ألوان من النسبية
إنَّ التنوُّع الثقافي والتاريخي الذي يزداد جلاءً يومًا بعد يومٍ ليفتح أعيُننا على أساليب في الفكر والفعل مُختلفةٍ عن أساليبنا اختلافًا مُهمًّا، وأحيانًا مُقلقًا: من الحق إذن أنَّنا لو كُنَّا نشأنا في زمنٍ ومكانٍ مُختلفَين اختلافًا بعيدًا لانتهَيْنا إلى أساليب جد مُختلفة من الفكر ومعايير التقييم والحدْس بما هو واضح.
***
(١) النسبية الأخلاقية
كانت قبائل بأكملها من هنود أمريكا الجنوبية تُعاني من حالةٍ مرضيةٍ تنجُم عنها بُقَع بالجلد. تفشَّت هذه البُقَع بحيث غدت موضع إجلالٍ من المُصابين بها، واستَشرَتْ بحيث كان الذين لا يُعانون منها يُنفَون من القبيلة!
لا تُوجَد أرضيةٌ مشتركةٌ بين هؤلاء الذين يعتقدون هذا وأولئك الذين لا يعتقدون، بل إنهم من منظور آرائهم لا بدَّ بالضرورة أن يزدري كلُّ فريق منهما الآخر.
(١-١) جراهام سمْنَر: الأخلاق نسبية
الطرق الشعبية: تعريفها ومنشؤها
عندما نضمُّ معًا كلَّ ما تعلمناه من الأنثروبولوجيا والإثنوغرافيا عن الإنسان والمُجتمع البدائيين، يتكشَّف لنا أن المهمة الأولى في الحياة هي «البقاء»؛ «العيش». في البدء كانت الأفعال لا الأفكار، فكلُّ لحظة من اللحظات كانت تجلُب من الضروريات ما لا بدَّ من إشباعه على الفور. في البدء كانت الحاجة، وجاءت في إثرها مُحاولةٌ متعثرةٌ مُتخبِّطة لإشباعها.
المنشأ اللاشعوري للطُّرق الشعبية
الطرق الشعبية إذن لا يبتكِرها البشر عن عمدٍ أو تفطُّن. إنها أشبَهُ بنواتج قوى الطبيعة التي يُديرها الإنسان عن غير وعي، أو هي أشبَهُ بالطرق الغريزية للحيوان؛ إذ تنجُم من الخبرة وتصِل إلى شكلٍ نهائي يُحقِّق أقصى تكيُّفٍ بإزاء غرضٍ ما، وتصير تقليدًا ينتقل من جيلٍ إلى جيل ولا يقبل استثناءً أو شذوذًا. غير أنها يُمكن أن تتغيَّر لتُوافِق ظروفًا جديدة ولكن تغيُّرها يتمُّ في حدود الطرق نفسها ودون تفكُّرٍ أو قصدٍ عقلي.
الطُّرق الشعبية الناتجة عن الاستدلال الخاطئ
-
من ذلك أنَّ وَباء الطاعون لمَّا تفشَّى في مولمبو Molembo عقِب وفاة أحد البُرتغاليين، اتَّخَذ الأهالي كلَّ الاحتياطات المُمكنة لكيلا يموت رجلٌ أبيض بعد ذلك في بلدهم. ومن ذلك ما حدث في جزر نيكوبار Nicobar على أثر وفاة بعضٍ من السُّكَّان الأصليين كانوا قد بدءوا لتَوِّهم في مُزاولة حرفة الخزَف، إذ انفضَّ الجميع عن مُزاولة هذا الفن ولم يقْرَبه أحدٌ بعد ذلك على الإطلاق.
-
ومن ذلك ما حدَث في إحدى قُرى جنوب أفريقيا حين أهدى البِيض رجلًا من البُوشمَن عصًا مُرصَّعةً بالأزرار كرمزٍ للسيادة، إذ تُوفِّي الرجل وخلَّف العصا لابنه، وسرعان ما تُوفِّي الابن، فأعاد البوشمَن العصا إلى من أهداها خشية أن يموت الجميع.
-
وحتى عهدٍ قريب لم يكن يُسمح بإقامة مبنًى بموادَّ غير قابلةٍ للاشتعال في أيِّ مدينة كُبرى داخل المنطقة الوسطى من مدغشقر، وذلك بناء على اعتقاد اعتِسافي قديم.
-
وقد تصادَفَ مرَّة أن انتشر الجُدَري بين شعب الياكات Yakats بعد أن شهدوا جَمَلًا لأول مرة، فوقَرَ في ظنِّهم أن الجَمَل هو الذي أحدَث المرض. تَصادَفَ كذلك أن امرأةً من هذا الشعب نفسه قد تزوَّجَت رجُلًا من ذويها الأقربين ثم أصيبتْ عقِبَ ذلك بالعمى، فعُزِي ذلك إلى انتهاكها للتقاليد القديمة التي تُحرِّم زواج الأقارب.
الطُّرق الشعبية الضارَّة
من الطُّرق الشعبية ما هو ذو ضرَرٍ مُحقَّق. وغالبًا ما تكون هذه بالتحديد هي الطُّرق التي تُقدَّم لها مُبرراتٌ صريحة، فتحطيم مُمتلكات الشخص عند وفاته هو استنتاجٌ يلزم بالضرورة عن مفهوم العالَم الآخر؛ إذ من المُفترَض أن يحتاج الميِّت في العالَم الآخر إلى نفس الأشياء التي احتاج إليها في هذا العالم!
لقد كان في تحطيم مُمتلكات الميِّت إهدارٌ كبيرٌ للثروة. ومن المُحقَّق أنه كان وبالًا على الحيِّ وأنه قد أعاق نموَّ الحضارة بدرجةٍ خطيرة. ولنا أن نُدرِج مع هذه العادة كلَّ إهدارٍ للمال والجهد في بناء المقابر والمعابد والأهرام والشعائر والأضحيات ودعْم الكهنة، ما دامت كلها عادات كانت تهدُف إلى مصلحة الموتى. وقد أفضتْ هذه الخُزعْبلات إلى طُغيان بعض المصالح الأُخروية المزعومة على المصالح الدنيوية، فكثيرًا ما كانت تُحرَّم أطعمةٌ مُتوافرة في البيئة بكثرة ويبقى دونها الناس في شظفٍ وجوع. من أمثلة ذلك تلك القبيلة من قبائل البوشمن التي تمتنِع عن أكلِ لحْم الماعز رغم أنَّ الماعِز هي أكثر الحيوانات الأليفة وفرةً في المنطقة. وأيًّا ما كان المَغْزى الحقيقي للطوطمية فهي قد فوَّتَت على أهلها خيرًا كثيرًا في غذاء موفور.
ومن يُردِ البحث عن أصل التقديس الذي يُسبَغ على البقَر، يلتَمِسه في طبيعة الحياة البدوية البدائية للعنصر الهندوأوروبي؛ لأنه استشرى عند الإيرانيِّين والهنود في هندوستان. أما الليبيون فقد كانوا يأكلون لحم الثيران دون البقر. كذلك الحال بالنِّسبة للفينقيين والمصريين.
كيف يُكتشَف «الحق» و«الصواب»
عندما يُقرِّب إنسان بدائي يدَه من النار يشعُر بالألم ويَسحَبُها. إنه لا يعلم شيئًا عن قوانين الإشعاع الحراري، غير أنَّ هذا الفعل الغرزي يتَّفِق مع تلك القوانين كما لو أنه يعلمها. وإذا أراد البدائي أن يقبض على حيوانٍ ليأكله فلا بدَّ له من أن يدرُس عادات هذا الحيوان ويُدبِّر طريقة تُلائم تلك العادات، فإذا فشل فإن عليه أن يُعيد المُحاولة، إلى أن «تصدق» مُلاحظاته و«تصيب» طريقته. من الواضح أن العنصر العقلي الصميم كان يُعزى في الأغلب إلى تعاليم إلهٍ أو بطلٍ قومي.
الطُّرق الشعبية، والصواب، والأخلاق
الطرق الشعبية هي الطُّرق «الصحيحة» و«الصائبة» في تصريف الأمور؛ لأنها تقليدية وتُقيم في الواقع الحي، إنها تمتدُّ لتشمل الحياة بأكملها. ثمَّةَ طريقة صحيحة للتصرُّف اللائق، وطريقة صحيحة للظَّفَر بزوجة، وللتعبير عن النفس، وعلاج المرض، وتكريم الأرواح، ومُعاملة الرفاق أو الغرباء، والتصرُّف عند ميلاد طفل، وعند التهيُّؤ للحرب، وفي المجالس. وهكذا في جميع الظروف التي يُمكن أن تَعِن.
فلسفة العالم، وسياسة الحياة، والصواب، والحقوق، والأخلاقية؛ كلُّ أولئك نتاجٌ للطرق الشعبية. إنها تأمُّلات في، وتعميمات من؛ خبرة اللَّذَّة والألم المُحصَّلة في مُعترك الصراع من أجل البقاء تحت الظروف الحياتية الحقيقية. تكون هذه التعميمات شديدة الفجاجة والغموض في بواكيرها الأولى. إنها جميعًا مُتجسِّدة في التراث الشعبي، وعنها نشأ كلُّ ما لدَينا من فلسفة وعلم.
مركزية العرق (المركزية الإثنية) Ethnocentrism
هي النظر إلى الأشياء على أنَّ جماعتنا هي محور كلِّ شيء والإطار المَرجعي الذي يُقاس عليه كلُّ شيء آخر وتُقيَّم به كل الجماعات الأخرى: جماعتنا هي الصواب وغيرها الخطأ، هي الحقُّ وغيرها الباطل.
وأهم الحقائق التي تَعنينا في غرَضِنا الحالي هي أنَّ مركزية العِرق تحمِل كلَّ شعبٍ على أن يغلوَ ويتشدَّد في أيَّةِ عناصر يجدها خاصَّة به وحدَه ومُميِّزة له عن الآخرين. مركزية العِرق إذن تُعزِّز الطُّرق الشعبية وتُقوِّيها.
أمثلة لمركزية العِرق
-
كان شعب المبايا Mbayas في أمريكا الجنوبية يعتقدون أن إلههم قد أمرَهم بأن يعيشوا على شنِّ الحرب على الآخرين وسلب زوجاتهم ومُمتلكاتهم وقتْل رجالهم.
-
عندما سئل الكاريبيون Caribs من أين جاءوا أجابوا: «نحن وحْدَنا الناس»، وتعني لفظة «كيووا» Kiowa عندهم «الشعب الحقيقي أو الرئيسي».
-
ويُطلِق التونجوسيون Tunguses على أنفسهم اسم «الناس» (وقد وُجد، كقاعدة عامة، أنَّ الشعوب البدائية تُسمِّي نفسها «الناس»، فالآخرون هم شيء آخر، ربما غير مُحدَّد، إلَّا أنهم ليسوا بشرًا حقيقيين!) وفي أساطيرهم أن أصل قبيلتهم هو أصل الجنس البشري الحقيقي، وهم لا يتحدَّثون عن منشأ الآخرين.
-
ويشتقُّ شعب الأينو Ainos اسمهم من اسم الرجل الأول، الذي يعبدونه كإله. ويبدو أن اسم الإله هو دائمًا مُشتقٌّ من اسم القبيلة، فإذا كان لاسم القبيلة معنًى آخر فإنه دائمًا معنى يُفيد الفخر والتمجيد، فكلمة «أوفامبو» ovambo مثلًا هي تحريف لاسم القبيلة عندهم، وهو يعني «الغَني».
-
ويُعدُّ شعب السيري Seri في جنوب كاليفورنيا من أشدِّ شعوب العالم عُنصريةً وأمعَنِها مركزيةٌ عرقية، فهم ينظرون إلى الشعوب الأخرى بعين الشكِّ والعداء، ويُحرِّمون الزواج من أي شعب خارجي تحريمًا قاطعًا.
-
قسَّم اليهود الجنس البشري كله إلى يهود وغير يهود (أُمَمِيِّين Gentile). واعتبروا أنفسهم «الشعب المُختار».
-
كان اليونان والرومان يُطلقون على كلِّ من عداهم «البرابرة». وفي مسرحية يوربيدس التراجيدية «إفيجينيا في أوليس» تقول إيفيجينيا إنما يليق باليونان أن يحكموا البرابرة وليس العكس؛ لأنَّ اليونانيين أحرار والبرابرة عبيد.
-
كان العرب يَعدُّون أنفسهم أكرم الأُمَم ويَعدُّون الأمم الأخرى جميعًا برابرة أو أقرَبَ إلى البربرية.
-
في عام ١٨٩٦م أصدر وزير التعليم الصيني ومُستشاروه كتيبًا وردت فيه هذه العبارة «ما أعظم إمبراطورية الصين وأمجدها، إنها أكبر وأغنى إمبراطورية في العالم، وإنَّ أعظم الرجال في العالم ينتسِبون جميعًا إلى الإمبراطورية الوسطى.» والحقُّ أنه في أدبيَّات جميع الدول ترِدُ عباراتٌ مُعادلة لهذه العبارة، وإن لم تكن مَصوغةً بهذه السذاجة والبدائية. ففي الكُتب والصحف الرُّوسية يتحدَّثون عن رسالة التمدين التي تضطلع بها هذه البلاد ويُشيرون إليها كأمرٍ مفهوم جدًّا. هكذا نرى أنَّ كلَّ أمةٍ تَعدُّ نفسها رائدة الحضارة، وتَعتبِر نفسها الأمة الأفضل والأكثر حُريَّة وحكمة، وتعتبر الأمم الأخرى جميعًا أدنى مستوى، بل إن العائشين بين ظهرانينا في العصر الحجري قد تعلَّموا خلال بضعة أعوام أن يُصنِّفوا جميع الأجانب من الشعوب اللاتينية على أنهم dagos، وصارت كلمة dago من نعوت الازدراء. كلُّ أولئك تَجليَّات للعنصرية وحالات من «مركزية العِرق» ethnocentrism.٩
الأعراف Mores
الفلسفة إذن ليست مصدر الأخلاق، بل مصدر الأخلاق هو التاريخ والتجربة الجماعية، بل إنَّ الفلسفة ذاتها وعِلم الأخلاق نفسه ناجِمان عن التجربة، أو الفلسفة هي التي حدَّدت معنى الأخلاق ونظَّمَتْها وبَلْوَرَتْها عقليًّا.
الأعراف والمؤسَّسات
المؤسَّسات والقوانين أيضًا تصدُر عن الأعراف. تتكوَّن المؤسَّسة من مفهوم (فكرة، مذهب، مصلحة) وبنية. والبنية هي إطار أو جهاز أو ربما مجرَّد عدد من الموظفين يأخذون في التعاون بطرائق محسوبة في مرحلة مُعيَّنة. ومن شأن البنية أن تُمسك هذا المفهوم وتقدِّم الهيكل الفعَّال أو الآلية الكفيلة بطرحه في عالَم الوقائع والفعل بطريقة تخدُم مصالح الناس في المجتمع. ثمة مؤسَّسات كالملكية والزواج والدين تنبثِق مُباشرة من الأعراف، وتنتَج بنفس الجهود الغريزية التي تُنتِج العرف، ثم تتبلوَر هذه الجهود وتتحدَّد من خلال التكرار المُستمرِّ والاستخدام الطويل. وهناك مُؤسَّسات مُحدَثة أو موضوعة، مثل البنوك، وهي نتاج القصد والابتكار العقلاني. تنشأ جميع المؤسَّسات عن العُرف رغم أنَّ العنصر العقلي فيها يكون كبيرًا في بعض الأحيان بحيث يُخفي أصلها العُرفي.
القوانين
كيف تختلف القوانين والمؤسَّسات عن الأعراف
عندما تُصبح الطُّرق الشعبية مُؤسَّساتٍ أو قوانين تكون قد غيَّرَت طابعها ووجَب تمييزها عن الأعراف. إن العنصر العاطفي والإيماني باطنٌ في صميم العُرف بينما تتحلَّى القوانين والمؤسَّسات بطابعٍ عقلاني وعملي تتَّسِم بدرجةٍ أكبر من الآلية والنفعية. أما الفارق الكبير فهو أن للمؤسَّسات والقوانين طابعًا وضعيًّا بينما الأعراف هي شيء غير مصوغ وغير معرَّف. ثمَّة فلسفةٌ مُضمَرة في الطُّرق الشعبية، وعندما يصرَّح بها تُصبِح فلسفة بالمعنى التقني.
حين يتصرَّف المرء وفقًا للقوانين والمؤسَّسات يكون فعله واعيًا إراديًّا، أما الطرق الشعبية فيتَّبِعها الناس دائمًا عن وعيٍ وغير إرادة، فللطُّرق الشعبية سِمةُ الضرورة الطبيعية. قد يُعكِّر التأمُّل والشكُّ البحثي صفوَ هذه العلاقة التلقائية، وتحلُّ القوانين بوصفها أحكامًا وضعية محلَّ العُرف والتقليد، غير أنَّ العُرف سرعان ما ينشَط وينهض بعمله حيثما فشِلت القوانين والمحاكم. إن الأعراف تُغطِّي النطاق العريض للحياة العامة حيث لا قوانين ولا أحكام شرطة، وتبسط سُلطانها على مجالٍ هائل وغير مُحدَّد، وتقتحم مجالاتٍ جديدة لم تتحدَّد ضوابطها بعد. يتبيَّن من ذلك أن العُرف ينشئ قوانين جديدة ولوائح بوليسية في الأوان المناسب.
تصلُّب الأعراف وقصورها الذاتي
هكذا ينبغي أن نتصوَّر الأعراف على أنها نسَقٌ عريض من الأحكام التي تشمل الحياة كلها وتخدُم مصالحها جميعًا، وتحمل في ذاتها مُبرِّراتها عن طريق التقليد الموروث والاستخدام والعادة، ويُسلِّم الناس بها خضوعًا لسطوةٍ سرية باطنة إلى أن تُؤسَّس، عن طريق التأمل العقلي، تعميماتها الفلسفية والأخلاقية الخاصَّة، والتي تَرقى عندئذٍ لتُصبِح «مبادئ» الحق والصواب.
تُسيطر الأعراف على كلِّ جيلٍ ناشئ وتُخضعه لسُلطانها، والأعراف لا تُحفِّز الفكر بل تُثبِّطه. فالتفكير قد تَمَّ وقُضِي أمرُه وتجسَّد في الأعراف، ولا تحمِل الأعراف على الإطلاق أيَّ احتمالات بمُراجعتها وتعديلها؛ فالأعراف ليست أسئلةً بل أجوبة، أجوبة عن مسائل الحياة، وهي تقدم نفسها كشيءٍ نهائي وغير قابلٍ للتغيير؛ لأنها تُمثِّل أجوبةً مُقدَّمة بوصفها «الحقيقة».
ليس بوُسع أيَّةِ فلسفةٍ شعبية أن تُقدِّم نفسها كشيءٍ مرحليٍّ وغير مُكتمِل وقابلٍ للدَّحْض غدًا مع نموِّ المعرفة؛ فهذا التوجُّه الفلسفي حديثٌ للغاية، ذلك أنه يُكلِّف المرء عَنَتًا ذِهنيًّا شديدًا. إن جميع الشعوب التي نرى أعرافَها أدنى مُستوًى من أعرافنا هي على قناعةٍ تامَّة بما لدَيها من أعرافٍ مِثلما نحن على قناعةٍ بما لدَينا. فالأعراف إنما تُقيَّم بمدى تجاوُبها مع ظروف الحياة ومصالحها في زمانٍ ومكانٍ مُعيَّنَين، ومن ثمَّ فمن الصلاح والتيسير ألا يُوليها أحدٌ تفكيرًا أو تأمُّلًا بل يتعاون الجميع في تنفيذها غريزيًّا.
وتُقدِّم لنا شعوب جنوب شرق آسيا مثالًا واضحًا لثَبات الأعراف وتصلُّبها؛ فالخوف من الأشباح وعبادة السَّلَف هناك تضمَن للعُرف الاستمرار والبقاء عن طريق السلطة الدوجماوية والتحريم القاطع والعقوبات الثقيلة. هنالك تفقِد الأعراف طبيعتها وحيوِيَّتها وتُصبح قوالب مَكرورة لا صِلة لها بالنفع والمُلاءمة ومُقتضى الحال. تُصبِح غايةً في ذاتها، تفرِضها السلطة الآمِرة، دون اعتبارٍ للمصالح والظروف (الطبقات، زواج الأطفال، حرق الأرامل …) حين يسقط أي مجتمع تحت هيمنة هذا المرض العُرفي يُصبح التعليم كلُّه حفظًا لأقوال حُكماء الماضي الذين وضعوا صياغات الأعراف. تُصبح هذه الكلمات «كتابات مُقدَّسة» كلُّ عبارة منها هي قاعدة سلوك يجِب أن تُطاع، بصرف النظر عن المصالح الحاضرة، وبصرف النظر عن أيِّ اعتباراتٍ عقلانية.
الأعراف والأخلاق – الدستور الاجتماعي
تُقدِّم الأعراف لكلِّ شخصٍ تصوُّرًا عما ينبغي أن يكون، وتُقدِّم تصوُّرًا عمَّا تكونه اللياقة والرِّقَّة والإحسان والأدب والنظام والواجب والصَّواب والحقوق والنظام والاحترام والتوقير والتعاون والزَّمالة، وتُقدِّم تصوُّرًا عمَّا يكونه الخير والشر. وبوُسع الأعراف أن تجعَل أشياء مُعيَّنةٌ تبدو صوابًا وخيرًا لجماعةٍ مُعيَّنة وعصرٍ مُعيَّن، وأن تجعل هذه الأشياء نفسها لجماعةٍ أخرى وعصرٍ آخر تبدو مُضادَّةٌ لكلِّ طبيعةٍ إنسانيةٍ وكلِّ غريزة بشرية. انظُر إلى القرن الثالث عشر كيف ربَّى في كلِّ قلبٍ شُعورًا تجاه الهراطقة جعل أعضاء محاكم التفتيش يُبْدون في دعاواهم القضائية ارتيابًا لا يقلُّ عن ارتِياب أهل زمانِنا إذا ما عمدوا إلى إبادة الحياة ذات الجرس. كذلك كان القرن السادس عشر يُثير حول السَّحرة من الانطباعات ما جعل مُضطهِدي السحرة يعتقدون أنهم يَشنُّون حربًا مُقدَّسة ضِدَّ أعداء الله والبشر.
قد ترِدُ على المجتمع عناصر جديدة ومُستحدَثات يأتي بها العِلم والفن في فتوحهما الجديدة في الطبيعة. هنالك تتبدَّل الأعراف بأن تُكيِّف نفسها للظروف والمصالح الجديدة. عندئذٍ يأتي دَور الفلسفة وعلم الأخلاق لكي يُسوِّغا التغيُّرات التي جرَتْ في الأعراف ويُقدِّما تبريرًا عقليًّا لها، ولكي يزعما أيضًا، في كثيرٍ من الأحيان، أنهما هما اللذان اجترَحا هذا التغيير. إنَّ الفلسفة وعِلم الأخلاق لا يفعلان أكثر من أن يَمُدَّا خطوطًا جديدة من العلاقات بين عناصر العُرف وبين الأُفق الفكري الذي ينغمِسان فيه، والذي هو مُستنبَط من العُرف. قد يتَّسِع هذا الأفق الفكري بالمعارف الجديدة، غير أنه في نهاية المطاف تعميم من العُرف شأنه شأن أيِّ أفق فكري في أي عصر آخر. وهو دائمًا شيءٌ غير واقعي بل إفراز للفكر لا أكثر. إن فلاسفة الأخلاق يتخيَّرون نقاطًا على هذا الأفق ينطلِقون منها، ويظنُّون أنهم قد ظفِروا بسُلطة مُعيَّنة لأنساقهم الفلسفية، بينما هم يعودون القهقرى من التعميم إلى العادة المُعيَّنة التي استُنبِط منها التعميم. ولنا في محاكم التفتيش ومُضطهِدي السحرة، الذين بذلوا جُهدًا مُخلصًا دءوبًا لتحقيق غاياتهم المُختارة دون انتظار ثمن، مثالٌ يُبيِّن لنا الصِّلة بين الأعراف من جهةٍ وبين الفلسفة والأخلاق والدين من جهةٍ أخرى.
الشرف، اللياقة، الحسُّ المُشترَك، الضمير
ومعايير الشرف واللياقة والحس المشترك والضمير، كلها مُستمدة من العرف، وكلها تجلِّيات أخرى للطُّرق الشعبية. وأية أفكار عن حقائق أزلية للفلسفة والأخلاق مُستمدة من أي مصدرٍ خارج عن البشر وعن صراعاتهم من أجل العيش الرَّخي تحت شروط الأرض وظروفها، يجِب أن تُرفَض باعتبارها أساطير وخرافات.
(١-٢) ولتر. ت. ستيس: الأخلاق ليست نسبية
اليمين واليسار الأخلاقيان
المذهب المُطلق في الأخلاق Ethical Absolutism
يرى أصحاب النزعة المُطلقة أن هناك شريعةٌ أخلاقية واحدة فقط هي الصحيحة والصادقة بصفةٍ أبدية. هذه الشريعة الأخلاقية تنطبق على جميع البشر بمُساواة صارمة؛ فما يُعدُّ واجبًا بالنسبة لي يجِب أن يكون أيضًا واجبًا بالنسبة لك، وسيصدُق هذا سواء كنتَ إنجليزيًّا أم صينيًّا أم من شعب الهوتنتوت. فإذا كانت عادة أكل لحوم البشر شيئًا بغيضًا في إنجلترا أو أمريكا، فهي شيء بغيض أيضًا في أفريقيا الوسطى حتى لو رأى الأفريقي غير ذلك. فإذا كان الأفريقي لا يرى بأسًا بمُمارساته الكانيبالية فإن هذه الحقيقة لن تجعل هذه المُمارسات صائبة بالنسبة له. إنها مُنافية للأخلاق بالنسبة له بقدْر ما هي مُنافية للأخلاق بالنسبة لنا. لا فرق هناك إلَّا أنه همَجي جاهل لا «يعرف» هذه الحقيقة. ليس هناك قانون يخصُّ إنسانًا أو عنصرًا من البشر وقانون يخصُّ إنسانًا آخر أو عنصرًا آخر. وليس هناك معيار أخلاقي للأوروبيين وآخر للهنود وثالث للصينيين، بل هناك قانون واحد وأخلاق واحدة لجميع البشر، وهذا المعيار أو القانون هو مُطلق لا يتبدَّل.
وكما أنَّ القانون الأخلاقي الواحد يبسط سُلطانه على جميع أرجاء الأرض، فإنَّ تطبيقه أيضًا لا تَحدُّه أية اعتبارات تتعلَّق بالزمان أو الحقبة الزمنية، فما هو صواب اليوم كان صوابًا في أزمنة اليونان وروما، بل في أزمنة إنسان الكهف ذاتها، وما هو شر اليوم كان شرًّا آنذاك. وإذا كان الرقُّ شيئًا مَقيتًا أخلاقيًّا في زمَنِنا هذا فلقد كان مقيتًا في زمن الأثينيين القدامى، لا ينقص من مقتِهِ أن عُظماءهم كانوا يقبلونه كوضعٍ ضروري للمجتمع الإنساني. وما كان رأيهم ليجعلَ من الرقِّ خيرًا أخلاقيًّا بالنسبة لهم، إنما يكشف فحسب عن أنهم، برغم سموِّ تَصوُّراتهم فيما عدا ذلك من شئون، كانوا يجهلون ما هو صواب وخير في هذا الشأن.
وصاحِب المذهب المُطلق في الأخلاق ليس مُلتزمًا في حقيقة الأمر بالرأي القائل بأن دستوره الأخلاقي، أو دستورنا، هو الدستور الحق. إن له، من الوجهة النظرية على أقلِّ تقدير، أنْ يَعُدَّ الرق أمرًا مُبررًا أخلاقيًّا، وأن يذهب إلى أنَّ الإغريق كانوا يعرفون عن هذا الأمر أكثر مِمَّا نعرف. وكلُّ ما عليه أن يلتزِم به حقًّا هو الرأي القائل بأنه أيًّا ما كان الدستور الأخلاقي فإنه دائمًا نفس الدستور، لجميع البشر، في جميع الأزمنة. ولن ينال من اتِّساق مذهبه أن يعتقد أن الإنسانية ما يزال أمامها الكثير لكي تتعلَّمه في المسائل الأخلاقية. وإذا عَنَّ لأحدٍ أن يقول بأن تَصوُّراتنا الأخلاقية سوف تبدو بعد خمسمائة عامٍ بربريةً بالنسبة لأهل ذلك الزمن المستقبلي بقدْر ما تبدو أخلاق العصور الوسطى بربريةً بالنسبة لنا اليوم، فلن يضيره هذا الرأي شيئًا ولن يَلزَمه إنكاره، لا ولن يَلزَمه الإنكار إذا ارتأى أحدٌ أن الأخلاق المسيحية ليست نهائية على الإطلاق وأنها سوف تنتهي في العصور القادمة وتحلُّ محلَّها مُثلٌ أخلاقية أكثر نُبلًا بكثير.
ذلك أن لُبَّ المذهب المُطلَق في الأخلاق هو أنَّ الأخلاقية شيء موضوعي وليس من صُنع الإنسان، وأن مبادئ الأخلاق حقائق واقعية يجِب على البشر أن يتعلَّموها (مِثلما أن عليهم أن يتعلَّموا الحقائق عن شكل العالم). وهم ربما كانوا على جهلٍ بها في الماضي، وليس ما يمنع من أن يكونوا على جهل بها الآن.
لذا فعلى الرغم من أن المذهب المُطلق مُحافظ بمعنى أن الشخصيات الأكثر جسارة تَعُدُّه مذهبًا عتيقَ الزي، فإنه ليس بالضرورة محافظًا بمعنى التشبُّث الأعمى بالأفكار والنُّظم الأخلاقية القائمة. وإذا كان أصحاب المذهب المُطلَق مُحافظين أحيانًا بهذا المعنى أيضًا فذلك شأنهم الشخصي؛ فمثل هذه مُحافظةٌ عرَضية وليست ضرورية للمذهب المُطلق. وثَمَّة سببٌ منطقي في حقيقة الأمر يمنع صاحب المذهب المُطلق من أن يكون شُيوعيًّا أو فوضويًّا أو سورياليًّا أو من دُعاة الحرية الجنسية. صحيح أنه عادةً ليس واحدًا من هؤلاء، ولكننا قد نُعلِّل ذلك بأسباب شتَّى ليس من بينها المنطق الصِّرف الذي يقوم عليه موقفه الأخلاقي؛ فصاحِب المذهب المُطلق ليس ملتزمًا إلَّا برأيٍ واحد: أنَّ كل ما هو صواب أخلاقيًّا (سواء أكان الحرية الجنسية أو واحدية الزواج أو العبودية أو الكانيبالية أو التغذية النباتية) فهو صواب أخلاقيًّا لجميع البشر في جميع الأزمنة.
يرى ولتر ستيس أنَّ هناك أسبابًا تاريخية (كشيء مُختلف عن المُبرِّرات المنطقية) أسهمت في انتشار المذهب المُطلَق وجعلت منه تفسيرًا مقبولًا للأخلاقية كما تفهمها الشعوب الأوروبية. من هذه الأسباب اللاهوت المسيحي؛ فنحن، من وجهة نظر ستيس، نعيش في حضارة مسيحية نمَتْ خلال ألفي سنة في تُربة التوحيد المسيحي، ذلك أنَّ التوحيد مُتأصِّل في طريقة تفكيرنا في جميع الأمور بما فيها الأفكار الأخلاقية، ولا يُمكن الفِكاك منه خلال جيلٍ أو جيلين، وما كان لموجةِ الشكِّ الديني التي اجتاحتْنا خلال العقود الأخيرة أن تقتِلعه، فالشخص مِنَّا يتشرَّبه منذ الصِّغر فتتشكَّل به قوالبه الذهنية. إن الأفكار الأخلاقية حتى عند أعتى المُناوئين للعقائد المسيحية بفِكرهم إنما هي أفكار مسيحية! وربما سيبقى هذا هو وجه الأمر لقرونٍ عديدة قادمة، حتى إذا انتهى المطاف باللاهوت المسيحي، بوصفه مجموعة من الاعتقادات الفكرية، إلى الإمحاء ورفَضَتْه كلُّ الأذهان المُثقَّفة، وربما سيبقى ما بقيت حضارتنا. إنها مُتشكِّلة بالتوحيد المسيحي ولا يُمكنها أن تنضوَ عنها هذا التأثير في أيِّ وقتٍ من عمرها، تمامًا مِثلما يتعذَّر على الطفل أن ينضوَ عنه التأثيرات الأخلاقية التي تشرَّبَها منذ نعومة أظفاره وتشكل بها مهما أدخل على نتائجها فيما بعدُ من تعديلاتٍ طفيفة، ومهما اعتراه في الكِبَر من تغيُّراتٍ في العقيدة الفكرية.
