الطب النفسي والنظرية العامة للأنظمة
ولكي يُبرهن على هذه الوجهة من الرأي أشار برتالانفي إلى المُعضلة التي حيَّرَت العلماء منذ القرن التاسع عشر، عندما دخلت فكرة التطوُّر إلى ساحة التفكير العلمي. فإذا كانت ميكانيكا نيوتن علمًا للقوى والمسارات، فإنَّ الفكر التطوُّري — فكر التغيُّر والنماء — كان يتطلَّب علمًا جديدًا للكيانات المُركَّبة المُعقدة.
كانت الصياغة الأولى لهذا العِلم الجديد هي الديناميكا الحرارية الكلاسيكية و«قانونها الثاني» الشهير؛ قانون تبدُّد الطاقة. ينصُّ القانون الثاني للديناميكا الحرارية، والذي صاغَهُ لأول مرة الفيزيائي الفرنسي سادي كارنو بلغة تكنولوجيا المُحرِّكات الحرارية، على أنَّ «هناك ميلًا في الظواهر الفيزيائية للتحوُّل من النظام إلى الفوضى»، وبمُقتضاه يميل أي نظام فيزيائي معزول أو «مُغلق» إلى المُضيِّ تلقائيًّا باتجاه الاضطراب المُتزايد على الدَّوام.
بهذا المفهوم للإنتروبي وبهذا المنطوق للقانون الثاني، أدخلت الديناميكا الحرارية إلى العلم فكرةَ العمليات غير المُتراجعة أو فكرة «سهم الزمن». بمُوجَب القانون الثاني فإن شيئًا من الطاقة الميكانيكية يتبدَّد دائمًا إلى طاقةٍ حرارية لا يُمكن استردادُها تمامًا. بذلك تكون آلة العالَم بأكملها في تلكُّؤٍ مُستمرٍّ سوف ينتهي به المطاف إلى التوقُّف.
اصطدمت هذه الصورة القاتمة لتطوُّر الكون بالفكر التطوُّري لبيولوجيِّي القرن التاسع عشر الذين لاحظوا أنَّ العالَم يتطوَّر من الاضطراب إلى النظام، ومن حالة الفوضى إلى حالات تعقُّدٍ مُتزايد أبدًا. وبحلول نهاية القرن التاسع عشَر كانت ميكانيكا نيوتن (ميكانيكا المسارات المُتراجِعة الأبدية) قد أُلحِق بها نظرتان للتغيُّر التطوُّري على تناقُضٍ تام؛ الأولى تُصوِّر عالمًا حسيًّا مُنبسطًا تجاه مزيدٍ من النظام والتعقُّد، والثانية تُصوِّر آلةً تتباطأ وعالمًا يزداد اضطرابًا وفوضى. فمن كان على حق، دارون أم كارنو؟
وعلى خلاف الأنظمة المُغلقة التي تظلُّ في توازنٍ حراري، فإن الأنظمة المفتوحة تحفظ نفسها بعيدًا عن التوازُن، في هذه الحالة من الثبات الديناميكي القائم على التدفُّق المُستمرِّ والتغيُّر الدائب. ومن هنا كانت الديناميكا الحرارية الكلاسيكية غير مُلائمةٍ لوصف الأنظمة المفتوحة.
كشف برتالانفي أيضًا أن خصائص الثَّبات هي بعينها خصائص عملية الأيض؛ مما أفضى به إلى افتراض «التنظيم الذاتي» كخاصية أساسية أخرى للأنظمة المفتوحة.
كانت رؤية برتالانفي حول «علم عام للكيانات الكلية» قائمًا على مُلاحظته بأنَّ مفاهيم الأنظمة ومبادئها يُمكن أن تنطبِق على ميادين مُختلفة من البحث: «فالتوازي القائم بين التصوُّرات العامة، أو حتى القوانين الخاصة، في مُختلف المجالات هو توازٍ ناجم عن أن هذه المجالات تتناوَل «أنظمة» وأنَّ هناك بعض المبادئ العامة تنطبق على الأنظمة بغضِّ النظر عن طبيعتها.» وبما أن الأنظمة الحيَة تُغطِّي نطاقًا هائلًا من الظواهر يشمل الكائنات العضوية الفردة وأجزاءها، والأنظمة الاجتماعية، والأنظمة الإيكولوجية (البيئية)، فقد أيقن برتالانفي أن من شأن النظرية العامَّة للأنظمة أن تُقدِّم إطارًا نظريًّا مِثاليًّا لتوحيد الأفرع العلمية المُختلفة التي غدَتْ مُنعزلةً ومُتشرذِمة.
(١) النظرية العامة للأنظمة General Systems Theory
بحياةٍ أطولَ وأيسَرَ وأهنأ، وعَدَنا العِلم في القرون الأربعة الأخيرة.
أسكرتْنا وعود العِلم حتى أفقْنا حديثًا على ألمٍ مُريبٍ بالرأس والجوارح؛ فالشرور التي انسربَتْ يومًا من «صندوق بندورا» ما تزال تستشري في طول البلاد وعرضها.
