الشياطين يصيدون السردين!
كانت الساعة السادسة والثلث حين بدأ الشياطين في الخروج من المقر؛ فقد خرج «أحمد» ومجموعتُه في اليوم التالي، ليتولوا النوبة الليلية.
استقل الشياطين الأربعة تاكسيًا إلى «بوغاز المكس»، ونزلوا على جانب «الكوبري»، ونظر «أحمد» إلى أسفل حيث البوغاز والقوارب الآلية الصغيرة، ومسح المكانَ بنظرة فاحصة؛ فرأى القارب الأول «فارس البحر»، وإلى جواره القارب الآخر «الغزال»، ونظر على الشاطئ فوجد رجلًا يجلس فوق صخرة قريبة من القاربَين، فتأمله واستحضر في ذهنه الأوصاف التي أعطاها له الزعيم رقم «صفر»، إنه هو، أشار «أحمد» إلى الرجل بإصبعه، وهو يوجِّه الكلامَ إلى الشياطين الثلاثة، هذا هو الريس «علي» … هيَّا بنا نهبط إليه …
كان الريس «علي» قد هبَّ واقفًا حين رأى «أحمد» وزملاءَه يتجهون إليه، وأقبل عليهم يُحيِّيهم ويسلِّم عليهم بأسمائهم … لأن معه بطاقاتِ الصيد وفيها صِوَرُهم وأسماؤهم ولم يستغرب الشياطين ذلك … ثم قال لهم: ستنزلون إلى «فارس البحر»، وسأقوم أنا باستخراج التصريح وبقية الرجال في القارب … وأرجو ألَّا تخذلوني مع ريس المركب.
قفز الشياطين إلى القارب وتسلَّقوا على حبل «الهلب» في خفَّة ونشاط، فنظر إليهم الرجال الثلاثة في إعجاب ودهشة؛ لأنهم كانوا يتوقعون أنهم طلبة فعلًا لا يفهمون في أمور البحر كثيرًا، وسيخافون من مواجهة الأمواج والمخاطر … لكنهم رأوا فيهم جرأة وقوة، وحين أصبحوا على ظهر القارب وصلوا إلى حيث الرجال الثلاثة الذين رحبوا بهم في إعجاب.
ثم سألهم ريس المركب: هل سبق لكم نزول البحر للصيد؟
فردَّ «أحمد»: طبعًا … وإجازتنا السنوية كلُّها في البحر … فنحن أصدقاء وزملاء ونادرًا ما نفترق. قال «الريس»: وأين نزلتم؟
أجاب «أحمد»: في السويس، والغردقة، وكذلك في بورسعيد … وأنا شخصيًّا مكثتُ شهرين باليونان على ظهر مركب صيد كبير …
قال ريس المركب: أنت ريس مركب كبير إذن؟
ردَّ «أحمد»: لا … إنها هواية ورحلات نتعرف فيها على بلاد وأناس آخرين، ونتحصل منها على نفقات الدراسة.
قال ريس المركب: يعجبني دائمًا الإنسان المجتهد.
ثم أشار «أحمد» بيده إلى رفاقه، وقال للريس: «فهد»، «قيس»، «خالد». وأشار إلى نفسه «أحمد».
ولم ينتظر ريس المركب حتى يسألَه «أحمد» عن اسمه، بل ردَّ على الفور، وأنا اسمي «جمعة»، وهذا «حسن» و«عبده».
كان هذا الحوار مهمًّا؛ حيث رفع بعضَ التكلف، وأزال بعض الهيبة من نفوس الجميع تجاه بعضهم. لحظات وجاء الريس «علي» وفي يده بطاقات الصيد والتصريح وأعطاه للريس «جمعة»، ثم قال له: توكل على الله … لكن هؤلاء أمانة. أُوصيكم بهم … حتى تعودَ سالمًا مجبورًا إن شاء الله.
سار القارب يصارع الأمواج، ويشقُّها بمقدمته، والشمس توشك على الرحيل، تودِّع النهار وتفارق الأرض.
كان «أحمد» مع الريس «جمعة» في كابينة القيادة، بينما كان بقية الشياطين على ظهر المركب في المؤخرة بجوار شباك «السردين».