ليس من الصَّعب أن نتبيَّن الصِّلة بين المذهب المُطلق والتوحيد المسيحي؛ فإبان سيطرة الشريعة المسيحية كان الرأي أنَّ الأخلاقية تصدُر عن إرادة الله وهي مصدر واحدٌ وكافٍ تمامًا، ولا معنى إذن عند المؤمن البسيط لأن يسأل عن أُسُس الأخلاقية والواجب الأخلاقي، فمجرَّد السؤال عن هذا الأمر يحمِل شُبهة الارتياب ويُعدُّ علامةً على شكٍّ ديني استهلالي. إن واضع القانون الأخلاقي هو الله، فالذي يُرضي الله ويأمُر به الله فهو تعريف الصواب، والذي يُغضب الله وينهى عنه الله فهو تعريف الخطأ. وبما أن الله واحدٌ وعقلاني ومُتَّسِق مع ذاته ومُنزَّه عن النَّزَوات والتقلُّبات فإنَّ إرادته وأوامره لا بدَّ أن تكون واحدة في كلِّ زمانٍ ومكان. وإذا كان الوثنِيُّون يرَون رأيًا أخلاقيًّا آخَرَ فليس ذلك إلَّا لأنهم يجهلون الإله الحقيقي، ولو أنهم عرفوه لكانت قواعدهم الأخلاقية هي قواعدنا.
النسبية الأخلاقية
يذهب ولتر ستيس إلى أنَّ النسبية الأخلاقية هي جُزء لا يتجزأ من النزعة الثورية في العصور الحديثة، وأنها بخاصة جُزء من انهيار الاعتقاد في دوجماويات الدين التقليدي. فقد كان المذهب التقليدي مُدعمًا بالتوحيد المسيحي، فلمَّا انحسَرَ هذا الدعم مع انتشار الشكِّ الديني في هذا العصر، أخذ المذهب المُطلَق في الانهيار. إنَّ الحركات الثورية، كقاعدةٍ عامة، هي حركات سلبية صِرف، ولا سيما في بدايتها، فهي تُهاجم وتهدِم؛ لذا فالنسبية الأخلاقية هي في جوهرها مذهب سلبي خالص. النسبية الأخلاقية هي، ببساطة، إنكارٌ للمذهب المُطلق (ومن ثَمَّ كان فهمها منوطًا بفهم المذهب المُطلق) أي إنكار أن يكون هناك مِعيار أخلاقي واحد صالِح لكلِّ زمان ومكان: ليس ثَمَّة قانون أخلاقي واحد أو دستور واحد أو معيار واحد، بل هناك قوانين أو دساتير أو معايير أخلاقية عديدة؛ الدستور الأخلاقي الصيني مثلًا يختلف عن دستور الأوروبيين تمام الاختلاف، ودستور البدائيين الأفريقيين يختلف عن كلا الاثنين تمام الاختلاف. كل أخلاقية، إذن، هي منسوبة إلى الزمن والمكان والظروف التي وُجدت فيها، ومن ثَمَّ فهي ليست مُطلقة بأي معنى من المعاني.
يستلزِم المذهب النسبي إذن (وإن كان ذلك يَسُوء النسبي) أنَّ الكانيبالية صواب بالنسبة للكانيباليين، والأضحية البشرية صواب بالنسبة لأولئك الأقوام الذين يُمارسونها، وحرْق الأرامل أحياء في الهند كان صوابًا بالنسبة لأهل الهند قبل أن يدخُل الإنجليز ويُرغِموهم على الفعل اللاأخلاقي باستحيائهن (أي بالإبقاء عليهن أحياء)!
(١-٣) حُجَج النِّسبية
-
أولى حُجَج النسبية، وتُسمَّى أحيانًا «الدليل الأنثروبولوجي»، هي الوجود الفعلي لمعايير أخلاقية مُتباينة في العالم. وقد زادت مَعرفتنا بها بعدَ انتشار مَوجات الكشوف الأنثروبولوجية التي أكدَّت اختلاف المعايير وعدم وجود معيارٍ واحد. غير أنها حُجَّة ضعيفة، ذلك أنَّ صاحِب النزعة المُطلَقة لا يُنكر تعدُّد المعايير بهذا المعنى، وهو يفسرها بجهل الناس بالحقيقة الأخلاقية بنفس الطريقة التي يَجهلون بها الحقائق الأخرى (عن العلوم الطبيعية مثلًا). لقد كان دأب الناس أن يختلفوا في كلِّ الموضوعات، وإذا كان اختلاف الناس حول شكلِ الأرض ليس دليلًا على أنَّ الأرض ليس لها شكل. كذلك اختلاف الآراء الأخلاقية لا يُثبِت أن ليس هناك أخلاق حقَّة واحدة.
إنَّ كشوف الأنثروبولوجيين لم تُضِف شيئًا جديدًا إلى ما كُنَّا نعرفه ونُسلِّم به من اختِلاف القِيَم. لقد أضافَتْ تأثيرًا نفسيًّا فقط، واستغلَّها النِّسبيُّون باسم العِلم ليُرهبوا بها عقول البُسطاء. هذا هو سِرُّ الضجَّة الفارغة التي اصطنعها النِّسبيُّون بشأن الدليل الأنثروبولوجي.١٧ -
والحُجَّة الثانية للنسبية الأخلاقية هي الدعوى بأنَّ ليس بمقدور أحدٍ أن يكتشِف الأساس الذي يُمكن أن تقوم عليه أخلاقيةٌ مُطلقة، أو يكتشف المصدر الذي يُمكن لدستورٍ أخلاقي مُلزمٍ عالميًّا أن يصدُر منه ويستمِدَّ سلطته. فإذا كان هناك، على سبيل المثال، قاعدة أخلاقية مُطلقة ثابتة توجِب على الناس أن يكونوا غير أنانيين، فمن أين يصدُر هذا الأمر؟ (لأن القاعدة الأخلاقية هي دائمًا أمرٌ مهما اختلفت صياغَتُنا لها، فلا فرق في المعنى بين أن تقول «ينبغي ألَّا تكون أنانيًّا» وبين أن تقول «لا تكُن أنانيًّا». حسنٌ، وكلُّ أمرٍ يتضمَّن آمِرًا، وكل إلزام يتضمَّن سُلطة مُلزمة، فما هي هذه السلطة؟)
تخلُص النزعة النسبية إلى أنَّ من المُحال العثور على أيِّ أساسٍ يقوم عليه أيُّ قانونٍ أخلاقي مُلزِم عالميًّا، بينما من السهل اكتشاف أساسٍ للأخلاقية إذا سلَّمْنا بأنَّ الشرائع الأخلاقية مُتباينة عابرة محدودة بحدود الزمان والمكان والظروف، أي نِسبية. وإذا كان الأساس الديني لأخلاقيةٍ مُطلقة واحدة قد انتهى في نظر الكثيرين فإلامَ تستنِد الأخلاق المُطلقة؟ هل تستنِد إلى أساسٍ دنيوي؟ فإذا استحال ذلك فليس أمامنا إلا التسليم بتعدُّد الشرائع الأخلاقية التي قد تتناقض فيما بينها، والتي لا تبسط سُلطانها إلا على مناطق محدودة وفترات زمنية محدودة، وليس بينها ما هو أفضل من الآخر، إذ إن كلَّ شريعة منها ستكون خيرًا وحقًّا بالنسبة لأولئك الذين يعيشون في تلك المناطق والأزمنة. ليس أمامنا، باختصار، إلَّا التسليم بالنسبية الأخلاقية.١٨
(١-٤) الحُجَج المُضادَّة للنِّسبية
-
من شأنِ النِّسبية أن تجعل المُقارنة بين الشرائع الأخلاقية المُختلفة شيئًا لا معنى له ما دامت كلُّ شريعة صوابًا بالنسبة لأهلها، بينما نحن نُقارن عادةً بين الحضارات من حيث الصواب الأخلاقي، فنقول مثلًا إن المعايير الأخلاقية الصينية أسمى من معايير سُكان غينيا الجديدة. وعلى الرغم من صعوبة المُقارنة العادلة واحتِمال الوقوع في السطحية والتعصُّب فإنَّ ذلك لا ينفي المبدأ: وهو أنَّنا نُقارن ونجِد للمُقارنة وجهًا ومعنى. نحن نُقارِن فعلًا بين أخلاق زماننا وأخلاق الأسلاف منذ خمسمائة عام؛ إذ كانوا يُجيزون الرقَّ والحرْق والتعذيب الوحشي، ونقول إن مَعاييرنا أسمى من معاييرهم. إنها مُقارنة مُمكنة، لها معنى ولها وجه وقابلة للنِّقاش العقلاني، ولكن إذا صحَّت النِّسبية الأخلاقية فلا معنى لأيِّ شيء من هذا، إذ ليس هناك معيار يُشكِّل أساسًا تقوم عليه مثل هذه الأحكام.
ويتضمَّن هذا بدوره أنَّ فكرة «التقدُّم» الأخلاقي برمَّتها هي محْض وهم، فالتقدُّم يعني السير قدمًا من الأدنى إلى الأعلى، من الأسوأ إلى الأفضل، إلا أنه وفقًا للنسبية الأخلاقية فلا معنى لأن نقول إن معايير هذا العصر أفضل (أو أسوأ) من معايير عصر سابق؛ إذ لا يُوجَد معيار عام يمكن أن يقاس به كلٌّ من الطرفين.
-
ومن شأن النِّسبية أن تجعل حتى المُقارنة بين فردٍ وآخر داخل نفس الجماعة شيئًا مُمتنعًا، وذلك لغياب المعيار العام، وبذلك يكون كلُّ فردٍ معيار نفسه، ولا يعود هناك وجهٌ لطاعة أيِّ مبدأ، وبذلك نَسقُط في فوضى أخلاقية وانهيارٍ لكلِّ المعايير المُجدية.
-
ونحن حتى لو افترضْنا أنَّنا تغلَّبْنا على الصعوبة الخاصة بتحديد الجماعات الأخلاقية فإنَّ ثمَّة صعوبة أخرى ستُفصِح عن نفسها: كيف لنا أن نعرِف ما هو المعيار الأخلاقي الحقيقي داخل هذه الجماعة أو تلك؟ كيف يُمكن لأي فرد، حتى داخل الجماعة ذاتها، أن يعرِف ذلك المعيار؟ ذلك أنَّ من المؤكد أن هناك اختلافاتٍ في الرأي فيما يَكُونه الصواب والخطأ، على الأقلِّ بين الشعوب المُتقدِّمة، مَن إذن سيُؤخَذ رأيه على أنه يُمثِّل المِعيار الخلقي للجماعة؟ مِن المؤكد أنَّنا إمَّا أن نأخُذ برأي الأغلبية داخل الجماعة، وإما أن نأخُذ برأي أقليةٍ ما. فإذا ما استنَدْنا إلى آراء الأغلبية ستكون النتائج كارثية؛ فحيثما وُجِد بين شعبٍ من الشعوب ثُلةً صغيرةً من النفوس المُمتازة، أو ربما رجل واحد يعمل على تأسيس مُثُل أسمى وأنبلَ من تلك السائدة بين الجماعة، سنكون مُضطرِّين إلى الأخذ بأن الأغلبية على حقٍّ بالنسبة لذلك الشعب في ذلك الزمن، وبأن المُصلحين على خطأ وبأنهم يُبشِّرون بما هو غير أخلاقي. سيكون علينا مثلًا أن نَعتبِر المسيح مُبشِّرًا بمذاهب لا أخلاقية بين اليهود، وسيكون علينا دائمًا أن نُسوِّي ما بين الخير الأخلاقي وبين ما هو وسطَي نِصفي mediocre (وربما دنيء خسيس). فإذا أخذنا، من الجهة الأخرى، بآراء أقليَّةٍ ما على أنها المعيار الأخلاقي للجماعة، فمَن تكون هذه الأقلية؟ ليس بوُسعِنا أن نُجيب بأنها الأقلية المُؤلَّفة من أشدِّ الأفراد استِنارة بين الجماعة، فذلك أمر ينطوي على دَور منطقي واضح؛ إذ على أي أساسٍ ووفقًا لأيِّ مِعيار نحكُم على هؤلاء الأفراد بأنهم الأفضل والأكثر استنارة؟ ليس ثمَّةَ مبدأ يُمكننا أن ننتقيَ به الأقلية الصائبة؛ وعلينا بالتالي أن نعتبِر كلَّ أقليةٍ مُساوية لغيرها في الخير، ممَّا يعني أن ليس لنا أي حقٍّ منطقي في الاعتراض على أشقياء شيكاغو إذا زعموا أنَّ مُمارساتهم تُمثِّل أسمى معايير الأخلاق الأمريكية. ويعني في نهاية المطاف أن ليس هناك معيار مُلزم لأي فرد إلَّا مِعياره الشخصي.١٩
-
ليست النِّسبية الأخلاقية كارثية من حيث نتائجها النظرية فحسب، فمما لا شكَّ فيه أنها كارثية بنفس الدرجة من حيث أثرها على السلوك العملي، فإذا حملنا الناس حقًّا على الاعتقاد بأنَّ كلَّ مِعيار هو مِثلَ غيره فسوف يَستنتِجون أن مِعيارهم الخلقي الخاص ليس فيه ما يُزكِّيه على غيره، وربما يَنزلقون أيضًا إلى المعيار الأدنى والأسهل؛ ذلك أنَّ الأفكار، حتى الأفكار الفلسفية، ليست من الخمول بحيث تبقى إلى الأبد مُنزوية في الحجرات العُليا من الفكر، فهي تنسرِب في النهاية إلى المُستوى العملي وتُوجِّه الفعل والسلوك.
هذه إذن هي الحُجَج الرئيسية التي سيُوجِّهها نصير المذهب المُطلق ضِدَّ النسبية الأخلاقية، وربما يشرَع بعد ذلك في مُحاولة تشخيص منشأ النسبية واستِجلاء الظروف الاجتماعية والفكرية والنفسية المُعاصرة التي أدَّت إلى ظهور النسبية. لقد هجَرْنا وسطاء الوحي وكهنة الماضي (وكلُّ عصرٍ يفعل ذلك بطبيعة الحال)، غير أنَّنا، نحن الشعوب المُتحضِّرة افتراضًا، لم نضع محلَّهم من يقوم بعملهم ويُرشِدنا إلى أين نذهب. ماذا ينبغي أن تكون غاياتنا وقِيَمنا؟ ما الصواب؟ ما الخطأ؟ ما الجميل؟ ما القبيح؟ لا أحد يعرِف. نحن نتخبَّط ونرتدُّ من جهةٍ إلى أخرى، ولا نعرِف أين نقِف ولا أين نمضي.
(٢) النسبية اللغوية
وكانت الأرض كلها لغةً واحدةً وكلامًا واحدًا، وكان أنهم لمَّا رحلوا نحوَ المشرق وجدوا بُقعةً في أرض شنعار فأقاموا هناك، وقال بعضهم لبعضٍ نصنع لبنًا ونُنضِجه طبخًا، فكان لهم اللبن بدَل الحِجارة والحُمَر كان لهم بدَل الطين، وقالوا تعالوا نبنِ لنا بُرجًا رأسُه إلى السماء ونُقِم لنا اسمًا كي لا نتبدَّد على وجه الأرض كلها. فنزل الربُّ لينظر المدينة والبُرج اللَّذين كان بنو آدم يبنونهما، وقال الربُّ هو ذا هم شعب واحد ولجميعهم لغةٌ واحدةٌ وهذا ما أخذوا يفعلونه، والآن لا يكفُّون عمَّا همُّوا به حتى يصنعوه. هَلُمَّ نهبِط ونُبلبِل هناك لُغتَهم حتى لا يفهم بعضهم لغةَ بعض. فبدَّدهم الربُّ من هناك على وجه الأرض كلِّها وكفُّوا عن بناء المدينة؛ ولذلك سُمِّيَت بابل؛ لأنَّ الربَّ هناك بَلْبَل لُغة الأرض كلها، ومن هناك شتَّتَهم الربُّ على كلِّ وجهها.
ومن المُسلَّم به الآن أن مفهوم «اللغة الثوب» أو «الوعاء» أو «العباءة» قد ثبتَ بُطلانه ولم يعُد يقول به أحدٌ منذ تبيَّن الدور الحقيقي الذي تضطلع به اللغة في صياغة الفكر وتنظيمه وتَسييره. يتجلَّى هذا الدور في جميع المجالات بما فيها العلم الطبيعي ذاته، ويبقى أن نتناوَل المفهوم المقابل؛ مفهوم «اللغة القالب»، ونأخذه بالتهذيب والتدقيق والتحقيق، ونعرِف ما له وما عليه، ونُفرِغ له صيغةٌ مُعتدلةٌ تُحدِّد للدَّور اللغوي حدوده المقبولة ولا تمتدُّ به إلى مَتاهات الغلوِّ والشَّطَط.
هناك حوالي خمسة آلاف لغة مُستخدمة اليوم في أرجاء العالم، تختلِف كلُّ لغةٍ من هذه اللغات اختلافًا بيِّنًا عن كثيرٍ من اللغات الأخرى. وتتجلَّى الفروق في أعلى درجاتها بين اللُّغات التي تختلف في «العائلة اللغوية» (مثلًا بين اللغات الهندوأوروبية كالهندية والإنجليزية واليونانية القديمة إلخ، وبين اللغات غير الهندوأوروبية مثل لغة الهوبي واللغة الصينية والسواحلية والعربية إلخ).
(٢-١) أنساق التصنيف
(٢-٢) العنصر السيكولوجي في الثقافة
ثَمَّة علاقةٌ باطنة بين اللغات التي نتحدَّث بها ونكتسبها وبين بنائنا السيكولوجي (مهارتنا الحِسِّية، إحساسنا بذاتنا، الانفعالات التي نتعلَّم أن نُبديها، وأنماط الاستدلال التي نعتبِرُها مُقنعةٌ … إلخ)، وإذا كنا نرى أن اللغات لا تُمكِن ترجمتها ترجمةً كاملة، فإنَّ علينا أن نُسلِّم بأنَّ هناك احتمالًا بوجود شيءٍ من التفاوت في هذه العمليات والحالات والظواهر السيكولوجية بين الثقافات المُختلفة. من ذلك أن استخدام صيغة المُتكلِّم وتصريفات المُتكلِّم في مُعظم اللغات تختلف في مدى ما تفرِضه على المُتكلِّم من تَعهُّدٍ بمضمون العبارة وإلزامها الأخلاقي. في المجتمعات التي تتحدَّث باللغات الأوروبية يضع استخدام صيغة المُتكلِّم على المُتحدِّث مسئوليةً كفردٍ، بينما في كثير من اللغات الشرقية يضع هذا الاستخدام تعهُّدًا على الجماعة التي يُعدُّ المُتحدِّث عضوًا فيها في هذه اللحظة وهذا السياق. تفتقِر اللغة اليابانية مثلًا للتكنيك النحوي الكفيل بالتعبير عن المسئولية الفردية. من شأن هذه الفروق اللغوية أن تُفضي إلى فروقٍ في الإحساس بالذات.
(٢-٣) فرضية النسبية اللغوية
كذلك هناك وقائع كثيرة تظل، لأسبابٍ إمبيريقية، بعيدةً عن منال الشخص الذي يتحدَّث لغةً مُعينة، ولا يجد إليها سبيلًا إلَّا إذا اتَّخَذ له لغةً مُختلفة.
من شأن اللُّغات المُختلفة أن تُشرِّح العالم بطرائق مُختلفةٍ وتجعل الناطقين بها يفكرون عن العالم تفكيرًا مُختلفًا. تتمتَّع هذه الفكرة بجاذبيةٍ مُعيَّنةٍ، غير أن السؤال عن مدى تأثير اللغة على الفِكر ونوع هذا التأثير هو سؤالٌ إمبيريقي (تجريبي) لا يُمكن أن يَفصِل فيه إلَّا البحث الإمبيريقي. وعلى الرغم من أن النسبية اللُّغوية قد تكون هي أكثر صُور النسبية الوصفية رواجًا فإن اقتناع الأشياع وحماسهم على كِلا الجانبين (معها وضدَّها) يتجاوز البَيِّنة المُتاحة تجاوزًا بعيدًا. ولعلَّ السؤال المحوري في هذا الصدد هو: هل ثمة صيغٌ شائقةٌ وجيهةٌ تقَعُ موقِعًا بين الصواب النافل المُبتذَل الغني عن القول (مثل: لم يكن لدى البابليين نظيرٌ للفظ «تليفون» ومن ثَمَّ فلم تكُن لديهم أفكارٌ عن التليفونات) وبين التطرُّف الطنَّان والبَيِّن الخطأ في الوقت نفسه (مثل: الناطقون بلغاتٍ مُختلفةٍ يرَون العالم على نحو مختلف كلَّ الاختلاف)؟
(٢-٤) سابير وروف
غير أنَّ فرضية النسبية اللغوية احتلَّت الصدارة ولفتَتْ إليها الأنظار من خلال أعمال إدوار سابير وتلميذه بنيامين ورف، حتى صارت تُعرَف باسم «فرضية سابير-ورف» أو تُسمَّى، على سبيل التبسيط، «فرضية ورف». والحقُّ أن أطروحات سابير وورف كانت من الروعة والطرافة بحيث أسَرَت عددًا كبيرًا جدًّا من المُفكِّرين. كان سابير عالم لغة وأنثروبولوجيًّا أمريكيًّا، وكان تلميذه ورف رجل أعمال ولغويًّا هاويًا. وبخلاف أشياع النسبية اللغوية الأوائل كان سابير وورف يُؤسِّسان دعاواهما على خِبرةٍ مباشرة بالثقافات واللُّغات التي كانا يتحدَّثان عنها، مما أضفى على شروحهما كثيرًا من الحيوية والوقع المباشر، وتحلت كتاباتهما بطلاوةٍ آسِرة ألهبَتْ خيال عددٍ هائلٍ من القراء.
نظر سابير وورف إلى الفروق بين لُغات عديدة وبين اللغة الإنجليزية، فوجدا أنَّ لُغة الإسكيمو على سبيل المِثال تشتمِل على ألفاظ كثيرة لتسمية مُختلِف أصناف الثلج: الثلج المتساقط، والثلج الذي يفترش الأرض، والثلج المُتكتِّل الصُّلب … إلخ، بينما وجَدا عند قبائل الأزتك لفظةً واحدةً تُستخدَم لتدلَّ على كلٍّ من الثلج والجليد والبارد. ولم ينحصِر اهتمامهما في مُفردات اللُّغات بل امتدَّ ليشمل الفروق الكبرى في بنية اللغة ذاتها: نحوها وصرفها ونُظمها وتركيبها. من ذلك ما بَيَّنَه ورف من أن لُغة الهوبي لا تشتمل على أيِّ تصوُّرٍ للزَّمَن كبُعدٍ من الأبعاد. وإذ كان ورف يُدرِك الأهمية المحورية لمفهومِ الزَّمن في الفيزياء الغربية (إذ بدونه لا تكون سُرعة ولا عجلة سرعة) فقد خلُص إلى تصوُّرٍ عما تُشبِه أن تكونه الفيزياء الهوبية، فقال إنها لتكون مُختلفة عن الفيزياء الإنجليزية اختلافًا جذريًّا، بحيث إنَّ من المُحال تقريبًا على عالم الفيزياء الإنجليزي وعالِم الفيزياء الهوبي أن يفهم أحدُهما الآخر.
وحتى أفعال الإدراك الحسِّي البسيطة نِسبيًّا هي تحت رحمة النماذج الاجتماعية المُسمَّاة «ألفاظًا» أكثر مِمَّا نظن، فنحن نرى ونسمع ونُكابد خِبراتنا بالطريقة التي نفعل بها ذلك؛ لأن العادات اللغوية لمُجتمعنا تُهيئ اختياراتٍ مُعينةً من التأويل. (سابير، ص٢١٠)
حقيقة الأمر أن «العالم الواقعي» مُشيَّدٌ، لا شعوريًّا، إلى حدٍّ كبير، على العادات اللغوية للجماعة، ولا تُوجَد لُغتان مُتماثِلتان بما يكفي لأن نَعُدَّهما مُمثِّلتَين لنفس الواقع الاجتماعي. إن العوالم التي تعيش فيها المُجتمعات المُختلفة هي عوالم مُختلفة. إنها لا تعيش في عالمٍ واحدٍ أُلصقت به بطاقات مُختلفة. (سابير، ص٢٠٩)
وقد كسبت فرضية النسبية اللغوية جمهورها العريض بفضل أعمال بنيامين لي ورف الذي أصبحتْ كتاباته المجموعة أشبَهَ بالمانيفستو النِّسبي. يُمثِّل بنيامين ورف هدفًا مُتحرِّكًا! فأغلب كتاباته تأتي في كِلا الشكلين المُتطرِّف والمُعتدل. ورغم أن آراءه المُعتدلة ما تزال موضع نقاشٍ فلا شكَّ أن دعاواه الجريئة غير المُلجَّمة بالمحاذير والشروط كانت أقدرَ على أسْرِ قُرَّائه من دعاواه المُتحفِّظة الخَجول.
يقول ورف إنَّ اللغات المُتشابهات قلَّما تُحدث فروقًا معرفية ذات شأن، غير أنَّ اللغات التي تبعُد كثيرًا عن الإنجليزية وغيرها من اللغات الأوروبية الغربية تؤدِّي بمُتحدِّثيها غالبًا إلى نظراتٍ للعالَم مُختلفة غاية الاختلاف.
ويرى ورف أنَّ اللغة ليست مُجرَّد «أداة» طوع اليد تسمح لنا بالتعبير عن أفكارنا، وإنما اللغة هي التي تُوجِّه الفعل الذهني وتُحدِّد شكلَ الفكر وترسُم للفرد الإطار الذي تمضي فيه تحليلاته وانطباعاته وكلُّ ما يعتمِل في ذهنه. إن صياغة الأفكار لا تسير على الإطلاق سيرًا مُستقلًّا عقلانيًّا كما كان يُظَنُّ في السابق، بل ترتبط ببِنيةٍ نحوية مُعينة تختلف من لغةٍ إلى أخرى.
إننا نُشرِّح الطبيعة عبر خطوطٍ تضعُها لنا لُغتنا المحلية، فالتصنيفات الفئوية والأنماط التي نَستخلصها من عالم الظواهر نحن لا نعثُر عليها لأنها ماثلةٌ هناك تُحملِق إلى كل ملاحظٍ في وجهه، بل العكس هو الصحيح، فالعالم إنما يُقدَّم إلينا على هيئة تدفُّقٍ كاليدوسكوبي من الانطباعات التي تتطلَّب تنظيمًا من جانب عقولنا، أي من جانب الأنساق اللغوية القائمة في عقولنا. (ورف، ص٢١٤)
كما أنَّنا نقوم بتجزيء الطبيعة تَجزيئًا منهجيًّا من نوعٍ خاص، فنسلُكه في مفاهيم مُعيَّنة ونُلصِق به معاني مُعيَّنة، وذلك بمُقتضى مواضعاتٍ مُعيَّنة في الاستخدام اللغوي عند الجماعة اللغوية التي ننتمي إليها تُحدِّد رؤيتنا للعالم وتُشكِّلها. إنها مُواضعات مُقنَّنة داخل قوالب لُغتنا الخاصة، مُواضعات ضِمنية مُضمَرة، غير أنها تتمتع بإلزامٍ مُطلق. إننا لا نتحدَّث هنا إلا عن شرط التسجيل السريع للمُعطيات المُنظَّمة والمُصنَّفة كما أُعِدَّت من خلال المُواضعات الضِّمنية.
إن من يستخدمون ضروبًا من النحو شديدة الاختلاف هم مُوجَّهون بهذا النحو إلى أنماطٍ مُختلفة من الملاحظات، وإلى تقييماتٍ مُختلفة لأفعال الملاحظة المُتماثِلة من الخارج. ومن ثم فإنهم كملاحظين ليسوا سواء، بل لا بُدَّ لهم من أن يصِلوا إلى صُورٍ للعالَم مُختلِفة بعض الشيء. (ورف، ص٢٢١)
والنحو بطبيعة الحال ليس نتاجًا للعلم ولا يتحلَّى من خصائص العلم المُميِّزة إلا ببعضه. لقد ظهر على إثر قائمة من الأحداث التاريخية التي تسبَّبت في ظهور التجارة وأنظمة القياس وفي تشييد المُخترعات التقنية في كل أرجاء العالم الذي كانت لُغاته مسيطرة.
تختلف الوقائع بالنسبة للناطقين الذين تتبنَّى خلفيتُهم اللغوية صياغة مُختلفة لهذه الوقائع. (ورف، ص٢٣٥)
ليس بوُسع أحدٍ أن يصِف الطبيعة بحيدةٍ مُطلقة، إنما هو مقيدٌ بطرائق معينة من التأويل، حتى إذا كان يرى نفسه حرًّا إلى أبعد حد. (ورف، ص٢١٤)
ومن يُرد أن يكون أكثر حيدة وأقلَّ تبعيةً للطبيعة فعليه أن يصير عالِمًا لغويًّا استأنس بكثيرٍ من الأنساق اللغوية التي تختلف فيما بينها اختلافًا عميقًا، وهو شأنٌ لم يبلُغه أحدٌ من علماء اللغة حتى الآن.
(٢-٥) النسبية اللغوية والميتافيزيقا
(٢-٦) اختبار فرضية النسبية اللغوية
-
أي جانب من اللغة يؤثر على أي جانب من التفكير؟
-
ما هو هذا التأثير؟ ما صُورته؟
-
وما مَبلغُه وشِدَّته؟
(٢-٧) دراسات مُفنِّدة لفرضية ورف
إدراك الألوان
يتعلَّق شطر كبير من الاختبارات الإمبيريقية لفرضية ورف بمسألة لغة الألوان وتأثيرها في إدراك اللون. فمن جِهة علم الضوء (أو من جهة مُعاملات الانعكاس الطيفي السطحي) ليس هناك ما يُحتِّم مدَّ حدودٍ بين الألوان عند مكان معين دون الآخر. ومن ثَمَّ فإن تقسيماتنا لمِطياف الألوان هي تقسيمات اعتسافية حقًّا. ومن جهة أخرى فإن من المعلوم جيدًا أن اللغات البشرية تتفاوَت من حيث الألفاظ الدَّالة على اللون، أي الألفاظ التي نُقسِّم بمقتضاها مِطياف اللون عند مواضع مختلفة. فإذا كانت فيزياء اللون لا تفرض شيئًا على تفكير الإنسان عن اللون، فمن الطبيعي أن نذهب إلى افتراض أن إدراك الألوان يتَّبِع الأخاديد التي تمدُّها لغة الألوان.
غير أن الأمر في مسألة اللون ربما كان حالة خاصة: فإذا كانت فيزياء اللون لا تفرض تقسيمًا مُعيَّنًا لمِطياف اللون فإن لتشغيلات المخ البشري إملاءاتها في مسألة اللون. وقد تبيَّن اليوم بشكلٍ مؤكد أنَّ هناك وقائع نيوروفسيولوجية تؤثر على كثير من الطرائق التي نُدرِك بها الألوان.
تشومسكي والعموميات اللغوية
ويمكن القول بصفةٍ عامة إن مدرسة تشومسكي قد كُتِبت لها السيادة على الدرس اللغوي الحديث الذي أغلق الباب أمام التفسيرات السلوكية المُتبسِّطة التي قدَّمها بلومفيلد وسكنر (وإن لم ينفِها تمامًا). وأخذ البحث اللغوي المُعاصر يكشف عن الدَّور المُتعاظِم للعقل والعمليات الذهنية في فَهم الكلام وإنتاجه؛ الأمر الذي فتح المجال أمام ارتباطٍ وثيق بين علم اللغة وعلم النفس المعرفي.
