كشف الحساب بين القواقع!
في الساعة التاسعة والنصف تمامًا، استقل «أحمد» السيارة متجهًا إلى مطعم «سي جول» … كانت نسائم الصبح النديَّة تهفو لها روحه كأنها نفحات عطرة آتية من حديقة بديعة، وكان صوت الموج يتهادى إلى سَمْعه من بعيد كأنه أغنية محبَّبة إلى نفسه … يرهف لها سمعُه … وبين الحين والحين يتطلَّع إلى البحر ويأخذ نفَسًا عميقًا.
وحين اقترب من البحر عند ضاحية «المكس» هدَّأ من سرعة السيارة … وأخذ يتطلَّع إلى البواخر الرابضة في عرض البحر … والداخلة إلى الميناء. ثم قال بينه وبين نفسه: كل هذه الحياة والحركة … تحتها الدمار والهلاك … مَن يدري بهذا؟
تجاوز «أحمد» ضاحية «المكس»، واقترب من مطعم «سي جول». ترك السيارة بعيدًا عن المطعم، ثم سار إلى المطعم على قدمَيه، وأخذ يتأمَّل كلَّ شيء حوله … ينظر إلى الشرق ناحية «الرمل» و«رأس التين»، ثم ينظر إلى الغرب حيث «المكس» و«الدخيلة» و«برج العرب» و«العامرية».
اتجه صوب المطعم … وإلى مائدة خالية جذب الكرسي وجلس … أخذ يتأمل المكان بنظرة فاحصة … معظم الحاضرين تبدو عليهم علامات الاغتراب … ليسوا من المصريين … ربما … لحظات وتقدَّم إليه رجل في العقد الرابع من العمر، يرتدي زيًّا أحمرَ وكابًا أبيضَ يبدو أنه الزيُّ الرسمي للعاملين بالمطعم؛ قمحي اللون، عيناه بُنيَّةُ اللون، له شاربٌ كثيف، متوسط الطول، اقترب من «أحمد»، وانحنى نصف انحناءة: صباح الخير يا سيدي، أهلًا بك!
أحمد: أهلًا … صباح الخير …
ثم قال الرجل: ماذا تأكل؟ «جمبري» أم «كابوريا»؟ أم قواقع؟ بعد إذنك يا سيدي … أقترح عليك طبقًا من القواقع، إنها خطيرة وسهلة الأكل.
أدرك «أحمد» على الفور أنه هو المقصود … فأومأ برأسه مستجيبًا. وقال: كما ترى.
غاب الرجل دقائق قليلة … كان «أحمد» فيها مشغولًا بالمكان وصور الأسماك الرائعة على الجدران، ومنظر المطعم داخل البحر وكأنه «عوامة» فوق الماء.
عاد الرجل وبين يدَيه «صينية» كبيرة عليها عدة أطباق؛ طبق فيه قواقع، وطبق سلطة، وطبق عليه خبز، وشوكة وسكين، وكوب ماء مثلَّج عليه «منديل» من القماش الأبيض.
تناول «أحمد» المنديل فوجد تحته قصاصة ورق صغيرة، فأدرك الأمر … وبمنتهى الهدوء نظر فيها كأنه ينظر إلى الطعام، حتى لا يتنبَّه له أحد؛ فوجد فيها خمس كلمات: «كن حذرًا؛ فهنا طيور غريبة.»
فَطَن «أحمد» إلى الرسالة، ولم يكن له أيُّ ردِّ فعل … لأنه تعوَّد على مثل هذه الأمور، وقابلها كثيرًا في حياته، وظل ينظر في الطعام ويتأمل القواقع «المسلوقة»، ثم أمسك بكوب الماء ورشف، ثم أمسك بقوقعة، وأمسك بالشوكة، وأخذ يعالجها حتى يُخرِجَ ما بها … ثم أخذ الورقة بسرعة وأطبق عليها كفُّه … في هذه اللحظة أقبل الرجل الذي قدَّم له الطعام، وقال له: مكالمة تليفونية لك يا سيدي … اتبعني إلى «كابينة» التليفون.