التَّوازُن بكلِّ معانيه وجوانبه يختلُّ اختلالًا خبيثًا لا يُنبئ بخير. الظلم يهبِط كلَّ يومٍ إلى الأرض في ثِيابٍ جديدة. انتهَيْنا من أمراض البداوة لتُدهِمَنا أمراض الحضارة، فإذا هي أشدُّ فتكًا وتنكيلًا: الاكتئاب، الأورام، أمراض القلب والأوعية، سكتة القلب والدماغ عرفت طريق الشباب، الانتحار بدأ يترصَّد الصِّبا الغضَّ ولم يعُدْ وقفًا على شيخٍ ملَّ الضعف وما ملَّ الحياة، الإيدز. وما خفي مِمَّا يُمكن أن يَجُرَّه اللعب بنار بروميثيوس، يفتك بالبعض ويترُك طائفة، يُسمم للآخرين صنفًا من أشهى الأصناف على مائدة الدنيا.
ورغم ثِقتنا المُفرطة في طريقة العِلم ودربه، فما يزال «التضخُّم» يُحيِّر الاقتصاديين، والفصام يُحيِّر السيكولوجيين، والسَّرطان يُحيِّر الأطباء، والعُنف والإدمان والجريمة تُحيِّر الجميع، لكي يتبلور السؤال ويثقُلَ ويُلِح: كيف نضمَنُ ألَّا ينقلِب ما هو خيرٌ ونفعٌ على المدى القريب إلى شرٍّ ووبالٍ على المدى البعيد (ولنا في استخدام المبيدات والوقود الحفري والطاقة النَّووية أمثلةٌ صارخة)؟ كيف نضمَن ألا يقوم الكلب بقيادة السيد إلى بقاعٍ خطرة يُمكن أن تُودي بحياته؟
(١-١) صفر + صفر = صفر
من الصيحات الجديدة في صناعة القرارات الكبرى، سياسية أو اجتماعية أو غيرها، أن تُؤخَذ مشورة كبار الأكاديميين والعلماء المُتخصِّصين، سواء بطريقٍ شخصيٍّ مُباشرٍ أو بطريقٍ غير مباشر، من خلال بنوك المعلومات وبنوك الأفكار وما إليها. وما أيسَرَ أن تَتمَّ المشورة، ويتمَّ معها إغفال حقيقة مريرة: هي أن هؤلاء العلماء، مع كلِّ الإكبار لهم والتَّجِلَّة، هم سادةٌ على أرضهم، وما كان لهم أن يبلغوا ما بلغوه من مكانةٍ في تخصُّصاتهم الضَّيِّقة إلَّا لأنهم كرَّسوا لها أنفسهم وأوْغَلوا فيها على حساب المجالات الأخرى للحياة، في زمنٍ تفجَّرتْ فيه المعارف وأصبحتْ مُمارَسة العلم هي معرفة الأكثر والأكثر عن الأقلِّ والأقل، فأصبح هؤلاء العلماء، بِحُكم التخصُّص ذاته، آخِرَ من يُؤخَذ رأيه في الأمور التي تتطلَّب النظرة الشاملة والإلمام العريض. والأخطر من ذلك ما نجِده لدى كثيرٍ من هؤلاء العلماء من ميلٍ طبيعي إلى تعميم طرائقهم البحثية المحدودة، والاعتقاد بأن جميع المُشكلات الإنسانية يُمكن أن تُحَلَّ بنفس المناهج التي يَجدونها مُثمِرة في ميادينهم.
(١-٢) الفكر الإيكولوجي كبديلٍ أقومَ للفكر التَّجزيئي
(١-٣) مُوجَز للنظرية العامة للأنظمة
البنية والعملية
الخواص الانبِثاقية Emergent Properties
هكذا تلفِتُنا نظرية الأنظمة إلى حقيقةٍ ما تفتأ تُواجِهُنا على الدوام، وهي أنَّنا قلَّما يتيسَّر لنا أن نَستنبط خواصَّ مُفرداتٍ أكثر تعقيدًا من خواصِّ مُكوِّناتها، فخواص الماء على سبيل المثال، كالسيولة أو الميوعة، هي خواصٌ لا تُشبِهُ من قريبٍ أو بعيد خواصَّ الأوكسجين أو الهيدروجين. ولقد كان الأقرب إلى الحدْس أو التوقُّع، لو أن الأشياء تُفسَّر بمكوناتها، أن يُفضي اجتماع ذرَّتين من غازٍ شديد الاشتعال كالهيدروجين بذرَّةٍ من غازٍ يُساعد على الاشتعال كالأوكسجين، إلى غازٍ هائل الاشتعال. غير أنَّ العكس هو ما كان على صعيد الواقع؛ فالذي يتكوَّن هو سائل لا يشتعِل (بل نحن نُطفئ به الاشتعال!) هذا مثالٌ صارخ ودرسٌ بليغٌ لكلِّ ذهنٍ يظنُّ أن معرفة المُكوِّنات كفيلةٌ بمعرفةِ الشيء؛ ذلك أن للمستوى الأعلى من مُستويات الوجود صفاته الجديدة وقوانينه الخاصَّة التي يَجِب أن نتوجَّه إليها مُباشرة ونقابلها على أرضها وندرُسها بحقِّها الشخصي.
والبلُّورات مِثال آخر، فللبلُّورات كل صنوف الخصائص الهندسية والبَصرِيَّاتية التي لا تُوجَد في الجُزئيات التي تتكوَّن منها.
الرد والنزعة الرَّدِّيَّة Reduction and Reductionism
-
البرْق ما هو إلا تفريغ كهرباء إستاتيكية.
-
الماء ما هو إلا ذرَّتان من الهيدروجين وذرَّة واحدة من الأوكسجين.