والآن إذا صحَّت فرضية العموميات اللغوية (وإنَّ الأدلة لتتضافَر على صحَّتِها يومًا بعد يوم) لتبيَّن لنا أن اللغات الطبيعية هي أوثق قُربى في بنائها ممَّا يتصوَّر النِّسبي المُتطرِّف.
فودور ودعوى الوحدات العقلية Modularity Thesis
وجدير بالذكر أن دعوى الوحدات لا تُنكِر دور التعلُّم في اكتساب اللغة. ولم يقل أحد قطُّ إن اللغة يمكن أن تُكتسَب في عزلة. غير أن فرضية الوحدات في حالة اللغة تفترض أن نمو اللغة يتَّخِذ مسارًا مُماثلًا لنموِّ أي عضو جسمي: إن أي بيئةٍ كفيلةٍ بحِفظ الجماعة الاجتماعية هي بيئةٌ كفيلةٌ أيضًا بنمو اللغة دون حاجة إلى أيِّ التفاتٍ خاص.
من منظور المذهب الفِطري في اللغة تنحسِر كثير من الأسئلة حول النسبية الثقافية وتُرَدُّ إلى أسئلة حول العزْل المعلوماتي للوحدات الذهنية. حين نقول إن الوحدة الذهنية معزولة فإنَّ ذلك يعني أن ليس بوسع الأجزاء الأخرى من الذهن أن تؤثر في تشغيلاتها الداخلية (وإن أمكن أن تَمُدَّها بمُدخلاتٍ وأن تُفيد من مُخرجاتها).
والآن ما هي مُتضمَّنات ذلك بالنسبة لدعوى ورف بأنَّ لغة الشخص تُمارِس تأثيرًا كبيرًا على إدراكه الحسِّي وتفكيره؟ يبدو أن الأمر هنا بالنسبة للإدراك الحسِّي قد يكون مُختلفًا عنه بالنسبة للعمليات العقلية العُليا. يقول فودور مثلًا إنَّ هناك وحدة (أو وحدات) خاصة بالإدراك البصري، وإن المعلومات الآتية من أجزاء أُخرى من الذهن لا يمكن أن تُؤثِّر عليه بالدرجة التي كان يفترِضها كثير من السيكولوجيين. مثال ذلك أنه على الرغم من أنني أعرِف أن الخطَّين في «خداع مولر-لاير» مُتساوِيان فإنه لا يَسعُني إلَّا أن أرى أحدهما أطول من الآخر. إنني أعرِف أن الخطَّين مُتساويان ولكن الوحدة (أو الوحدات) البصرية لديَّ لا تعرف! ذلك أنها مُسيَّجةٌ معزولة. ومن ثَمَّ فإنَّ هذه المعلومة لا تستطيع أن تنفَذَ إليها، وبالتالي لا تستطيع أن تؤثر في الطريقة التي أرى بها الشكل. فإذا صَحَّ ذلك فإن المعلومات اللغوية لا يُمكنها أن تخترِق أيَّ وحداتٍ بصرية، وإن صِيَغ النسبية اللغوية القائلة بتأثير لُغة المرء على طريقة إبصاره للأشياء هي إذن مغلوطة. أما عن العمليات الذهنية العُليا فليس هناك وحدات مُختصَّة بها في رأي فودور، وهو بالتالي يُتيح المجال لبعض جوانب من النسبية اللغوية؛ أي أن هناك احتمالًا بأن يكون لتشغيلات الوحدات اللغوية المُختلفة تأثير كبير على الفكر.
وصفوة القول أنه إذا صحَّت دعوى الوحدات الذهنية والمذهب الفطري، أو أية صِيغة مُتماسِكة منها، وهو ما تُشير إليه الشواهد في الوقت الحالي، لأمكن أن تُترجَم الكثير من المسائل الإمبيريقية حول النسبية اللغوية إلى مسائل تتعلَّق بوحدات الذهن وكيف تؤثر إحداها في الأخرى.
انتقادات أخرى
يبدو أن ورف نفسه كان على وعيٍ بهذا المأزق، وكان يرى اللغة والثقافة وجهَين لعملةٍ واحدة، وكان يستشعِر في أمرهما مُشكلة أشبَهَ بمشكلة «البيضة أولًا أم الدجاجة؟» وهو لغزٌ عصيٌّ على الحل. ويبدو أنَّ ورف كان يُسلِّم بتأثيرٍ مُتبادل بين الثقافة واللغة، ولكنه انطلاقًا من أنَّ النحو أعصى على التغيُّر من الثقافة كان يرى تأثير اللغة على الثقافة هو التأثير الغالب (ويكاد يكون التأثير الأوحد في أي لحظةٍ بعينها).
وبنفس القياس فإنه إذا صحَّت فرضية ورف لامتَنَع فهم التصوُّرات القائمة في إحدى اللغات بلغةٍ أخرى، ما دام الناطقون باللغة الأولى مُقيَّدين بمنظومة قواعد مُختلفة عن منظومة الناطقين باللغة الأخرى. غير أنَّنا جميعًا نعرِف أن اللغات قابلة للترجمة فيما بينها إلى حدٍّ لا بأس به (باستثناء حالات قليلة من الشِّعر والفكاهة وغيرها من ضروب القول الذي يذهب بالترجمة؛ أي الذي تمحُوه الترجمة).
ذلك وقد دلَّت دراساتٌ أحدث للغة الهوبي أنها تتضمَّن عدَّةَ أزمنة وتشتمِل على وسائل مُعقَّدة لتسجيل الوقائع والأحداث. ودلَّت دراساتٌ أخرى عن لغة الإسكيمو أنها تتضمَّن حوالي اثني عشر لفظًا لأصناف الثلج، وهو عدد لا يزيد كثيرًا عمَّا تتضمَّنه كثيرٌ من اللغات الأخرى. وحتى لو افترضْنا أنَّ لغة الإسكيمو تشتمِل على مئات المُفردات لأصناف الثلج فإن ذلك لا يُفيد بأن لُغتَهم تُشكِّل خِبرتهم بالعالم، وإنما يُفيد بأن خِبرتهم بالعالم هي التي تُشكِّل لُغتهم.
لُغة الفكر Language of Thought
هكذا يمكن، فيما يبدو، أن يمتلك المرء تصوُّرات بدون لغة، وأن يمتلك لغةً بدون أن يتأثر بالتصوُّرات؛ الأمر الذي يجعل حتى الصيغة المُعتدِلة من فرضية ورف تبدو هزيلةً لا وزن لها. غير أن فرضية جيري فودور عن لغة الفكر، من حيث هي تفسير للقدرة اللغوية ولتعلُّم اللغة العادية، لم تحظَ بالقَبول العام. ويبدو أنها لا تُفسِّر إلَّا القوى التمثيلية العادية للذهن؛ إذ تهيب بأشياء فطريةٍ من نفس الصنف.
(٢-٨) دراسات مُؤيِّدة لفرضيَّة ورف
دراسة لوسي وشويدر عن تذكُّر الألوان
دراسة ويزمان ودازين عن التوجُّه المكاني
دراسة بيتيرسون وسيجول عن إدراك الأمور العقلية
ذهب بيتيرسون وسيجول إلى أنَّ فشل هؤلاء الأطفال في هذه الجوانب لا يعود إلى الصَّمَم بحدِّ ذاته، فقد نجح الأطفال الصمُّ لآباءٍ صُمٍّ فيما فشل فيه هؤلاء. وتأويل ذلك أن الأطفال الصمَّ لآباءٍ يسمعون هم مجموعة محرومة من التعرُّض للألفاظ التي تُشير إلى أمور تجريدية غير عِيانية، وبخاصة تلك التي تتَّصِل بالحالات الذِّهنية كالاعتقادات والرَّغَبات والمَشاعر؛ ذلك أن آباءهم السامعين ليسوا مُتمكِّنين من اللغة اللازمة لشرْح مِثل هذه الأشياء، فهم يُحاولون التواصُل مع أطفالهم الصمِّ بلغة الإشارة في حدود الأشياء العيانية، أما الحديث عن الكيانات التجريدية كالعقول فلا يملكون تَوصيله لهم، وبالتالي فقد دأبوا على ألَّا يتحدَّثوا لأطفالهم عن الحالات الذِّهنية كالمقاصد والنوايا والأفكار والمشاعر، وأن يقصُروا مُحادثاتهم معهم على الأشياء العينية. إنَّ الحديث عن الأمور العقلية غير الملموسة هو موضوع محوري في المُحادثات بين الآباء والأطفال، وليس ثَمَّة ما يحُول دون هذا الحوار أيضًا بين الآباء الصمِّ وأطفالهم الصُّم.
(٢-٩) وجه بنيامين ورف
ما يزال وجه بنيامين ورف يُطالِعنا في كل مبحثٍ من مباحث اللغة؛ في الترجمة، وفي فلسفة المُقدِّسين للغة، وفي فكر المُرتابين فيها الداعين إلى تحطيم أوثانها، وفي فكر المُتطرفين في النسبية المُوغِلين في فِجاجها حتى مَزالِق الفوضوية. يُطالِعنا وجه ورف كأنه راضٍ عن حصاد زَرْعه مُعجبٌ بهَول إنجازه.
في الترجمة
على الرغم من أنه لا تُوجَد أي نِسبية لغوية فيما يتعلَّق بصِدق أي عبارة، فثمَّة إمكان ألا يُمكن ترجمة عبارة ما إلى لغةٍ أخرى مُعينة.
الترجمة إذن تجعلنا على وعيٍ بالتعارُض القائم بين عالم فَهْمنا الخاص وبين عالم الفَهْم الذي يمضي فيه العمل. وإذا كان الحاجز اللغوي يُبرِز هذا التعارُض ويجعل وجود هذَين العالمين أكثر وضوحًا فإنَّ وجودهما قائم في أيِّ تأويل لعملٍ مكتوب بلُغَتنا نفسها، بل قائم في حقيقة الأمر في أي «حوار» أصيل وبخاصة إذا كان طرفا الحوار يفصلهما فاصل جغرافي.
هيدجر وجادامر وبلانشو
ذهب الفيلسوف المُعاصِر مارتن هيدجر إلى أنَّ اللغة هي الفاعل الحقيقي الذي يقِف وراء عملية التفكير نفسها؛ هي التي تفكر! هي التي «تقول الإنسان»! فحين يُصبح الفَهم صريحًا كتأويل، كلغة، فإن ثَمَّةَ عاملًا إضافيًّا خارجًا عن ذات الإنسان يعمل عمله ويمارس تأثيره؛ ذلك أنَّ اللغة «تُضمِر داخلها منذ البداية منحًى من الفكر كاملًا مُكتملًا، وتنطوي على طريقة في النظر إلى الأشياء تامَّة التكوين مُكتملة «المعالم».» وفي أعماله المتأخِّرة يؤكد هيدجر بدرجةٍ أكبر تلك الصِّلة بين اللغة والوجود، حتى ليصبح الوجود ذاته لغويًّا! في كتابِه «مدخل إلى الميتافيزيقا» يقول هيدجر: «إن الكلمات واللغة ليست لفائف تُعبَّأ بها الأشياء لكي يتبادَلها أولئك الذين يكتبُون أو يتحدَّثُون، إنما في الكلمات واللغة تدخُل الأشياء إلى الوجود للمرة الأولى وتنوجِد وتكون.» هذا هو المعنى الذي ينبغي أن نفهَمَ عليه قول هيدجر المأثور «اللغة هي بيت الوجود.»
يرى هيدجر أن للتسمية (اللغوية) فعل خلقٍ وإنشاء، وحين لا يجِد المرء كلمة تُترجِم خبرته فلا جدوى للخبرة ولا قِيمة، وربما لا وجود لها على الإطلاق، فالأسماء هي التي تُحضِر الأشياء وتمدُّها بالوجود والثَّبات، وهي التي تُسبِغ المعنى على الخبرة وتجعل الخبرة «تُصبح ذاتها» على حدِّ قول بول ريكور. وبدون ترجمة الخبرة إلى لغة تبقى الخبرة محبوسةً في عالم الذات (أو العالم ٢ بتعبير بوبر)، وفور الصياغة اللغوية تنعتِق الخبرة من عالم الذات وتنتقِل إلى عالم «المعرفة الموضوعية» أو العالم ٣ بتعبير بوبر.
أما موريس بلانشو فيذهب، مِثل هيدجر، إلى أنَّ اللغة هي التي تُفكِّر ويؤكِّد على «الخاصية اللاشخصية للُّغة، ووجودها المُستقل المُطلَق الذي تحدَّث عنه مالارميه. فهذه اللغة لا تفترِض أيَّ شخصٍ يتكلَّمُها ولا أيَّ شخصٍ يسمعها. إنها تُكلِّم ذاتها وتكتب ذاتها.»
يورجين هابرماس، ورولان بارت، وبرتراند رسل
وفي مُقابل هؤلاء الذين أنزلوا اللغة منزلة «المُطلق»، ثمَّةَ فصيلٌ آخر من المُفكرين يعرف للُّغة نفوذها الهائل وسطوتها النافذة ودورها الخطير ولكن بشكل سلبي ارتيابي.
إنَّ اللغة ما إن يُنطق بها، حتى وإن ظلَّت مُجرَّد همهمة، فهي تُصبح في خدمة سلطة بعينها؛ إذ لا بُدَّ أن ترتسِم فيها خانتان: نفوذ القول الجازم، وتبعية التكرار والاجترار. فمن ناحية، اللغة جزمٌ وتقرير. ومن ناحية أخرى فإنَّ الدلائل والعلامات التي تتكوَّن منها اللغة لا تُوجَد إلَّا بقدْر ما يُعترف بها، أي بقدر ما تتكرَّر وتَرِد. فالدليل تبعيٌّ مُقلد، وفي كلِّ دليلٍ يرقُد نموذج مُتحجِّر: ليس باستطاعتي الكلام دون أن يَجرَّ كلامي في ذيوله ما يعلَقُ باللسان، وما إن أصوغ عبارةً ما حتى تلتقي عندي الخانتان المذكورتان، وأكون في الوقت ذاته سيِّدًا ومُسوَّدًا؛ إذ إنني لا أكتفي بأن ألوك ما قيل وأُردِّده، مُرتكنًا بارتياح إلى عبودية الدلائل، بل إنني أؤكد وأُثبِت وأفنِّدُ ما أُردِّده.
وفي كتابه حكمة الغرب (١٩٥٩م) يُحذِّر برتراند رسل من تلك «المُنطويات التاريخية الحفرية» القابعة في أحشاء اللغة العادية، والتي يُمكن أن تُصبح عبئًا ضارًّا عندما تتغلغل دون وعيٍ مِنَّا في صميم إدراكنا الراهن للأشياء وتفرِض قوالبها ونماذجها على رؤيتنا الحالية للعالم؛ أي حين تجعلنا نرى العالم بعيونٍ غير عيوننا. يقول رسل: «ذلك أنَّ اللغة العادية هي مُستقرُّ أجزاءٍ مُتناثرة من التأمُّلات الفلسفية المَوروثة من الماضي، وهذا أمر يُستحسَن أن يتذكَّره من آنٍ لآخَر أولئك الذين يُؤلِّهون الكلام العادي وكأنه يعلو على كافة قواعد البحث والاستقصاء.»
بول فييرابند، وريتشارد رورتي
أما ريتشارد رورتي فقد ذهب إلى أن ليس ثَمَّةَ شيءٌ من قبيل الحقيقة الموضوعية الخالِصة أو الواقع الخالِص، فنحن معزولون عن ذلك الشيء وليس لنا مَنفذ إلى أي حقيقةٍ بمعزلٍ عن اللغة، بل إنَّ هذه الفكرة هي فكرة مُستحيلة لأنَّها لا يُمكن أن تقوم إلا داخل أداء لُغوي مُعيَّن وعندئذٍ لا تعود فِكرةً عن حقيقة خالصة. إنَّ حديثنا عن الواقع هو دائمًا حديث عن «واقع — تحت — وصفٍ ما»، وهو بالتالي مُرتهِن لوصفه ذاته ومُتأثِّر بسمات اللغة الواصفة وخصائصها وشروطها. يرى روروتي أن العلماء يَخترعون أوصافًا للعالم، وهي أوصاف نافعة تخدُم أغراض التنبُّؤ والتحكُّم فيما يجري، غير أنه ليس هناك معنى تكون به أيٌّ من هذه الأوصاف تمثيلًا دقيقًا لِما هو عليه العالم في ذاته. وما الثورات العلمية إلَّا ضرب من «إعادة وصْف استعارية» للطبيعة، وليس استبصارًا في خصائصها الباطنة الصَّميمة.
•••
في مقاله «علاقة التفكير والسلوك الاعتيادِيَّين باللغة» يقول ورف إنَّ نعت «فارغ» حين يُلصَق ببرميل بنزين يُصبِح حاملًا لخطر الحريق! إنَّ الموقف هنا خَطِر من الوجهة المادية. غير أنَّ الضرورة اللغوية تَضطرُّنا إلى استخدام لفظةٍ تُوحي بالخلوِّ من الخطر، وتضرب صفحًا عن «امتلاء» الوعاء في حقيقة الأمر ﺑ «الأبخرة» وبقايا السائل والمُخلَّفات القابلة للاشتعال. هكذا يتبيَّن أن لفظةً واحدة قد تُستعمَل لوصف زُمرةٍ مُتنوعةٍ من ظواهر العالم، وأن «الخريطة» اللغوية تقدم ﻟ «الإقليم» الواقعي صورةً مُبسَّطةً تبسيطًا مُخِلًّا. على المرء أن يتفطن إلى ذلك القصور في الخريطة وألا يترُك وعيَهُ المباشر بالواقع مُغيبًا أو مُرتهنًا لوساطة الخرائط.
يُشير ورف أيضًا إلى عيوبٍ كُبرى تكمُن في اللغة الإنجليزية وعائلتها، منها على سبيل المثال ذلك الخلْط بين الجمع الحقيقي والجمع الخيالي: حين نقول مثلًا «عشرة رجال» و«عشر ساعات» فإنَّنا نُقيم في حقيقة الأمر مُماثلةً زائفة بين مَجالين أنطولوجيين مُختلفين، بنفس الضرورة التي جلبنا بها في المثال السابق خطر الحريق! ذلك أنَّ لُغتنا تخلِط بين مَوقِفين مُختلفين لأنها لا تملك غير نمطٍ واحدٍ لوصف كليهما. أما لغة الهوبي فهي عند ورف مُعفاةٌ من هذا القصور؛ لأنها لا تستخدِم الجموع والأعداد الأصلية إلا لوصف الكيانات التي تكوِّن، أو يُمكن أن تكوِّن، زمرةً موضوعية.
يبدو عمل ورف في جُملته كأنه دفاع عن النسبية التصورية وعن الثقافات الأمريكية القديمة وتبرئتها من وصمة «البدائية» حين تَستخدِم هذه اللفظة بمعنى ازدرائي. ويبدو عمله أيضًا كأنَّهُ دعوة إلى اندماج أو شراكة بين العلم والثقافة، وإلى تَحالُفٍ عقلاني بين اللغة والفكر والواقع. وهو بهذا التوجُّه يظلُّ نقدًا دائمًا للغة القياسية الأوروبية كنموذجٍ للواقع، ورفعًا للُغة الهوبي فوق عائلة اللغات الأوروبية، لأنها أقلُّ مَيلًا من هذه اللغات للتَّشييء الكاذِب والتَّجريد الزائف والتحوُّلات الاستعارية المُضلِّلة بين مجالات أنطولوجية مُختلفة. إنَّ الصيرورة والذاتية والفَهْم النِّسبي للزمان لَتَتراصَفُ في الإنجليزية جنبًا إلى جنبٍ مع النزعة الماهوية والأضداد الزائفة والثُّنائيات غير الصحيحة. ويخلُص ورف من تحليلاته إلى أنَّ اللغات الأخرى كالهوبي هي أكثر اقترابًا من رُوح العِلم الحديث! وأنها يُمكن أن تكون نموذجًا يُصحِّح للفكر الغربي أخطاءه ويُقوِّم زَيغه، كما تنطوي أعماله على دعوةٍ إلى حماية اللُّغات المُتعدِّدة من الاندثار، ما دامت كلُّ لغةٍ تُقدِّم لنا استبصاراتٍ فريدةً عن العالم وآلياته، وتصنيفًا مُعقَّدًا لأشياء الطبيعة وكائناتها، وفهمًا مُعيَّنًا للمكان والزمان.
(٣) النسبية: نظرة عامة
نحن لا نرى الواقع كما هو، وإنما نراه كما نحن!
-
إنَّنا كائنات تقَع موقعًا situated ثقافيًّا وتاريخيًّا مُعيَّنًا.
-
إن تبرير القضايا لا يمكن أن يمضي إلى ما لا نهاية.
-
إنَّنا لا يُمكن أن نتحدَّث دون أن نستخدم اللغة، أو نفكر دون أن نستخدِم المفاهيم والتصوُّرات.
غير أنها، أي الحُجَج النسبية، تُفضي في نهاية المطاف إلى نتائج غير مقبولة، بل غير مُتَّسِقة. ورغم ذلك فنحن لم نَتَّفِق على طريقةٍ تعصِمُنا من الانزلاق من نِقاطٍ انطلاقٍ نَرضاها إلى مقاصِدَ وغاياتٍ لا نرضاها.
(٣-١) الصيغة العامة للنسبية
س منسوب إلى ص
(٣-٢) النِّسبية الوصفية والنِّسبية المِعيارية
-
«النسبية
الوصفية» Descriptive Relativism: هي فصيلٌ من الدعاوى الإمبيريقية (البعدية/المُستقاة من التجربة)
مفادها أن الجماعات المختلفة لديها في واقع الأمر طرائق مُختلفة من
التفكير أو معايير الاستدلال أو ما شابَهَ ذلك. تريد هذه الدعاوى أن
«تصف»، لا أن تُقيِّم، المبادئ والممارسات الخاصة بالجماعتَين، وهي
مُتساوِقة مع الدعاوى بأن:
- كلا الجماعتين على صواب (بطريقته الخاصة).
- إحدى الجماعتَين فقط على صواب.
- كِلا الجماعتَين على خطأ.
- ليس ثمَّة شيء من شأنه أن يجعل الأشياء صوابًا (مثلًا: ليس ثمَّة حقيقة نهائية بصدَد أي المبادئ الإبستيمية أو الخلقية هي الصواب).
وليس ما يمنع أن يكون المرء نسبيًّا وصفيًّا في بعض الأشياء (المبادئ الخلقية مثلًا) دون بعضها الآخر (المبادئ المنطقية مثلًا).
والدعوى بأن ثقافة المرء أو لُغته تؤثر على طريقةِ تفكيره لا تعني أنها تُحدِّد هذا التفكير على نحوٍ تام، فالقول مثلًا بأن التدخين عامل مُسبِّب لسرطان الرئة يعني أن المُدخِّنين، في حالة تساوي العوامل الأخرى، هم أكثر تعرُّضًا لسرطان الرئة، ولا يحول دون تدخل عوامل مُسبِّبة أخرى بدءًا من البنية الوراثية إلى التعرُّض للإسبستوس. كذلك فإن الدعوى بأن الثقافة أو اللغة أو غيرها من المُتغيِّرات المُستقلة يؤثر على جانبٍ مُعيَّن من الخبرة أو التفكير ليست حائلًا دون غيرها من المؤثرات. وتأتي النسبية الوصفية في صِيَغ أقوى أو أضعف بحسب القوة التي تفترضها لتأثير المُتغيِّر المُستقل.
كثيرًا ما تُواجَه الدعاوى النسبية الوصفية حول المبادئ الإبستيمية والقِيَم الأخلاقية … إلخ بِحُججٍ مُضادة تقول بأن هذه الأمور «عمومية/عالمية» universal تشمل البشر جميعًا. وينصبُّ شطرٌ كبير من الأدبيَّات الحديثة المُتعلقة بهذه الأمور على البحث في «العموميات» universals الثقافية أو الأخلاقية أو اللغوية من حيث مداها ومِقدارها والأدلة على وجودها.جميع الدعاوى النسبية الوصفية بشتَّى أنواعها هي إذن دعاوى إمبيريقية. قد يُغرينا ذلك بأن نخلُص إلى أنها قليلة الأهمية من الوجهة الفلسفية، غير أن هذا استنتاج خاطئ لأسباب عديدة:- أولًا: يذهب بعض الفلاسفة، بما فيهم «إمانويل كانْت» إلى أن بعض أصناف الفروق المعرفية بين الكائنات البشرية (بل بين الكائنات العاقلة جميعًا) هي غير مُمكنة، وغير واردة على صعيد الواقع. وتلك دعوى مُثيرة ومُهمَّة، لأنها تضع حدودًا «قبلية» a priori لما يُمكن للبحث الإمبيريقي أن يكشفه، ولِمَا يُمكن أن يكون حقًّا من بين ضروب النسبية الوصفية.
- ثانيًا: تضطلِع الدعاوى بوجود فروقٍ فِعلية بين الجماعات (النسبية الوصفية) بدور مِحوري في كثيرٍ من الحُجَج المؤيِّدة لكثيرٍ من ضروب النِّسبية المِعيارية. تبدأ حُجَج النسبية الأخلاقية المعيارية، على سبيل المثال، بدعاوى تُفيد بأنَّ الجماعات المُختلفة لدَيها في واقع الأمر دساتير أو مُثل أخلاقية مُختلفة.
- ثالثًا: تُساعدنا الصِّيَغ الوصفية من النسبية على أن نفصِل الجوانب الثابتة للطبيعة البشرية عن تلك الجوانب التي يُمكن أن تتغيَّر. ومن ثم فإن أي دعوى تقول بأن جانبًا ما من الجوانب الهامة في الخبرة أو الفكر يختلف بالفعل (أو لا يختلف) بين جماعة وأخرى من البشر هي في الحقيقة دعوى تُنبئنا بشيء مُهمٍّ عن الطبيعة الإنسانية والوضع البشري.
- «النسبية المعيارية» Normative Relativism: هي فصيلٌ من الدعاوى المعيارية أو التقييمية غير الإمبيريقية، مفادها أن طرائق التفكير أو معايير الاستدلال أو ما شابه، ليست صوابًا أو خطأ بحدِّ ذاتها، بل هي صواب أو خطأ «بالنسبة» لإطارٍ مُعيَّن. النسبية الأخلاقية المعيارية، على سبيل المثال، هي الدعوى القائلة بأنَّ الأخلاق ليست حقًّا أو باطلًا إلَّا بالقياس إلى دستورٍ أخلاقي مُعيَّن. وليس ما يمنع أن يكون المرء نِسبيًّا وصفيًّا في مجالٍ ما دون أن يكون نِسبيًّا معياريًّا في ذلك المجال. فقد يُسلِّم المرء، على سبيل المثال، بوجود تَفاوُتٍ هائل بين الجماعات المختلفة من حيث معايير السلوك الصائب والمُثُل الأخلاقية المَرعيَّة، ويعتقد رغم ذلك بوجود مِعيارٍ موضوعي مُطلق يعلو على هذه المعايير ويَحكُم عليها من حيث الحق والباطل، ومن حيث التقدُّم والتخلُّف.
(٣-٣) وجهان للنسبية المعيارية
يعني وجود هذين الوجهين أنَّ على النِّسبي المعياري أن يُحارب على جبهتَين مُختلفتَين جد الاختلاف، فعلى الجبهة الأولى ينبغي أن يُدافع عن الدعاوى المُضادة للواقعية (لا وجود لحقائق بمعزِل عن إطارٍ مُعين فيما يتعلق بالمجال المعني)، وقد يعنُّ للنسبي المعياري أن يُجنِّد الحُجج القياسية المُضادة للواقعية لخدمة النسبية. غير أنَّ هذه الحجج ستذهب به أبعد ممَّا يود؛ لأنها تُنكر وجود حقائق تكون الأشياء فيما يتعلَّق بها صائبةً بأيِّ معنًى من المعاني بما في ذلك الصواب المنسوب إلى إطارٍ مُعين.
وعلى الجبهة الثانية يتعيَّن على النسبي المعياري أن يدافع عن الدعاوى الواقعية القائلة بوجود حقائق عمَّا هو صائب أو صادق بالنسبة لإطارٍ مُعين. هذه الجبهة أكثر خداعًا من الأولى؛ ذلك أنَّ من الصعب في بعض الأحيان أن يُبيِّن مَبلغ هذا الصواب «المنسوب لإطار» ثُم إن عليه بعد ذلك أن يُبيِّن أن هناك بالفعل مِثل هذه الحقائق أو المعايير. وقد يعنُّ له أن يُعيد تأويل الحُجج القياسية المُؤيِّدة للواقعية بطريقةٍ تُتيح له أن يُجنِّدها لحِسابه.
(٣-٤) تصنيف المواقف النسبية
قُلنا إن الصيغة العامة للنسبية هي:
«س» منسوب إلى «ص».
-
حيث «س» هو الشيء الذي نزعم أنه «نسبي» relative، وهو من ثم «مُتغيِّر تابع» dependent variable.
-
وحيث «ص» هو الشيء الذي نزعم أن «س» منسوب إليه ومُتوقِّف عليه، وهو من ثم «مُتغيِّر مُستقل» independent variable.
-
وحيث الصِّلة بين المنسوب «س» والمنسوب إليه «ص» هي إمَّا صِلة وصفية «النسبية الوصفية»، وإما صِلة مِعيارية (النسبية المعيارية).
المُتغيِّرات التابعة (س) Dependent Variables
-
التصورات المحورية Central Concepts.
-
الاعتقادات المحورية Central Beliefs.
-
التقدير المعرفي (الإبستيمي) Epistemic Appraisal.
-
الأخلاق Ethics.
-
دلالة الألفاظ/المعاني/السيمانطيقا Semantics.
-
الممارسة Practice.
-
الحقيقة/الصدق Truth.
-
الواقع Reality.
المُتغيِّرات المُستقلة (ص) Independent Variable
-
اللغة Language.
-
الثقافة Culture.
-
الحقبة التاريخية Historical Period.
-
البنيان الإدراكي/المعرفي الفطري (البنية البيولوجية) Innate Cognitive Architecture.
-
الاختيار Choice.
-
الإطار العلمي Scientific Framework.
-
الدين Religion.
-
الجنس، العنصر، الوضع الاجتماعي Gender, Race, Social Status.
-
الفرد Individual.
المُتغيِّرات التابعة: الأمور النسبية
ليست المُتغيِّرات التابعة مُنفصلةً تمامًا بعضها عن بعض، ولكنها كثيرًا ما تُفصَل من أجل المُعالَجة الفردية وبغرَض الدراسة المُنفصِلة.
-
تذهب النسبية الوصفية للمفاهيم descriptive conceptual relativism إلى أنَّ هناك بالفعل جماعات مُختلفة ثقافيًّا أو لُغويًّا أو عرقيًّا … إلخ، لديها منظومات من التصوُّرات المحورية مختلفة فيما بينها بشكلٍ لافت. من المُتَّفَق عليه مثلًا أن مفهومنا الحديث عن «حقوق الفرد» لم يكن له وجودٌ في العالم القديم. ومِثال آخر، وإن يكن خلافيًّا، ما ذهب إليه بينامين ورف B. Whorf من أن الناطقين بالإنجليزية يغلِب على تصوُّرهم للعالم مفهوم «الشيء» أو «الموضوع» object الباقي المُستديم (الصخور، الأحصنة، … إلخ)، بينما ينظُر شعب «الهوبي» Hopi (قبائل من الهنود الحُمر) إلى الأشياء في عالَمِهم على أنها «أحداث» events أو «وقائع».