قام «أحمد»، وسار خلف الرجل، حتى أوصله فعلًا إلى «كابينة» صغيرة مصنوعة من البلاستيك الملون، ولها نافذتان صغيرتان من الزجاج … بحيث يرى مَن بالداخل كلَّ مَن بالخارج ولا يرى مَن بالخارج سوى رأس مَن يتكلَّم.
حين دخل «أحمد» الكابينة وجد سماعة التليفون فعلًا مرفوعة، وتحت جهاز التليفون مظروف متوسط الحجم، فَهِم «أحمد» الرسالة، وأمسك بسماعة التليفون، وقال: آلو … فسمع من الناحية الأخرى صوتًا يقول له: إجازة سعيدة … أودُّ أن يكون الغداء قريبًا، نحن في انتظاركم … مع السلامة …
وضع «أحمد» السماعة، وفي لمح البصر كان المظروف تحت ثيابه وخرج في هدوء … ثم جلس إلى المائدة مرة أخرى … وتناول قوقعة أخرى … لكن رأسه كانت تجوب بحارًا أخرى بحثًا عن قواقع جديدة … مَن يا تُرى هذا المتحدِّث؟
ولماذا لم يُعرِّفني بنفسه؟ ربما يكون التليفون مراقَبًا فعلًا؟
وهذا الرجل الذي قدَّم لي الطعام مَن يكون؟ ما اسمه؟ ماذا يعمل؟ ما دوره؟
فهمت الآن … إنه يقول هنا طيور غريبة … فعلًا إنه ذكي، ربما تكون هناك أجهزة تنصُّت وُضعت في الموائد أو تحتها … ربما … كل شيء محتمل … أو بعض أفراد هذه العصابة أو عملاؤها موجودون هنا الآن.
نادى «أحمد» على الرجل … أقبل الرجل في تباطؤ … ثم قال ﻟ «أحمد»: أية خدمة أخرى يا سيدي؟
قال له «أحمد»: كم الحساب؟
قال الرجل: كشف الحساب بين القواقع يا سيدي.
نظر «أحمد» إلى القواقع. فلم يجد شيئًا … وهمَّ أن يسأل الرجل أين؟ لكنه فَهِم الأمر، وأدرك أن هذا سرٌّ … فأخرج من جيبه عشرين جنيهًا، ووضعها على الصينية، ثم قام وقال للرجل: أشكرك جدًّا.
فانحنى الرجل محيِّيًا: مع السلامة … ونتمنى أن نراك هنا مرة أخرى يا سيدي.
خرج «أحمد» من المطعم، وسار عدة خطوات حتى وصل إلى السيارة، واستقلَّها عائدًا إلى بقية الشياطين … ووضع يده على بطنه يتحسَّس المظروف، وهمَّ أن يُخرجَه لولا أنه رأى سيارة في المرآة تسير خلفه …
أراد «أحمد» أن يتأكد من أن هذه السيارة تسير خلفه فعلًا، فاتخذ طريق اليسار وانحرف إلى ميدان وادي «القمر»، ثم نظر في مرآة سيارته فوجد السيارة خلفه … واصل «أحمد» السير في نفس الاتجاه، ثم توقَّف في الميدان بجوار سيارة أتوبيس، ونزل من السيارة إلى أحد المحلات التجارية، ونظر في واجهته الزجاجية كأنه يشاهد البضائع والمصنوعات، ولكنه كان يتأمل السيارة وقائدها ويتعرَّف على ملامحه التي انعكسَت على الواجهة الزجاجية. وفي سرعة كانت أرقام السيارة مختزنة في ذاكرته، وملامح الرجل الشرسة قد انطبعت في عقله … لقد تأكد أنه مُراقَب، وأن الطيور الغريبة تحوم قريبًا منه.
عاد «أحمد» إلى السيارة، واتخذ طريقه في نفس الاتجاه إلى الطريق الصحراوي كي يتأكد من هذه الطيور الحائمة، وكي يضلِّلَه ويبتعد به عن مقر الشياطين.
