أكاذيب الاستعمار يجب أن تخرج معه
لقد جاهدنا من أجل هذا اليوم جهادًا مريرًا.
وكنا إذا ادلهمت الخطوب، أو تكاثرت السحب، أو نال منا التعب، نظرنا إلى الأفق البعيد نستشف من ورائه صورة هذا اليوم الحبيب، وناجينا الله سبحانه متسائلين:
«يا رب، أَمَا لهذا الليل من آخر؟»
واليوم وقد انجابت سحب الماضي البغيض، وأخذنا الأهبة لاستقبال تباشير الفجر الجديد، فجر الحرية الكاملة والاستقلال التام، يجب ألا ننسى، يجب ألا ننسى الماضي مهما كان كريهًا؛ فالوطن، كما قال بطل الجلاء الرئيس جمال، ماضٍ وحاضر ومستقبل. فنحن في حاضرنا نستقبل عيد الحرية الأكبر ونتطلع إلى مستقبل مزدهر باسم، ومن واجبنا ألا ننسى الماضي، من واجبنا ألا ننسى ما فعله بنا الاستعمار.
لقد ذقنا من هذا الاستعمار مرارة الصاب والعلقم، وأخشى ما أخشاه أن تسري النشوة الحلوة في ألسنتنا فتنسينا طعم هذا الصاب والعلقم، فلا نكون حريصين على نعمة الحرية، ولا نبذل الجهد في الاحتفاظ بها، ولا نستميت في الدفاع عنها.
ولعل أسوأ ما رمانا به الاستعمار هو سعيه الدائب أن يفقدنا الإيمان بالوطن وأن يزعزع ثقتنا بأنفسنا، فقد حرص الاحتلال منذ اللحظة الأولى على أن يشيع في المصريين بعض الأكاذيب التي اتخذ لها ثوبًا علميًّا، من هذه الأكاذيب الشائعة التي ظل يرددها المستعمرون، والتي رددها المصريون — للأسف — بعده ردحًا طويلًا من الزمن أن مصر منذ عهد الفراعنة لم تكن دولة مستقلة، بل كانت دائمًا محتلة يتوالى على حكمها الولاة من كل شعب وجنس.
وهذه الأكذوبة لم تتردد في المؤلفات الأوروبية التي كتبت عن تاريخنا، وفي الكتب المدرسية المصرية — إلى عهد قريب — عبثًا، بل لقد كان الهدف من ترديدها أن تصبح حقيقة ثابتة وأن تتغلغل في نفوس الشباب المصري حتى يستكين ويذل، وحتى يفقد الثقة في نفسه والإيمان بوطنه، وعلى مصر وعلى هذا الشباب العفاء إن هو فقد هذه الثقة وهذا الإيمان.
والتاريخ السليم، والبحث العلمي الصحيح يثبت خطأ هذه الأكذوبة؛ فمصر حقيقة قد فقدت استقلالها في بعض العصور، شأنها في ذلك شأن غيرها من الدول، ولكن هذه العصور لا تعتبر شيئًا مذكورًا إذا هي قورنت بالعصور الأخرى الطويلة التي تمتعت فيها بالاستقلال.
فقدت مصر استقلالها منذ عهد الفراعنة إلى الآن ثلاث مرات: في العهد الروماني، وفي العهد العربي الأول، وفي العهد العثماني (والاحتلال البريطاني ما هو إلا امتداد للاحتلال العثماني)، وذلك عدا فترات قصيرة أخرى غزا مصر فيها الغزاة، ولكنهم ما لبثوا أن جلوا عنها سريعًا كما حدث في الغزو الفارسي.
وأسوأ العهود التي مرت بمصر في تاريخها الطويل العهدان الروماني والعثماني، فقد اضمحلت في خلالها البلاد اضمحلالًا تامًّا شمل نواحيها المختلفة، أما العهد العربي الأول فرغم أنه عهد تبعية فقد أنقذ مصر من ظلم الرومان وعسفهم، وحمل إلى مصر العدالة والإصلاح والنور والتوحيد عندما حمل إليها الإسلام.
فإذا استثنينا هذه العصور الثلاثة رأينا مصر مستقلة استقلالًا يكاد يكون تامًّا في عهود الطولونيين والإخشيديين والأيوبيين، لا يشوب هذا الاستقلال إلا خيوط واهية تتمثل في الخطبة باسم الخليفة العباسي، وضرب السكة باسمه، وبعض المال الذي كان يُرسَل من فائض الميزانية إلى عاصمة الخلافة.