(١-٤) مأزق عِلم النفس الحديث
كان تصوُّر الإنسان كروبوت تعبيرًا عن المجتمع الكُتلي الصناعي وقوةً دافِعة له في الوقت نفسه. فهذا المفهوم يُقدِّم الأساس النظري الذي تقوم عليه الهندسة السلوكية المُتمثِّلة في الدعاية التجارية والاقتصادية والسياسية، ولا غنى للاقتصاد التوسُّعي للمجتمعات الغنية عن مثل هذا التلاعُب والاستلاب. تُريد هذه المجتمعات العظمى أن تصِل تقدُّمها نحو تزايد دائم للإنتاج القومي الهائل، ولكي تبلُغ ذلك لا يسَعُها إلا ردُّ الكائنات البشرية إلى روبوتات أو آلاتٍ طيِّعة أو فئران مُختبر على طريقة سكنر، أو كائنات مُذعِنة أخرى تعتمِد في تأقلُمِها على التوازُن الحيوي (الهميوستاسيس).
(١-٥) صيحات وموجات
إن الخطر الكبير الذي يشتمل عليه كتاب سكنر هو أنَّ مشروعه ليس مشروعًا لإبطال الحرية والكرامة، بل هو وصفٌ لما يجري تحقيقه على نطاقٍ واسع من غسيل للمخِّ وتلاعُب بالعقول تقوم به وسائل الإعلام والتلفزة، ويقوم به المُجتمع التسويقي وقطاع السياسة. هل يتَّبِع المُتلاعبون بالعقول نظرية التشريط السَّلبي والإجرائي عن دِراية وقصد؟ هذا سؤال لا يُهِم، وإن خامَرَتْني الشكوك بأنهم يفعلون ذلك في أحيانٍ كثيرة.
(١-٦) تجربة سيكولوجية كُبرى
إذا صحَّت هذه المبادئ عن سيكولوجيا التلاعُب بالعقول لَلَزِم عن ذلك أنَّ ظروف التَّوتُّر والضغوط لا بدَّ أن تؤدي إلى زيادة الاضطرابات النفسية، وأن الصحة النفسية لا بدَّ أن تتحسَّن عندما يتخفَّف الناس من مكبوتات الطفولة في جماعات التدريب، وعندما تُخفَّف الأعباء الدراسية عن الأذهان الغضَّة للتلاميذ، وعندما يتيسَّر الإشباع الجنسي في عمر مبكر …
قدَّم المجتمع الحديث تجربةً واسعة النطاق في سيكولوجيا التلاعُب بالعقول، وهي تجربة سلوكية تضع هذه السيكولوجيا ومبادئها على المحك. وقد جاءت نتائج التجربة مُخيِّبةً للآمال، فلم ترتفِع نسبة الاضطرابات العصابية ولا الذهانية أثناء الحرب العالمية الثانية، وهي فترة بلغَتْ فيها الضغوط الفيزيولوجية والسيكولوجية ذُروتها (نستثني من ذلك التأثيرات الصدمية المُباشرة من قبيل عُصاب الحرب). ومن الجهة الأخرى أفرخ المجتمعُ الغنيُّ المُتخفِّف من الضغوط عددًا غير مسبوقٍ من الحالات النفسية. وبات من المؤكد أنه في ظروف الإشباع التام للحاجات البيولوجية والتخفُّف من التوتُّر تظهر أشكالٌ جديدة من الاضطراب النفسي مثل العُصاب الوجودي، والسأم الخبيث، وعُصاب التقاعُد، وهي صُور من الاختلال الوظيفي النفسي تنجُم لا عن كبْتِ الدوافع، ولا عن عدم إشباع الحاجات، ولا عن الضغوط، بل عن فقدان المعنى في الحياة. وهناك شكوك (وإن لم يتحقَّق ذلك إحصائيًّا) بأن يكون ارتفاع نسبة الفصام هو نتاج للتسيير الخارجي الذي يُوجِّه الإنسان في المجتمع الحديث. ومن المؤكد أنه في مجال اضطرابات الشخصية قد ظهر نمطٌ جديد من جنوح المُراهقة، هو ارتكاب الجرائم لا بدافع الحاجة أو الانفعال بل بدافع التَّسلية واللَّهو، وهي رغبة يخلُقها فراغ الحياة. وكما يقول إريك فروم: السَّأَم هو مرض العصر وأصلُ العُنف في الحرب وفي الجريمة.
هكذا انتهت السيكولوجيا النظرية والتطبيقية إلى وهنٍ في الأُسس، واقترَنَ الضَّجَر من المبادئ الأساسية بنزوعٍ إلى توجُّهٍ جديد يُعيد الأمور إلى نصابها. عبَّر هذا النزوع الجديد عن نفسه بطُرقٍ مُختلفة، فظهرت مدارس الفرويدية الجديدة، وسيكولوجيا الأنا، ونظريات الشخصية (مري، أولبورت)، والتقبُّل الذي جاء مُتأخرًا لعلم نفس النموِّ وسيكولوجيا الأطفال (بياجيه، فرنر، شارلوت، بوهلر)، والنظرة الجديدة في الإدراك، وتحقيق الذات (جولدشتين، ماسلو)، والعلاج المُتمركِز على العميل (روجرز)، والمداخل الفينومينولوجية والوجودية (بنسفنجر، بوس، ماي)، والمفاهيم السوسيولوجية للإنسان (سوروكين)، وغيرها. تشترِك هذه التيارات المُتباينة في مبدأ واحد: النظرة إلى الإنسان لا بوصفه آلةً مُنفعلة، بل بوصفِه نظامًا شخصيًّا فاعلًا.