زاد «أحمد» من سرعة السيارة في اتجاه الطريق إلى مطروح، والسيارة تظهر أمامه كل حين في المرآة. وفجأة رأى «أحمد» فتحةً للطريق على اليسار، فزاد من سرعته ثم في حركة جنونية لا يفعلها إلا الشياطين المدربون على هذه المخاطر. انحرف من هذه الفتحة إلى الطريق المقابل في منتهى السرعة حتى أوشكَت السيارة أن تنقلب ثم زاد من سرعته في الاتجاه إلى الإسكندرية مرة أخرى وإلى مقرِّ الشياطين، بينما ظلت السيارة الأخرى في اتجاهها لم تستطع الانحراف … وبذلك يكون قد تخلَّص «أحمد» من هذه البومة.
كان الشياطين قد أصابهم القلق، وسيطر عليهم حين غاب «أحمد» لأنه لم يتصل ليُخبرَهم بما حدث. ولا يعرفون له مكانًا محددًا إلا مطعم «سي جول»، ولكن التعليمات الصادرة من رقم «صفر» كانت محددة بذهاب «أحمد» فقط … وحين دخل عليهم المقر، التفُّوا حوله يستفسرون عن سرِّ غيابه وتأخره.
خالد: لقد أقلقتَنا عليك.
ثم قال «فهد»: لماذا لم تتصل بنا لكي نطمئنَّ عليك؟
فتح «أحمد» سُترتَه، وأخرج المظروف ووضعه أمامهم على المائدة. ثم قال: لقد كنتُ مراقَبًا من لحظة وجودي في المطعم … سار خلفي رجل يركب سيارة بيضاء.
عثمان: وماذا حدث؟
أحمد: لا شيء … تخلَّصتُ منه في الطريق الصحراوي … إنه هناك الآن يبحث عني في الصحراء.
قال «قيس»: مَن يكون يا تُرى؟ ومع مَن يعمل؟ ألم تعرف عنه شيئًا؟
أحمد: أبدًا … كل الذي عرفته ورقة جاءتني من رجلنا في المطعم يقول فيها: «كن حذرًا؛ فهنا طيور غريبة.» ويبدو أن هذا الشخص من هذه الطيور … ولا يزال هناك بقية للطيور. دخل الشياطين «قاعة» الاجتماعات، وفتح «أحمد» الملف الخاص بالمعلومات ليقرأه عليهم ويتبيَّنوا منه أسرارَ المهمة القادمة.
كان الملف يحتوي على عدة صور فوتوغرافية، لهذا «الدلفين» الغامض في ظلام البحر. ورغم ذلك كانت إلى حدٍّ ما واضحة؛ لأن الفوسفور الذي تحتوي عليه مياه البحر كان كالهالة المنيرة تبعث الضوء من حول «الدلفين»، فأظهرَت جزءًا واضحًا من جسمه، وقد بدَا جهاز الرادار الصغير واضحًا فوق رأسه، وزَّع «أحمد» الصور على بقية الشياطين وقد ظهرَت على وجوههم علاماتُ الدهشة.
قال «مصباح» معلِّقًا على الصور: شيء غريب حقًّا … كيف استطاعوا التحكُّم في مخ هذا المخلوق بهذه الصورة؟ لقد أصبح بهذه الصورة كالآلة المطيعة يتحكمون فيه كيف يشاءون.
قال «خالد»: نحن الآن أمام مهمة صعبة فعلًا … ولن يكون من السهل أبدًا أن نتمكن منهم سريعًا وهم بهذه المقدرة …
عقَّب «أحمد» على ما سمع، فقال: أرى اليأس يتسرَّب إلى نفوسكم، ما الحكاية إذن؟ انتظروا قليلًا حتى نرى بقية الملف.
