإذا تولَّى هذا زمام السلطة فقد يقتضيه
وَرَعُه أن يقول: «لا يليق بي أن أفرض إرادتي على الآخرين، ليس أنا
ولكن الأغلبية هي التي يجِب أن تحكم.» وبعد تنصيب الأغلبية فإنها قد
تقول: «نُريد رجلًا قويًّا يفرض النظام ويُخبِرنا ماذا نفعل.»
وثَمَّة اعتراض آخر مَفادُه أنَّ السؤال «أين يجِب أن يكون الحكم؟» يفترض مُسبقًا ضرورة وجود السلطة النهائية في مكانٍ ما. وهو غير صحيح؛ ففي مُعظَم المجتمعات هناك مراكز قوى مُختلفة ومُصطرعة إلى حدٍّ ما وليس مركز واحد يُمكنه أن يُدير الأمور كما شاء. وفي بعض المجتمعات نجِد النفوذ مُوَّزعًا مُنتشرًا على نطاقٍ واسع. فإذا سأل سائلٌ «نعم ولكن أين تقع السلطة في النهاية؟» فإن سؤاله يَستبعِد قبل أن يُطرَح إمكانية وجود ضبطٍ على الحكام، حين يكون هذا الضبط هو أولى الأشياء جميعًا بترسيخه. ومن ثَمَّ فهو سؤال يحمِل في داخله مُتضمناتٍ شمولية. إن السؤال الحيوي ليس «من يجِب أن يحكم؟» بل «كيف نَحُول دون إساءة الحكم؟ كيف نتجنَّب حدوثها، وإذا حدثت كيف نتجنَّب عواقبها؟»
نخلُص ممَّا سبق إلى أن أفضل مجتمع يمكننا تحقيقه هو ذلك الذي يكفُل لأعضائه أكبر قدرٍ ممكن من الحرية، وأن هذا الحدَّ الأقصى هو قدرٌ مُنضبط تخلقه وتحفظه نظمٌ مُصمَّمةٌ لهذا الغرض ومدعمةٌ بقوة الدولة. وهذا يستلزم تدخُّلًا واسِعَ النطاق للدولة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأن الإفراط في التدخُّل أو التفريط فيه كِلاهما يؤدِّي إلى نفس النتيجة وهي ضياع الحرية، وأن تجنُّب كِلا الخطرين هو في التمسُّك بنظمٍ مُعيَّنة، أولها وأهمُّها جميعًا الاحتفاظ بوسائل دستورية يتسنى بها للمحكومين تغيير من بيدِهم مقاليد سُلطة الدولة، واستبدال غيرهم ممن لهم سياساتٌ مُختلفة، وأن أيَّ مُحاولة لإضعاف هذه النظم وإبطال دورها هي مُحاولة لتنصيب حُكمٍ شمولي ولا بدَّ أن تُمنَع (بالقوة إذا لزِم الأمر). إن استخدام القوة ضدَّ الطُّغيان هو أمر له ما يُبرِّره حتى لو كان الطُّغيان يتمتَّع بتأييد الأغلبية. والاستخدام الوحيد المُبرَّر للقوة هو المُحافظة على النُّظم الحُرَّة حيثما وُجِدت وتأسيسها حيثما غابت.