يذهب هذا الضرب من النسبية إلى أنَّ ليس هناك أي منظومة، أو إطار، من التصوُّرات يمكن أن نقول إنها صحيحة بمعنى أنها مُضاهية أو مُطابقة لبِنية العالم. ليس ثمَّةَ تصورات تُقسِّم الأشياء إلى مجموعات أو شرائح بطريقةٍ مُطابقة للطريقة التي تنقسِم بها الأشياء في الطبيعة حقًّا وصدقًا، أو، باستخدام استعارة أفلاطون، ليس ثَمَّة مفاهيم «تقطع الواقع من مفاصِله» (مُحاورة فايدروس). في هذه الاستعارة يُشبِّه الواقع بدجاجة: حيث هناك مفاصل حقيقية، أي حقائق عن أصناف الأشياء الكائنة هناك بمعزِل عن تصنيفها لها في الفكر. هذا على وجهِ التحديد هو ما تُريد نِسبية المفاهيم أن تُنكِره.
على أنَّ هذا العجز عن الوصول إلى مُضاهاة للواقع ليس قصورًا في تصوُّراتنا، وإنما ينجم لأنَّ العالم لا يأتي كأشياء سابقة على التعبئة والتفريد تُمثِّل خواصَّ سابقة على التصنيع وتَمْثُل في علاقاتٍ سابقة على الإنتاج. من هنا يأتي هذا الصنف من النسبية في كثيرٍ من الأحيان مُقترنًا بصنفٍ أعمَّ هو نسبية الصِّدق أو الواقع.
-
أما النسبية المعيارية للمفاهيم conceptual normative relativism فهي الدعوى القائلة بأن ليس هناك منظومة مُفرَدة من المفاهيم صحيحة بمَعزِل عن الإطار، وإنْ أمكن أنْ تكون منظومةً صحيحة بالنسبة لإطارٍ معين. ويُضيف النِّسبي المعياري هنا أن تصوُّراتنا لم تكن يومًا نابعةً من بِنية الواقع ولا حتى مُضاهيةً له، بل إنَّ أفكار البِنية أو التَّشابُه أو الأنماط هي من ملامح توصيفنا وتفكيرنا لا من ملامح الواقع «في ذاته» بمعزِل عن الذِّهن وعن اللغة. صحيح أن بعض التصنيفات تأسِرنا بوصفها أكثر بساطةً ونفعًا وطبيعيةً من سِواها، غير أن الطبيعية والبساطة والنفع هي قِيَمُنا نحن لا قِيَم العالم!
المفاهيم تفعَل أكثر من مُجرَّد التصنيف
التصنيف، في الأغلب، ليس غايةً في ذاته، فالمفاهيم (التصورات) تتبطَّن كل عملياتنا الذهنية العُليا، شاملةً الاستدلال والتنبُّؤ والتخطيط والتعلُّم والتفسير. واستعمال المفاهيم (والمعلومات التي نقرِنها بها) لعمل استدلالات توسُّعية يُسهِّل الكثير من هذه الاستخدامات الأخرى، ويُمكننا أن نُطبِّق ما تعلَّمناه على حالات أخرى ومواقف جديدة. عندما أرى مثلًا أنَّ المخلوق القابِع تحت الصخرة هو «حيَّة ذات جرس» فإنَّني أستدلُّ على الفور أنه «خطِر».
المفاهيم تُقدِّم لنا الأصناف والأشياء أيضًا
وتختلف الثقافات أيضًا في مدى السرعة والاعتياد والتلقائية التي يُستخدَم فيها المفهوم نفسه. ومن شأن الفرد الذي يعتقِد في عالمٍ مليءٍ بالسحر والأرواح أن لا يتردَّد في أن يعزو المرَض إلى السحر بينما يتردَّد في ذلك من هو أقلُّ اعتقادًا في السِّحر والأرواح ولا يضَعُه إلَّا كاحتمالٍ أخير. وصفوة القول أن اختلاف مجال استخدام المفاهيم ومدى اعتياد هذا الاستخدام يُفضي إلى تصوراتٍ مُختلفة عن العالم.
-
أما النِّسبية الوصفية فيما يتَّصِل بالاعتقادات المحورية (المركزية) فهي الدعوى الإمبيريقية القائلة بأن الجماعات المُختلفة لدَيها في واقع الأمر اعتقادات مُختلفة. من ذلك مثلًا أنَّ الاعتقاد بأن الطبيعة كلها حيَّة هو اعتقاد محوري في الثقافات الإحيائية ولكن ليس اعتقادًا محوريًّا لأغلب الناس في العالم الغربي اليوم. ومثال آخر هو الاعتقاد في «الحتمية العِلِّية» causal determinism الذي كان اعتقادًا محوريًّا لدى علماء الفيزياء في القرن الثامن عشر، ولكنه ليس اعتقادًا محوريًّا لدى علماء الفيزياء اليوم. ومثال ثالث الاعتقاد بأنَّ جميع البشر سواسية من حيث القِيمة الأخلاقية (ويجِب من ثَمَّ أن يُنظَر إليهم كغاياتٍ في ذاتها) وهو اعتقاد محوري لدى البعض اليوم ولكنه لم يكن محوريًّا لدى كثيرٍ من أهل أسبرطة القديمة.
-
وأما النسبية المعيارية فيما يتَّصِل بالاعتقادات المحورية (المركزية) فهي الدعوى القائلة بأن ليس هناك حقيقة غير مُرتبطة بإطارٍ حول أي الاعتقادات المحورية هي الصائبة، وإنما تكون هذه الاعتقادات صائبة أو خاطئة بالنسبة لإطارٍ ما. من الواضح أن الدعوى بأن أيَّ اعتقاد — حتى المُتناقِض وغير المُتَّسِق — يُمكن أن يكون صوابًا بالنسبة لإطارٍ مُعيَّن هي دعوى بلَغَتْ من الغلوِّ والشطط مبلغًا يجعلها غير مقبولة. غير أنَّ من المُمكن تقبُّل صِيَغٍ معقولة من النسبية المِعيارية للاعتقاد. ولما كان الاعتقاد «الصائب» right يعني الاعتقاد «الصادق» أو «الحق» true فإنَّ نسبية الاعتقاد تُفضي إلى «نسبية الحقيقة» relativism of truth، وهي ما سوف نُفرِد لها عنوانًا مُستقلًّا نظرًا لأهميتها الكبرى في مباحث النسبية.
أما النسبية المعيارية للإدراك الحسي فهي الدعوى القائلة بأن ليس هناك طريقة واحدة صحيحة مُستقلة عن الإطار لإدراك الأشياء، بل هناك طُرق عديدة صحيحة بالنسبة للمنظومات المُختلفة من المفاهيم والاعتقادات. مثال ذلك أنه إذا نظر اختصاصي أشعَّة قدير إلى بُقعة مُعينة في صورة أشعة إكس لوجب، وفقًا لمنظومة المفاهيم الطبية التي ينظُر بها، أن يرى أنها ورَمٌ بالمَعِدة على سبيل المثال.
المعالجة الهابطة Top-Down Processing
والإدراك السَّمعي للكلام يُقدِّم لنا مثالًا آخر، فنحن نسمَعُ لُغتنا الأم ككلماتٍ ذات معنى تنفصِل الواحدة منها عن الأخرى عند نقاطٍ مُعينة حيث يكون النمط السمعي غير مُقطَّع، بل إنَّ من الصعب حقًّا أن نسمعها كمجرَّد أصوات (كما هو الحال عندما نسمع حوارًا بلغةٍ لا نفهمها) حتى إذا حاولنا ذلك.
هانسون واستِبصار جديد في الإدراك الحسي
هكذا يؤدِّي تغيُّر «النموذج الشارح» إلى تغيُّر الإدراك البصري للموضوع نفسه؛ ذلك أن الإحساس البصري المحْض، على المستوى الذري، لا يقدِّم أكثر من بُقَع فسيفسائية مُبعثرة، ثم يأتي «النموذج» أو «الجشطلت»؛ وهو شيء مُحمَّلٌ بالنظرية، أو هو نظرية! فيُضفي هيئةً ومعنًى ووضعًا بعينِه على هذا الإحساس الغُفل. وإن ظواهر شهيرة مثل «تبدُّل الأمامية/الخلفية» ومثل «التحوُّل الجشطلتي» لتُبيِّن بوضوحٍ أن رؤية منظرٍ ما بطريقةٍ أو بأخرى يتجاوز كثيرًا مُجرَّد الإحساس الغُفل؛ فالتأويل المُسترشِد بنموذج من شأنه أن يُغيِّر الخبرة ذاتها.
وجُملة القول أن قدرًا كبيرًا من الإدراك الحسي يتأثر بمفاهيم الشخص المُدرِك وتوقُّعاته واعتقاداته العامة؛ ومن ثَمَّ فإن أعضاء الجماعات المُختلِفة (الزُّمرات العلمية) الثقافات، الجماعات اللغوية، الأحقاب التاريخية) سوف يرون العالم بطرقٍ مُختلفة.
دراسات عَبر-ثقافية
نسبية الإدراك – فقرات مأثورة
جينيالوجيا المعرفة
السلطة والتراث
النسبية الإبستيمية
مثلما أنَّ من المفاهيم والاعتقادات ما هو محوري مركزي يُمكننا أن نُطلِق على المعايير الإبستيمية الأساسية عند جماعة من الجماعات «المعايير المركزية أو معايير الإطار»، على أن نفْهَم المركزية هنا أيضًا على أنها مسألة درجة.
-
النسبية الإبستيمية الوصفية حول أسلوبٍ مُعيَّن من الاستدلال (مثل الاستدلال الاستنباطي، الاستدلالي العِليِّ … إلخ) هي الدعوى الإمبيريقية القائلة بأن الجماعات المختلفة تَستخدِم بالفعل معايير مركزية مُختلفة لتقييم هذا الصنف من الاستدلال.
-
أما النسبية الإبستيمية المعيارية فهي الدعوى القائلة بأنه ليست هناك حقائق مُستقلة عن الإطار حول أي أساليب الاستدلال أو معايير التبرير أو العقلانية هي الصحيحة. ولكن هناك حقائق حول هذه الأشياء بالنسبة لإطارٍ مُعين، أي أنَّ بوسع الأشخاص أو الجماعات أن تختلف حول ما هو الدليل الصحيح أو التبرير القوي دون أن يُعتبَروا متناقِضَين مع أنفسهم أو غير مُتَّسِقين أو لاعقلانيين. وما دامت المعرفة تتطلَّب التبرير، كما يفترض العديد من الفلاسفة، فإن نسبية التبرير تفضي أيضًا إلى نسبية المعرفة.
تُعدُّ النسبية الإبستيمية من أهم ضروب النسبية وأكثرها إثارة، صحيح أن الصِّيَغ المُتطرفة منها (تلك التي تسمح بمعايير إبستيمية حتى لو كانت متناقضة مع ذاتها بأن تكون صحيحة بالنسبة لإطارٍ ما!) غير مقبولة على الإطلاق. إلا أنَّ هناك عددًا من الكُتاب يؤيِّد صيغًا من النسبية الإبستيمية أكثر دقة (أو يقول شيئًا في حقِّها على أقلِّ تقدير). وليس من السهل تفنيد كلِّ هذه الصِّيَغ كما قد يتصوَّر المرء؛ ليس من السهل مثلًا ابتكار دفاعات عن بعض معاييرنا ومُمارساتنا الإبستيمية الأساسية (كالاستقراء مثلًا) دون الوقوع في «دورٍ منطقي».
هل يترتَّب على هذا «الوعي الأنثروبولوجي» أيُّ شيءٍ مُثير للاهتمام من الوجهة الفلسفية؟ يُجيب بعض الفلاسفة: كلا؛ إنَّنا نبدأ من حيث نبدأ ثُمَّ نتقدَّم، مُستخدمين العقل والحُجَّة والنقد، نحو قواعد وقِيَم يمكن الدفاع عنها عقليًّا، بينما يرى فلاسفة آخرون أنَّنا مهما تكُن قُدرَتُنا على استعمال العقل والحُجَّة والنقد فنحنُ لا يُمكِننا أن نُقدِّم دفاعًا عن قواعدنا وقِيَمِنا يكون من الموضوعية والنزاهة والبُعد عن التحكُّم والتعسف بحيث يدفع أيَّ شخصٍ من أيةِ ثقافةٍ إلى قَبوله والتَّسليم به.
تشتمِل حياتُنا الأخلاقية على مبادئ وقواعد والتزاماتٍ وحقوقٍ وواجبات ومُثُل وقِيَم وطرائق تبرير الدعاوى الأخلاقية ونقْدِها، وأشياء أخرى كثيرة بلا ريب. ومن الجائز أن يكون المرء نِسبيًّا تجاه بعض هذه الأشياء (عناصر الحياة الصالِحة على سبيل المثال) وغيرَ نِسبيٍّ في أشياء أخرى (الحقوق على سبيل المثال).
-
النسبية الأخلاقية الوصفية هي الدعوى الإمبيريقية القائلة بأنَّ الجماعات المُختلفة تختلِف بالفعل في بُعدٍ أو أكثر من الأبعاد الأخلاقية. من ذلك أن الثقافات الغربية الحديثة تُعلي من شأن الفردية والاستقلالية والكرامة الشخصية بوصفِها قِيَمًا أساسية، بينما تنظُر بعض الثقافات الأخرى إلى تماسُك الجماعة أو إرضاء الآلهة كقِيَم أكثرَ أهمية. وقد تنظر جماعة مُعينة إلى الخُنوع والتواضُع والخضوع للجماعة بوصفِها قِيَمًا بينما تؤكد جماعاتٌ أخرى على البطولة والكبرياء. قد تؤدي مثل هذه الفروق في المفاهيم والقِيَم والمُمارسات الأخلاقية أيضًا إلى فروقٍ في الإدراك الخُلقي والحساسية الخلقية.
-
أما النسبية الأخلاقية المعيارية فهي الدعوى القائلة بأنَّ ما هو صواب أو عادل أو فاضل أو خير إنما هو كذلك داخل إطار أخلاقي مُعيَّن وبالنسبة إليه فحَسْب.
والحقُّ أنَّ النسبية الأخلاقية هي موضوعٌ قائم بذاته، ومُتداخِلٌ إلى ما يقرُب من التَّماهي مع موضوع النسبية الثقافية. وقد أفرَدْنا له فصلًا خاصًّا يُبيِّن ما لها وما عليها، وفقًا لتحليلٍ مُفصَّلٍ لواحدٍ من كبار مؤيدي النسبية الأخلاقية هو جراهام سمنر، وآخر من كبار مُناوئيها هو ولتر ستيس.
-
أما النسبية السيمانتية الوصفية فهي الدعوى الإمبيريقية القائلة بأنَّ الجماعات المختلفة، كالأشخاص الذين يعيشون في ثقافات مختلفة أو أزمِنة مختلفة، يكون لدَيهم أحيانًا اعتقادات مختلفة عن معنى كلمةٍ من الكلمات (ونعني الكلمة كما تُنطَقُ أو تُكتَب بمعزلٍ عن المعنى). مثال ذلك، كما سوف نعرِض مرارًا، ما ذهب إليه بعض الفلاسفة من أن استخدام العلماء لكلمة «كُتلة» mass في أواخر القرن السابع عشر يختلف عن استخدام الفيزيائيين اليوم اختلافًا يجعل أعضاء الجماعتين يُلصِقون باللفظة ذاتها معاني مختلفة.
-
وأما النسبية السيمانتية المعيارية فهي الدعوى القائلة بأن معاني الألفاظ تُحدِّدها الجماعة الثقافية أو اللغوية أو الحِقبة التاريخية. وعليه فإذا كان مُجتمعان من التداخُل بحيث يَستخدِمان اللفظة عينها، فمن المُمكن أن يكون لهذه اللفظة مَعنَيان مختلفان في هذَين المُجتمعَين. من ذلك ما ذهب إليه بعض الفلاسفة من أن لفظة «كتلة» text لها داخل الإطار النيوتوني معنى (يُشير إلى المِقدار الفيزيقي الذي لا يتأثَّر بالسرعة) ولها داخل إطار الفيزياء الحديثة معنًى آخر. ومن ذلك ما ذهب إليه البعض من أن معاني الروابط المنطقية (مثل: ليس، إذا، بعض … إلخ) هي نسبية — بحسب الأُطُر المنطقية المُختلفة (ﮐ «المنطق الحدْسي» أو المنطق التقليدي … إلخ).
المعنى هو الاستخدام
«المذهب الكلي في المعنى» Meaning Holism ونِسبية المعنى
رغم أن فكرة المعنى اللغوي هي فكرة مُتعددة الجوانب ومَثار جدل لا ينتهي، فإن مُعظم المفكرين يتَّفِقون على أن المعنى والإشارة (المعنى الحقيقي) والصِّدق هي أفكار سيمانتية محورية. وسوف نبدأ بالفكرة الحدسية عن المعنى، مُركِّزين على تبيان كيف تُجنَّد كثيرًا فكرةُ نِسبية المعنى للدفاع عن أمورٍ نسبيةٍ أخرى، ثم نعرِض إلى نسبية «الصدق/الحقيقة» ونِسبية «المعنى الإشاري».
اللامُقايسة وتغيُّر المفاهيم
من الممكن أيضًا صياغة وصفٍ «كلي» للاعتقاد أو المحتوى العقلي بحيث يكون معنى اعتقاد مُعين أو مضمونه مُتوقِّفًا على مكانه في شبكةٍ كبيرة من الاعتقادات. ومن الممكن وضع صِيغةٍ للامقايسة والنسبية في حدود المفاهيم لا الألفاظ.
وأحيانًا ما تُصوَّر النسبية على أنها، ببساطة، هي وجهة النظر القائلة بوجود أُطُر غير قابلة للمُقايسة على الإطلاق، وهي نظرة مُتشدِّدة قلَّما تجِد من يُدافع عنها بشيءٍ من التفصيل، وهي نظرة لا نُحبِّذها لأنها تنفي ببساطةٍ كثيرًا من الصِّيَغ الشائقة من النسبية، على أنَّ دعاوى اللامقايسة تدعم بالفعل بعض ضروب النسبية الوصفية من حيث إنَّ الجماعات التي تَتَّخِذ منظورًا مختلفًا تمامًا إلى العالم ستكون لدَيها أُطُر مختلفة تمامًا من المفاهيم والمعايير والاعتقادات.
اللامُقايسة والمُقارنات عبر-الثقافية
غموض الإشارة والنسبية الأنطولوجية
الاعتقادات المُعلَنة والتفكير الواعي والاستِدلال الصريح؛ ليست هذه هي كل شيء في حياتنا الذهنية. وكلنا يعلم أن اكتسابنا للغتنا الأصلية وتمييزنا للوجوه وغير ذلك من أنشطتنا العقلية لا يتم وفقًا لقواعد أو تعاليم مُحدَّدة. وكل من حاول من العلماء المعرفيين استخلاص قواعد صريحة لهذه المهارات وجد ذلك أمرًا بالِغ الصعوبة. وإذا كانت بعض جوانب الممارسة هي جزء من موروثنا البيولوجي فإنَّ هناك جوانب أخرى تختلِف من جماعةٍ إلى أخرى.
وقد شبَّهَ توماس كُون تعلُّم العِلم بالتَّمَهُّن الحِرَفي الذي يكتسِب فيه المرء لا مُجرَّد معرفة صريحة بل عادات أيضًا ومهارات. وذهب جون سيرل، وكثير غيره، إلى أنَّ هناك معرفة مُضمَرة غير منطوقة وربما غير قابلة للتمثيل تُشكِّل خلفية من الافتراضات والمُسلَّمات وأساليب الإدراك وطرائق الفعل. هذه الخلفية المُضمَرة تتبطَّن جميع معارفنا وتقييماتنا.
-
النسبية الوصفية حول المُمارسة هي الدعوى الإمبيريقية القائلة بأن الجماعات المُختلفة لدَيها مُمارسات مُختلفة من شأنها أن تؤدِّي إلى طرائق مُختلفة من الفكر والتقييم. في هذا المقام قد يرى المرء إلى الثقافة على أنها تُحدِّد الممارسات التي تُحدِّد بدورها أساليب التصنيف والتقييم. غير أنه من الأدقِّ أن ننظُر إلى الممارسات الثقافية وطرائق التصنيف كجوانب للشيء نفسه، نفصلها بشكل اصطناعي إلى حدٍّ ما بغرض الشرح والتوضيح.
-
أما النسبية المعيارية حول الممارسة فهي الدعوى القائلة بأن من الممكن وجود حقائق مرتبطة بالإطار — وليس بمعزِل عنه — تُبيِّن لنا أي الممارسات هي الممارسة الصائبة. ليس هناك ممارسة صحيحة بمعنًى مُنفصل عن الإطار. يقول جودمان إن المفاهيم التي ينبغي أن نُسقِطها على الظواهر، هنا والآن، تعتمد في جانبٍ منها على الممارسات الاستقرائية لمجتمعنا، وتتوقف على أي المحمولات قد تمَّ لأعضاء جماعتنا إسقاطها في الماضي بشكلٍ ناجح. وبعبارةٍ أخرى فإن تاريخ ممارساتنا هو الذي يُحدِّد أي التصنيفات هو الصحيح في شتَّى الأغراض.٧٨
ولمُعالجة لدفيج فتجنشتين لمسألة الممارسة أهمية خاصة؛ فقد ذهب فتجنشتين إلى أن تبريراتنا وأسبابنا العقلية لا تقوم على حُجَجٍ أو اعتقادات أو مبدأ، وإنما تقوم على حقيقة أننا نسلُك كما نسلك، وفقًا لشكل الحياة عندنا والممارسات التي لدينا. قد تكون بعض جوانب هذا الشكل من الحياة شيئًا مُشتركًا يشمل جميع الكائنات الإنسانية السوية، ولكن بعضها الآخر قد يختلف من جماعة إلى أخرى اختلافًا بعيدًا.
«ماذا يُعدُّ اختبارًا لها؟ ولكن هل هو اختبارٌ سديد؟ وإذا كان كذلك ألا ينبغي أن يتجلَّى كما هو في المنطق؟ يبدو التبرير المنطقي كما لو أنه لا يقِف عند حدٍّ في بعض الأحيان، وكل أساسٍ يتطلَّب أساسًا أبعد. غير أنَّ الحدَّ ليس مُسلَّمةً بلا أساس؛ إنه طريقة للفعل بلا أساس أبعد منها.» (أبحاث منطقية، ١١٠)
إن المُمارسة تغمُر وتتخلَّل جميع جوانب الثقافة والفكر والتقييم، غير أنها تستحقُّ أن نُفرِدها للبحث والاستقصاء؛ ذلك أن شمولها نفسه يجعلها خفيَّةً عن الأنظار!
-
النسبية الوصفية لقِيَم الصدق Descriptive Truth-Value Relativism، هي الدعوى الإمبيريقية القائلة بأنه في بعض الأحيان يعتقد أعضاء الجماعات المختلفة في أشياء مُختلفة على أنها حقيقة.
-
النسبية المعيارية لقِيَم الصدق Normative Truth-Value Relativism، هي الدعوى القائلة بأن العبارات والاعتقادات … إلخ هي صادقة فقط بالنسبة لإطارٍ معين. يقول توماس كون، على سبيل المثال، «إذا كنت مُحِقًّا فإن «الصدق» قد يكون، شأنه شأن «البرهان»؛ مُصطلحًا ليس له استخدامات إلا داخل نظرية.»٨٠ تأتي نِسبية قِيَم الصدق في صيغتين: صيغة معتدلة تقول بأن من الجائز أن تكون هناك أشياء صادقة داخل إطارٍ ما وغير صادقة داخل إطارٍ آخر لأنها، ببساطة، لا يمكن التعبير عنها داخل الإطار الثاني. أما الصيغة المُتشدِّدة من نسبية قيم الصدق، والتي تحظى بالانتباه الأكبر، فهي الدعوى القائلة بأن الشيء نفسه (الاعتقاد نفسه مثلًا) يمكن أن يكون صادقًا في إطار وكاذبًا في إطارٍ آخر.
تُسفر نسبية الصدق في نهاية المطاف عن نسبيةٍ حول الاعتقاد. غير أنه قد جرى الربط الوثيق بين طائفتين من المسائل مختلفتين نوعًا ما بالاعتقادات المحورية أو المبادئ من جهة وبأمورٍ تتَّصِل بنسبية الصدق من جهة أخرى. تتضمَّن الفئة الأولى ما سَنُسمِّيه «مبادئ الإطار»، وهي مبادئ شديدة العمومية (مثل: «لكل حدثٍ سبب») تُرشد التصنيف والبحث. وفي المقابل فإنَّ الفئة الثانية تتضمَّن الصيغة المُتشدِّدة من النسبية المعيارية لقِيَم الصدق بوضوحٍ تام. ولَمَّا كانت الفئتان مُختلفتين بعض الاختلاف فنحن نتناولهما هنا كلًّا على حِدة.
-
أما النسبية الوصفية للواقع Descriptive Reality Relativism فهي الدعوى القائلة بأنَّ من شأن الجماعات المُختلفة أن تخبُر محتوى العالم على أنحاء مختلفة: فبعض الجماعات ترى العالم مُحتويًا على أشياء مُعينة («أشياء فيزيقية» physical objects مثلًا)، بينما تراه جماعاتٌ أخرى محتويًا على «أحداثٍ» events مثلًا. من الواضح أنَّ هذا الضرب من النسبية الوصفية يضمُّ تداخُلًا من نسبية المفاهيم، والاعتقادات، والإدراك؛ مِمَّا يجعله غير ذي أهمية مُنفصِلة.
-
وأما النسبية المِعيارية للواقع Normative Reality Relativism فهي الدعوى القائلة بأن ما هو «واقع» real هو، بطريقةٍ ما، «واقعٌ بالنسبة لإطارٍ ما». ولكن كيف ذاك؟! فنحن بمعنًى ما قد نستخدم المفاهيم لنُشيِّد العالم، ولكن من ذا الذي يمكنه القول بأن العالم يتكوَّن، بالمعنى الحرفي، من مفاهيم؟! لعلَّ مسألة «التشييد الاجتماعي» social construction هذه مجرَّد استعارة تُومئ إلى معنًى مُعتدل: أن من شأن الأشخاص مثلًا ذوي المفاهيم المختلفة أن يفكروا في الأشياء بطرائق مختلفة.
ومن البيِّن أنَّ نسبية الواقع تؤازِر وتدعم أصنافًا أخرى من النسبية. تقوم نسبية الواقع على أن مفاهيمنا واعتقاداتنا المركزية تشكِّل (تشيِّد) العالم كما نعرفه، وأن أية فكرة عن عالم موضوعي بشكلٍ مستقل تمامًا عن طريقة معرفتنا له هي فكرة فارغة وعابثة. فإذا صحَّ ذلك لأغرانا بأن نستنتج أن الفكرة الوحيدة غير الفارغة وغير العابثة حول الحقيقة/الصدق هي حقيقة عن الأشياء منسوبة إلى إطارنا التصوُّري ومرتبطة به. حين نقول مثلًا إن «العشب أخضر.» فإن هذه العبارة صادقة لأنها «تتطابق» مع الحقائق أو تتلاءم مع العالم. ولكن حيث إن العالم الوحيد الذي يسعُنا أن نتحدَّث عنه أو نفكر فيه هو عالم إطارنا الخاص فلا مناص لنا من أن نستنتِج أن العبارة تتطابق مع حقائق ذلك العالم. إنَّ مُحدِّدات الصدق نسبية تتوقَّف على الأُطر؛ ومن ثم فإنَّ الصنف الوحيد من الحقيقة الذي يمكننا أن نأمُل في اكتشافه هو الحقيقة «داخل» إطارٍ ما و«بالنسبة إلى» إطارٍ ما.
(١٠) «نسبيات أخرى»: ثمَّة دعاوى شائقة حول نسبية أمورٍ أخرى مثل: المعايير الجمالية، العواطف، بنية الشخصية، الذاكرة، استراتيجيات حل المشكلات، الدافعية، اتخاذ القرار، الإدراك الاجتماعي، بل حتى الحس الفكاهي. وسوف نجتزئ هنا بحديثٍ مُقتضَب عن نسبية الذوق الجمالي ونسبية الذاكرة.
نسبية التذوُّق الجمالي
يبدو أن هناك تنوُّعًا هائلًا بين الناس فيما يُحبونه ويستمتعون به ويُقدِّرونه؛ فبعض الناس يُحبون الموسيقى الكلاسيكية وبعضهم لا يميل إليها، وبعض الناس ينفق مبالغ ضخمة من المال لحضور الأوبرا، وبعضهم لا يسهُل استدراجه إلى هناك، وبعض الناس يقرأ الشعر بحماسٍ وشغفٍ عظيمين وبعضهم يقول «لا أحبُّ الشعر.»
ترى ما هي الاستجابة النظرية الملائمة بإزاء هذا التعدُّد في تقييم الفن وتقديره؟ لم يُثِر سؤالٌ في عِلم الجمال قدر ما أثار هذا السؤال من أجوبةٍ مُتبايِنة.
-
من بين هذه الاستجابات استجابةٌ تعمد إلى حلِّ المشكلة بإنكارها؛ أي بإنكار التعدُّد ذاته! وترى أن الفروق الظاهرية في الذوق أو الميل إنما تعكس فروقًا في إلف الناس للأعمال الفنية المختلفة وفروقًا في القدرة على تناولها وإدراكها. إنها دعوى لا تخلو من صدق؛ فأنت على أية حال لا يسعك أن تُحبَّ الأوبرا إذا لم تكن قد سمعت أو رأيت واحدةً منها في حياتك، ولا يسعك أن تقرأ الشعر باستمتاع ولذَّة إذا كنتَ تجهل القراءة.٨١
-
هناك نزعة نسبية ذاتية في الجمال (تُذكِّرنا بالنزعة النسبية في الأخلاق) ترى أنَّ الجمال هو شيء تُضفيه الذات على الموضوع ولا يُضفيه الموضوع على الذات؛ ومن ثم فلا وجه للموضوعية والإطلاق هنا ولا معنى. هذه النزعة الذاتية النسبية يُوجِزها المَثَل اللاتيني «لا مُشاحة في الأذواق» de gustibus non est disputandum، وكذلك المثل الشائع «إن الجمال إنما هو في عين الناظر» Beauty is in the eye of the beholder. ويعتبر دوكاس C. J. Docasse من أبرز الداعين إلى النظرية الذاتية في الجمال. وضع دوكاس «إعلانًا للاستقلال في أمور الذوق في الفن!» وزعَم أنَّ ثمَّة مجالًا يكون فيه كلُّ فردٍ مَلكًا ذا سلطانٍ مُطلق، وإن يكن ذلك على نفسه فقط — هذا هو مجال القِيم الجمالية. تستنِد هذه النظرية إلى أنَّ الجمال أمرٌ ذاتي خالص، فعندما نقول إن موضوعًا مُعيَّنًا له قيمةٌ جمالية، فنحن إذ ذاك إنما نصِف مشاعرنا ولا نُشير إلى أية سماتٍ موضوعية. فأحكام الجمال تتصل بالعلاقة بين الموضوع المحكوم عليه وبين تجربة الاستمتاع الخاصة لدى الفرد، وهي التجربة التي لا يُمكن أن يُلاحظها أو يحكم عليها أي شخص سواه. وهنا لا يعود الاختلاف بين القِيَم يُثير أي إشكال؛ فمن الطبيعي أن يكون للأشخاص المختلفين تكوينٌ مختلف، ومن الطبيعي أن يشعُر أحدهم بلذَّة في إدراك عملٍ فنيٍّ ما بينما لا يشعُر الآخر بشيء من ذلك. ولسنا مُضطرين إلى أن نُقرِّر أيهما «الصحيح»؛ فالجمال ليس سمةً موضوعية حتى تنطبق عليه مَقولتا الصواب والخطأ، أو الحق والباطل.ويضرب دوكاس مثلًا بطعم ثمرة الأنانس: فبعض الناس يحبونه، وبعضهم الآخر لا يحبونه، ولكن من العبَث القول إنه لذيذ بحقٍّ على الرغم من نفور البعض منه، أو رديء بحقٍّ على الرغم من ميل البعض إليه. وبذلك يتخلَّص دوكاس من مُشكلة التقدير الجمالي بأسرها؛ فالتقدير هو مجرَّد تسمية أخرى ﻟ «ما يُحبُّه المرء أو لا يُحبُّه»! ولا يمكن أن يُثار بعد ذلك أي سؤال.٨٢ هناك أشخاص ذوَّاقون للجمال، غير أنَّ أحكامهم عن الجمال ليست «مُلزِمة» لأحد، بل إنَّ من الصعب أن نفهم ما الذي يُمكن أن يَعنيه لفظ «مُلزِم» في هذا السياق، ما لم يكن إلزامًا للآخرين بأن يكذبوا (!) بشأن المشاعر الجمالية التي قد تكون لديهم بالفعل وقد لا تكون. هناك بالطبع ذوق سليم وذوق رديء. غير أن الأذواق لا يمكن إثباتها أو تفنيدها، بل يُمكن أن «تُوصف» فحسب، أي أن تُمتدَح أو تُذَم.ومهما حاوَلْنا نقد النظرية الذاتية «من الداخل» امتنعَتْ علينا وتحصَّنَت بمنطِقها الخاص. والحقُّ أنَّ النظرية الذاتية في الذَّوق الجمالي شديدة الاتِّساق الداخلي وصعبة التفنيد من هذه الجهة، غير أنها سهلة المنال «من الخارج» إن صحَّ التعبير! إن نظرية التقدير الجمالي ليست نسقًا صوريًّا استنباطيًّا كالنَّسَق الرياضي، بل إنَّ الاتِّساق المنطقي ليس هو المعيار الوحيد. فالمقصود من أية نظرية في التقدير أن تُفسِّر أوجه النشاط التي نقوم بها باسم الحكم والنقد، وهي مسئولة عن تفسير وقائع تجربتنا. غير أن النظرية الذاتية تتركنا في العراء ولا تُفسِّر لنا أمورًا كثيرة! لا تُفسِّر ما نقوم به بالفعل من أحكامٍ نقدية نضعُها ونرى لها وجهًا ومعنى، ونُقدِّم لها أُسُسًا وطيدة ومُبررات كافية. كما أننا لو سلَّمنا بالنظرية الذاتية لاستحالت أشياء كثيرةٌ نراها وقائع قائمة لا سبيل إلى إنكارها وغضِّ الطرف عنها. وبتعبيرٍ آخَر فإن النظرية الذاتية تؤدِّي إلى ما نُسمِّيه في المنطق «الخُلف» reductio ad absurdum:
-
لو سلَّمنا بالنظرية الذاتية لاستحالت المُقارنة بين الأذواق ووقَعْنا في فوضى جمالية (مثلما تُوقِعنا النسبية الأخلاقية في فوضى أخلاقية).