وكانت مصر بعد هذا مستقلة استقلالًا تامًّا لا تشوبه شائبة في عهدَي الفاطميين والمماليك.
نقول إن البحث العلمي الصحيح يثبت ما قلناه؛ لأننا يجب أن نزن الاستقلال بمقوماته في تلك العصور، لا بالمقومات التي أحدثتها العصور الحديثة؛ ففي تلك العصور كان الحكام يلون الحكم في مصر تبعًا لنظم مصرية معترف بها، ولم يكونوا يولَّوْن ويُعزَلون بأوامر صادرة عن دولة أجنبية أخرى، وكانت الجيوش جيوشًا مصرية، تدافع إذا دافعت عن مصر، وتفتح إذا فتحت باسم مصر، وكان الاستقلال الاقتصادي متوافرًا، فالعملة مصرية لا يُنقَش عليها غير اسم حاكم مصر، وكانت الاتصالات الخارجية والمعاهدات والسفارات تتبادل باسم مصر لا باسم غيرها من الدول.
ولم يكن يشوب هذا الاستقلال — فيما يدعي البعض — إلا أن بعض الحكام كانوا أصلًا من أجناس غير مصرية، وهذه الحقيقة الصغيرة هي التي اعتمد عليها الأوروبيون فضخموها، وعلى أساسها حكموا حكمهم الخاطئ، أن مصر لم تتمتع يومًا ما بالاستقلال.
ولكن هذه الحقيقة الصغيرة مع هذا لا تعيب استقلالنا ولا تخدشه؛ فأي أسرة من الأسر الحاكمة في الدول الأوروبية في العصور الوسيطة والحديثة كانت تنتسب للشعب الذي تحكمه انتسابًا نقيًّا خالصًا؟ إن نابليون الذي يعتز به الفرنسيون حتى اليوم لم يكن فرنسيًّا، بل هو من أهل جزيرة كورسيكا، والأسرة الحاكمة الحالية في إنجلترا ترجع إلى أصل جرماني، وهتلر زعيم ألمانيا السابق من أصل نمساوي، والأمثلة غير هذه كثيرة.
فإذا أضفنا إلى هذا أن مدلول الوطنية في العالم الإسلامي في العصور الوسطى كان يصطبغ بالصبغة الدينية، عرفنا أن استقلال مصر في تلك العصور لم يكن في مفهومه المتعارف وقتذاك ينقصه أي مقوم من مقومات الاستقلال، فالمسلم الصيني — على سبيل المثال — كان إذا حل في الشام أو في مصر أو في المغرب لم يشعر أنه غريب، ولم يُشعِره أهالي تلك البلاد أنه غريب، بل كان يعتبر نفسه في وطنه أينما حلَّ.
فانتماء الخلفاء الفاطميين إلى الجنس العربي، أو على الأصح انتماء أولهم المعز لدين الله إلى الجنس العربي، لا يعيب استقلال مصر في العصر الفاطمي المزدهر الحافل بكل علائم التقدم والحضارة، وإذا كان المعز عربيًّا فإن من تبعه من أولاده وأحفاده كانوا مصريين لحمًا ودمًا، ولدوا في مصر، ونشئوا في مصر، وقادوا الجيوش باسم مصر، وحكموا إمبراطورية مصرية مترامية الأطراف؛ حتى لقد كان المؤرخون المسلمون يسمون الدولة الفاطمية دولة الخلفاء المصرية.
وعندما خرج صلاح الدين إلى الجهاد الأكبر ضد الصليبيين الذي تُوِّج بانتصاره الحاسم في وقعة حطين التي مهدت له الطريق لاستعادة بيت المقدس وتحرير فلسطين، فإنه كان يحارب بالجيوش المصرية وباسم مصر التي هو سلطانها.
وعندما صمد الملك الكامل محمد أو الملك الصالح نجم الدين أيوب للغارات الصليبية التي هددت مصر حتى انتصرا عليها وردَّاها خائبة، فإنهما كانا يدافعان عن أرض الوطن بجيوش الوطن.
يضاف إلى هذا أن مصر امتازت في كل عصورها بخاصة مميزة، فهي قادرة دائمًا على هضم كل غريب وصهره في بوتقتها وتمصيره تمصيرًا تامًّا في وقت قصير.