(١-٧) نظرية الأنظمة والسيبرنطيقا
تتَّسِم العلاقة بين نظرية الأنظمة والسيبرنطيقا بالغموض والدقَّة. وكثيرًا ما يُساء فهمها، بل ربما بلغ الخلْط بينهما عند البعض حدَّ استخدام كلمة سيبرنطيقا كمرادف لنظرية الأنظمة.
(١-٨) الأنظمة المفتوحة
تتميَّز الأنظمة المفتوحة، مُقارنةً بالأنظمة المُغلقة للفيزياء التقليدية، بخصائص فريدة. تُعرف الأنظمة المفتوحة بأنها تلك الأنظمة التي تظلُّ على الدوام في حالة تَعامُلٍ مع البيئة من حولها وتبادلٍ للمادَّة، ولا تنفكُّ تأخُذ مادةً وتُعطي، وتبني مكوِّناتٍ وتهدم. وبمقدور الأنظمة المفتوحة أن تحتفظ بثباتها النسبي بإزاء التغيُّرات البيئية. غير أن هذا الثبات هو نتاج التفاعُل المستمر مع الخارج والدفْق المستمر للمادة المُتبادلة. وبمقدور الأنظمة المفتوحة أيضًا أن تُصلح ذاتها وتستعيد توازُنها كلَّما تعرَّضَتْ لظروف خارجية مُناوِئة.
تختصُّ كلٌّ من نظرية الأنظمة والسيبرنطيقا بقطاعاتٍ مُعيَّنة من الظواهر، وفي بعض الحالات يجوز استخدام أيٍّ منهما ويتبيَّن وجود تكافؤٍ في وصْف الظاهرة بين لغة السيبرنطيقا (دوائر التَّغذية الراجعة) ولغة نظرية الأنظمة (التفاعُلات المُتبادلة في نظام مُتعدِّد المُتغيِّرات). ولنلْحَظ أنه ما من نموذجٍ واحدٍ يُمكن أن يحتكِر وصف الواقع. وجهد كلِّ نظريةٍ هو أن تستنطِق جوانب مُحدَّدةً من الواقع بدرجةٍ أو بأخرى من النجاح.
(١-٩) الكائن العضوي والشخصية
الكائن الفاعل/النشاط هو الأصل
ليس المُتعضِّي بالكائن السلبي المُنفعِل المُستجيب، بل هو نظامٌ فاعلٌ نشطٌ حتى في غياب المُنبِّهات الخارجية. تنطوي نظرية المُنعكِسات على افتراضٍ مُسبقٍ مَفاده أن العنصر الأولي للسلوك هو الاستجابة لمُثيراتٍ خارجية. غير أن الدراسات الحديثة تُظهِرنا بوضوحٍ مُتزايد على أن النشاط التلقائي للجهاز العصبي، ذلك النشاط القابع في النظام نفسه، هو العنصر الأولي.
يُحافظ الكائن العضوي على توتُّرٍ مُعيَّن وعدم توازُن يُطلَق عليه «الحالة الثابتة للنظام المفتوح». بذلك يُمكنه أن يتعامَل مع التوتُّرات الجارية ويصرِفها في نشاطٍ تلقائي أو في استجابةٍ لمُنبِّهات ترويحية، بل إنه ليمضي قُدمًا نحو تنظيمٍ أعلى. يذهب نموذج الروبوت إلى أن المُخطط العام الأساسي للسلوك هو الاستجابة للمُنبِّهات وخفض التَّوتُّرات واستعادة الاتِّزان الذي أخلَّتْ به عوامل خارجيةٌ والتأقلُم مع البيئة … إلخ. غير أن نموذج الروبوت لا يُفسِّر إلَّا شطرًا من سلوك الحيوان، ولا يُفسِّر أي شطر جوهري من سلوك الإنسان. يستدعي هذا الاستبصار الخاص بالنشاط المُحايِث (الداخلي، المُباطِن) للكائن النفسجسمي توجُّهًا جديدًا يُمكن دعمه بما لا يُحصى من الشواهد البيولوجية والنيوروفسيولوجية والسلوكية والسيكولوجية والطبنفسية.
إن النشاط التلقائي المُستقل هو الشكل الأكثر بداءةً من أشكال السلوك. إنه قائم في وظيفة المخ وفي العمليات السيكولوجية. وقد كان اكتشاف الأجهزة التنبيهية بجِذع المخ (التكوين الشَّبَكي) توكيدًا لهذه الحقيقة. يشتمل السلوك الطبيعي على ما لا حصر له من الأنشطة التي تتجاوز مُخطط «المُنبِّه-الاستجابة»: بدءًا من الاستكشاف واللعب والطقوس في الحيوان، إلى المساعي الفكرية والجمالية والدينية نحو تحقيق الذات ونحو الإبداع في الإنسان. حتى الفئران تبدو باحثة عن مشكلات! أما الأسوياء من البشَر أطفالًا وراشِدين فيَمضُون بعيدًا فيما يتجاوز خفض التوتُّرات أو إشباع الحاجات إلى عددٍ هائلٍ من الأنشطة التي لا يُمكن ردُّها إلى الحاجات الأولية أو الثانوية. تؤدِّي جميع هذه الأنشطة من أجل ذاتها فحسب، مُستمِدَّةً الإشباع من الأداء نفسه (ما يُسمِّيه بوهلر «لذة الوظيفة»).