-
لو سلَّمنا بالنظرية الذاتية لم يعُد هناك مكان للذواقة والخبير والناقد.
-
لو سلَّمْنا بالنظرية الذاتية لامتنعَتِ التربية الجمالية وتحسين الذوق.
-
-
وفي الطرف المُقابل للنظرية الذاتية تقِف «النزعة الموضوعية أو المُطلقة»، مؤكدة أنَّ القيمة الجمالية تكمُن في العمل الفني نفسه، وأن حُكم القيمة لا ينطوي على أيِّ إشارة إلى المُتلقِّي أو إلى أيِّ شيءٍ آخر غير العمل الفني، وأنَّ الجمال شيء موضوعي موجود في بعض الأشياء دون بعضها الآخر. ونحن في التجربة الجمالية لا نشعُر أننا نفعل بل ننفعل، لا نشعُر أنَّنا «نُسبِغ» بل «نكتشِف» — نكتشف شيئًا كان هناك طوال الوقت، وكلُّ ما نفعله هو أن «نفتح عيوننا للجمال».٨٣ غير أنَّ الجمال كان هناك حتى عندما كانت عيونُنا مُغمَضة! وتتَّفِق هذه النظرية الموضوعية مع ما نجده جميعًا بالحسِّ المشترك من أنَّ بالإمكان لإثبات صحَّة الأحكام الجمالية وبُطلانها، وأن لأحكام بعض الأشخاص سُلطة أقوى من سُلطة بعضهم الآخر، وأن هناك فارقًا حقيقيًّا بين «الذوق السليم» و«الذوق الرديء».ومن أصحاب النزعة الموضوعية من يرى أن القيمة الجمالية تُدرَك ﺑ «الحدس» intuition وحده، وأن من المُستحيل تعريفها، فنحن عندما نُصادفها نعرفها جيدًا. غير أنَّنا لا نملك أن نُعبِّر عنها بالكلمات، فالقيمة «فريدة في نوعها» sui generis وليست كأي شيء آخر في العالم، وهي تتحدى الوصف من خلال التصوُّرات. إنها شيء إما أن يُدرَك ككل وإما ألَّا يُدرَك على الإطلاق؛ ومن ثم فإن من المُمتنِع تحليلها.ومن أصحاب النزعة الموضوعية من يرى أنَّ القيمة الجمالية تتوقَّف على «البنية القابِلة للتمييز» discriminable structure للعمل الفني، وهي بِنية يمكن تحليلها ومناقشتها شأن أي صفةٍ موضوعية في الأشياء. ومنهم من يتَّفِق مع الحَدْسيِّين في استحالة تحليل الجمال وتعريفه ولكنه يقول بوجود «سِمات مُصاحبة» accompanying properties للجمال لا تُوجَد إلا حين يكون «الجمال» موجودًا؛ وهي عادةً سماتٌ شكلية من نوعٍ ما، مثل «التكوين» في التصوير و«التناسُب» في النحت والعمارة و«الوحدة» في الموسيقى.٨٤ ومن الموضوعيين من يرى أنَّ القيمة الجمالية يمكن تعريفها وأنَّ الجمال يُمكن تحديده. وهذا التعريف أو التحديد هو في الغالب أيضًا صِفة شكلية من نوعٍ ما، وغير بعيدة عن «السمات المُصاحبة» التي أشرْنا إليها للتو، كالنسبة الثابتة بين فقرات العمل الموسيقي أو أجزاء الصور، و«الوحدة العضوية» … إلخ.٨٥
على أن جميع النظريات الموضوعية تجد صعوبةً كبيرة في تحديد معاييرها بدقَّةٍ ووضوح يجعلها قابلة للاستخدام عمليًّا، كما أن الطبيعة الذاتية الصميمة للخبرة الجمالية تقِف مُتحدِّيةً كلَّ محاولة لتجاهُل البُعد الذاتي النِّسبي للجمال.
-
«النسبية الموضوعية» Objective Relativism: وبين هذين الطرفين؛ الذاتي النسبي من جهة والموضوعي المُطلق من جهة أخرى، هناك نظرية «النسبية الموضوعية» التي تتجنَّب المُضي إلى أي موقف متطرف من هذَين، وتحاول السير في طريق وسط بين القِيَم المطلقة الخيالية في النظرية الموضوعية، والتفصيلات العفوية غير المسئولة في النظرية الذاتية. تذهب هذه النظرة التكاملية إلى أن حُكم القيمة يشير إلى الموضوع لا المُتحدِّث. غير أن القيمة ليست مُطلقة أبدًا بل مرتبطة بالتجربة البشرية؛ وبالتالي فإن اختبار الحكم الجمالي يستلزم الاستجابة الجمالية بالإضافة إلى الاختبار الموضوعي للعمل. غير أن هناك فارقًا حقيقيًّا بين «الذوق السليم» و«الذوق الرديء» أفردت له معايير مُعينة (يضيق المقام بذكرها) تجعل هناك مجالًا لتنمية الذوق وتحسينه وشحْذِه وإرهافه. وتميز هذه النظرية أيضًا بين القيمة التي هي خاصية للموضوع، والقيمة التي هي شعور لدى المُدرِك الجمالي. وهكذا فهي تتَّسِع للعاملَين: الموضوعي والذاتي معًا، فالقيمة الجمالية ليست سِمة مُطلقة أو شعورًا مباشرًا، وإنما هي صفة للموضوعات تتميز بأنها «إمكان» أو «قوة» potentiality على إحداث استجابة جمالية في المشاهد القادر على هذه الاستجابة. فالقيمة الجمالية سمة «علائقية» relational، وهي واحدة من السمات التي تنتمي إلى شيء معين نتيجة لما يفعله هذا الشيء عند اتصاله بكائن عضوي بشري، مِثلما أن الخبز «مُغذٍّ» نظرًا لتأثيراته في الجسم. ويبقى الموضوع الجمالي مُمتَّعًا «بالقوة» حتى حين لا يتأمَّله أحد؛ وذلك بفضل سِماته الشكلية الموضوعية، مِثلما يبقى الخبز مُغذِّيًا «بالقوة» حتى حين لا يؤكل؛ وذلك لخصائصه الكيميائية الموضوعية التي يكون بفضلها مغذيًا.٨٦
نسبية الذاكرة Relativity of Memory
يا أيام ذلك العام، اختزنَتْك ذاكرتي ومن صُورتك انمَحَتْ رويدًا رويدًا السترة المُهترئة الحائلة اللون واحتفظَتْ به، وهو ينضو عنه سُترته المُهترئة، ويستوي أمامي بالِغ الكمال، مثل تحفةٍ لا تَشوبها شائبة.
ثمة وهمٌ مُتوارَثٌ، روَّجَت له زمنًا نظرياتٌ سيكولوجيةٌ عتيقة، يقول بأن الذاكرة البشرية أشبه بشريط التسجيل الذي يُسجل كل ما يرِد عليه دون أن يخرم منه شيئًا، وأن كل مُنبِّهٍ ورَد على عقل الإنسان هو مُسجَّلٌ فيه بشكلٍ ما وبدرجةٍ ما، وإن تكن أغلب المادة المُسجلة محفوظةً في مستوًى عميق من باطن العقل، وهي من ثَمَّ قابلة للاسترجاع. أما المادة المحفوظة في ظاهر العقل فهي قابلة للاستدعاء بدقةٍ ما دام الشخص يتمتع بكفايةٍ عقليةٍ تامَّة ونزاهةٍ تعصِمه من الكذب وليِّ الحقائق. وأما المادة المحفوظة في أعماقٍ سحيقةٍ من باطن العقل، وبخاصة إذا كانت مُؤلمةً قد نالها الكبْت وجعلها في حصنٍ منيع، فهي قابلة للاستعادة بواسطة تقنيات سيكولوجية من قبيل التوجيه اللَّفظي وحفْز التخيُّل والتنويم … إلخ.
-
الذاكرة الصريحة وتتضمَّن تسجيل المعلومات.
-
الذاكرة الضِّمنية وتتضمَّن تسجيل الخبرات.
والذكريات الضِّمنية ليست أكثر دقَّةً من الذكريات الصريحة، فقد يتسنَّى لنا أحيانًا أن نتذكَّر بنودًا من المعلومات بدقة كبيرة، أما الذكريات الخاصة بأحداث الحياة فهي دائمًا عُرضة للخطأ. كما أن الأحداث المصحوبة بانفعالٍ قوي ليست أفضل تذكُّرًا من الأحداث الخالية من الانفعالات. وقد دلَّت الدراسات الإمبيريقية على أن شهادة الشهود قد تكون مُحرَّفة بدرجةٍ تدعو للدهشة. كذلك تُثبِت الدراسات أن استدعاء الأحداث التاريخية الدرامية هو أيضًا تُشوِّهُه المخططات المعرفية المُسبقة.
وصفوة القول أن الذاكرة ليست تسجيلًا سطحيًّا لمُثيراتٍ خام، فما يُدخَّر في الذاكرة هو في الحقيقة بناءات تمَّ تشييدها وفقًا للمُخطَّطات المعرفية، وهي نتاج ثقافي بالدرجة الأساس.
الدراسات الثقافية للذاكرة
وقد قام س. ف. نيدل بتجارب ميدانية وسط كل من اليوروبا والنيوب في نيجيريا، وهما شعبان يختلفان اختلافًا صارخًا في نواحٍ عديدة على الرَّغم من أنهما يعيشان جنبًا إلى جنب وتحت نفس الظروف العامة، ولديهما أنظمة اقتصادية وتنظيمات اجتماعية مُتشابهة ويتحدَّثان لغاتٍ مُتقاربة. يتميَّز دين اليوروبا بنسقٍ تَراتُبي هرَمي مُعقَّد من الآلهة، لكلِّ إله فيه واجباته ووظائفه المُحدَّدة. وقد طوَّر اليوروبا فنونًا تشكيلية واقعية ومسرحًا واقعيًّا. وعلى النقيض من ذلك كان دين النيوب يتمركَزُ حول قوَّةٍ غامضة مُجرَّدة غير شخصية. وكانت الأشكال الفنية لديهم مُتطوِّرة جدًّا في الفنون الزُّخرفية، ولم يكن لديهم تُراثٌ مسرحي شبيه بما لدى اليوروبا.
قام نيدل بتأليف قصة يمكن استخدامها لاختبار التذكُّر في كِلتا الجماعتين، وقد جاءت النتائج مؤكِّدةً لِتوقُّعاته؛ فقد تذكَّر اليوروبا البِنية المنطقية للقصة والعبارات ذات الدلالة والأحداث الحاسمة في مجرى القصة ولم يأبَهوا للكليشيهات غير الدالة؛ بينما تذكَّر النُّيوب الكليشيهات كما هي بالضبط وأقحموا على القصة عناصر من عندهم تخلُق صورة ملموسةً حيَّة لوقائع القصة.
الذاكرة الشفاهية
تتألف الكلمات في الثقافة الشفاهية (أي التي لم تعرِف الكتابة والتدوين) من أصوات، ومن أصوات فقط. ومن شأن ذلك أن يفرض ضوابط على أنماط التعبير، بل على أنماط التفكير؛ ذلك أن «حالة المعرفة» تعني الاحتفاظ بمادة المعرفة وإمكان استعادتها، الأمر الذي يمنح الذاكرة وآلياتها سطوةً كُبرى في «عملية المعرفة». في الثقافة الشفاهية يجِد المرء نفسه مدفوعًا إلى أن يَصوغ تفكيره بطريقةٍ يمكن تذكُّرها، إن كان له أن يظفر بمعرفةٍ على الإطلاق. لا مندوحة للمرء في الثقافة الشفاهية من أن يَصبَّ تفكيره نفسه داخل أنماط حافزة للتذكر وقابلة للتكرار الشفاهي. هنالك يتعيَّن عليه أن يَجبُل مادة الفكر في أنماطٍ ثقيلة الإيقاع، متوازنة، أو في جملٍ مُتكررة أو مُتعارضة أو مسجوعة، أو في ثيماتٍ ثابتة، أو في أمثالٍ رنَّانة سهلة الترديد، وهو مدفوع بحاجته التذكرية إلى أن يُلصِق بالأشياء أوصافًا صارخةً فاقعًا لونها، وأن يُضفي الإيقاع ويتشبَّث به كأنما يَحبِس فيه الطليق ويُعبِّئ السائب! وأن يستعين بحركات الجسم وإشارات اليد كأنه يُثبت بها الكلمات ويسدُّ عليها كلَّ مهرَب، أو كأنه يكمل بها رسم موقف وجودي يُسهم فيه الجسد بقسطٍ كبير. تُهيب الشفاهية بالمرء أن يفكر بعقل الجماعة، وأن يعتصم بالأنماط الواردة والنماذج المألوفة والصَّيَغ الجماعية الثابتة. إن الحاجة التذكرية هنا هي التي تُملي تركيب العبارة وتُحدِّد مجال الفكر الذي يُمكن للمرء أن يَروده.
ومن سِمات الحفظ الشفاهي أنه يخضع للتغير نتيجة للضغوط الاجتماعية المباشرة. لا يملك الراوي الشفاهي روايته ملكيةً تامةً أبدًا. إنه مُنغمِسٌ في تفاعُلٍ مباشر مع مُستمع حي، ومن شأن توقُّعات المُستمعين واستباقاتهم أن تعمل على تثبيت الموضوعات والصِّيغ. ينجرِف المُتحدِّث الشفاهي بعقل الجماعة ويميل لمَيل الجمهور ويقول ما يُريد منه الجمهور أن يقوله، يقول «ما يطلبه المستمعون!» إن جاز التعبير. وحين ينقطع الطلَب على سلسلة من الأنساب (سلسلة المهزومين مثلًا) تميل هذه السلسلة للاختفاء أو التحوير. هكذا تسمح الثقافة الشفاهية للأجزاء المؤلمة من الماضي بأن تُنسى بسبب مُقتضيات الحاضر المُستمر، وهكذا تُحتِّم الشفاهية دائمًا شيئًا من الكذِب والتحوير والتحريف بحُكم طبيعة الذاكرة الشفاهية ذاتها.
وبحُكم طبيعة الذاكرة الشفاهية وابتغاء العون التذكُّري تلجأ الثقافة الشفاهية إلى المُبالغة البطولية، وتضخيم الشخصيات إيجابًا وسلبًا، والتهويل والإغراب والاستقطاب الذهني؛ ذلك أن من الاقتصاد العقلي أن تُسرِف في الوصف كي تدَّخِر في الجهد التذكُّري، وأن تُحوِّل العادي إلى غير عادي، وأن تزيد من ثِقل الشخصيات وتمدَّ من أقطارها وتُبرز من آثارها حتى تُتيح لها الدوام والبقاء. فهي على كلِّ حالٍ لن تبقى إلَّا ببقاء الذاكرة ولن تذهب إلَّا بذهابها.
المُتغيِّرات المُستقلة: مُكوِّنات الإطار النِّسبي
في هذا القسم نبحث أهمَّ «المُتغيِّرات المُستقلة»، أي التي تؤثر على غيرها من المُتغيرات (التابعة) التي فصَّلناها آنفًا، وتجعل منها أمورًا نِسبية، آخِذين بالاعتبار أنَّ هذه المُتغيرات المستقلة، شأنها شأن المُتغيرات التابعة، غير مُنفصلة بعضها عن بعض انفصالًا تامًّا، وأن هناك تداخُلًا كبيرًا بين بعض هذه العوامل وبعضها الآخر («اللغة» و«الدين» مثلًا هي جوانب هامة وأساسية من جوانب «الثفافة»). ونحن إن كنَّا نفصلها ونعزلها فبِغَرَض الدراسة والبحث وليس استجابة لحقيقةٍ واقعة.
قائمة بأهمِّ المُتغيرات المستقلة
-
اللغة.
-
الثقافة.
-
الحقبة التاريخية.
-
البنية البيولوجية (البنيان المعرفي الفطري).
-
الاختيار.
-
أخرى: الإطار العلمي، الدين، النوع الجنسي، الوضع الاجتماعي، الفرد …
وإذا كانت أشياء من قبيل المفاهيم، والمبادئ المنطقية، والصدق، كثيرًا ما تُنسب إلى أطر تصورية، فقد جرى الاعتقاد بأن دورها يُحدِّده شيء آخر. ورغم بُروز المسائل المعيارية في كثيرٍ من الأحيان فإن الجانب الوصفي هو الجانب السائد في المناقشات الخاصة بالمُتغيرات المستقلة؛ ذلك أن السؤال الرئيسي في هذا الصدد هو ما إذا كان شيء مثل اللغة، الثقافة، الحقبة، الجنس … إلخ يؤثر فعلًا في طرائق التفكير والتقييم. وإذا صحَّ أنه يؤثر فبأية طريقة؟ الأمر هنا إذن هو أمرٌ سبَبي إمبيريقي وصفي بالدرجة الأساس، أي لا تحسمه وتفصل فيه إلَّا الدراسة الإمبيريقية (لا يمكن أن يقضي في أمر فرضية ورف مثلًا عن النسبية اللغوية إلا البحث الإمبيريقي).
(١) «اللغة»: تُعدُّ اللغة (مع الثقافة) أكثر المُتغيرات المُستقلة استحواذًا على اهتمام الباحثين. وقد ذهب فصيلٌ كبيرٌ منهم إلى القول بتأثيرها على طُرق التفكير، وقد عمَّمَ بعضهم هذا الرأي فذهب نيلسون جودمان مثلًا إلى القول بأن جميع الأنساق الرمزية — شاملة لغات الحاسوب ومواضعات الرسم التوضيحي وحتى أساليب التصوير — تؤثِّر على الإدراك الحِسِّي والتفكير.
تتطلَّب أية دراسة جادة عن النسبية اللغوية الإجابة عن أسئلة ثلاثة: أي جانبٍ من اللغة يؤثر على أيِّ جانبٍ من التفكير؟ وما هو هذا التأثير؟ وما هو مبلَغ قوته؟
ودعوى النسبية اللغوية، شأنها شأن غيرها من الدعاوى حول المُتغيرات المستقلة، هي دعوى عن «تأثير سببي»: ثمَّة جانب (أو أكثر) من اللغة يؤثر على جانب (أو أكثر) من الفكر. قد تتفاوَت هذه التأثيرات في الشدة وبالتالي تتفاوت صِيَغ النسبية اللغوية في حدَّة النبرة، فمنها صِيَغ مُتطرفة (يعلم الجميع أنها خاطئة) ومنها صيغ مُخففة حتى التَّميُّع (وهي صادقة ولكنه صِدق الابتذال ونوافل القول). ويبقى المَطلب الحقيقي هو ما إذا كانت هناك صِيَغ شائقة تقع ما بين هذين الطرفين. وتُشير الأدلة المُتاحة في الوقت الحالي إلى أن لغة المرء تؤثر فعلًا على إدراكه وفكره غير أنَّ هذا التأثير ليس بالشِّدَّة والهول الذي يدَّعيه النِّسبيُّون المُتطرفون.
-
جميع الأسئلة الخاصة بتأثير المُتغيرات المستقلة على المعرفة هي أسئلة إمبيريقية وسببية.
-
لا تمكن الإجابة عن هذه الأسئلة إلا بتحديد أي وجه من المُتغيِّر المُستقل (معجم الألوان، الممارسات الدينية … إلخ) يؤثر على أي وجهٍ من الفكر (الإدراك الحسي، الاستدلال العِلِّي … إلخ)، وتحديد الشكل الذي يأخذه هذا التأثير المُفترَض.
-
قد تتفاوت هذه التأثيرات تفاوتًا عظيمًا في الشدَّة والنوعية والنطاق.
-
يحتاج اختبار أي فرضية نِسبية مُحدَّدة إلى تضافُر مهارات كثيرة: عالم لغة، وعالم سيكولوجيا تجريبية وعالم إثنوغرافيا، وعالم في التاريخ، وفي البيولوجيا … إلخ.
-
تلزم مُقارنة جماعات مُختلفة (جماعات لغوية، ثقافات …) لكي نستخلص أي نتائج مُتماسكة عن الفرضية النسبية الوصفية.
-
قد يئول البحث عن صِدق الفرضيات النِّسبية المَعنية إلى بحث في «دعوى الوحدات الذهنية» modularity of mind ودرجة استقلال الوحدات وانعزالها. فإذا صح مثلًا أنَّ العقل وحدات مُسيَّجة معزولة لترتَّبَ على ذلك أنَّ اكتشاف تأثير جانب من اللغة أو الثقافة على جانب من المعرفة (الفهم اللغوي مثلًا) لا يُنبئنا بشيءٍ عن تأثير بقية جوانب اللغة أو الثقافة على بقية جوانب المعرفة (الذاكرة البعيدة على سبيل المثال).
الفروق الثقافية في النمو الإدراكي
يقوم الجانب الأكبر من البحث الثقافي المقارن حول دور الثقافة في النمو الإدراكي، على العمل الذي قام به جان بياجيه. منذ بداية حياته العملية ذهب بياجيه إلى وجود فروق ثقافية هامة في عمليات التفكير. ميز بياجيه، مُستندًا في ذلك إلى أعمال ليفي برول وإميل دوركايم، بين نَوعَين من المجتمعات. وصف برول الأول منهما باستخدام مُصطلح «بدائي» والثاني باستخدام مُصطلح «متحضر»، وهما ما يُمكن أن نُطلق عليهما اليوم اسم «تقليدي» واسم «حديث». ذهب بياجيه إلى أنَّ كلَّ واحدٍ من هذين النوعين من التنظيم الاجتماعي يتميَّز ﺑ «ذهنية» خاصة تُميِّزه عن الآخر: «فالذهنية المُسمَّاة بالبدائية تحضُّ مجتمعات الانقياد أو المجتمعات القطعية. والذهنية العقلانية تخصُّ مجتمعاتنا المتميزة.» لم يتَّفِق بياجيه رغم ذلك مع ما ذهب إليه برول من وجوب عدم فرض تراتُب تطوُّري على هذين النوعين من العقلية: كانت وجهة نظر بياجيه حينذاك أنَّ ظهور العقلية البدائية يسبق ظهور العقلية المُتحضِّرة، تمامًا مِثلما يسبِق ظهور تفكير الطفل ظهور تفكير الراشد.
المدرسة التاريخية الثقافية
يمكن فهم الثقافة من هذا المنظور على أنها المجموع الكُلِّي للمنتجات التي قامت الجماعة بإنتاجها عبر تجربتها التاريخية. عندئذٍ يُمكن النظر إجمالًا إلى المُنتَجات المُتراكِمة لجماعةٍ ما — أي الثقافة — على أنها الوسط الذي يتمُّ فيه نمو البشر، والخاص بالنوع البشري فقط. إنه التاريخ في الحاضر. هذه القُدرة على النمو داخل هذا الوسط والعمل على إعادة إنتاجه في الأجيال اللاحقة هي الخاصية المميزة للنوع البشري.
تؤكد المدرسة التاريخية الثقافية أيضًا على أن تحليل الوظائف النفسية البشرية يجب أن ينطلق من أعمال البشر اليومية. ويذهب ماركس إلى أن هذا المنهج هو الوحيد الذي يمكننا به تجاوُز ثنائية المادية مُقابل المثالية؛ حيث إن الناس لا تَخبُر التركة الفكرية/المادية لعمل الأجيال السابقة إلَّا في العمل.
يترتَّب على المبادئ السابق ذكرها للمدرسة التاريخية الثقافية أنَّ التراكُم التاريخي للمُنتجات وتشبُّع النشاط بها يُشير إلى الأصل الاجتماعي لعمليات التفكير البشري. إن كل وسائل السلوك الثقافي (أي «المنتجات الثقافية») هي أشياء اجتماعية في جوهرها، وهي اجتماعية أيضًا في نشأتها وتغيُّرها، كما يُعبِّر القانون الذي أطلَقَ عليه فيجوتسكي اسم «القانون العام للنمو الثقافي».
والحقُّ أن الفروق التاريخية تنجُم عن الفروق الثقافية واللغوية؛ ومن ثم فإن النسبية التاريخية لا تُضيف أي شيءٍ جديد جذريًّا إلى النسبية الثقافية واللغوية. غير أن إدخال التاريخ بوصفه متغيرًا مستقلًّا يُضيف نطاقًا جديدًا من الحالات، ويجعل بالإمكان استخدام النصوص التاريخية في دراسة مسائل من النسبية وبخاصة في العلم.
ومِثلما هو الحال في كلِّ ديالكتيك ثلاثي فقد أدى الإفراط في التوكيد على البنيان المعرفي ومُعالجة المعلومات في السنوات الأخيرة على حساب الثقافة إلى ردود أفعالٍ حتى بين بعض مؤسِّسي علم الإدراك من أمثال جيروم برونر، وأعيدت الثقافة مرة ثانية إلى المشهد وعاد الناس يسألون عن مدى تأثيرها على الإدراك. وإن صحَّ أن شطرًا كبيرًا من البحث الإمبيريقي يُشير إلى أن العقل الإنساني يأتي مُجهَّزًا حقًّا ومزوَّدًا بعتادٍ مُسبق يجعل لدَيه استعدادًا لتعلُّم اللغة، وتمييز الوجوه، وإعراب الكلمات … إلخ، ويجعل بني الإنسان، من ثم، يُفكرون بطرائق مُتماثِلة إلى حدٍّ كبير.
وعند الطرف المُضاد من المِطياف نجد مفكرين يذهبون إلى أنَّ من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، أن نُغير مفاهيمنا المركزية واعتقاداتنا ومعايير تقييمنا تغييرًا جوهريًّا. ليس بوسعنا مثلًا أن نُقرر ببساطة أن نشرع في التفكير عن العالم في حدود غير علِّية؛ أي باطِّراح مبدأ السببية اطِّراحًا تامًّا. والحق أنه إذا كانت مُعظم مفاهيمنا المحورية واعتقاداتنا المركزية هي جزء من جِبلَّتنا البيولوجية فإن من المُحال بيولوجيًّا أن نستغنيَ عنها، وستكون استحالة تغيير تفكيرنا عن الألوان إذا كانت تُحدِّده نيوروفسيولوجية جهازنا البصري (الحتمية البيولوجية) أكبر من استحالة تغييره إذا كان يُحدِّده مُعجم الألوان في لغتنا المحلية (الحتمية اللغوية). غير أن هذا لا يمنع القائلين بالنسبية اللغوية (مثل ورف) والثقافية (مثل بينيديكت) والتاريخية (مثل كولنجوود) من التوكيد على صعوبة التغيير. فالمرء في نظر ورف مثلًا لا يملك أن يصف الطبيعة بحيدةٍ كاملة، وإنما هو مقيدٌ بأساليب مُعينة من التأويل تُمليها لغته التي يتحدثها، حتى لو آنس في نفسه قدرًا كبيرًا من الحرية. يرى هؤلاء الكُتَّاب فيما يرون أن مفاهيمنا المركزية واعتقادتنا المحورية تتخلَّل تفكيرنا وتغمُره لدرجة أن معظمنا لا يخطر بباله أصلًا احتمال وجود بدائل لهذه الاعتقادات وتلك المفاهيم.
كذلك الحال بالنسبة لأطرنا التصورية؛ فبالإمكان أن نُغيرها بالتدريج جزءًا جزءًا، ولكن ليس بإمكاننا أن نُغير أسطرًا كبيرةً منها دفعة واحدة. إننا إذن لا نملك تصوُّرات أو مبادئ نستخدمها في إنجاز عملية التغيير، لا نملك، على سبيل المثال، معايير نحكم بها ما إذا كان تعديلان مقترحان هما مُتَّسِقين أحدهما مع الآخر!
(٦) «عوامل أخرى»:
الأطر العلمية Scientific Frameworks
لا تبلغ النظرة العلمية للمرء مَبلغ الثقافة واللغة من حيث الشمول والإحاطة والتغلغُل في تضاعيف حياته، ومن ثَمَّ فقد كانت الأطروحات النسبية التي بزغَتْ في كتابات هؤلاء الفلاسفة فرعية ومحدودة بالنسبة لأطروحات النسبيين اللغويين والثقافيين. لقد قدموا حُجَجهم بحصافةٍ ودقةٍ، وكانت أمثلتهم مُستقاةٌ من مراحل من تاريخ العلم، وأمكنَهُم تقييمها دون حاجة إلى اللجوء إلى ثقافة أخرى أو إلى ضرورة التمكُّن من لغة أجنبية.
لقد ذاب قدرٌ كبيرٌ من عمل هؤلاء، باستثناء ما هو مُوغلٌ في النسبية، في التيَّار الرئيسي لفلسفة العلم، وبقيت المسائل النسبية رغم ذلك تبرُز إلى السطح في مباحث سوسيولوجية العلم وفي المناحي الجديدة من فلسفة العلم، ومن الأفرع المرتبطة بها مثل الدراسات الثقافية.
العقيدة
يذهب إميل دوركايم رائد علم الاجتماع الفرنسي إلى أن للعقيدة سطوة كبيرة في تشكيل سائر جوانب الحياة الإنسانية. إن شطرًا كبيرًا من حياتنا الإدراكية والاجتماعية يتأثَّر بشدَّة بالعقيدة. إنَّ مفاهيم أساسية من مِثل الجنس والنوع بل المنطق نفسه ترفده الأفكار والممارسات الدينية. كان دوركايم نفسه على قناعة بأن عقائد بني الإنسان هي من التقارُب بحيث إن هذه المفاهيم المُستقاة منها تبلغ أن تكون متطابقة عبر الثقافات. غير أننا إذا ضمَمْنا فكرته عن سطوة العقيدة إلى الوقائع الوصفية عن تبايُن الثقافات والعقائد لخلُصنا إلى نوعٍ مُعين من النسبية.
ويقول رائد علم الاجتماع الألماني ماكس فِبر إن الملامح المختلفة العديدة للبروتستانتية قد أفضت إلى ضربٍ من العقلانية الأداتية. وهذا يتضمَّن التحرُّر من شعوذة العالم القديم بكل قواعده وتنظيماته وكل ذلك الجهاز المُوحش من القياس وبيروقراطية الكتاب والاحتكام العبودي إلى النصِّ في كل كبيرةٍ وصغيرة.