كان القارب يسير باتجاه الغرب، مبتعدًا عن ضاحية «المكس» مقتربًا من منطقة «الدخيلة» و«برج العرب»، مما جعل «أحمد» يسكت ولا يسأل؛ لأنهم يسيرون في نفس الاتجاه المقصود.
ثم بدَا ﻟ «أحمد» أن يسأل الريس «جمعة» عن مكان الصيد بالتحديد، فقال له: أين سيكون عملنا؟
فقال الريس «جمعة»: سنرمي الشباك أول الليل بعد المغرب بساعة تقريبًا بين الدخيلة وبرج العرب، ثم نجمع الشباك في العاشرة، ثم نجهزها لنرميَها مرة أخرى في الثانية عشرة حتى الفجر، من أمام بوغاز «المكس» حتى رأس التين، ثم نعود مع شروق الشمس.
قال «أحمد»: ولماذا اخترتَ هذه الأماكن بالذات؟
قال الريس «جمعة»: لأنها مناطق تجمع السردين حيث المياه العذبة الخارجة من «بوغاز المكس»، رغم ما يُصيبنا من خسائر في الشباك.
أحمد: ولماذا؟
قال الريس «جمعة»: لأن أسماك «الدلفين» تهجم على الشباك فتأكل ما بها من سردين وتمزِّقها وتمضي …
انتهز «أحمد» فرصةَ الكلام عن «الدلفين»، ثم قال للريس «جمعة»: سأبوح لك بسرٍّ، لكن أرجو ألَّا يعلمَ به أحد. فالتفت إليه الريس «جمعة» منتبهًا، وقال: خيرًا …
فقال «أحمد»: حين كنتُ في اليونان أهدَى لي أحدُ أصدقائي كاميرا خطيرة، تكشف تجمعات الأسماك تحت الماء … وهي معي في الحقيبة … ولأنك رجل طيب فسوف أستخدمها الآن … لكن يجب ألَّا يعرف بها أحدٌ من الصيادين حتى لا يتبعونا فيعرفوا مكان السمك.
فقال الريس «جمعة»: سرُّك في بئر … ولن يعلم به أحدٌ حتى زملائي الذين معنا على القارب. وحتى يكون الموضوع سريًّا تمامًا ستبقى أنت هنا في مكان القيادة لكي تستخدم الكاميرا بحريَّة.
وعندما اطمأن «أحمد» إلى سرية المغامرة فتح حقيبتَه، وأخرج منها الكاميرا وثبَّتها أمامه على قطعة خشب، ثم أخرج الريموت، وضغط على الأرقام «صفر، ۳، ۱»، فأنارت شاشتُها الصغيرة التي في حجم شريط «الفيديو»، ثم ضغط على «زرِّ» التشغيل ليتأكد من سلامة الفيلم، فوجد كلَّ شيء على ما يرام. وكانت تظهر بعد الحين والحين سمكةٌ على الشاشة، فكان «أحمد» يقول للريس «جمعة»: انظر إنها تكشف كلَّ شيء.
قال الريس «جمعة»: هذا شيء غريب … كيف وهي على سطح المركب؟
قال «أحمد»: عقول جبارة يا ريس «جمعة».
ولم يكن الريس «جمعة» يعلم أن بقاعِ القاربِ جهازَ رادارٍ صغيرٍ مثبَّتٍ به … ثم قال له «أحمد»: لن أترك لك سمكة في هذه المنطقة حتى أكشفَها … كلُّ ما عليك هو أن تتجهَ بنا حيث أُشير عليك. فقال الريس «جمعة» في فرح: سأفعل كلَّ ما تريد.
كان القارب قد وصل إلى غرب ضاحية «الدخيلة» والساعة تقترب من الثامنة مساءً. قال «أحمد» بينه وبين نفسه: نحن في حاجة إلى نصف ساعة فقط نمشِّط فيه المنطقة، وآخر الليل نصف ساعة أخرى نمشِّط المنطقة الباقية.
التفت «أحمد»، وقال للريس «جمعة»: الآن سنأخذ اتجاه شمال غرب … كانت الأسماك التي تبدو على شاشة الكاميرا كأنها قناديل مضيئة، وكأنَّ قاعَ البحر عُرْسٌ تتلألأ منه أروعُ الأضواء؛ فالمياه ليست عميقة بالدرجة التي تجعلها مظلمة قاتمة.