ولنفس الأسباب فإن التخفُّف التامَّ من التوترات، كما في تجارب الحرمان الحسي، ليس بالحالة المثالية للكائن، بل إنه خليق بأن يُورِث قلقًا لا يُحتمَل وهلاوس وأعراضًا ذهانية أخرى. ومن الحالات الإكلينيكية القريبة من هذه الحالة ذهان السجان، وتفاقُم الأعراض في الأجنحة المغلقة، وعصاب التقاعُد، وعصاب العطلة الأسبوعية. وكلها حالات تَشهد بأن الكائن العضوي بحاجة إلى قدرٍ من التوتُّر والنشاط لكي يعيش وجودًا صحيًّا.
التوازُن الحيوي (الهميوستاسيس)
غير أن مبدأ الهميوستاسيس على أهميته في تفسير كثيرٍ من التنظيمات النفسية والفسيولوجية، هو مبدأ محدود بحدوده ولا يملك تفسير قطاعات عريضة من أنشطة الكائن الحي. يقول شارلوت بوهلر: «لا يعترف نموذج التحليل النفسي بغَير ميلٍ أساسي واحد هو الميل نحو إشباع الحاجة أو خفض التوتُّر، بينما تجِد النظريات البيولوجية الحالية تؤكِّد «تلقائية» نشاط الكائن، وهي تلقائية ناجِمة عن الطاقة الكامنة في صميمه. تفرض هذه التصوُّرات الجديدة مراجعةً كاملة لمبدأ الهميوستاسيس القديم الذي حصر كلَّ شيءٍ في المَيل نحو التوازن.»
وبصفةٍ عامة، لا يسري نموذج الهميوستاسيس على (١) التنظيمات الدِّينامية، أي التنظيمات التي لا تقوم على آلياتٍ ثابتة بل تحدُث داخل نظام يعمل بوصفه «كلًّا» (مثال ذلك عمليات التنظيم التي تجري بعد أعطاب المخ). (٢) الأنشطة التلقائية. (٣) العمليات التي لا تهدُف إلى خفض التوتُّرات بل إلى تصعيدها وتنميتها. (٤) عمليات النموِّ والتطوُّر والخلق. بإمكاننا أيضًا أن نقول بأن مبدأ الهميوستاسيس لا يصلح لتفسير الأنشطة البشرية غير النفعية؛ أي التي لا تُلبِّي حاجاتٍ أوليةً من قبيل البقاء وحفظ الذات وما يلحَقُ بهما. تتجلَّى هذه الأنشطة غير النفعية في العديد من مظاهر الثقافة. إنَّ تطوُّر النحت اليوناني أو تصوير عصر النهضة أو الموسيقى الألمانية هو أمر لا علاقة له من قريبٍ أو بعيد بالتكيُّف البيئي أو حفظ الذات؛ لأنه نشاط ذو قيمة رمزية لا قيمة بيولوجية.
التمايز Differentation
التمايُز هو التحوُّل من حالةٍ أكثر عمومية وتجانُسًا إلى حالةٍ أكثر خصوصيةً ومُغايرة، فأينما حدَث نموٌ أو تطوُّر فثَمَّ انتقالٌ من الشمول والتماثل إلى التميُّز والتفتُّق والتراتُب.
المركزية والتراتب
كثيرًا ما تؤدِّي الميكنة إلى تميُّز بعض الأجزاء وتحولها إلى مكونات رئيسة تُهيمِن على سلوك النظام وتتولَّى قيادته ويكون لأقلِّ تغير فيها أثرٌ كبير على النظام الكلي، خلافًا لمبدأ «العلَّة تُكافئ المعلول». هكذا ينشأ نظام تَراتُبي هرَمي للأجزاء والعمليات.
من الواضح الآن أنَّ هناك تراتُبًا في كلٍ من المخ والعمليات العقلية، وأنَّ كل تراتُبٍ منهما يُناظر الآخر بطريقةٍ ما، وإن يكن تفصيل ذلك غامضًا ومجهولًا إلى حدٍّ كبير. أما المعنى النيوروفسيولوجي لكون شطرٍ صغير من العمليات العصبية واعيًا بينما الشطر الأكبر غير واع، فهو مجهول تمامًا. ومن الجليِّ أنَّ التقسيم الفرويدي «الأنا والهوَ والأنا الأعلى» يُعاني من قصور شديد، وبخاصة من جهة الهو (أو اللاشعور) حيث قصرَهُ فرويد على جوانب محدودة وأغفل جانبه الإبداعي الذي كان السابقون على فرويد قد تفطَّنوا إليه. فاللاشعور ليس مُجرَّد «قبو» نضع فيه ما تمَّ كبتُه، وإنما هو أيضًا مَنبَع تتدفَّق منه العمليات الإبداعية في الفنِّ والدِّين والعلم، وربما التطوُّر نفسه. يشتمِل اللاشعور على أدنى مستويات النفس (العملية الأولية، الدوافع الحيوانية، الغرائز …) وأعلاها أيضًا (بتنوُّع أسمائها: الخبرة الصوفية، خبرات القمَّة، الشعور الأوقيانوسي، الوعي ٣ …)
النكوص Regression
الحدود Boundaries
لا بدَّ لأي نظام، باعتباره كيانًا قابلًا للدراسة بحدِّ ذاته، أن يكون له حدود، سواء كانت مكانية أو دينامية. والحقُّ أن الحدود المكانية لا تُوجَد إلا في الملاحظة الساذجة، وأن جميع الحدود هي دينامية في صميمها، فمن المُحال أن يرسم المرء الحدود الخاصة بإحدى الذرَّات (وقد برزت تكافؤاتها، وفقًا لنوعها، لكي تجذب الذرات الأخرى!) ومن المُحال أن يرسم الحدود الخاصة بحجرٍ من الأحجار (وهو تجمع من الجُزيئات والذرَّات يتكوَّن جلُّه من فضاء خالٍ وجسيمات تدور على مسافات نجمية!) أو يرسم الحدود الخاصة بكائنٍ حي (يتبادل المادة على الدَّوام مع البيئة).