النوع الجنسي، والعنصر، والطبقة الاجتماعية
في كثيرٍ من المُجتمعات تُعامَل بعض الجماعات الإثنية، أو بعض الطبقات الاجتماعية، أو نوعٌ جنسيٌّ (هو الإناث) معاملةً مختلفة عن الجماعات أو الطبقات الأخرى أو الجنس الآخر. وهي بذلك توضع موضعًا آخر يُقال إنه يؤدي إلى فروق هامة في طرائق التفكير ونماذج التقييم. وفضلًا عن ذلك فإن الطرف المُسيطر قد يُسفِّه، عن وعي أو بغير وعي، أو يقمع هذه النماذج وتلك الطرائق الخاصة بالطرف المقهور. ومما لا شك فيه أن إفساح المجال للجميع لكي يُوضِّح وجهة نظره يُعدُّ خطوةً تجاه تحقيق القوة والمساواة.
ولعلَّ طرْح ماركس لمسألة «الأيديولوجيا» هو من البواكير الأولى لهذا الفصيل من الآراء. غير أن هذا الموضوع قد تم تطويره بطرق عديدة على يدِ مُفكرين لاحقين. وقد اتصلت هذه الأفكار عند بعضهم، مثل ميشيل فوكوه، اتصالًا وثيقًا بمسألة الهيمنة والسلطة.
المذهب النسائي Feminism
المعرفة إذن وطريقة تحصيلها تعكسان موقع العارف أو منظور رؤيته: الناس مثلًا قد تُدرك العالم وتخبُره باستخدام الجسد (وأجهزته)، وهو شيء يتفاوت من شخصٍ آخر من حيث بنيته وجِبلَّته وموضعه المكاني والزماني. فالملاحظون الذين يقِفون أمام شيء ما يستقون منه معلومات تختلف عمَّا يَستقيه الملاحظون الذين يقفون بعيدًا عن هذا الشيء ويتمتَّعون في الوقت نفسه ببصرٍ حاد فكأنهم يرمقونه بعين طائر تجمع بين الشمول والدقة. كذلك يختلف الناس في أسلوب الإدراك؛ فمنهم من يرى الوحدة في التنوُّع فيميل إلى ضمِّ الظواهر وتجميعها، ومنهم من تستغرقه الاختلافات فيميل إلى تفتيت الظواهر وتفريقها.
كذلك تؤثر المواقع الاجتماعية للعارف على أسلوب معرفته ومادتها. وتتألف المواقع الاجتماعية من ضروب الهوية التي تُلصق به (النوع الجنسي، والعنصر، والتوجه الجنسي، والعِرق (الإثنية)، والطبقة، والقرابة …) ومن أدواره وعلاقاته الاجتماعية (وظيفته، حزبه السياسي، عضويته المؤسسية … إلخ). وبفضل ضروب الهوية المختلفة يحتل الأفراد مناصب مختلفة تمنحهم سلطات مختلفة وتنوط بهم واجباتٍ مختلفة وتجعل لهم أهدافًا ومصالح مختلفة. من شأن ذلك أن يفرض معايير مختلفة تُملي عليهم ما هو لائق بأدوارهم من فضائل وعادات وانفعالات ومهارات.
ويكتسب الأفراد فضلًا عن ذلك ضروبًا مختلفةً من الهوية الذاتية، فيتوحَّد الفرد بزُمرته الاجتماعية، وقد يتَّخِذ هذا التوحُّد ألوانًا مُتباينة؛ قد يقبل الفرد هذه الضروب المختلفة من الهوية التي فُرِضت عليه ويستريح لها ويُصادِق عليها، وقد يعتبرها قامعةً ظالمة (إذا كان المجتمع ينظر إليها بازدراء ويعدُّها شريرةً أو مُغثية) غير أنه يربط مصيره بزُمرته الاجتماعية وينذر نفسه للعمل الجماعي مع غيره من أعضاء الجماعة من أجل مقاومة هذا القمع ورفع هذا الظلم.
أسلوب الإدراك الأنثوي
ذهب بعض الباحثين إلى أنَّ هناك أسلوبًا إدراكيًّا (معرفيًّا) مُعيَّنًا يخصُّ كلَّ نوعٍ جنسي على حدة. وسواء صحَّ هذا الزعم أم أخطأ فقد تمَّ إضفاء صبغةٍ جنسية على هذَين الأسلوبين من الإدراك.
الإدراك الذكري | الإدراك الأنثوي |
---|---|
تجريدي | عياني |
نظري | عملي |
استنباطي | حدسي |
تحليلي | تركيبي |
غير متجسد | متجسد |
منفصل عاطفيًّا | مندمج عاطفيًّا |
كمِّي | كيفي |
ذري (تفتيتي) | علائقي |
مُوجَّه تجاه السيطرة والتسلُّط | مُوجَّه تِجاه قِيَم الرعاية والحذْب |
-
هل يؤدي استخدام المناهج الذكورية إلى تشويه المُمارسات الخاصة باكتساب المعرفة؟
-
هل يتمُّ إغفال صنوف قويمة من البحث بسبب ارتباطها بأساليب «أنثوية» من الإدراك؟
-
هل تفضي الأساليب المعرفية «الأنثوية» إلى ألوانٍ من المعرفة لا يتسنَّى للأساليب «الذكورية» أن تصِل إليها؟
لقد طال الأمد على الثقافة الغربية وهي تربط العقلانية بالذكورية والانفعالية بالأنثوية، فتخلُص إلى أن النساء أقلُّ إنسانيةً من الرجال؛ لهذا يُحاج الفلاسفة النسويون بأن العقل والانفعال ليسا نقيضَين وأنهما يعملان بتآزُر مُتبادَل ويُعدَّان مصدرين مُتكافئين للمعرفة. إن المعرفة الديكارتية، بكلِّ يقينها ووضوحها، محدودة للغاية، فالناس يُريدون أن يعرفوا أكثر من أنهم موجودون … يريدون أن يعرفوا ما يُفكر الآخرون فيه ويشعرون به.
ويرى الفلاسفة النسويون أنَّ فلسفة العلم التقليدية تُبالغ في ادِّعاء الموضوعية؛ ذلك أن فلاسفة العلم التقليديين كثيرًا ما يربطون نجاح العلم بقُدرة العلماء على السيطرة على الطبيعة وإخضاعها وإذلالها، بينما يربطه النسويون بقدرة العلماء على الاستماع إلى صوت الطبيعة والإصغاء إلى ما تبوح به طوعًا ومن غير إكراه. ومن شأن العلم الذي يستنِد إلى شهادة الوقائع العيانية ويُصغي إلى ما تقوله الطبيعة أن يستخلِص نظريةً مُجرَّدة أكثر اقترابًا من الواقع وأن يكون أكثر موضوعية من العلم الذي لا يصغي.
نقطة الاستشراف الإبستمولوجية Epistemological Standpoint
تدعي نظريات الاستشراف الإبستمولوجي أنها تُقدِّم تمثيلًا للعالَم من منظور يُمليه وضع اجتماعي مُعين ويُسبغ عليه امتيازًا إبستمولوجيًّا أو سُلطة معرفية. ثمة نقاط استشراف أفضل من الناحية الإبستمولوجية، وثمة دائمًا وضع يُتيح رؤية أفضل للأمر أو زاوية أفضل للرؤية أو منظورًا أعرض وأشمل للواقعة. مثال ذلك أن المُتخصِّص في ميكانيكا السيارات هو في وضع أفضل من مُستهلكي السيارات لمعرفة مواطن الخلَل في سياراتهم.
-
فهو أولًا يُتيح لهم رؤيةً للمجتمع أعمق من رؤية المُسيطرين ويكشف لهم القوانين الجوهرية العميقة التي تحكم سير الظواهر موضع البحث، بينما لا يُقدِّم منظور الفئات المُسيطرة إلا معرفة بالاطرادات السطحية للأمور.
-
وهو ثانيًا يقدِّم معرفة أعلى عن نمط الاطرادات السطحية وبالتالي معرفة أعلى من المُمكنات البشرية. وبينما يميل منظور الفئات المسيطرة إلى تصوير صنوف الظلم الاجتماعي على أنها شيء طبيعي وضروري، فإن منظور الفئات المقموعة يقدِّم لها الصورة الصحيحة وهي أنها أمور «عرضية» contingent طارئة اجتماعيًّا، أي حادثة وغير ضرورية. كما أنه يُبين كيف يمكن التغلُّب على هذا الظلم.
-
وهو ثالثًا يُقدِّم تمثيلًا للعالم الاجتماعي في علاقته بالمصالح الإنسانية العمومية. بينما يقتصر منظور الفئات القامعة على تمثيل الظواهر الاجتماعية في علاقتها بمصالح الطبقة المسيطرة ويُقدِّم تمثيلًا خاطئًا لهذه المصالح على أنها مُطابِقة للمصلحة البشرية في عمومها.
تقدم الماركسية نموذجًا كلاسيكيًّا لنظرية نقطة الاستشراف، وتُسبِغ على منظور رؤية البروليتاريا امتيازًا إبستمولوجيًّا فيما يتعلق بالمسائل الأساسية للاقتصاد والاجتماع والتاريخ. وترى الماركسية أن العُمَّال لا يملكون هذا المنظور بداية، وإنما يملكونه حين يكتسبون الوعي الجمعي بدَورهم في النَّسَق الرأسمالي وفي التاريخ. ثمَّةَ جوانب كثيرة للوضع الاجتماعي للعمال تمنحهم منظورًا أفضل إلى المجتمع من الوجهة المعرفية؛ فالعُمَّال مقموعون، والعمَّال هم العنصر الأساسي في أسلوب الإنتاج الرأسمالي، وهم مزوَّدون بأسلوبٍ معرفي قائم على التفاعُل المادي الإنتاجي العملي مع الطبيعة، وهم على وعي ذاتي جمعي بأنفسهم كأعضاء طبقة يمكن أن تكون عالمية. أما الظلم فيمنحهم مصلحة موضوعية في معرفة الحقيقة بخصوص أي الفئات يُحقق النظام الرأسمالي رغباتها ويخدُم مصلحتها في واقع الأمر. وأما كونهم العنصر الأساسي في أسلوب الإنتاج فيمنحهم منفذًا خبرويًّا إلى العلاقات الأساسية للإنتاج الرأسمالي. ولأنَّ وضع جميع الطبقات الأخرى في النظام الرأسمالي يتمُّ تحديده في علاقته بهم، فإنهم حين يشرعون في معرفة أنفسهم ومعرفة وضعهم الطبقي يكونون قد شرعوا في معرفة مجتمعهم ككل. وأما التفاعُل الإنتاجي العملي مع العالم فهو الطريقة الأساسية لمعرفته من وجهة نظر الإبستمولوجيا المادية، وهو يُفضي بهم إلى تمثيل عالمهم في حدود «قِيَم الاستعمال»، بينما يُمثله الرأسماليون في حدود «قِيَم التبادل». إن تمثيل العُمَّال للعالم هو التمثيل الأكثر جوهرية؛ لأن قوانين الاقتصاد والتاريخ الأساسية يُعبَّر عنها في حدود الصراع من أجل تملُّك فائض القيمة (قِيمة الاستعمال) وليس في حدود قِيَم التبادُل السطحي للنقود. وأمَّا العالمية فيلزَم عنها أنَّ العُمَّال يمثلون العالم الاجتماعي في علاقته بالمصالح الإنسانية العمومية وليس بالمصالح الخاصة بالطبقة، الأمر الذي يمنح تصورهم للمجتمع موضوعيةً أكبر من تصوُّر الرأسماليين. وأخيرًا فإنَّ للوعي الذاتي الجمعي خاصيَّة النبوءة المُحقِّقة لذاتها؛ ذلك أن استبصارهم الجمعي بمأزقِهم العام وحاجتهم إلى الخروج من هذا المأزق من خلال الفعل الثوري الجمعي يتولَّد عنه فهم ذاتي يتحوَّل إلى حقيقة عندما يتصرفون وفقًا له. هنالك يتحوَّلون إلى طبقةٍ عالمية ويكونون هم المُحرِّك الأساسي للتاريخ.
ثمَّة مُماثلة بين الأفضلية الإبستيمية لوضع المرأة الاجتماعي وبين الأفضلية الإبستيمية للبروليتاريا؛ فالمرأة مقموعة، والمرأة هي العنصر الأساسي في نسَق التكاثُر وتنشئة الأطفال ورعاية الأجساد مِثلما أن العمَّال هم العنصر الأساسي لنسق الإنتاج السلعي، ولأن المرأة مسئولة عن تلبية احتياجات كلِّ فردٍ من أهل البيت فهي في وضعٍ أفضل من الرجل لرؤية فشل النظام الأبوي (البطريركي) في الإيفاء بحاجات الأشخاص. يعمى الرجال، بحُكم وضعهم المسيطر، عن أن يروا كيف يدوسون مصالح من هم دونهم، أما النساء كطبقةٍ فإن لديهنَّ منفذًا أفضل لمعرفة عيوب النظام البطريركي ومعرفة الأطراف التي يخدُم هذا النظام مصالحها أكثر من غيرها.
الفرد Individual
منذ أكثر من ألفي عام أعلن الفيلسوف اليوناني بروتاجوراس أن «الإنسان مقياس الأشياء»، وهو يعني بذلك، وفقًا لتفسير أفلاطون، أنَّ الحقيقة أمرٌ نِسبي يعود إلى اعتقادات كلِّ إنسان فرد. غير أن جميع المفكرين الذين دَعَوا إلى ضروب من النسبية منذ زمن أفلاطون قد قدَّموها كظاهرةٍ جمعية ولم يستمدَّ أيٌّ منهم إلهامه من بروتاجوراس، بل ذهبوا إلى أن أعضاء أي جماعة إنما تحكُمُهم طرائق من الفكر هي جُزء من مَوروثهم الاجتماعي. ويعود ذلك إلى عاملٍ مُشتركٍ بينهم من قبيل الثقافة أو اللغة أو البنية البيولوجية المشتركة.
(٤) تفنيد النِّسبية
(٤-١) ليست هناك حقائق واقِعة عن المسألة
إذا لم تكن هناك مفاهيم ولا اعتقادات إذن لَمَا أمكن أن تختلف الجماعات من حيث مفاهيمها واعتقاداتها، وما أمكن للدعاوى الوصفية لنسبية المفاهيم والاعتقادات أن تجِد أرضًا تقِف عليها. كذلك لا يعود هناك معنى لأنْ تسأل أسئلةً مِعيارية عمَّا إذا كانت بعض المفاهيم أو الاعتقادات أفضل من بعضها الآخر.
على الرغم من أن كواين قد روَّج لتعبيراتٍ من قبيل «النسبية الأنطولوجية» فقد كان كواين نفسه مُناوِئًا للنسبية فيما يتعلَّق بالمفاهيم والاعتقادات والمعاني، بالضبط لأنه يرى أن ليست هناك حقائق واقعة عن مِثل هذه الأشياء.
غير أن التوجُّه الصارم المُضاد لواقعية المفاهيم والاعتقادات والمقاصد والتمثيلات الذهنية الأخرى، والذي يتطلَّبه تقويض مُعظم صور النسبية، هو توجُّه مُناقِض للحدْس والسليقة. وقلَّما نجد من الفلاسفة من تقنعه حقًّا تلك الحُجج التي يقوم عليها.
(٤-٢) الإدراك ليس «مُحمَّلًا بالنظرية» إلى حدٍّ يدعو لليأس
قُلنا إن النسبية الوصفية للإدراك هي دعوى إمبيريقية عن الكائنات البشرية، تُفيد أن الإدراك الحسي ليس نقيًّا وليس بكرًا وليس محايدًا وإنما هو مشحونٌ أو مُحمَّل مسبقًا بالتصوُّرات النظرية، مما يجعله نسبيًّا صميمًا يتفاوت من جماعةٍ لأخرى ومن حقبةٍ لأخرى، ومن الاستجابات المُضادة لهذه الدعوى أن الإدراك البشري وإن يكُن حقًّا مُحمَّلًا بالنظرية بعض الشيء إلا أنه ليس مُحمَّلًا بالنظرية إلى الحدِّ المؤيس الذي يُصوِّره النسبيُّون، فهناك حدود لهذا التحميل النظري، وهناك أدلَّة إمبيريقية على وجود عموميات إدراكية وافرة. وليس من المشروع الاستناد إلى نسبية وصفية هزيلة عن الإدراك الحسي لتدعيم نسبية معيارية عريضة؛ نسبية تدَّعي أن ليس هناك طريقة واحدة صحيحة مُستقلة عن الإطار لإدراك الأشياء، وأنَّ هناك طرقًا عديدة كلها صحيحة بالنسبة للمنظومات المختلفة من المفاهيم والاعتقادات.
هل الرضيع البشري يأتي إلى الوجود مزوَّدًا بهذه الاستعدادات؟
هذه مسألة إمبيريقية لا يبتُّ فيها غير البحث الإمبيريقي (التجريبي). غير أنَّ هناك دلائل مُتنامِية تُشير إلى أنه كذلك، وإلى أن هناك على الأقل بعض العموميات الهامة اللغوية والمعرفية (الإدراكية) والثقافية.
- من حقل اللغويات: كشف تشومسكي عن وجود عموميات لغوية مفطورة innate linguistic universals جعلتنا نرى العُمق المُشترَك من تحت الفروق السطحية بين اللغات البشرية.
- من حقل علم نفس النمو: تبيَّن أن الأطفال حديثي الولادة يأتون إلى العالم مزوَّدين بميولٍ
غرزية قوية للإدراك والتفكير بطرائق مُعينة. في كتاب «ما وراء
الوحدات الذهنية: الضوابط الفطرية والتغيُّر النمائي» تقول أنيت
كارميلوف-سميث «لقد كانت وجهة نظر بياجيه عن الحالة المبدئية
لذهن الطفل الحديث الولادة وجهةً خاطئة، فمن الواضح أن بعض جوانب
العقل البشري هي مُحدَّدة فطريًّا منذ البداية، وبشيءٍ من التفصيل في
أحوالٍ كثيرة. إن المعرفة محددة المجال أو «نوعية المجال» domin-specific بدايةً
وتفرض ضوابط على التعلُّم اللاحق من خلال التفاعُل مع البيئة. وبوُسعنا
أن ننظُر إلى النموِّ اللاحِق داخل إطارٍ «بنائي».» constructive.١٠٨تحت تأثير بياجيه، على سبيل المثال، أمضى علماء نفس النمو سنواتٍ طويلةً وهم يحسبون أن القُدرة الرياضية تبدأ في الظهور في أواخر مرحلة الرضاعة، حيث يُصبح بإمكان الرضيع أن يتمثَّل بذهنِه شيئًا غائبًا. لقد أثبتت الأبحاث المعاصرة بما لا يدع مجالًا للشكِّ أنه مع بلوغ الأطفال مُنتصف عامهم الأول، أي قبل أكثر من عام من تمكُّنهم من الاشتراك في مُحادثة بسيطة، يكون بمقدورهم أن يستجيبوا لفكرة العدد وأن يَعدُّوا مجموعاتٍ صغيرة من الأشياء. هناك بعض الخلاف حول كيفية مُعالجة العدد عند الأطفال في المرحلة قبل اللفظية، غير أن هناك أدلَّة على وجود جهاز إحصاء قبل-لفظي يعمل كأساسٍ مُشترك للنوع، أو مجموعة مبدئية من الضوابط تنبني عليه مختلف أنظمة العدِّ فيما بعد. يقدم هذا الجهاز البنية المبدئية الخام الشبيهة ﺑ «الموديولات» (الوحدات الذهنية) والتي يمكن عليها تشييد نسقٍ رياضي ثقافي أكثر تعقيدًا.١٠٩
- من حقل الأنثروبولوجيا: تُشير بعض الدراسات في الأنثروبولوجيا المعرفية وعلم النفس
الثقافي إلى وجود عموميات ثقافية على درجةٍ من التعقيد. تشمل هذه
العموميات استخدام الأدوات، والتمييز بين الأدوار الجنسية، ووجود
أساطير شارحة، والموسيقى والرقص، وتعبيرات وجهية مشتركة عن
انفعالات معينة (مثل الابتسام عند الفرح). فإن صح وجود مجموعة ثرية
ودقيقة من العموميات الإنسانية، أي وجود لبٍّ مُشترك للطبيعة البشرية،
تكُن هذه حجةً قويةً تُحجِّم النسبية الوصفية فيما يتعلق بالكائنات
البشرية.
تتَّجِه دعاوى العموميات البشرية بخطابها إلى النسبية الوصفية بالدرجة الأساس (والخاصة بالكائنات الإنسانية فحسب). غير أنها قد تبرُز أيضًا بمعرِض الحديث عن المسائل المعيارية. فمن الأفكار الرائجة تلك الفكرة القائلة بأن التطوُّر يتخلَّص من الأنماط الجينية التي كوَّنت أشخاصًا يأخذون الأشياء مأخذًا خاطئًا، وأن عملية التطوُّر تُحبِّذ بنيانًا معرفيًّا يؤدي أساليب صحيحة معياريًّا من الإدراك والاستدلال؛ ومن ثم فإن مُجرَّد بقاء مفاهيم واعتقادات مُعينة في جنسنا البشري لهو دليلٌ على أنها أقرب إلى الصواب. وهكذا تحدَّث عالم النفس دونالد كمبل عن الانتخاب الطبيعي على أنه تَصديقٌ وتحقيقٌ للمقولات (التصنيفات الفئوية) categories.١١٠
يعني ذلك أن البقاء دليل على الصواب، وأن الانتخاب الطبيعي يُوحِّد المعرفة البشرية وينفي الشوائب ويحذف الخطأ، ويفضل البنية البيولوجية التي تدرك إدراكًا صحيحًا. غير أن هذه الدعوى العريضة يُقابلها رأي مُضاد يقول بأن البقاء (الانتخاب) إنما هو للأكثر «تكيُّفًا» لا للأكثر «صدقًا». فالتصرف السريع مع احتمال الخطأ أضمَنُ من البطء مع الدقة. مثال ذلك أن تصنيف بعض الحيوانات المأمونة للتوِّ واللحظة على أنها من الضواري هو أضمن للبقاء من استنفاد وقتٍ أطول ابتغاء المعرفة الدقيقة؛ حيث تُشترى الدقة بثمنٍ باهظ هو احتمال الافتراس. البقاء إذن بحدِّ ذاته ليس دليلًا على الصواب الإدراكي.
وبنبرةٍ أكثر عُمقًا يذهب كريستوفر ستيفنز إلى أنه في ظروف معينة يُضفي امتلاك آليات ثابتة لتكوين الاعتقاد ميزة انتخابية، بينما لا يُضفي هذه الميزة في ظروف أخرى. والعبرة دائمًا هي في تكوين آليات لاتخاذ القرار نعرف بها ماذا نتوقَّع ومتى. ومن المهم بالطبع أن نتذكر دائمًا أن التطوُّر يشتمل على قوى أكثر من مُجرَّد الانتخاب الطبيعي، وأن من الممكن أن تأتي قوى تطوُّرية مُضادَّة وغير انتخابية (مثل الانحدار الجيني والهجرة) فتكتسح تأثيرات الانتخاب حتى في الحالات التي يكون قد حبَّذ فيها امتلاكُ اعتقاداتٍ صادقة استخدامَ أنماط استدلالٍ شديدةِ الثبات.
-
الإشارة والنسبية: الإشارة (الإحالة) reference
(أو المعنى الإشاري أو الحقيقي denotation) هي صنف ذو أهمية خاصة من أصناف المعنى.
تُعدُّ الإشارة علاقة بين التعبيرات اللغوية من جهةٍ وبين الأشياء (أو
الخواص) في العالم من جهة أخرى. ويُطلَق على الشيء أو الخاصة التي
يُشير إليها تعبير لغوي ما «المشار إليه» أو «المرجع» referent.
يُنظر إلى الإشارة أحيانًا على أنها تُقدِّم طريقًا للخروج من لُغةِ جماعةٍ ما أو مفاهيمها أو اعتقاداتها. وفي معرض نقد دعوى «اللامقايسة» incommensurability في فلسفة العلم كان كثير من خصومها الأوائل يُحاجُّون دعاتها بأنه مِثلما يمكن أن يكون لشاهِدَين في قاعة مَحكمةٍ اعتقادان مُختلفان عن شخصٍ واحد (المتهم) بينما يظلُّ الاثنان يُشيران «إليه»، كذلك من الممكن لعالِمين أن يكون لهما اعتقادان مُختلفان عن «الكتلة» أو «الجينات» دون أن تتغيَّر الإشارة إلى «الكتلة» أو «الجين» على الإطلاق.
كذلك قد يكون لأعضاء ثقافتَين مُختلفتين كلمتان أو تعبيران يُشيران إلى نفس الصنف من الأشياء (الأرانب مثلًا) أو إلى نفس الشيء المحدد (مثل ذلك الأرنب بجانب شجرة الدردار). «المرجع» إذن (أو «المُشار إليه») يُمكن أن يكون قاسمًا مُشتركًا بين اللغات المختلفة، وأن يسمح للجماعات المختلفة أن تخرج من أُطرها المختلفة وأن يتحدَّث بعضها إلى بعض عن عالمٍ موضوعي مُشترك.
وكثيرًا ما يَرُدُّ أنصار «اللامقايسة» بأن المعنى الإشاري (الحقيقي) للتعبير اللغوي يتحدَّد بمكانه في نظريةٍ كلية أو شبكة من الاعتقادات، وهو ردٌّ يستنِد إلى ما يُسمِّيه فلاسفة اللغة «النظريات الوصفية للإشارة» descriptive theories of reference، والتي تقول إنَّ المعنى الحقيقي (الإشاري) تُحدِّده الأوصاف أو مضامين الاعتقادات التي تُشكِّل معنى الكلمة أو «مفهومها» intension أو «مفادها» (مغزاها) sense. غَير أنَّ النظريات الوصفية قد تلقَّت ضربةً مُضنية من جانب دعاة «النظريات المُباشرة في الإشارة» التي تقول بالاتصال المباشر بين الألفاظ (والمفاهيم) وبين معانيها الإشارية دون وساطة كوكبة من الأوصاف. وعليه فمِن الحصافة أن يعترِف دُعاة النِّسبية السيمانتية بأنَّ الإشارة هي شيءٌ مُباشر وأن يتذرَّعوا بأنها تُشير إلى أشياء في عالمٍ منسوبٍ إلى إطارٍ مُعين ومحمول عليه. -
الأفلاطونية والنِّسبية: «الأفلاطونية» Platonism هي
فصيلة من الآراء اكتسبت اسمها لاشتمالها على كيانات (من قبيل
القضايا، والخواص، والمجموعات) يُعتقد أنها، شأنها شأن «الصور
الأفلاطونية» forms، مُجرَّدة وثابتة
وموجودة خارج المكان والزمان. فقد ذهب أفلاطون قديمًا إلى أنَّ هناك
عالمًا قائمًا بذاته من الحقائق المُستقلَّة عن الذهن والنفس والمادة،
ويشمل هذا العالم جميع الكيانات الرياضية (كالأعداد والمُثلَّثات …
إلخ) وجميع المفاهيم العقلية (كالمفهوم العقلي للأحمر، والمفهوم
العقلي للمائدة … إلخ) ويُسمَّى هذا العالم أحيانًا عالم «المُثُل» أو
«الأفكار» ideas. ويرى
أفلاطون أن حواسَّنا لا تُغني شيئًا في معرفة هذا العالم وأنه لا سبيل
لنا إلى معرفته إلا بالرؤية العقلية الخالصة المُبرأة من زيغ الحواس وتشتيتها.١١١
وفي كثير من المداخل الأفلاطونية تُعبِّر المفاهيم عن خواص مجرَّدة وتعدُّ الاعتقادات علاقاتٍ بين الأشخاص وبين القضايا المُجرَّدة. يومئ ذلك إلى طريق يتفادى بعض ضروب النسبية ما دام بإمكان الناس من شتَّى الثقافات أن يعتقدوا نفس الاعتقادات (لأن بإمكانهم أن يعتقدوا نفس القضايا المُجرَّدة)، ولن يكون اعتقادٌ ما صادقًا إلَّا إذا كانت القضية الثابتة التي يُعبِّر عنها صادقة.
قد يرُدُّ النسبي بأن التوجُّهات الأفلاطونية تُفضي إلى مصاعب شديدة في الإبستمولوجيا والدلالة؛ ذلك أنَّنا كائنات فيزيقية تعيش في عالم مكاني زماني وليس بإمكاننا أن نتفاعل سببيًّا (أو بأي طريقة أخرى يُمكن إدراكها) مع أشياء مُجرَّدة خاملة سببيًّا، كما أننا لا نعرِف أحدًا يعي أنَّ لدَيه أي قُدرة معرفية خاصَّة تجعله على اتصالٍ بعالمٍ لازماني من الأشياء المجردة. ولم يكتشف علماء الأعصاب أيَّ جزءٍ من الدماغ يؤدي مثل هذه القدرة. ولسنا نعرف بين طرق الأطفال في اكتساب المفاهيم والاعتقادات ما يُومئ إلى مثل هذه الوجهة من الرأي. ولا يُوجَد في علم الفيزياء ما يُشير إلى أي طريقة يُمكن بها لنظامٍ فيزيقي (الدماغ) أن يتَّصِل أيَّ اتصالٍ بأشياء لا مادية خاملة عِلِّيًّا. وفضلًا عن ذلك، فإذا لم يكن بمقدور عقولنا أن تعقد صلةً إبستيمية بمثل هذه الأشياء فكيف يُمكن لألفاظنا وممارساتنا اللغوية أن تتَّصِل إبستيميًّا بها؟
على أن كل هذه الحُجَج لا تُثبِت أن القضايا المُجرَّدة غير موجودة، بل تُظهر فحسب أن وجودها أمر غير واضح. غير أنه لم يدُرْ جدلٌ يُذكر بين النسبيين والأفلاطونيين حول هذه المسائل؛ ربما لأن التَّوجُّهين هما من التباعُد بحيث يصعُب على أنصارهما أن يلتقيَ الواحد منهم بالآخر.
(٤-٣) مشكلة التوسط Mediation: المفاهيم ليست حِجابًا
وقد مضى الفيلسوف الأمريكي ريتشارد رورتي بهذه الفكرة إلى مداها، فذهب إلى أن ليس هناك شيء من قبيل الحقيقة الموضوعية الخالصة، وليس لدَينا أي منفذ إلى أي حقيقة بمعزِل عن اللغة؛ ذلك أن فكرة الحقيقة الموضوعية الخالصة المستقلة عن أي وصفٍ لغوي هي فكرة مُستحيلة؛ لأن هذه الفكرة ذاتها لا يمكن أن تقوم إلا داخل أداءٍ لغوي مُعين. إنَّ حديثنا عن الواقع هو دائمًا حديث عن «واقع تحت وصفٍ ما»، وكل حقيقة يمكننا امتلاكها إنما هي حقيقة في ثوبٍ لغوي، حقيقة مرتهنة لوصفها ذاته ومُتأثرة بالتالي بسماتِ اللغة الواصفة وأحكامها وضوابطها. إنما نحن سجناء الإطار ولا وجه للحديث عن أيِّ شيءٍ مُستقل عن الإطار.
غير أن خصم النسبية يُمكنه أن يردَّ على هذه الحُجَّة بأن تصوراتنا، في الأحوال المُعتادة، ليست حجابًا بل هي التي تُتيح لنا أن نتعرَّف على الأشياء ونتعقَّلها. مثال ذلك أن مفهوم «كلب» يُتيح لي أن أتعرف على أفراد الكلاب وأميزها وأفكِّر عنها، ولكنه لا يقِف بيني وبين كلبي. بوسعي في الأحوال العادية أن أنظر فحسب فأرى أنَّ هناك كلبًا أمامي.