وصل القارب إلى النقطة التي حدَّدها الزعيم رقم «صفر»، لكن كان كلُّ شيء عاديًّا … فلم يظهر أمام الرادار شيءٌ غريب ليستدعيَ الاهتمام.
طلب «أحمد» من الريس «جمعة»، أن يقلِّل من سرعة القارب، ثم أشار عليه أن يرميَ شباكَ السردين باتجاه الشرق … وبدأ الشياطين العمل كصيادين … نسيم البحر يلسع وجوهَهم ببردِه، بينما «أحمد»، ظل في كابينة القيادة أمام الكاميرا. وفرغ الجميع من إلقاء الشباك. لكن «أحمد»، كان في ذهنه شباكٌ أخرى وصيدٌ آخر … فطلب من الريس «جمعة» أن يستديرَ بالقارب ليطمئن على الشباك، حتى لا تهجمَ عليها «الدلفين»، وابتعد «أحمد»، متعمدًا ذلك عن الشباك بمسافة ٥٠٠ متر، وظل يجوب البحرَ طولًا وعرضًا حتى وصل قريبًا من آخر الشباك، واستدار جهة الشمال ليعود إلى أول الشباك … وبمجرد أن استدار لمحَ على شاشة الكاميرا نصفَ سمكة تحتلُّ جانب الكاميرا، فأسرع بالمِقْود في يده ليُدركَها حتى تظهر كاملةً على الشاشة … وسرعان ما أصابه الذهولُ والسمكة تمرق كالسهم اللامع تحت سطح الماء … وهي مدفوعة بقوة خفية، وفوق رأسها ظهَر واضحًا ذلك الجهاز.
حاول «أحمد» أن يحتفظ باتجاهه وراء سمكة «الدلفين»، لكنها كانت في سرعتها كالبرق الخاطف … فاختفَت فجأة وأحسَّ «أحمد» بالحزن والأسى. لكنه عرف اتجاهها وذلك ما جعله يطمئن إلى حدٍّ ما … فهي قادمة من الغرب إلى الشرق … إذن نقطة الانطلاق من الغرب.
وصل القارب إلى بداية الشباك. كانت الساعة تقترب من التاسعة والنصف، هدَّأَ الريس «جمعة» من سرعة القارب، ثم استدار بالقارب جهة الشمال، وألقى بالهلب في البحر ليستريحوا قليلًا ويتناولوا بعضًا من الطعام، ثم يعودوا إلى جَمْع الشِّباك مرة أخرى.
جلس «أحمد»، مع بقية الرجال ومعهم الشياطين يتناولون الطعام، بعد أن فرغوا أمسك كلٌّ منهم بكوب الشاي، وانفرد الشياطين ببعضهم، وأخذوا جانبًا صغيرًا من ظهر القارب.
فمال عليهم «أحمد»، وقال: لقد حدَّدت نقطة الانطلاق.
فهد: ماذا حدث؟
أحمد: لقد رصدتُ «الدلفين» وهو متَّجه من النقطة «أ» إلى النقطة «ب».
خالد: هل استطعتَ تصويره؟
أحمد: نعم … لقد كان شيئًا مهولًا … إنه يسير كالأعمى … وفي سرعة البرق … هرب من أمام الشاشة سريعًا …
قيس: وماذا بعد ذلك؟
شرد «أحمد» قليلًا، ثم قال: لا بد من خطة جديدة … إننا في حاجة إلى زورق مجهَّز … لا بد من صيد هذا «الدلفين» بعد معرفة مكان الغواصة، ولن يكون ذلك إلا بتجهيزات أخرى.
فهد: لا بد من تحديد مكان الهدف أولًا … ثم بعد ذلك سهل.
أحمد: لن يكون ذلك سهلًا ونحن في هذا القارب؛ لأن إمكانياته محدودة.
خالد: ما زال الليل طويلًا … ونستطيع أن نقوم بجولة أخرى … ربما نعثر على خيط يُوصلنا إلى الهدف.