الأنشطة الرمزية
إذا استثنَينا عملية الإشباع المباشر للحاجات البيولوجية، وجدْنا أن الإنسان لا يعيش في عالم من الأشياء بل بالأحرى في عالم من الرموز. ويُمكننا القول أيضًا بأن العوالم الرمزية المُتعددة، المادية وغير المادية، التي تُميِّز الثقافات البشرية عن المُجتمعات الحيوانية، هي جزء، وأهم جُزء على الإطلاق، من النظام السلوكي للإنسان. وإذا أمكنَّ الشكُّ في أن الإنسان حيوان عاقل فليس ثمَّةَ أدنى شكٍّ في أنه حيوان مُبدِع للرموز ومُرتهِن للرموز قلبًا وقالبًا.
هذه الصِّبغة الرمزية هي الخصلة الفريدة التي تُميِّز الإنسان في نظر البيولوجيين والفزيولوجيين من مدرسة بافلوف (الجهاز الإشاري الثاني) والأطباء النفسيين والفلاسفة. ولكنها غائبة في كتب علم النفس حتى الكُتب الرائدة وأحدث الأعمال السلوكية. غير أن هذه الوظائف الرمزية بالتحديد هي ما يجعل دوافع الحيوان لا تصلُح نموذجًا لدوافع الإنسان. وهي بالضبط ما يُقوِّض فكرة أنَّ الشخصية البشرية تكتمِل معالمها في سنِّ الثالثة أو نحو ذلك كما تفترِض نظرية الغرائز لفرويد.
ولعلَّ جميع التصوُّرات المُستخدَمة لتمييز السلوك الإنساني هي نتاج أو جوانب مختلفة للنشاط الرمزي: الثقافة أو الحضارة، الإدراك الحسِّي الخالق كمُقابل للإدراك السلبي (مري، أولبورت)، مَوضَعة الأشياء الخارجية والذات أيضًا، التأمُّل الذاتي، الطَّور التجريدي كمُقابل للطَّور العياني، امتلاك ماضٍ ومُستقبل، الارتباط بالزمن، توقُّع المستقبل، الغرضيَّة الحقيقية (الأرسطية)، القصد بوصفِه تخطيطًا واعيًا، إرادة المعنى، الخوف من الموت، الانتحار، الشغَف بوصفه انخراطًا في نشاط ثقافي مُشبع في ذاته، التكريس المثالي لقضية (ربما ميئوس منها)، الاستشهاد، تجاوز الذات، استقلال الذات، الضمير، الأنا الأعلى، القِيَم، الأخلاق، الصدق، الكذب. هذه صِيَغ أو جوانب شديدة التبايُن، إلا أنها تنبُت جميعًا من جِذر العوالم الرمزية الخلَّاقة، ومن ثَمَّ فهي لا تقبل الاختزال إلى دوافع بيولوجية أو إلى غرائز التحليل النفسي أو التدعيم أو إشباع الحاجات أو غير ذلك من العوامل البيولوجية، فالفارق الحاسم بين القِيَم البيولوجية والقِيَم الإنسانية المُميزة هو أنَّ الأولى مَعنية ببقاء الفرد والنوع والثانية مَعنيَّة دائمًا بعالمٍ رمزي.
وصفوة القول (وإن اختلفت الآراء في ذلك) أن المرض العقلي هو ظاهرة إنسانية على وجه الخصوص. صحيح أن الحيوانات قد تُبدي سلوكًا ينمُّ عن اضطرابات حرَكية وإدراكية ومِزاجية، غير أنها لا يُمكن أن تُصاب باضطراباتٍ في الوظائف الرمزية التي تُمثِّل مكونات أساسية للمرَض العقلي. لا يُمكن أن نجد عند الحيوان اضطرابًا في الأفكار أو ضلالات عظمة أو ضلالات اضطهاد؛ لسبب بسيط هو أن الحيوان لا يملك أفكارًا أصلًا حتى تضطرِب. كذلك لا يُمثِّل «عصاب الحيوانات» إلا نموذجًا حرفيًّا فحسب من هذا الكيان المرضي الإكلينيكي.
هذا هو السبب الجوهري الذي يجعل السلوك الإنساني والسيكولوجيا البشرية لا يقبلان الردَّ إلى تصوُّرات المذهب البيولوجي مثل التوازُن الحيوي وصراع الدوافع البيولوجية وقصور علاقة الأم والطفل … إلخ. وهذا هو السبب الذي يجعل المرض النفسي مُتوقِّفًا على الثقافة سواء من حيث أعراضه أو وبائياته. وحين نقول إن الطبَّ النفسي ذو إطار فيزيولوجي/نفسي/اجتماعي فإنما نُقدِّم صيغةً أخرى لنفس الحقيقة.