ثم أخرج «أحمد» من المظروف مجموعةً من الأوراق، عبارة عن تقارير مكتوبة، نظر «أحمد» فيها نظرةً فاحصة مدققة، وأدار نظرَه سريعًا في الأوراق، ثم نظر إلى بقية الشياطين، وقال: المهمة الآن أصبحت واضحة، إن الزعيم رقم «صفر» قد جهَّز كلَّ شيء والتعليماتُ كلُّها مدوَّنة في هذه التقارير. والذي أودُّ أن تعرفوه، أولًا أن الغواصةَ صغيرة الحجم وليست كالتي نعرفها، خُصِّصَت لأعمال التجسس، وقد شُوهدَت وهي تغادر أحد موانئ دولة معادية منذ شهرين، وبحساب دقيق نستطيع أن نطرح الفترة التي استغرقَتها من هذا الميناء إلى هذا المكان، وهي فترة لا تتجاوز أسبوعًا على الأكثر … وهذا يعني أن مهمة هذه الغواصة بدأَت منذ شهرين ونصف وعلى متن هذه الغواصة تسعة أشخاص بطاقمها … المهم أن أجهزة التحكُّم التي سيطروا بها على هذا المخلوق المسكين دقيقة للغاية وخطيرة، هذا بالإضافة إلى أنهم يحاولون حاليًّا تجربتها على الإنسان.
وواضح من التقرير أن «الدلفين» يتمُّ تَسْييرُه كثيرًا بالليل … ونادرًا ما يظهر نهارًا، إلا إذا دعَت الضرورة لذلك … أما أهم ما في الملف فهي تعليمات الزعيم رقم «صفر»، وأخذ «أحمد» يقلِّب الأوراق ثم أمسك بورقتَين مدقِّقًا نظرَه في الكلام المكتوب، وقال: أولًا: نظام العمل على مجموعتين؛ مجموعة ليلية ومجموعة نهارية.
المجموعة الليلية: «خالد»، «فهد»، «قيس»، ورائدهم «أحمد».
المجموعة النهارية: «رشيد»، «مصباح»، «عثمان»، ورائدهم «بو عمير».
بقية الشياطين يظلون بالمقر في انتظار ما يجدُّ.
المجموعة الليلية مهمَّتُها مراقبة هذه المنطقة لمعرفة نقطة بداية «الدلفين»؛ فإذا عرفنا نقطة البداية، استطعنا تحديدَ مكان «الغواصة».
المجموعة النهارية مهمَّتُها مراقبة هذه المنطقة أثناء النهار حتى تكون تحت أعيننا طوال الأربع والعشرين ساعة.
ثانيًا: ستجدون قاربَين آليَّين في بوغاز «المكس» مخصَّصَين للمهمة الأولى باسم «فارس البحر»، والثاني باسم «الغزال»، وستكون المهمة على هيئة صيد «السردين» والشِّباك موجودة على القاربَين وفي كل قارب ثلاثة رجال سيتعاونون معكم.
البداية ستكون الليلة وابتداء من النقطة «أ» غرب برج العرب حتى النقطة «ب» مدخل الميناء الشرقي. والمدى المسموح به كيلومتران فقط.
ثالثًا سريٌّ للغاية: القاربان مزوَّدان بجهازَي رادار لمسح المنطقة تمامًا … الرجال الموجودون معكم على القاربَين لا يعرفون شيئًا عن هذه الأجهزة؛ فقد ثبَّتها عملاؤنا في قاع القاربَين بطريقة فنية أثناء الليل … أما عن كيفية التشغيل فستكون عن طريق كاميرا دقيقة مزوَّدة بجهاز «ريموت» نستخدمها من فوق سطح المركب، وبها شريط «فيديو» لالتقاط الصور. مفتاح التشغيل الأرقام «صفر، ٣، ١»، من الشمال إلى اليمين.
الكاميرتان ستصلان مع الغداء في تمام الساعة الثالثة من مطعم «سي جول» … حظٌّ موفَّق. سأتصل بكم في السادسة.
كانت هذه آخرَ ورقة بيد «أحمد»، فوضعها فوق بقية الأوراق ثم أدخلها في المظروف مرة أخرى، ساد الحجرةَ صمتٌ قصير … كان كلُّ واحد من الشياطين يفكر أو يرتِّب فكْرَه … وكانت الساعة تقترب من الثانية عشرة.