كان الريس «جمعة» ورفاقه قد انتهَوا من شُرب الشاي وتدخين بعض السجائر … ثم نادى على «أحمد» قائلًا: جاهز يا كابتن «أحمد»؟
قال «أحمد»: نعم … هيا بنا …
رفع الرجال «الهلب» على ظهر القارب، واستدار القارب ليبدءوا في جمع الشباك مرة أخرى ضغط أحد الرجال على زرٍّ، فأدار «الونش» الذي يجذب الشباك من البحر ويرفعها على ظهر القارب …
وبدأ ظهْر القارب يتلألأ ويلمع من أسماك «السردين» التي علقت بالشباك … وكانت فرحة الرجال بالسمك شديدة … فهو يبدو بالنسبة لهم كثيرًا عمَّا تعودوا أن يحصلوا عليه.
وسرعان ما نظر الريس «جمعة» إلى «أحمد»، رافعًا يدَه محيِّيًا … كأنه يعبر عن إعجابه وتقديره.
انتهى الرجال من رفع الشباك من الماء … وبدءوا في وضْع السمك في صناديق خشبية، ثم نادى الريس «جمعة» على «أحمد»، وقال له: أنت «الريس» الليلة، وجِّهْنا إلى حيث شئت.
كانت هذه فرصة ثمينة للشياطين؛ فالقارب أصبح تحت تصرُّفهم، وبدأ «أحمد» يتجه بالقارب إلى النقطة «أ»، التي حددها لهم الزعيم رقم «صفر».
مرَّت نصف ساعة … والقارب يجوب طول البحر وعرضه محتفظًا بالمسافة التي حددها لهم الزعيم رقم «صفر».
وبينما كان «أحمد» يستدير بالقارب ناحية الشمال. فجأة، ظهر «الدلفين» على الشاشة واضحًا، لكنه في هذه المرة لم يكن سريعًا … وكان في عكس اتجاهه في المرة السابقة … حاول «أحمد» جاهدًا أن يحتفظ بالمسافة بينه وبين «الدلفين» حتى تظلَّ صورتُه ظاهرةً على الشاشة … كان «الدلفين» فيها يظهر ويختفي، ولم يكن اختفاؤه إلا لحظةَ صعوده إلى سطح الماء ليمكث ما يقرب من دقيقة ثم يعود إلى أسفل مرة أخرى … حتى بقيَ «الدلفين» مسافة طويلة لا يصعد إلى سطح الماء. كان القارب فيها قد وصل إلى حدود النقطة «أ»، وسرعان ما انطلق «الدلفين» سريعًا حتى اختفى بين الصخور ثم ظهر مرة أخرى. لكن قريبًا من جسم تظهر منه بعض إضاءة … عندما تلوح وتغير لون الصخور … في هذه اللحظة تأكد «أحمد»، دون أدنى شك من أن هذا هو الهدف المقصود … أوقف «أحمد» القارب لحظات ركز فيها الكاميرا على هذا الجسم … ومسحه من أوله إلى آخره.
ثم طلب من الريس «جمعة» «عوامة» وأمره أن يُلقيَها بجوار القارب … ثم نظر في البوصلة وحدَّد اتجاه القارب وزاوية تواجُد الهدف، وحدد المسافة … ثم زوَّد من سرعة القارب ليخرج من هذه المنطقة، قبل حدوث أية مفاجأة … لكن الريس «جمعة» سأله عن سرِّ «العوامة»، فقال له: هذه المنطقة مملوءة بأسماك «الدلفين»، وقد وضعتُ علامةً لكي تعرفَها … حتى لا ترميَ بها الشباك فتقضي «الدلافين» عليها …
قال الريس «جمعة»: أنت مخك كبير … يا كابتن «أحمد»!
وظل القارب يشقُّ الماء متجهًا إلى الشرق حتى كاد أن يوازيَ «بوغاز المكس»، فاقترح «أحمد» أن يُلقوا بالشباك في هذه المنطقة وقد حدث.
وبعد أن فرغوا من إلقاء الشباك … جلسوا يشربون الشاي. واجتمع الشياطين اجتماعًا مصغرًا كالأول … لكنه كان في هذه المرة مهمًّا … فقد أطلعهم «أحمد» على كل التفاصيل … ثم قال: الآن فقط فهمتُ معنى «كشف الحساب» بين القواقع.
إن الصيد الثمين يستقر آمنًا بين الصخور.