(٢) مفهوم الأنظمة في علم النفس المرضي
-
تفكك البنية التَّرابُطية (بلويلر)، تعاقُب التداعيات بلا ضابط: إنَّ الشِّعر والنثر الجديدين يَعجَّان بأمثلةٍ شبيهة للغاية.
-
الهلاوس السمعية: كانت هناك «أصوات» تدعو جان دارك لتحرير فرنسا.
-
الإحساسات الخارِقة: كانت واحدة من المُتصوِّفة العظام مثل القديسة تريزا تتحدَّث عن خِبرة شبيهة بذلك.
-
البناءات الخيالية للعالم: لعلَّ البناءات العلمية الحديثة تفُوق في غرابتها أي بناءاتٍ فصامية. ولسنا هنا بصدَدِ اللعب على وَتَر «العبقرية والجنون»، بل نودُّ أن نُبيِّن أن الفيصل بين الصحة والمرض العقليين ليس في المعايير المُنفرِدة، بل في التكامُل والتساوق.
وتسري القاعدة نفسها على المستوى الرمزي. انظر مثلًا إلى تصوُّرات العِلم عن الأرض التي تسبح بسرعة مُذهلة في الفضاء، وعن الجسم الصُّلب الذي يتكوَّن في حقيقة الأمر من فضاءٍ خالٍ مُوشًّى ببقعٍ دقيقة من الطاقة على مسافاتٍ كوكبية. إنها تصوُّرات تُناقِض كلَّ الخبرات اليومية وتُناقِض الحسَّ المُشترك، وهي أغرب من عوالم الفصاميين، إلَّا أنَّ هذه الأفكار العلمية قد اتَّفق لها أن تكون «حقًّا»؛ أي أنها تنسجِم في مخطط مُتكامِل مُتماسِك.
(٣) بعض المسائل الطبُّنفسية المُتَّصِلة بنظرية الأنظمة
-
تُعدُّ دراسة النفس البشرية في كُلِّيتها (بوصفها كُلًّا) هي في صميمها مدخل أنظمة. وعلى النقيض من النظريات السلوكية والفرويدية تُعدُّ فكرة أريتي Arieti عن «أنماط» المعرفة cognition أو بالأحرى مستويات المعرفة [المستوى الأولي عند الطفل والبدائي والفصامي، والمستوى الثانوي في التفكير التصوري، والمستوى الثُّلاثي في العمليات الإبداعية] هي محاولة رائدة نحو بناء تصوري لجُماع النفس الإنسانية. ونحن نرى أنَّ محاولته الدءوب لإدخال «المعرفة» cognition إلى الطب النفسي (وهي التي يُنعى على التحليل النفسي الكلاسيكي إهمالُه التامُّ لها) تتطابَق مع ما قُلناه هنا تحت عنوان الأنشطة الرمزية. وقد أرفقنا بهذه المسألة تَصوُّراتنا المُتاحة عن تطوُّر المخِّ بقدر ما يتَّسِع المقام. ولعلَّ المهمَّة التي تقع على عاتقنا فيما بعد هي أن نُؤسِّس تشاكُلًا ما بين الجوانب النيوروفسيولوجية والجوانب العقلية بواسطة نظرية أنظمة مُحايدة سيكوفيزيقيًّا.
-
ما تزال مشكلة مرَض الفصام عصِيَّة على الحل. ولعلَّ ضخامة التُّراث العِلمي المكتوب حول الفصام هي انعكاس لحالة الخلط وعدَم الاهتداء. ويتَّفِق بعض الباحثين مثل جرينكر Grinker وأريتي Arieti على أنَّ المدخل إلى مشكلة الفصام ينبغي ألَّا يكون أحاديَّ السبب (كاضطراب كيميائي مثلًا، أو كاضطراب إما جيني وإما بيئي، أو كنتيجة لديناميات نفسية من قبيل الرسالة المزدوجة … إلخ) بل يجِب أن يكون مدخل أنظمة يأخُذ بالاعتبار كثيرًا من المُستويات والعوامل المُتفاعلة.
-
يترتَّب على ما قُلناه آنِفًا أنَّ نظرية التعلُّم في صورتها التقليدية، أي القائمة على التشريط الكلاسيكي أو الإجرائي (التدعيم الإيجابي والسلبي) تحتاج إلى إعادة نظر؛ فهي لا تُفسِّر سلوك الحيوان في الحالة البرية حيث يتمُّ تعلُّم السلوك التكيُّفي بدون تدعيم إيجابي وبدون تكرار كثير. وهي تُفسِّر بعض جوانب التعلُّم الإنساني ولكنها تفشل في تفسير التعلُّم بالاستِبصار أو بالنفاذ إلى المعنى. ولا تُوجَد نظرية في الوقت الحالي تضطلع بتفسير جميع جوانب التعلم، غير أنَّ الحاجة مُلحَّة لمثل هذه النظرية، ليس من أجل السيكولوجيا النظرية فحسب بل من أجل الطب النفسي أيضًا، بعد أن تبيَّن دور عمليات التعلم في نشأة العصاب والذهان، وبعد أن تبين دور العلاج السلوكي وتبيَّنت حدوده أيضًا.