نعم من الممكن وجود أُطر مُختلفة من المفاهيم، وصحيح أنَّ من المُحال علينا أن نتحدث بدون لغة أو بدون مفاهيم، ولكن ما أن تستوي لدينا ذخيرةٌ من المفاهيم أو التصوُّرات حتى تكون الحقيقة في الأغلب واضحةً وموضوعية تمامًا. وما دُمنا لا نُصرُّ على وجود روايةٍ واحدة صادقة عن العالم مروية وفق معجم صحيح واحد من المفاهيم، فليس يلزمنا أن نتحقَّق مِمَّا إذا كانت مفاهيمنا هي تلك المفاهيم الصحيحة، وإنما يلزمنا أن نتحقَّق ممَّا إذا كانت اعتقاداتنا أو عباراتنا (في إطار مفاهيمنا أو ألفاظنا) صادقة. وليس من الضروري أن نذهب إلى «منفًى كوني محايد» أو أن نعثُر على «نقطة أرشيميدية» خارج كلِّ اللغة والفكر من أجل أن نفعل ذلك. إنه شيء نفعله في كلِّ وقت، شيء صحيح من موقعنا الحالي. فبمجرَّد أن يتكوَّن لديَّ مفهوم الكلب، على سبيل المثال، يكون من الحقِّ والصدق، حقًّا وصدقًا واضحًا لا إشكال فيه في أغلب الأحيان، أنَّ هناك كلبًا في الزاوية!
(٤-٤) الدحض الذاتي Self-Refutation
تمضي حُجَّة أفلاطون ضدَّ الصيغة المُتطرفة من «نسبية قِيمة الصدق» هكذا:
إما أنَّ دعوى نسبية الصدق هي دعوى صادقة صدقًا مُطلقًا (أي صادقة بمعنًى غير نِسبي) وإما أنها صادقة بالنسبة لإطارٍ مُعيَّن فحسب. فإذا كانت صادقة صدقًا مُطلقًا إذن فهناك على الأقلِّ حقيقة واحدة صدقها غير نسبي (ليست مجرد حقيقة صادقة بالنسبة لإطارٍ معين)، وهو تناقُض أو عدم اتِّساق (وإذا استثنينا دعوى النِّسبي فعلى أيِّ أساسٍ نمنع بقية الاستثناءات؟!) وإذا كانت دعوى نسبية الصدق صادقة بالنسبة لإطارٍ مُعين فحسْب، فإنها إذن كاذبة في أطرٍ أخرى ليست أقلَّ وجاهة. (وليس ثمَّةَ ما يُلزمنا بإطار داعية النسبية دون غيره، فلعله إطارٌ مُغرقٌ في الذاتية أو ضِيق الأفق!)
(٥) نسبيَّات مُجهَضة
- (١) الاستبصار الأنثروبولوجي Anthropological Insight: ومفاده أنَّ هناك بالفعل ثقافات مُتباينة.
- (٢) الاستبصار البنائي Constructivist Insight: ومفاده أن ملامح العالم كما نُدركه ونخبُره تُحدِّده الثقافة.
- (٣) الاستبصار السيمانتي (الدلالي) Semantic Insight: ومفاده أن معاني الأنساق الرمزية تُحدِّدها الثقافة.
(٥-١) الاستبصار الأنثروبولوجي (أرسطو)
تعميم الاستِبصار الأنثروبولوجي
يُمكن أن ننظر إلى استبصار أرسطو بوجود أساليب عديدة لتنظيم الحكومة على أنه حالة خاصة من دعوى التعدُّد الثقافي التي يمكن أن تمضي هكذا: ثمَّةَ عددٌ لا يُحصى من اللُّغات المُتمايزة ومصاحباتها من الممارسات القولية والمادية تُشكِّل ثقافة مُتمايزة. ثمَّةَ استنتاجان يُمكن استخلاصهما من هذه المُلاحظة الإمبيريقية: الأول: يذهب إلى أنه ليس هناك ثقافة عالمية في واقع الأمر، وهو استنتاج ما يزال مُتساوِقًا مع فكرة وضع مراتِب لشتَّى صور الحياة وفقًا لقيمةٍ مُطلقةٍ ما. غير أنَّ هناك أيضًا استدلالًا ثانيًا يُمثل دعوى نسبية مُتطرفة يقول بأنه لا سبيل إلى وضع مراتب للثقافات القائمة وفقًا لقيمة مُطلَقة.
(٥-٢) الاستبصار البنائي «كانْت»
هل يؤدِّي ذلك إلى النسبية؟
بالطبع لا، ما دام هناك نسَق واحد، وواحد فقط، من صور الأحكام يتجلى في بنية الخبرة الإمبيريقية، وضرب قَبْلي واحد فقط من ضروب القياس المكاني والزماني يتجلى في أشكال الحدس. لق كان استبصار كانْت قَمينًا أن يؤدي إلى القول بالنسبية الإبستيمية والأنطولوجية، أي القول بوجود أنساقٍ تصوُّرية لا حصر لها يؤدي كل منها، عند تطبيقه على فوضى الخبرة، إلى خلق عالمٍ فريد تجيء معرفته انعكاسًا لذلك النسَق، لولا أن كانْت أغلق هذا المجال بقوله بفرادة صور الأحكام.
وجدير بالذكر أنَّ كثيرًا من المفكرين بعد كانْت قد أخذوا باستبصاره دون أن يَشفعوه بفرادة المقولات والأحكام وثباتها وضرورتها وعموميتها (أي شمولها لجميع الكائنات المُدركة). لقد وافقوا كانْت في دعواه بأن تصوُّرات المرء واعتقاداته المركزية تلعب دورًا كبيرًا في تشييد العالم كما يُدركه ويعرفه، غير أنهم أردفوا أنَّ من الممكن في ذلك استخدام أُطرٍ مُختلفة من التصوُّرات والاعتقادات. فالأحقاب التاريخية والثقافات المُختلفة لديها أطرٌ مختلفة من التصورات والاعتقادات والمعايير، الأمر الذي يؤدي بأعضائها إلى أن يُشيِّدوا عوالمهم على أنحاء مختلفة. من هؤلاء المُفكرين الذين وافقوا كانْت في الشطر البنائي وخالفوه في شطر الثبات والضرورة؛ وليم جيمس، وهانز ريشنباخ، وإرنست كاسيرر، وكولنجوود، ورودولف كارنب. وإنه لمن المُفارقات الساخرة أن كانْت — رأس الموضوعية وبطل التنوير الذي لا يأتلِف فكره بحالٍ مع أيِّ نزعة نسبية — قد أدخل فكرةً صارت تلعب دورًا محوريًّا في كثيرٍ من حُجَج النسبية، بما في ذلك «نسبية الواقع» وهي أشدُّ صور النسبية غلوًّا وتطرُّفًا.
(٥-٣) الاستبصار السيمانتي/الدلالي (فتجنشتين)
في «أبحاث فلسفية» ذهب فتجنشتين إلى أنه ليس يكفي أن يتَّفق الناس في صور الحياة، أو في الأجرومية التي يستخدمونها، بل ينبغي أن يتَّفِقوا أيضًا في الأحكام، أي في وقائع حياتهم كما يَرونها، فأيًّا من كُنَّا، وأيًّا ما كان النسق الرمزي الذي اختَرْنا أن نستخدمه، فنحن عشيرة من البشر تحتال من أجل العيش في هذا العالم بهذا التكوين الفطري وهذه الجبلَّة الموروثة. والأجروميات لا يُمكن أن يتمَّ اختيارها كيفما اتَّفَق. صحيح أنه ليس هناك أساس واحد يتعيَّن أن تقوم عليه مجموعة واحدة لا غير من المعايير السيمانتية، إلَّا أنَّ الممارسات الرمزية المُمكنة على تنوُّعها محكومة بضوابط الطبيعة. إنها ليست مُقيَّدة فحسب بحقيقة أنَّ الاختيار السيئ لطريقة الحديث عن النظريات قد يُفضي إلى الموت بالتسمُّم، بل مُقيدة أيضًا بضرورة وجود تعبيرات طبيعية مُعينة عما نشعُر به على سبيل المثال، وضرورة وجود قُدرات طبيعية مُعينة يُمكن أن نفيد منها في وتيرة التدريب الأساسي التي تجعل اكتساب أي لغةٍ على الإطلاق أمرًا مُمكنًا.
(٦) قيام الأنثروبولوجيا
من عجيب المُفارقات وساخر المُصادفات أن المذهب النسبي بصفةٍ عامة يستنِد إلى كشوف علم الأنثروبولوجيا الحديث، بينما يُمثل قيام هذا العلم نفسه وإمكان تأسيسه أصلًا، أول شاهد ضد النسبية؛ فلو صحَّ أن الفجوة الثقافية بين الجماعات هائلة ومستحيلة العبور لَمَا أمكن قيام الأنثروبولوجيا من الأصل، وما كان هناك معنى لأن نحاول إنشاء مثل هذا العلم. إذا كانت الجماعات المُختلفة تعيش داخل أنساقٍ رمزية مختلفة ومنفصلة ومُسيَّجة لتعذَّر علينا الخروج من نَسَقنا الخاص والدخول في نسَقٍ مُغاير بهدف الفهم والبحث المُقارن و… «المقايسة».
(٦-١) اللامقايسة
يرتبط مفهوم «اللامقايسة» عند «كون» ارتباطًا وثيقًا بمفهوم «النموذج الشارح» (البارادايم)، فالعبارات التي تندرج داخل نموذجٍ ما لا يعود لها معنى حين تُدرَج في نموذج مختلف، ولا يعود من الممكن تأويلها تأويلًا مُترابطًا داخل نموذجٍ مُنافِس. وفي المجال الذي يَعنينا هنا — أي التأمُّل الأنثروبولوجي — سوف نُوحِّد بين البارادايم وبين السياق الثقافي؛ ذلك السياق الذي يُمثل الموضع الذي يتمُّ فيه التشييد الاجتماعي للمعنى.
إذا كانت عملية تعلُّم الإدراك الحسِّي عملية اجتماعية تخصُّ كل جماعة على حدة، نكون الآن بصدد موقفٍ شبيهٍ بما يحدُث في المناقشات العلمية قُبيل الثورات العلمية. ثمة صعوبات كُبرى تُواجهنا حين نُحاول تأصيل التواصُل مع ثقافة مختلفة وتفهُّمها وتأويلها، فاللامُقايسة القابِعة بين اللغات التي تُمثِّل مداخل مختلفة إلى الواقع تحُول بيننا وبين قيام أيِّ نوع من «الحوار» مع الثقافات الأخرى، وإذ يمتنع الحوار فإنَّ توماس كُون يرى أن كل ما بوسع الأطراف أن تفعله هو أن يدركوا أنهم أعضاء مُجتمعات مختلفة ذات لغات مُتباينة، ثم يُصبحوا مُترجمين.
(٦-٢) عدم التحديد في الترجمة
تفيد دعوى «عدم التحديد في الترجمة»، التي دفع بها كواين في كتابه «الكلمة والشيء»، أنَّ من المُحال علينا أن نعرف ما إذا كان المرء قد حقَّق ترجمةً صحيحة بين لُغتَين مختلفتين. والمشكلة التي يريد كواين أن يُبرزها في هذه الدعوى هي أن من غير المُتاح لنا أن نكون على يقينٍ من ذلك الشيء الذي يُشير إليه مُحاورونا في أقوالهم؛ ومن ثم فمن غير المُتاح لنا أن نحدد ما هو المخطط التصوُّري وما هي الأنطولوجيا التي يتبنَّونها. قد يكون مُخططهم التصوري هو مُخططنا ولكن لا سبيل إلى أن نعرف ذلك من خلال السلوك الملاحظ الذي يُعدُّ هو الشيء الوحيد الذي يمكن أن نتحدَّث عنه بيقين علمي. فإذا خلُصنا من ذلك إلى أن من المتعذِّر علينا أن ندخل سياقًا آخر مختلفًا عن سياقاتنا لترتَّب عليه أن الأنثروبولوجيا لا يُمكن أن تكون علمًا.
ويمتدُّ تأثير أطروحات كواين ليشمل عملية المقارنة بين النظريات، ويُمثل عقبةً أمام دراسة الثقافات المختلفة والمقارنة بينها، وأمام مُقارنة النظريات العلمية المُتضاربة، وأمام العلوم الاجتماعية كالأنثروبولوجيا. فإذا لم يكن هناك سبب موضوعي يُبرِّر اتفاق أو انفصال اللغات والثقافات وشتَّى ضروب الخطاب، فليس ثمة جدوى للحديث عمَّا كان العالم السابق يُريد أن يقوله، وكل ما بِحَوزتنا هو مجرَّد طرائق مختلفة، صائبة بنفس الدرجة، لتأويل أقواله.
تُفضي دعوى «عدم التحديد في الترجمة» عند كواين إلى دعوى «غموض الإشارة». ويفيد «غموض الإشارة» أنه قد تكون لدَينا كثرة من التأويلات البديلة المُتساوية الصواب حول الإشارة الخاصة بمُصطلحات النظرية العلمية، وليس لدَينا ما يحسم أيها هو الصحيح، فإذا كانت الإشارة بطبيعتها مُستغلِقة فلا سبيل لدَينا إلى اكتشاف ما كان يُشير إليه الآخرون أو يتحدَّثون عنه. ولكي يتسنَّى لنا أن نُقارِن بين النظريات تلزَمنا ترجمة وتحديد للإشارة، ولكن إذا صحَّت دعاوى كواين ولم تكن هناك ترجمة فريدة، فلن يعرِف أحد ما إذا كانت نظريته أكثر أو أقلَّ صدقًا من نظرية الآخر.
كانت دعوى «عدم التحديد في الترجمة» هي تفسير كواين لمشكلة «اللامقايسة»، غير أنه كان يرفض أن يتهمَّ بالنسبية، مؤكدًا التزامه بالواقعية. لقد كانت الفيزياء عنده هي المحكَّ النهائي لكلِّ حديثٍ عن الواقع، وكان يتَّخِذ موقفًا واقعيًّا تجاه الفيزياء.
ذهب كواين إلى أننا إذا شئنا أن نفهم لغة أخرى أو مخططًا تصوريًّا مختلفًا فإن علينا أن نترجمه. هناك فرق بين الفهم والترجمة؛ فالفهم يتعلَّق بقُدراتٍ والترجمة شيء ينخرط فيه المرء، يعني ذلك أنهما أمران مختلفان وأن أحدهما يعتمد على الآخر؛ ذلك أن عملية الترجمة (أو التفسير) تفترض الفهم مسبقًا. ويتجلَّى ذلك في الطريقة التي نسلُك بها، فالاستجابات التي نُبديها تُبيِّن كيف تأتَّى لنا أن نفهم السلوك القصدي للآخرين. وبهذه الطريقة أيضًا يتبيَّن أننا نشارك تلك الثقافة، أو اللغة، المختلفة من حيث المبدأ، شكل الحياة الأساسي نفسه. وإذا استبعدْنا ذلك فنحن إذن ننفي أي إمكانٍ لاعتبار الآخرين بشرًا، وأي إمكانٍ لحدوث أي نوع من التواصل.
والنقد الآخر المُوجَّه إلى أطروحات كواين يتَّصِل بمشكلة «الإشارة/الأنطولوجيا»، فقد دفع كواين بدعوى «عدم التحديد في الترجمة» والتي ترتكز على دعوى «غموض الإشارة»، فإذا كان مُنطلقُنا هو السلوك المُلاحَظ (السلوكية) فليس بإمكاننا على الإطلاق أن نعرِف على أيِّ شيءٍ تصدُق ألفاظ لغةٍ ما وإلى أيِّ شيءٍ تُشير. يرى دونالد دفيدسون أن هذه الفكرة لا تعدو أن تكون تأييدًا لنظرةٍ نسبيةٍ إلى الإشارة، وهو يُؤيِّد كواين في أطروحته عن «عدم التحديد في الترجمة» و«غموض الإشارة» ولكنه يرفض مُنطوياتهما ويُدرك المشكلات التي تَجلُبها النتائج المُستمدَّة منهما، ذلك أن دفيدسون يرفض نسبية الإشارة ويذهب إلى أن الأنطولوجيا بأسرِها شيءٌ ثابت.
يُحاول دفيدسون أن يتَّخِذ موقفًا وسطًا يأخُذ المُخطط التَّصوُّري بالاعتبار دون الوقوع في النسبية الأنطولوجية التي تبدو لصيقةً بمذهب كواين، فنحن بحاجةٍ إلى مخطط تصوُّري لكي نفهم أيَّ شيءٍ من أشياء العالم (ذلك أنَّ الأشياء لا تُوجَد بمعزِل عن المخططات التصورية) ونحن لا يمكن أن ننفصل عن أفكارنا لكي نقارنها بالواقع. غير أن هذا ليس نسبية ولا يعني صِدق النسبية، بل هو، على حدِّ قول بتنام، نوع من الواقعية البراجماتية.
(٦-٣) بعض مُشكلات «اللامقايسة»
قُلنا إن «اللامقايسة» تعني عدم وجود عنصر مُشترك يمكننا بواسطته المقارنة، والمفاضلة، بين خطابَين مختلفين. تُفضي «اللامقايسة» إلى مصاعب كبرى في الفهم، وتُوقِع عجزًا تواصُليًّا بين الأشخاص الذين ينتمون إلى أنساقٍ مختلفة، بحيث يستحيل عليهم تبادُل المعنى فيما بينهم؛ فهذه الأنساق هي شيء مُغلق مُنكفئ على حاله. ومن هذا المُنطلق تُعدُّ «اللامقايسة» مُؤيدًا وظهيرًا لتصورٍ نِسبيٍّ عن الواقع.
يذهب بنيامين ورف إلى أن اللغة تُفرز تنظيمًا مُعينًا للخبرة، إذ تصنِّف تيار الخبرة الحِسِّية فتسلك الأشياء في نَسَقٍ معين وتُضفي على العالم نظامًا معينًا. بهذا المعنى يتَّضِح بجلاءٍ وجود فرقٍ أساسي بين اللغة الإنجليزية ولغة «الهوبي». يقول ورف إن لغة الهوبي مُزوَّدة بأدواتٍ لتناول الظواهر التي لا يمكن لمُصطلحاتنا العلمية أن تُعبِّر عنها كما يجِب؛ وذلك ببساطة لأنَّ الهوبي تخلق مقارنة بين ضروبٍ من الخبرة مختلفةٍ عن تلك التي تستطيع لغتنا العلمية تمييزها.
يرى دفيدسون أنَّ الفروق بين اللغات ليست من الضخامة بحيث لا تستطيع التعبير عنها إلا باستخدام لُغة فريدة؛ ولذا فهوي ذكَّرنا بأن توماس كُون كان يستخدِم لغة ما بعد الثورة العلمية كلما أراد الحديث عمَّا كان يحدُث فيما قبل الثورة العلمية. ويذهب دفيدسون إلى أنه لا معنى لأن نتحدَّث عن وجهات مختلفة من الرأي ما لم يكن هناك منظومة إحداثيات مُشتركة لكي نمثل فيها هذه الوجهات من الرأي. ومتى كان هناك منظومة مُشتركة يُصبح التفاوت الضخم شيئًا من قبيل التناقُض.
إذا صحَّت الدعوى النسبية القابعة في مبدأ «اللامقايسة» لمَا كان بوسع الأنثروبولوجيين أن يطرحوا أي أسئلة أو يقترحوا أي أجوبة. ولكي تكون الأنثروبولوجيا مُمكنة فلا بدَّ لأهالي القبائل التي ندرُسها أن يكونوا مُشاركين لنا في تصوُّراتنا عن الحقيقة وفي الترابُط والاتساق العقلي بين الاعتقادات. ورغم مصاعِب التواصُل فإن بإمكاننا أن نعرف أشياء كثيرة عن مُحاورينا. ورغم إدراكنا للدور الحاسم للترجمة في تحديد مدى صحَّة دعوى النسبية الثقافية، فإننا، مع اعترافنا باستحالة الترجمة الدقيقة وقَبولنا لقيودها وحدودها، نلمس بأنفسنا أنَّ التواصُل مُمكن. وتُقدِّم لنا المُمارسة العامة دليلًا حيًّا على ذلك.
(٧) من النسبية إلى الفوضوية: (فييرابند – رورتي)
أن تنزلق إلى افتراض ماهية مُشتركة هو أن تقَع في «مُغالطة التَّشابُه الأسري»، وإنَّ من الخطأ دائمًا أن تُصدِّر مبادئ «نحو» يحكم استخدام كلمة في جزء من مجالٍ معينٍ إلى جزء آخر من ذلك المجال. وفي حالة فييرابند ورورتي نجِد أن أدِلَّتَهما تقع في مُغالطة التشابُه الأسري. ويتجلَّى ذلك بشكلٍ خاص في فشلهما في الاحتفاظ بفروق جِذرية بين مجالات الخطاب القائمة بين الثقافات، كما تُكيَّف لتناول الظواهر التي من صُنع الإنسان وبين الخطاب الخارج عن الثقافة حيث تواجِه النظريات (وإن يكن ذلك بشكلٍ غير مباشر) العالم المادي العنيد والواقع الصُّلبَ المُحايِد.
(٧-١) فييرابند
ها هو ذا الانتقال من النسبية إلى الفوضى. فإذا كان التَّلاشي بالعُمق والضخامة التي يُعلنها فييرابند، فليس بوسع أحد قطُّ داخل العالم ب أن يحوز أيَّ بصيصٍ من المعرفة عما كانتْهُ الحياة في العالم أ وماذا كانت نكهة أن تقطُن العالم أ.
(٧-٢) ريتشارد رورتي
-
المعرفة بوصفها علاقة بين القضايا، (أو الحقيقة بوصفها علاقة ترابط بين القضية المطروحة وبين بقية القضايا، أو «الترابط» coherence بوصفه معيارًا للحقيقة).
-
المعرفة بوصفها علاقة بين «الأشياء» وبين «القضايا» propositions التي تتحدَّث عن هذه الأشياء، («التطابق» correspondence بوصفه معيارًا للحقيقة).
يذهب رورتي إلى أنَّ ليس هناك تمثيلات ذات امتياز تُمثِّل أسسًا للمعرفة. والحقُّ أن كل ما رشحه الفلاسفة ليكون تمثيلات ذات امتياز ويكون بالتالي أسسًا نهائية للمعرفة اليقينة قد تمَّ تفنيده ولم يثبُت للنقد. ولكن إنكار وجود أُسُس نهائية للمعرفة لا يعني أن نُنكِر وجاهة التصوُّر التقدُّمي عن تحسُّن المعرفة، وهو تصوُّر مُسترشد بالعالم الموضوعي وليس مُنغلقًا في الذاتية ووسائلها في تمثيل الطبيعة.
إنَّ تشبيه العلم الطبيعي بالفلسفة السياسية لينمُّ على سوء تأويلٍ لدعوى فتجنشتين عن استقلال النحو (الأجرومية). وهو فهم خاطئ كان شائعًا في يومٍ من الأيام وإن يكن مُضَلِّلًا غاية التضليل. لقد أشار فتجنشتين إلى أنَّ لنا مُطلَق الحرية في اختيار أي مواضعات نُريدها للخطاب، وأنَّ العالم لا يُمكن أن يُقيِّده اختيارنا للنحو. لقد كان بإمكاننا مثلًا أن نقول بأنَّ سطحًا ما يمكن أن يكون كله أحمر وأخضر في آنٍ معًا، غير أنَّ من الأربح لنا بكثيرٍ أن ننزل في نحونا قاعدةً تُوجِب استخدام لفظتي «أحمر» و«أخضر» بهذه الطريقة المُفرِّقة، ويضيف فتجنشتين إضافةً بالغة الدلالة إذ يقول بأننا لكي نُحقِّق صورة مشتركة للحياة فإن علينا ألا نتفق فحسب في مواضعات لغتنا، بل علينا أيضًا أن نتفق في أحكامنا العملية؛ ذلك أن بعض ضروب النحو هي أبلغ في تقديم قصصٍ مُترابطة عن الحال التي يوجد عليها العالم، وفي سنِّ برامج مُرشِدة للفعل تُلائم العالم أكثر من غيرها.
(٨) تجاوز النسبية
لا يسع أحدًا أن يُنكر بعض المُقدِّمات الأساسية التي يستخدمها النسبيُّون في تأييد وجهات نظرهم. إنَّنا حقًّا كائناتٌ «وُضِعت» موضعًا وأُحِلَّت موقعًا تاريخيًّا وثقافيًّا، بحيث لا تملك أن تأبق خارج مفاهيمها وتصوراتها ومعاييرها واعتقاداتها لكي تُقدِّر مدى انطباق هذه المفاهيم والمعايير مع واقعٍ ما ﻟ «الأشياء في ذاتها» بمعزلٍ عن العقل واستقلالٍ عن الذهن ومقولاته. زد على ذلك أننا رغم قدرتنا على تبرير كثير من مُعتقداتنا المركزية ومعاييرنا الإبستيمية بطريقةٍ تدريجيةٍ تجزيئية، فنحن لا نملك أن نُبررها جميعًا دفعةً واحدة. ولعلَّنا لا نملك تبرير بعضها، كمبدأ الاستقراء مثلًا، على الإطلاق.
ويبقى التحدِّي الحقيقي والعمل المُجدي هو أن نُنصِف مثل هذه الوقائع النسبية و«نأخذها» بعين الاعتبار دون أن نسمح لها أن «تأخذنا» بعيدًا وتنتهي بنا في مُستنقَع النسبية المُتطرفة. ويُهيب بنا كثير من المفكرين أن نتجاوز النسبية ونتخطاها، مُشيرين علينا بأن نتَّخذ لنا مسارًا حصيفًا بين خطرَي النسبية المتطرفة من جهة والنزعة المُطلقة الساذجة من جهة أخرى. غير أنَّ اتخاذ هذا المسار هو أسهل على الخريطة المرسومة منه في البحر الحقيقي، أسهل في القول لا في الفعل. وتظلُّ هناك محاذير ونصائح و«وصفات» يُقدِّمها لنا هؤلاء المُفكرون لنعمل بها في مسيرنا المحفوف بالمخاطر.
الحقُّ أنه ما إن يستوي لدينا إطارٌ ويشرع في العمل حتى تتجلَّى كثيرٌ من الحقائق عن ما هو صوابٌ وما هو خطأ، وما هو مُمكن وما هو غير ممكن، وما هو حقٌّ وما هو باطل. كما أن الأُطر المترابطة والعاملة لا يمكن خلقُها بجرَّة قلم. لقد استغرق تشييد أُطر العلم الحديث ألوف السنين من الجُهد المضني والتخيُّل الخارق من جانب ألوف وألوف من بني البشر. الأمر إذن ليس خبْط عشواء ولم يكن حقًّا قطُّ أن «كل شيء يجوز».
إن التغيُّرات التصوُّرية والإبستيمية لتحدُث بالفعل، وإن الحديث عن انحباسنا في شرك اعتقاداتنا ومعاييرنا القائمة قد يكون مُبالغًا فيه؛ فالأطفال يتعلمون أشياء جديدة عليهم تمامًا، والكبار أحيانًا ما يكتسبون قِيَمًا واعتقاداتٍ بالغة الجِدة، والعلماء في مراحل مُعينة قد يعتنقون نظرياتٍ جديدة بدرجةٍ انقلابية. بل إن الناس كثيرًا ما تَعتبِر رؤيتها الجديدة للأشياء أفضل من رؤيتها القديمة.
ولعلَّ أفضل الاستراتيجيات للعثور على طريقٍ وسطٍ بين النسبية المتطرفة من جهةٍ والنزعة المُطلقة المُفرطة في التبسيط من جهةٍ أخرى، هي أن نحاول التوفيق بين الطبيعة العرضية التاريخية المُقيَّدة بالثقافة وبين قُدرتنا فيما يبدو على الوصول إلى طرقٍ أفضل (وليس مُجرَّد طُرق مختلفة) من التفكير. يبدأ أنصار هذه الطريقة من المفكرين، في أغلب الأحيان، بملاحظة أننا ينبغي أن نبدأ من حيث نحن، أينما كنا، بما في حوزتنا من تصوُّرات واعتقادات ومعايير ونقاط قوة ونقاط ضعف (فنحن لا نملك على أيِّ حالٍ أن نبدأ من أيِّ موقع آخر). ثُمَّ يمضون إلى القول بأنَّنا لا يلزمنا أن نُبرِّر اعتقاداتنا ومعاييرنا ما لم تُواجهها تحدياتٌ بطريقةٍ ذات صلة. غير أنَّ هذا لا يعني أننا أُسارى وجهات نظرنا القائمة أبد الدهر؛ لأن ضغوطًا عديدة يمكن أن تُفضي بنا إلى أن نُدخل تحسيناتٍ. غير أننا كثيرًا ما نُغفل احتمال التحسُّن هذا إذ يستحوذ علينا نموذجٌ مُعيَّن مُفرط الطموح للعقلانية أو التبرير، نموذج لا يَعتبِر أي شيء تحسينًا ما لم نأتِ بما يُشبه البُرهان الصوري على أنه أفضل مما كان سابقًا.
كثيرًا ما تقترن هذه التصوُّرات المُغالية في العقلانية بالنظرة القائلة بأن للعقلانية قوة تكفي، من حيث المبدأ، لحلِّ جميع المسائل الصعبة أو لحمل الأشخاص العقلاء جميعًا على الاتفاق فيما بينهم. غير أن هذا التصوُّر يُغفل الاحتمال بوجود تصوُّرات للعقلانية أقل عنترية، وهي وإن لم تضمَن الاتفاق أو الإجماع لكنها تُفضي إلى ضروبٍ عدة من التحسينات الإبستيمية في معايير واعتقادات الفرد أو الجماعة. ليس ما يلزمنا هو معايير إبستيمية مُستقلة عن الإطار تمام الاستقلال، بل المحاولة الدءوب لكي نستخدم ما في يدِنا أفضل استخدام، والاعتراف الصريح بأنَّ لدَينا ضروبًا شتَّى من الشواغل والتَّحيُّزات على أن نحاول جهدنا أن نُسلط الضوء على هذه الأوجه من القصور وأن نتلافاها ما استطعنا إلى ذلك من سبيل.
إنه لأمرٌ يدعو إلى القلق؛ لأنَّ إدراك هذه الاختلافات — وبخاصةٍ تلك الاختلافات التي تبدو عصيَّةً على التسوية بطريقة لا تصادر على المطلوب — يبقى في توتُّر مع حقيقة أنه من المُحال تقريبًا في الممارسة العملية أن ننظر إلى مفاهيمنا المركزية واعتقاداتنا ومبادئنا كمجرَّد مجموعة بين غيرها من المجموعات العديدة المُتساوية في الوجاهة. إننا نريد أن يكون بمُكنتنا أن نقول شيئًا أكثر من «حسنٌ، هكذا نفعل عندنا.» أو «أنت على خطأ؛ لأنك لا تقيس الأمور بمقاييسي.» وإنه لمن دواعي الرِّضا أن نجد طريقة نتجنَّب بها التوتُّر الذي يمكن أن يُولِّده هذا الشعور بالعرضية. ولكن لا تبدو في الأفق بارقة أملٍ في وجود طريقة.
(٩) فهم «الآخر»: بعض الوصايا الصريحة والضِّمنية
(٩-١) التأويلية الحديثة
(٩-٢) دلتاي: الحياة تفهم الحياة
يفتح لنا الفهم عالم الأشخاص الفرديين، وهو بذلك يفتح لنا أيضًا الاحتمالات الكامنة في طبيعتنا نحن. ليس الفهم مُجرَّد فعل فكري، وإنما هو انتقال وإعادة معايشة العالم كما يجده شخصٌ آخر في الخبرة المعيشة. وليس الفهم عملية مقارنةٍ واعية تأمُّلية، بل عملية تفكير صامتٍ يتمُّ فيها انتقال المرء بطريقةٍ سابقة على التأمُّل إلى دخيلة الشخص الآخر. إنَّ المرء ليُعيد اكتشاف نفسه في الشخص الآخر.