(٤-٢) مُشكلة الطُّغيان
في معرِض نقدِه للنظرية السياسية عند أفلاطون يعرِض بوبر لفكرة الطغيان وهو مُتنَبِّه لكراهية أفلاطون لحُكم الأغلبية باعتباره حُكم الرعاع أو حُكم الأسوأ. ويخلُص بوبر إلى أنَّ المسألة ليست مسألة الشعبية، فبعض أصناف الطُّغاة يتمتَّعون بشعبيةٍ كبيرة ويُمكنهم كسْب الانتخابات بسهولة. والمجتمع المفتوح والليبرالي ليس مُجرَّد حكومة مُنتخبة شعبيًّا، ولا المسألة مسألة العدل والخير؛ إذ ليس في ذلك ما يُقدِّم ضمانًا ضِدَّ طغيانٍ يعيش باسم العدل والخير. ووفقًا لنظريته في العلم، وفي المعرفة بعامَّة، يقترِح بوبر «مسارًا سلبيًّا»؛ إذ ليست المسألة مسألة ما هو النظام الذي نُريده، بل ماذا نفعل للأنظمة التي لا نُريدها. ومشكلة الطغيان هي أن المواطنين لا يملكون طُرقًا سلمية يتخلَّصون بها منه إذا أرادوا ذلك؛ الأمر الذي حدا بكارل بوبر إلى أن يُقدِّم معيارًا للديمقراطية أصبح شائعًا ومُتفَّقًا عليه: «الديمقراطية هي ذلك النظام السياسي الذي يُتيح للمواطنين أن يُخلِّصوا أنفسهم من حكومة لا يرغبونها، دون حاجةٍ إلى اللجوء إلى العنف.»
(٤-٣) الهندسة الاجتماعية الجُزئية
يدعو بوبر إلى تبنِّي الهندسة الاجتماعية الجُزئية كمُقابل للتخطيط الكُلِّي اليوتوبي، فمن شأن التحسينات الجُزئية أن تقبل التصويب إذا تبيَّن أنها على خطأ، بينما التخطيط الكُلِّي اليوتوبي جدير بأن يُولِّد اضطراباتٍ كبيرةً قد تؤدِّي إلى وضعٍ أسوأ بكثيرٍ من الوضع الذي بدأ منه. وفي هذا المجال السياسي، كما في مجال المنهج العلمي، يُفضِّل بوبر طريقة المُحاولة ونبْذَ الخطأ على أحلام الكمال اليوتوبي التي لا تتحقَّق.
(٤-٤) التقدُّم العلمي يعتمِد على الديمقراطية
ويهمُّنا أن نُلاحِظ أن «الموضوعية العلمية» صفةٌ تعتمد إلى حدٍّ ما على المؤسسات الاجتماعية، فالقول الساذج بأن الموضوعية العلمية وليدة موقفٍ ذِهني أو سيكولوجي لدى الفرد من العلماء، وأنها تعتمِد على ما حصَّله من تجربة وما اكتسبه من تعوُّد على الحَيطة والنزاهة والبُعد عن التحيُّز، هذا القول من شأنه أن يَستثير الرأيَ المُعارِض الذي يذهب إلى التشكيك في قُدرة العلماء على اتِّخاذ موقفٍ موضوعي. يقول أصحاب هذا الرأي الأخير إنَّ افتقار العلماء إلى الموضوعية قد لا يكون له تأثير يُذكَر في العلوم الطبيعية حيث لا يُوجَد ما يُثير انفعالهم. أما في العلوم الاجتماعية التي لا تنجو أبحاثها من الأهواء الاجتماعية والتحيُّز الطبقي والمصالح الشخصية، فقد يكون لهذا الافتقار إلى الموضوعية أثرٌ فتَّاك. وهذا الرأي الذي ظهر بصورةٍ مُفصَّلة فيما يُسمَّى «النظرية الاجتماعية في المعرفة»، يَغفُل تمامًا عمَّا للمعرفة العلمية من طابعٍ اجتماعي أو مُؤسَّساتي؛ لأنه يرتكِز على القول الساذج بأن الموضوعية مُعتمِدة على سيكولوجية الأفراد من العلماء. وهو لا يرى أن جفاف موضوع البحث في العلوم الطبيعية أو بُعده عن الأمور الشخصية لا يَمنعان التحزُّب والمصلحة الذاتية من التسلُّل إلى مُعتقَدات العالم. والحقُّ أننا لو اعتمدْنا كلَّ الاعتماد على نزاهة العالِم من الهوى، لاستحال العِلم تمامًا، بما في ذلك علم الطبيعة.