-
يبدو مدخل الأنظمة مُثمرًا بشكلٍ خاص في العلاج الجمعي والأُسري وفي طبِّ نفس المجتمع، حيث تمَّ استخدامه على نطاق واسع.
-
يدخل منهج الأنظمة بشكلٍ ضِمني في شطرٍ كبير من المُمارسة الطبِّنفسية. غير أن المبدأين الأساسيين التاليين يُشكِّلان توجُّهًا جديدًا:
-
(١)
أن المرض النفسي (وكذلك العلاج) ليس شيئًا أحاديَّ السبب، بل هو شيء قِوامه عملياتٌ تجري في «كل» ذي أنظمة مُتعدَّدة مُتفاعلة شديدة التعقيد.
-
(٢)
هذا الكل أو النظام ليس سلبيًّا أو شبيهًا بالروبوت، وليس آلةً مُعتمدة على البيئة تعمل بآلية «المؤثر-الاستجابة»، بل هو نظام نشط إيجابي ينبغي أن تُوظَّف إمكاناته وطاقاته في الحياة السوية وفي العملية العلاجية.
هذان المبدآن يُشكِّلان كما قُلنا توجُّهًا جديدًا في الطبِّ النفسي أخَذَ يتَّبِعه الكثير من المُمارسين ويجدون في نظرية الأنظمة إطارًا نظريًّا لعملهم.
-
(١)
-
فيما سبق أيضًا نجِد إجابة جُزئية عن مُركَّبٍ من الأسئلة التي تُهدِّد وجود الطب النفسي ذاته كتخصُّص طبي، والتي أوجَزَها كتاب زاز Szasz «خرافة المرض العقلي». إن من الواضح أنَّ المرض النفسي والطب النفسي يتجاوزان العلم التقليدي والنموذج الطبي تجاوزًا كبيرًا؛ ذلك أنهما يقَعان على المستوى الرمزي، ذلك المستوى الذي لا يملك العلم الفيزيائي النزعة أن يُخبرنا عنه خبرًا أو يأتينا بنبأ.٢٥
-
ربما يُقيَّض لنظرية الأنظمة أن تضطلع بدور توحيدي في علم النفس. من الانتقادات الكبيرة التي تُوجَّه إلى علم النفس (وإلى الطب النفسي ضمنًا) أنه يفتقر إلى النموِّ المُتَّسِق والطبيعة التراكُمية التي تُميِّز العلم، فمن خصائص العلم المشروع أنَّ نتائجه (الإمبيريقية والنظرية) ما أن تتأسَّس حتى تبقى وتتراكَم في تطوُّر مُستمر. وما يزال جاليليو ومِندل حُجَّتَين في مجالهما لا يُشَقُّ لهما غبار، مهما تخطَّتهما ميكانيكا الكوانتم والوراثة الجزيئية. أما علم النفس فهو حلبة للتقاليع الزائلة والصيحات المُتبدِّلة والمدارس المُتصارعة والنظريات التي لا تُقنِع غير مُؤلِّفيها وتلاميذهم.
(٤) مبادئ برتالانفي الخمسة٢٧
-
(١)
مدخل الأنظمة مدخلٌ عضويٌّ غير ردِّي (خفضي) يؤكد على الكلِّ العضوي وقابليته للدراسة العلمية، في مُقابل المدخل التَّجزيئي التَّجميعي.
-
(٢)
التوكيد على الكائن الفاعل الإيجابي النشِط كمُقابل للكائن المُنفعل أو الروبوت أو نموذج المُثير-الاستجابة.
-
(٣)
التوكيد على خصوصية السيكولوجية البشرية (مُقارنة بسيكولوجية الحيوان) وعلى السلوك المُندرج تحت بند «الأنشطة الرمزية».
-
(٤)
مبدأ anamorphosis أي الميل نحو التنظيم الأعلى (كمُقابل لمبدأ المَيل الإنتروبي، أي الميل نحو مزيدٍ من الاضطراب، في العمليات الفيزيائية المُعتادة) والذي تُتيحه طبيعة النظام المفتوح للكائن العضوي الحي، ويتجلَّى في الإبداع ومظاهره المُتعددة، بدءًا من التطوُّر في جوانبه غير النفعية، مرورًا بسلوك اللَّعِب والأنشطة الاستكشافية، وصولًا إلى ذروة الإبداع البشري والثقافي.
-
(٥)
(مُترتِّب على السابق) إدخال القِيَم المقصورة على الإنسان والقِيَم فوق-البيولوجية إلى داخل النظرية العلمية للعالم.
ختام
ثمة علاقةٌ عكسيةٌ بين اتِّساع المُشكلة ودقَّة الصياغة، وكذلك الأمر بالنسبة للأجوبة، فمن اليسير الهين أن نُقدِّم إجاباتٍ عن مسائل نظرية التحكم أو الفيزياء الحيوية مصوغةٌ بِلُغةٍ تكنيكية رياضية، بينما تندُّ الهموم البشرية عن الصياغة بغَير لغة الحياة اليومية. غير أن من الخطأ أن نتغافَلَ عن الخصائص والمبادئ الأساسية للأنظمة إذ تُعرَض بطرقٍ غير رسمية. بهذا المعنى يكون التصوُّر العريض لنظرية الأنظمة «الإنسانية» في نظرنا هو تصوُّر لا غنى عنه من أجل الوصول إلى فهْمٍ للإنسان وللحالة الإنسانية أوسع من أيِّ فهمٍ آخر أسهمَتْ به المناهج السابقة.