(٩-٣) هسرل: الموقف الفينومينولوجي
(٩-٤) هيدجر: مراجعة الإسقاطات المُسبَقة
إنَّ المرء لا يمكنه أن يعرف العالم إلا من خلال الفهم المُسبق. لكي «يفهم» المرء ينبغي أن «يفهم سلفًا»! ذلك أن البِنية الذهنية المسبقة هي «عُدتنا» للفهم (أو شِباكنا التي نصطاد بها المعنى) وأنه لا مناص لنا من أن نبدأ من حيث نحن. إننا لا يمكن أن نقرأ نصًّا ما إلا بتوقعات مُعيَّنة، أي بإسقاطٍ مسبق. غير أن علينا أن نُراجع إسقاطاتنا المُسبقة باستمرار في ضوء ما يمثل هناك أمامنا، وبإمكان كل مراجعة لإسقاط مُسبق أن تضع أمامها إسقاطًا جديدًا من المعنى. ومن الممكن أن تبزُغ الإسقاطات المُتنافسة جنبًا إلى جنب إلى أن تغدو وحدة المعنى أكثر وضوحًا ويتبيَّن كيف يمكن أن تترابط الرموز والعالم. هذه العملية الدائمة من الإسقاط الجديد هي حركة الفهم والتأويل، وعلى المرء لكي يبلغ أقصى فهمٍ ممكن ألا ينخرِط فحسب في هذا الحوار مع النص، بل أن يفحص على نحوٍ صريح منشأ المعنى المسبق الذي بداخله ومدى صحة هذا المعنى.
(٩-٥) جادامر: التحام الآفاق
أخذ هانز جيورج جادامر، تلميذ مارتن هيدجر، على عاتقه استخلاص المُتضمَّنات الخصبة لفكر أستاذه. ارتكز جادامر أيضًا على فكرة «تاريخية الفهم»، فالمُؤوِّل لا يَسعُه أن يغادر موقعه لكي يفهم النص بحيدة كائنٍ مُفارق. إنه مغمور في تاريخيته الخاصة بل هو «مجبول» بها. والتأويل هو لقاء بين باحث موجود في الحاضر وعلى وعيٍ ودراية بمقولات فهمه المشروطة تاريخيًّا وبين ماضٍ يعرض نفسه لعملية التأويل، من هذا المنظور تُصبح فكرة «موضوع تاريخي» مُنفصل عني كمؤولٍ له هي نفسها فكرة غير ذات معنى. يقول جادامر إنَّ النصَّ لا يُفهم إلَّا إذا كان يتمُّ فهمه كل مرة على نحو جديد!
تُعدُّ فكرة التحرُّر من التحيُّزات التي ينطوي عليها الرأي السائد في الزمن الراهن وتنقية الفهم والتأويل من هذه التحيُّزات فكرة جدُّ شائعة بيننا جميعًا. لقد درجْنا على القول بأن من السُّخف أن نحكم على إنجازات عصر مضى بمقاييس اليوم، وبأن من المُحال إذن تحقيق ما نصبو إليه من معرفة تاريخية إلا بالتخلُّص من سيطرة الأفكار والقيم الشخصية على الذات والانفتاح الذهني الكامل على عالم الأفكار والقيم الخاصة بذلك العصر الماضي. وكان استكشاف دلتاي ﻟ «نظرة العالم» الخاصة بكل عصر مُستندًا إلى ضربٍ من النسبية التاريخية التي تقول بأن الانفتاح العقلي يقضي بأن لا يَحكم المرء على عصر تاريخي مُعين بأحكام عصر آخر. واقع الأمر أننا لا يمكن أن نُغادر الحاضر لكي نذهب إلى الماضي، وأن «معنى» أي عمل من الماضي لا يمكن أن نراه في حدود ذاته فحسب؛ الأمر على النقيض من ذلك، فمعنى العمل الماضي إنما يتحدَّد في ضوء الأسئلة التي تُوجَّه إليه من الحاضر. وإذا تمعَّنَّا في بنية الفهم فنحن نرى أن الأسئلة التي نسألها تنتظم بحسب الطريقة التي نُسقط فيها أنفسنا، أثناء عملية الفهم، في المستقبل.
إن إعادة بناء السؤال الذي يُعدُّ النص أو الفعل التاريخي جوابًا عنه ليست عملية مُغلقة على ذاتها ولا يمكن تصوُّرها كذلك على الإطلاق، ذلك أن أُفُق المعنى الذي يقف داخله النص أو الفعل التاريخي تتمُّ مُقاربته من داخل الأفق الشخصي للمرء، فالمرء عندما يقوم بالتفسير لا يترُك أفقه الخاص وراءه، بل يُوسِّعه بحيث يدمِجه بالأفق الخاص بالنص أو بالفعل التاريخي. كما أن التفسير ليس مسألة الوقوف على مقاصد الكاتب أو الفاعل التاريخي، إنَّ الموروث نفسه يتحدَّث في النص، وجدل السؤال والجواب يُحدِث انصهارًا للأُفقين أو التحامًا بينهما. فما الذي يجعل هذا الالتحام مُمكنًا؟ ما يجعله مُمكنًا هو حقيقة أنَّ كِلا الأُفُقَين بمعنًى ما هو شيء عام وشامل ومؤسَّس في الوجود؛ ولذا فإن الالتقاء بأُفُق النص القديم، في واقع الأمر يُضيء الأفق الخاص بالمرء ويؤدي إلى الفهم الذاتي والكشف الذاتي، فاللقاء يُعدُّ لحظة انكشاف أنطولوجي. إنه حدث فيه يبزُغ شيءٌ ما من «السلب» — أي من إدراك المرء أن هناك شيئًا ما لا يعرفه. إنَّ الأشياء ليست كما كان المرء يفترض، الانكشاف، بعبارة أخرى، يأتي كواقعة ديالكتيكية لها بنية الخبرة وبنية السؤال والجواب.
(٩-٦) ريكور: الارتياب والانفتاح
في تناوله للاستعارة (والحكاية الرمزية) خلص ريكور إلى أنَّ تدمير المعنى الحرفي يُتيح لمعنًى جديدٍ أن يظهر. وبالطريقة نفسها تتبدَّل الإشارة في الجُملة الحرفية وتحلُّ محلَّها إشارة ثانية هي تلك التي تحملها الاستعارة. هكذا تخلُق الاستعارة إشارة جديدة تُتيح لنا أن نصف العالم أو جزءًا من العالم كان مُتمنِّعًا على الوصف المباشر أو الحرفي. ثمة توتُّر في الاستعارة (وكذلك في الحكاية الرمزية) بين عنصر الإثبات (المعنى الحرفي) وعنصر النفي (المُقيَّد الذي يدلُّ على أن المعنى الحرفي غير مقصود). من شأن هذا التوتُّر أن يُسقط عالمًا أمام النص. هذا العالم المُسقط هو «المشار إليه» الحقيقي في الاستعارة وفي الحكاية الرمزية. ويرى ريكور أن معنى الاستعارة وإشارتها هما شيء في انتظار أن يتملَّكه القارئ الراهن من خلال عملية إضفاء القرينة أو السياق التي يضطلع بها من جديد كلُّ قارئ للنص.
ثَمَّة نقطة أخرى أوضَحها أساتذة الارتياب (ماركس ونيتشه وفرويد) وهي أنَّ الارتياب يجب أن يكون مُزودجًا يتوجَّه إلى المشاركين (المجتمع بصفة عامة أو أفراد المجتمع) وإلى النسَق (العقيدة). كذلك يجِب أن يكون الارتياب مزدوجًا في تناول أيِّ نصٍّ من النصوص، فعندما أُقارب نصًّا ما يلزمني أن أُطبِّق الارتياب على نفسي (هل أقوم بإقحام معنًى ما على النص؟) وأن أطبق الارتياب على النص (هل يقول النص ذلك حقًّا؟) يقول ريكور إن كِلا قُطبي الارتياب صحيح وضروري إذا شئنا أن نُصغي إصغاءً جديدًا لما يُريد النصُّ أن يقوله. علينا أن نُقارِب النصَّ بطريقة نقدية وارتيابية حتى يتسنى لنا أن نسمع رسالته وبلاغه، وحتى لا ندع فهمنا المُسبق وقناعاتنا المسبقة تُغشِّي على الحقيقة وتحجُبها.
(٩-٧) بوبر: المُقارنة بين مُعقِّبات الأُطر لا أُسسِها
وصفة بوبر للتغلُّب على اللامقايسة
(٩-٨) بنيامين ورف: الإلمام بلغات أخرى
(٩-٩) جودمان ورولز: «التوازُن الفكري (التأمُّلي)»
من الاعتراضات الموجهة ضدَّ طريقة التوازن التأمُّلي أنها لا تضمَن لجماعتَين تنطلقان من مجموعتَين مُتباينتَين من المبادئ والأحكام أن تنتهِيا إلى تبرير معايير مُتماثلة. ولعلها تؤدي بشخصَين ينطلقان من نفس المبادئ والأحكام إلى عمل تكييفاتٍ مُختلفة تنتهي بهما إلى نُقطتي توازُنٍ مُختلفتَين. بل إنَّ هذه الحقيقة تُعدُّ نقطةً في صالح النسبية إذ إنها تعني أنَّ من الجائز تبرير مجموعتَين مُختلفتين من المبادئ والأحكام. ومهما يكن من أمر هذه الانتقادات فإن تقنية «التوازن التأمُّلي» حَرية في أحوالٍ كثيرة أن تؤدي بالمُختلفين إلى معايير واعتقادات أفضل تبريرًا مِمَّا كانت عليه قبل استخدام هذه التقنية.
(٩-١٠) دونالد دفيدسون: مبدأ الإحسان Principle of Charity
يذهب عدد من الفلاسفة وعلماء الاجتماع، من بينهم كواين وكمبل ودفيدسون، إلى أنَّنا لا يُمكننا أن نفهم الآخرين أو نُترجمهم ما لم يكونوا مُتفقين معنا إلى حدٍّ كبير حول ما هو حق أو ما هو مقبول أو مُبرر … إلخ. وتُعدُّ أطروحة دفيدسون هي أشهر هذه الأطروحات وأكثرها تفصيلًا. يُهيب بنا دفيدسون أن نتَّخِذ «مبدأ الإحسان» إذا شِئنا أن نُترجم أو نُؤوِّل أو نفهم ثقافةً مُغايرة لنا حديثة الاكتشاف، أو إذا شئنا أن نفهم أيَّ شخصٍ آخر لا عهد لنا به. وبغضِّ الطرف لحظةً عن الصياغات التفصيلية يُشير علينا المبدأ أن نُؤوِّل الآخرين بطريقةٍ تجعل أكبر قدْرٍ ممكن من اعتقاداتهم صحيحًا.
وصفوة القول في «مبدأ الإحسان» هو أن الترجمة أو التأويل الناجح لا يكشف فحسْب عن قدرٍ كبيرٍ من الاتفاق في أغلب الأحيان، بل إنَّ قدرًا كبيرًا من الاتفاق هو شرطٌ مُسبَق لكلِّ ترجمةٍ أو تأويل ناجح!
(٩-١١) فيكتور تيرنر: الموقف الحَدِّي
يبدو، من وجهة نظر فيكتور تيرنر، أنَّ اتخاذ موقفٍ شبيهٍ بهذا الموقف، والنظر من المنطقة الحدودية، هو ما يُتيح لكبار الفنانين ونقاد المجتمع رؤيةً تتجاوز الأشكال الاجتماعية، وتسمح لهم أن يشهدوا المجتمع من خارج وأن يُبلِّغوه رسالةً ممَّا وراءه. هذا الموقف الحَدِّي أو الحالة البينية، أو هذا المُقام في «الصدع ما بين العوالم» على حدِّ تعبير كارلوس كاستانيدا، هو مصدرٌ لكلٍّ من الإبداع والنقد؛ نقد الصور السائدة من الفكر والوجود. وبتعبير آخر يُمكننا القول بأن هذه القدرة على الانفصال عن الوسط الاجتماعي للحكم عليه، أو الانسلاخ عن «الثقافة» المُحيطة لرؤيتها وجعلها «موضوعًا» للنقد والتقويم، هي قُدرة لا يتحلَّى بها إلَّا القلَّة من المُبدعين والمُصلحين؛ فالخروج من أقطار العالم الثقافي الذي نشأ المرء في كنَفَهِ وانغمر في قلبه هو رحلةٌ شاقَّة وسفر طويل ومُغامرة خطيرة.
(١٠) درس النسبية
ويبدو واضحًا لزقاقِنا أنَّ الواقعي والعادي أشياء من صُنعه هو ذاته ومن صُنع منازله وأكوام قمامته.
- (١)
أن ندرُس السياق الثقافي الذي يحدُث فيه الفعل.
- (٢)
أن نُحدِّد الملابسات والأحوال والظروف الزمانية والمكانية التي تُحيط به.
- (٣)
أن نَكتَنِهَ المنطق الخاص الذي يتبطَّنه والقيمة الأخلاقية التي يعكسها.
ها هنا تكمُن أهمية أن نتعلَّم كيف نضع أنفسنا في موضع الآخر ونتَّخِذ إطاره المرجعي ونرى الأشياء بعيونه (وبخاصة تلك الأشياء غير المألوفة لدَينا) قبل أن نُقدِم على تقييمه والحُكم عليه.
تُهيب بنا النسبية الثقافية أن نتسامح مع الآراء المُغايرة وأن نحتمِل الاختلاف والتنوُّع، وأن نَحْذر التزمُّت والدوجماطيقية. ذلك أنَّ قِيَمنا ليست تعكس جميعها حقائق أخلاقيةً موضوعية، وأن كثيرًا من مُمارساتنا واعتقاداتنا هي ذات صِبغةٍ محلية: إنها طريقتنا فحسب، ولكنها ليست الطريقة الصحيحة بالضرورة. إنها مواضعةٌ واتفاق ولكنها ليست بالضرورة صوابًا موضوعيًّا. إن لنا أن نتمسَّك بها ونُحافظ عليها، على أن نحفظ حقَّ الجميع في النقد المُتبادل، وألا نزهوَ ونتباهى بأنَّنا الجماعة الأفضل من حيث القِيَم والأعراف.
إذا كانت النسبية الثقافية تبُثُّ فينا ارتيابًا صحيًّا في أزليَّةِ أي قِيمة تُقدِّسها جماعةٌ مُعينة، فإنها لا تنفي وجود مُطلقاتٍ أخلاقية، بل إنَّ استخدام المنهج المُقارن ليزودنا بوسيلةٍ علمية لاكتشاف مثل هذه المُطلقات: فإذا أجمعت الأُمَم قاطبةً على ضوابط مُعينةٍ تفرضها على سلوك أعضائها فإنَّ هذا يُعدُّ حجةً، أو على الأقل قرينة، قوية على أنها ضوابط صائبةً بادئ الرأي، وأنها قد تكون ضرورية وقد تعكس قِيَمًا مُطلقة.
وإذا كانت النسبية الثقافية تُشير علينا ألا نُقيِّم سلوك المجتمعات الأخرى إلا في ضوء البنية الكلية لأشكالها الاجتماعية والثقافية وقوانينها التي تسنُّها، فليس يعني ذلك أن الممارسات الثقافية كلها صحيحة بنفس الدرجة. وإذا كان علينا أن نفهم كلَّ مُمارسة ثقافية في سياقها وإطارها الخاص، فإنَّ ذلك لا يعني أن كل الممارسات الثقافية مُلائمة ومُستحِقَّة للتسامُح والاحترام. ليسوا سواءً: بعض الثقافات خيرٌ من بعض، وبعض الممارسات الثقافية أفضل من بعض؛ فالمحراث المعدني والفأس الحديدي أفضل من المحراث أو الفأس الحجري من حيث الجدوى الإنتاجية، والطبُّ الحديث أنجَعُ من الشعوذة والسحر في استئصال الأمراض. وهذا الحكم ليس وليد المركزية الإثنية، وإنما هو تطبيقٌ لمبدأ براجماتي مفاده أن الأجدى عمليًّا هو الأفضل: فأي اعتقاد أو ممارسة تُمكِّن الناس من التنبُّؤ بأحداث حياتهم والسيطرة عليها بدرجةٍ أكبر من النجاح، وتُتيح لهم بالتالي تكيُّفًا أفضل مع العالم، يُمكن أن نعدَّها ممارسةً أفضل أو اعتقادًا أفضل. وأي قِيَمٍ تنتهك القِيَم العالمية التي تُعتبَر عادة «حقوقًا للإنسان» (مثل: حُرمة الحياة، وكرامة الآخرين …) ينبغي أن تُدان مهما صبَغَها دُعاتها بصبغةٍ مُطلقةٍ وادَّعوا أزلِيَّتها وضرورتها. ومن حقِّ الشعوب والثقافات الأخرى، بل من واجبها، أن تعترض على هذه المُمارسات المهينة للإنسانية، وأن تعمل على وقفها وإزالتها. على أن تفعل ذلك دون زهوٍ ودون تباهٍ بأفضلِيَّتها الثقافية، فليست هناك ثقافةٌ أو مجتمع يُمكنه أن يدَّعي أن سِجلَّ تاريخه نقيٌّ تمامًا من أي انتهاك عارض لحقوق الإنسان أو سلامة البيئة.
(١٠-١) حدود النظرة الأنثروبولوجية
ومن مصادر المعرفة المُتجاوزة للثقافات الخبرة الصُّوفية، وهي خبرة الالتقاء بالحقيقة أو بالواقع النهائي بطريق الإشراق أو الذَّوق المباشر، والمعرفة الرياضية وهي ترتبط بعالَم «فوق بشري» من الكيانات المُجرَّدة والعلاقات المنطقية التي تتخطى العالم الثقافي والإمبيريقي، وتتَّصِف بالضرورة المُطلقة وتنطبق على كل «عالمٍ ممكن».
هكذا تكون النسبية الثقافية، بوصفها طريقةً جديدة للرؤية، بمثابة نواظر جديدة ضرورية لإدراك الواقع الاجتماعي الثقافي في مجتمع اليوم العالمي المُتعدِّد الثقافة. وهي جديدة بمعنى أن مُعظم الناس تغلب عليهم التنشئة الاجتماعية داخل منظور «المركزية الإثنية»، فيكون التخلِّي عن هذا التَّوجُّه واتخاذ منظور نسبي ثقافي أمرًا مُؤلمًا وصادمًا لهم في كثيرٍ من الأحيان. غير أنَّ هذا المنظور لا بدَّ منه إذا شاء الشخص أن يكون «مواطنًا عالميًّا»، أي أن يكون شخصًا لديه القدرة على تجاوز واقعه العرقي والثقافي والسياسي والتوحُّد مع الجنس البشري على امتداد العالم وعلى جميع مستويات الحاجة البشرية. إنه شخصٌ مُفارقٌ لا تحدُّه الحدود الاجتماعية المألوفة، غير أنه يعمل بمبدأ العطف و«المواجدة»؛ أي القدرة على اتِّخاذ دور الآخر من أجل مزيدٍ من الفهم والإنصاف ورفع المُعاناة. إننا في أمسِّ الحاجة في القرن الحادي والعشرين إلى مِثل هذا المواطن العالمي، وإنَّ المدخل التعدُّدي الثقافي إلى التعليم هو سبيلنا لصُنعه.
(١٠-٢) وهم الغزو الثقافي
يبدو أن الخطأ الأكبر القابِع في فكرة الثقافة والذي تتولَّد عنه كلُّ ضروب الخلط وسوء الفهم والتوجُّس المجاني هو تصوُّر الثقافة كشيء مُحدَّد إقليميًّا، ومحصور مكانيًّا، ومُسيَّج بتُخوم جغرافية فاصلة، وكأنَّ الثقافة عالمٌ معزول داخل حظيرةٍ تصوُّرية، أو جزيرة معزولة عن غيرها من الجُزر، أو فقاعة تُشكل فضاءً تصوريًّا منفصلًا عن الخارج ومُحاطًا بجدارٍ عازل من الفكر واللغة شبيه بالحدود الجغرافية ومُقترِن في الذهن بمعنى الحجْز والعزل والانفصال والمكانية والتَّناهي.
من الطبيعي أن تُلجئنا الضرورة اللغوية إلى أن نتحدَّث عن «الحواجز الثقافية» أو «الفواصل الثقافية». غير أنَّنا ندفع في ذلك ضريبةً باهظةً تُخصم من حساب التواصُل الحقيقي والهارمونية الذهنية التي تُحقِّق الوحدة في التنوُّع. فإذا كان المعنى كله شيئًا محصورًا داخل حدودٍ ثقافيةٍ كتيمة (غير مُنفِذة) فإنَّ كلَّ شيءٍ أفعله لن يَحظى بالمعنى إلَّا داخل الحدود الصارمة لثقافتي، ولا يعود ثَمَّة احتمالٌ مُشجِّع للتواصُل الحقيقي. ولن يُجدي في ذلك حتى تكنولوجيا الاتصال الحديثة والسماء المفتوحة والفضائيات والإنترنت ما دام الفاصل فاصلًا تصوُّريًّا والحاجز حاجزًا لغويًّا فكريًّا قيميًّا.
أما أسوأ الشرور التي يَجرُّها التصوُّر الجغرافي للثقافة فهو ما يَبثُّه من خوف وتوجُّس بين الثقافات، وما ينفُثُه من إحنٍ وضغائن. إن صورة الحدود مُرتبطة في الأذهان بصورة الغزو، وتصوُّر العزل مُرتبط بتصوُّر الانغلاق، ونموذج الجزيرة أو الحظيرة أو الفقاعة مصحوب لا محالة بأفكارٍ عن «الكسر» و«الانهيار»، و«الاقتحام»، و«التحصن»، و«الدفاع». هكذا تتغذَّى فكرة الغزو الثقافي على مفهوم خاطئ وتعيش عليه. فإذا كانت الثقافة شيئًا مكانيًّا جغرافيًّا مُتناهيًا محصورًا بحدود خطية صارمة لترتَّب على ذلك أن نُفكِّر (بكثيرٍ من الجزع والتوجُّس): «كيف نحمي أنفسنا؟» «ألا يُحتمَل أن تُهدِّدنا الثقافة الأقوى وتقتحم حدودنا؟» «كيف نُغيِّر ونطوِّر من ثقافاتنا دون أن تتصدَّع وتنهار؟» «كيف ننفتِح على الآخرين دون أن نُقوِّض عالمنا ونُدمِّر كياننا؟» «كيف نُدخل ثقافة الآخرين للإلمام بها والتعرُّف عليها دون أن نُغادر ثقافتنا ونخرج منها ونتنكَّر لها؟» «كيف نستوعب الثقافة الأخرى ونتمثَّلها دون أن نُبدِّد ثقافتنا ونمحو هويتنا؟»
نعم من الطبيعي أن يتورَّط في هذه المخاوف من يتصوَّر الثقافة كإقليمٍ محصور؛ ذلك أن المرء لا يمكنه أن يتواجد في مكانَين ويشغل حيِّزَين في الوقت الواحد. هكذا تقول قوانين الطبيعة، فيما يبدو، وهكذا تقول أحكام العقل، بل هكذا جُبل العقل الإنساني نفسه وشُكِّلت أُطره ومقولاته. بل إنَّ هذه الصورة المكانية للثقافة لتُؤدي بالعقل إلى تصوُّر أن تقديره لثقافةٍ أخرى لا يتأتَّى إلا ﺑ «نزوح» أو «هجرة» أو «ارتحال» ثقافي عن «مكان» الثقافة الأم، ربما لما هو أفضل. غير أنَّ هذا التَّوجُّه بكلِّ شئونه وشُجونه هو وهمٌ ناجمٌ عن تصورٍ خاطئ للثقافة، وعن مُخططٍ ذِهني غير صحيح.
(١٠-٣) هيدجر: الثقافات أشبَهُ بطُرق (مسالك/مسارات/سكك)
لا يَتصوَّرَنَّ أحدٌ أن بإمكاننا محوَ هذه الاستعارات المكانية المحفورة في عقولنا والتخلُّص منها بجرَّة قلم، ويبدو أنه لا فِكاك للعقل من أن يتصوَّر الفروق الثقافية في هيئة مسافات قائمة على خارطة شبه مكانية. غير أن العقل لا يلزمه أن يفكر دائمًا في المسافات المعهودة أو في الانزياح الخطِّي المُتصلِّب. لا يلزم العقل أن يتصوَّر الثقافات كأقاليم تُتاخِمها مسافةٌ من كل جانب. إنَّ للثقافات تخومًا تصوُّريةً حقًّا ولكنها ليست بالضرورة معزولة عن غيرها، وإنما وجه الأمر أنَّ كل ثقافة يجِب أن تُفضي بطريقةٍ طبيعيةٍ إلى الثقافات الأخرى.
ثمَّةَ صورةٌ أقوم للثقافة يطرحُها هيدجر. يتصوَّر هيدجر الثقافة الفلسفية كشيءٍ غير محدود، كمجموعةٍ من المسالك غير المُقيَّدة أو المحصورة. ولعلَّ هذا هو المُخطط الأصوب للثقافة ككل. بوسعنا أن نتصوَّر الثقافة كمجموعات من المسالك أو المسارات أو السكك تمتدُّ بهذه الطريقة أو تلك، بفواصل مُتفاوتة بينها وأحيانًا بغير فواصل، وكلما أوغَلْتَ في سكةٍ منها فإن سككًا أخرى تقترِب، وأُخرى تبتعد. وبوسعي الالتقاء بثقافةٍ أخرى — سكةٍ أخرى — دون أن أُغادر حدود سِكَّتي. ولنتصوَّر المسالك في الغابة؛ إنها تتقاطع، وتبدو مُسترسِلة بغير نهاية.
-
ثمَّة ملمح الشمول والعمومية: فالحالة الطبيعية للثقافة ليست هي العزلة والانزواء بل التداول والتبادُل.
-
وثمة ملمح الاتِّساع والترامي: فالثقافة لا تنضب ولا تُستنفَد ولا تحصرها المعرفة على نحوٍ تامٍّ ونهائي.
-
ثمَّة تَوحُّدٍ وتماهٍ في الثقافة: فنحن لا يُمكننا أن نرى أنفسنا ونعرفها كثقافةٍ إلا بالنظر إلى الثقافات الأخرى.
ليس من الصعب أن نرى هذه الملامح في فكرة هيدجر: فمن طبيعة المسالك أن تتقاطع وأن تلتقي وأن تتشارك كثيرًا في بعض الأجزاء، بل إنَّ كل نقطةٍ وكلَّ مُنعطف في أيِّ مسارٍ من المسارات هو مَوضعٌ لتقاطعٍ مُمكن. كما أن من طبيعة المسالك أن تُفضي بنا أحيانًا إلى حيث لا نعرف إلى أين نمضي، إلا أن نُتابع المُضيَّ في الطريق، أو أن يقودنا الطريق من موقعٍ حاضرٍ نألفه إلى موقعٍ مُستقبل ربما لا نعرفه ولا نألفه. وأهم من كل ذلك أن المسالك كثيرًا ما تُوضَع في علاقةٍ مع مسالك أخرى. وعندما تكون الغابة مُظلمةً مثلًا فإنني لا أستطيع أن أتبيَّن سِكَّتي إلَّا بأن أُحدِّدها داخل شبكةٍ مُتصالبة من السكك البديلة، وربما لا يُمكنني أن أتعلم دراسة مسار طريقي إلا بملاحظة الآخرين وهم يجوسُون خلال طرقهم، مُقبلين تجاهي أو مبتعدين عني.
ولكن ما هو الشيء الذي يقوم بدور مسالك هيدجر في الثقافة الحقيقية؟
وفي أية غابة تُمدُّ هذه الطرق؟
إنك هنا في عُقر التاريخ، فالكلمة لا يمكن أن ترتحل من دارٍ إلى دارٍ غير مصحوبةٍ بحاشيةٍ تصوُّرية وتقنية وإدارية. وغني عن القول أنه إذا كانت كلماتي وتصوُّراتي هي ميراثٌ «عبر-ثقافي» فإن أفكاري كذلك ليست خاصتي وحدي؛ فأنا لا يُمكن أن أفكر إلا عبر أزمنةٍ أخرى، وثقافات أخرى.
(١٠-٤) هيجل: «البيت» في مُقابل «المنزل»
ينبغي أن أتعرَّف على نفسي في الغريب.
ليست السُّكنى في الغريب واتخاذ بيتٍ في المُغاير شيئًا ثانويًّا أو ترفًا زائدًا يمكن أن يتمَّ الأمر بدونه، بل إن «روح الثقافة نفسها تتألف حصرًا من العودة إلى ذاتها مما هو آخر.» فأن نكون في بيتنا حقًّا في مكانٍ ما يتطلب منا أن نكون في بيتنا في أماكن عديدة!
كل ذلك يطرح علينا سؤالًا مُلحًّا: كيف نُعلم النشء ثقافة التعدد؟
كيف نصنع مواطنًا عالميًّا لا ينخذل ولا ينهار في عصر ثقافة التعدد؟
التحليل النفسي بعد-الحداثي: التعدُّد هو الأصل
هكذا يحسم التحليل النفسي بعد الحداثي أمر التعدُّد الثقافي، ويبدَهُنا بتصورٍ للعقل على أنه عقول عديدة في حوارٍ دائب! بل إنه يؤكد «الطبيعة الحوارية للعقل»، ويرى أن تعدُّد الأصوات هو الأصل وهو السواء، وأن محاولة اختزالها إلى صوتٍ واحد قد تنطوي على قمعٍ غير صحِّي لصوت «الآخر» في عقولنا.
قد يكون «الآخر» في بعض الأحيان هو صوت شخصٍ محدد كصوت أمك (قائلًا لك «زَرِّر سُتْرتكَ» مثلًا)، وقد يكون صوتًا غامضًا كصوت حزب المعارضة في جدالٍ سياسي. غير أن المرء يعرف هذه الأصوات جيدًا بحيث يستطيع أن يعكس الأدوار ويتحدَّث هو بما يخلُق بمُعارضه أن يقوله. وفي أحيان أخرى لا يتحدَّث «الآخر» في العقل على الإطلاق بل يُشكِّل فحسْب جمهورًا أو سياقًا أو مهادًا للمونولوج الخاص بالمرء. غير أنَّ أصعب شيءٍ في مفهوم العقل الحواري هو أن نُدرك أنَّ هناك دائمًا سؤالًا يتعلَّق بتحديد صاحب هذه الأصوات.
علينا ألا نقمع الطابع الحواري لعقولنا، إنه طابعٌ عظيم النفع، وبدونه تغدو عقولنا مُسطحةً مُصمتة. فلكي يكون لديك «آخر مُتخيَّل» يتعيَّن عليك أن تفضَّ مركزيتك وتحاول أن تفهم ما يقوله «الآخر». إن قُدرتنا على تخيُّل ما قد يفكر فيه الشخص الآخر أو يقوله هو ما يُمكِّننا من أن نفهم الوجهات الأخرى من الرأي، أن نؤثر ونتأثر، أن نتوحَّد بالآخرين و«نُواجِدهم» (نتمثَّل وجداناتهم). هذا الفهم لوجهات النظر الأخرى يُساعدنا على أن نتجاوز همجية الثنائيات والاستقطابات من قبيل «جيد/رديء»، «أنا/أنت» … إلخ. ومن الخطأ الفادح أن يُوصف هذا التعدُّد الكامن في العقل بالتناثُر والتشظِّي. إن من يعجز عن التوحُّد بهذه الطريقة مع آراء الآخرين سيكون في الأغلب شديد التحيُّز والتعصُّب والتمركز على الذات.
هكذا تقدِّم هورني نفس الدعوى التي يُقدِّمها مفكرو ما بعد الحداثة عندما يقولون بأن هناك أصواتًا مُتعددة داخلنا تُتيح لنا أن نتماهى مع أكثر من وجهةٍ واحدةٍ من الرأي. ونحن عندما نحاول قمع هذه الأصوات فنحن لا نستأصلها حقًّا، وإنما نغترِب فحسب عن جزء من أنفسنا ونزيد إحساسنا بالتشظِّي والتناثُر. إن عملية التكامل النفسي هي أن نتعلم كيف ندمج هذه الأصوات في حسٍّ بالنفس يستطيع العيش بل الاحتفاء بالتركُّب والثراء العقلي الناجم عن الطبيعة الحوارية للعقل. ومن عمل التحليل النفسي بعد الحداثي أن يُساعدنا على إدراك الأصوات المختلفة بداخلنا؛ أصوات من صراعات الطفولة، أو أصوات تجادلنا، أو أصوات توافقنا وتُقدِّرنا. يساعدنا التحليل بعد الحداثي على أن نعرف هذه الأصوات كجُزء مما هو نحن. مثال ذلك أن تساعد مريضًا على أن يتعرَّف على نفسه في حلمٍ يبدو في الظاهر كما لو كان يدور حول شخصٍ آخر.