نظر «أحمد» في ساعته، وكان يبدو هادئًا، ثم قال لهم: الساعة الآن تقترب من الثانية عشرة، وأمامنا وقتٌ طويل حتى السادسة، نستطيع أن نجهِّز كلَّ ما نحتاجه … أول شيء هو الملابس الثقيلة؛ لأننا سنبقى على ظهر القارب طوال الليل، وبعض المعدات والآلات الخفيفة، والمنظار المكبر.
قال «عثمان»: إنها أشياء بسيطة.
ردَّ «أحمد»: يجب ألَّا نستهينَ بشيء مهما كان بسيطًا … المعلومات الآن كافية وأصبحت المغامرة واضحة، ويجب ألَّا نقعَ في خطأ بسيط؛ لأنه سيكون مكلِّفًا.
الآن نبدأ الاستعداد والتجهيز حتى مجيء الغداء.
بدأ الشياطين يجهزون أشياءهم كأنهم خلية نحل، أحضر كلُّ شيطان من المكلفين بالمهمة حقيبة صغيرة ووضع فيها بعضَ الملابس، وبطارية إضاءة، ووضع «أحمد» في حقيبته بوصلة، ومسطرة هندسية وجهاز اللاسلكي مع أشيائه وبعض الأوراق وخريطة صغيرة لجمهورية مصر العربية.
نظر «مصباح» إلى «أحمد» وهو يلفُّ الخريطة ويضعها في الحقيبة مع الأوراق الأخرى، فقال له: أذاهبٌ أنتَ إلى الجامعة؟!
فابتسم «أحمد»، وقال: شيء أهم من الحياة، وأهم من كل الدنيا وبقاعها … إنها تراب الوطن أغلى شيء في الوجود.
فنظر إليه «بو عمير» نظرةَ إعجابٍ وتقدير وتأكيد لكل هذه المعاني والعواطف التي تموج بنفوس الشياطين كلهم.
انتهى الشياطين من إعداد مستلزماتهم. كانت الساعة تقترب من الثانية ولم يبقَ أمامهم إلا انتظار الغداء وذلك في الساعة الثالثة.
التفت «أحمد» إلى «بو عمير»، وقال له: أحضر الشطرنج وتعالَ نخوض معركة في هذه الساعة، ربما أتمكن منك قبل أن يأتيَ الغداء.
فردَّ «بو عمير»: موافق … لكن بشرط: إنْ هزمتُكَ تتنازَلْ عن غدائك للشياطين.
فقال «أحمد»: وإن هزمتُك أنا؟
فقال «بو عمير»: تأكل غدائي وآكل أنا غداءَك.
فضحك الشياطين وارتسمَت البسمةُ على وجوههم، وأقبل «بو عمير» برقعة الشطرنج، وبسطها على المائدة، واستغرق الشياطين في المباراة ولم يشعروا بالدقائق وهي تمرُّ؛ فقد انقضت الساعة ولم يُفِق الشياطين إلا على صوت جرس التليفون. فنظروا إلى بعضهم في استغراب …
قال «عثمان»: أيكون الزعيم رقم «صفر»؟
قال «فهد»: لا … طبعًا … فهو أعلمنا بموعد الاتصال في السادسة.
نظر «أحمد» إلى «ريما»، وقال: من فضلك أعطيني سماعة التليفون.
ثم وضع «أحمد» السماعة على أُذُنه … ولم يكَد يتكلم حتى سَمِع صوتًا على الطرف الآخر يقول له: الغداء أسفل المقر في سيارة «المطعم» غداء شهي … تأكد من عُلبتَي الشيكولاتة. ثم وضع سماعة التليفون.
فتح «أحمد» الصندوق الورقي الكبير ليتأكد من وجود عُلبتَي الشيكولاتة — أي الكاميرتين — وسرعان ما أصابَته الدهشة، الكاميرتان موجودتان فعلًا، لكن السبب في سر دهشته أنه وجد طبقًا فيه بعض القواقع، فتذكَّر على الفور الجملة التي قالها له عميل رقم «صفر» في المطعم، وهي «كشف الحساب» بين القواقع، وهو حتى هذه اللحظة لم يستطع أن يصل إلى فك رموز هذه الشفرة.