ولكنه الاستعمار دائمًا في كل وقت وفي كل مكان، أمضى أسلحتِه تحطيمُ الروح المعنوية في الشعوب المستعمرة، وفي شبابها بوجه خاص، عن طريق التربية والتعليم، بما يدسه في الكتب والصحف من آراء تهدف دائمًا إلى فقدان الثقة بالنفس والإيمان بالله وبالوطن، وتحطيم المثل العليا، ونشر كل ما يدعو إلى الرخاوة والدعة والكسل والذلة.
فالطالب الفرنسي والطالب الإنجليزي يعلَّمان في مدارسهما كل صغيرة وكبيرة عن تاريخ فرنسا وإنجلترا وأبطالهما، والطالب المصري في المدارس المصرية كان إلى عهد قريب لا يعرف عن تاريخ بلاده إلا القدر الضئيل، وبالصورة المشوهة، فمَن مِن شباب مصر كان يعلم شيئًا تفصيليًّا عن بطولة المصريين في مواقع حطين ودمياط والمنصورة ورشيد للدفاع عن مصر والشرق الإسلامي ضد خطر الصليبيين والإنجليز؟
ومَن من شباب مصر كان يعلم شيئًا تفصيليًّا عن بطولة جيش مصر في وقعة عين جالوت للدفاع عن مصر والشرق، بل والعالم الأوروبي كله، ضد خطر التتار المخرب المدمر؟
لقد خرج التتار من أواسط آسيا بقضهم وقضيضهم في جموع حاشدة تضم عُدَدهم وأسلحتهم ودوابهم، ألوف الألوف لا يدينون بدين سماوي ولا يتحضرون بحضارة ما، بل لا يفهمون معنى الحضارة ولا يقدرونها، وظلوا سنوات طوالًا يتقدمون والنصر حليفهم، لا يمنعهم مانع، ولا تصدهم حصون أو قلاع، ولا تقف أمامهم جيوش أو دول، وهم في نشوة النصر يخربون ويقتلون ويسلبون وينهبون، فقضوا على دولة خوارزم بعد نضال عنيف، وقضوا على الخلافة العباسية في بغداد، ثم تقدموا فاستولوا على الشام، ووصلوا أخيرًا إلى حدود مصر عند غزة، فتملك الفزع سكان الشرق الأوسط من هذا الشعب الذي لا يهزم أبدًا.
وأرسل هولاكو رسله إلى سلطان مصر العظيم سيف الدين قطز ينذره بالويل والثبور إن هو لم يسلم ولم يخضع، ولكن قطز مزق الرسائل، وقتل الرسل، وعلق رءوسهم على أبواب القاهرة، وخرج بجيوش مصر، وبث الحماس في جنوده، وانتصر لأول مرة على جيوش التتار في وقعة عين جالوت الحاسمة.
ولأول مرة يذوق التتار — منذ خرجوا من قلب آسيا — طعم الهزيمة، ثم توالت عليهم الهزائم إلى أن طُردوا من الشام جميعًا، ولم ينتصر قطز إلا بقوة إيمانه، فإن الرواية تذكر أن الجيش المصري أوشك على التخاذل في بدء المعركة، فتقدم قطز الصفوف، وألقى بخوذته على الأرض، وصاح صيحته المشهورة: «وا إسلاماه! يا الله، انصر عبدك قطز على التتار.»
آمن هذا العبد بربه فنصره الله على أعدائه هذا النصر المبين.
لو أننا كنا نعلِّم شبابنا في المدارس هذه الحقائق التاريخية، لخلقناهم خلقًا آخر يؤمن بالله وبالوطن وبالمثل العليا، ويضحي في سبيل ذلك بكل ما يملك، حتى بالروح، ولكنها سياسة الاستعمار وأتباعه كانت تغطي هذه الصفحات المشرقة من تاريخنا.
واجبنا إذن أن نكشف للشباب هذه الأكذوبة الكبرى التي خلقها الاستعمار يوم دخوله مصر، ومن الواجب أن تخرج معه يوم خروجه، وواجبنا أيضًا أن نثبت لشبابنا إثباتًا علميًّا صحيحًا أن مصر كانت في معظم عصورها مستقلة استقلالًا تامًّا، وأن نبرز أمامهم أمجادنا الحربية والحضارية.