وكان يتمنى أن يرى الرجل ليسأله … لكن فات أوان ذلك، جلس الشياطين يتناولون الغداء، بين كل لحظة وأخرى، تصدر من أحدهم معاكسةٌ لطيفة لزميله، لكن «أحمد» كان شاردَ الذهن يفكر في فَهْم السر … تُرى ما هو كشف الحساب؟ وما المقصود بالقواقع؟
لكنه كان يعود إلى صوابه ويقول في نفسه: لا تتعجل الأحداث؛ فكل شيء سيظهر في حينه، فرغ الشياطين من تناوُل الطعام، وجلسوا يتبادلون الحديث … وكان «أحمد» مستلقيًا ينظر إلى التليفزيون كأنه يشاهده، بينما كان ذهنه مشغولًا يشاهد عرضًا آخر.
كان «بو عمير» في هذه اللحظة يشاهد التليفزيون أيضًا، ثم نظر إلى «أحمد» وقال له: هل رأيت هذا الفيلم قبل ذلك؟
أفاق «أحمد» فجأة ثم قال: أي فيلم؟
نظر إليه «بو عمير» مستغرقًا: أي فيلم؟ هذا الفيلم …
قال «أحمد»: لا أذكُر … أنا لم أركز مع الأحداث.
قال «بو عمير»: إنه فيلم «الحوت الأبيض» إنه فيلم عالمي ظريفٌ جدًّا، يحكي قصةَ ثأرٍ بين قبطانٍ وحوتٍ شرس أكل ساقَه في إحدى رحلات صيد الحيتان.
هزَّ «أحمد» رأسَه، وقال: آه … آه … طبعًا رأيتُ هذا الفيلم … فعلًا فيلمٌ ظريف جدًّا.
قال: «بو عمير»: تُرى هل ستكون مغامرتُنا شبيهةً بهذه؟
قال «أحمد»: أحيانًا يكون صراع الإنسان للإنسان أشدَّ شراسة من عالم الحيوان؛ فصراع الحيوان من أجل البقاء، أما صراع البشر فمن أجل الفناء.
في تمام الساعة السادسة كانت إشارات جهاز الاستقبال يسمعها كلُّ الشياطين، لتُعلن بدْءَ المغامرة. أسرع «أحمد» إلى الجهاز ليستقبل الرسالة من الزعيم.
رقم «صفر»: الآن أقول لكم: استعدوا. ستجدون كلَّ التيسيرات في «بوغاز المكس»، بطاقات الصيد مع الريس «علي»، وهو سيتولَّى كتابة التصريح والموافقة من «كشك حرس الحدود»، فأنتم طلبة جئتم من الجامعة لقضاء الإجازة في البحر بحثًا عن لقمة العيش ومصاريف الجامعة.
ستجدونه جالسًا بجوار القاربَين على الشاطئ، يرتدي جلبابًا أبيض وعمامة بيضاء. ذو شارب أبيض، وعلى كتفه «عباءة» سوداء، وفي العادة القوارب تخرج للصيد في السابعة وتعود في الصباح.
سكت الزعيم رقم «صفر» لحظة، ثم قال: هل من استفسارات؟
فقال «أحمد»: نعم … لقد قال لي عميلُنا في مطعم «سي جول» جملةً، لكني حتى الآن لم أجِد لها تفسيرًا.
فردَّ الزعيم رقم «صفر»: نعم «كشف الحساب»، بين القواقع. إن الشياطين مشهورون بحدة الذكاء وشدة التركيز، لأجل هذا لن أكشفَ لك عن سرِّها … فقد التقطها عميلُنا من فمِ أحدِ الطيور الغريبة في «المطعم»، وسأتركك أنت لتقولَ لي قريبًا: لقد وجدت كشف الحساب بين القواقع. وأتمنى لكم التوفيق.