يصح القول عن النبوة إنها ظاهرة كلية عامة غير مخصوصة بشعب دون آخر، أو بعصر دون
عصر،
«فهي ظاهرة شائعة على مستوى العالم بأَسْره منذ أقدم العصور. ولذلك لا يوجد شعب لم يعرف،
بشكل
أو بآخر، وحي الآلهة. فقد ظهر أناسٌ ملهمون، في كل زمان ومكان تقريبًا، يؤمنون بأنهم
وُهبوا
قوى روحية لم تتوفر لغيرهم».
٥ وفي قول آخر «لا يوجد بين الأمم مَن لا يرى شواهد تُنبئ عن حوادث المستقبل، وأن
بين الناس من يستطيع معرفة هذه الشواهد والتنبؤ بالحوادث قبل وقوعها. وهذا الاعتقاد في
القدرة
على التنبؤ بالغيب اعتقادٌ قديم انحدر من عصر الأساطير»،
٦ حيث «وُجد في المجتمعات الأكثر بدائية أناسٌ يختصون بالاتصال مع القوى التي تسود
الإنسان أو تسيطر عليه، يمثلون الجماعة في علاقتها مع المقدس، وقد حفل تاريخ الديانات
بطائفة
من هؤلاء الذين نستطيع أن ندعوَهم وسطاء».
٧ واللافت أن الأمر لا يقف عند مجرد شيوع الظاهرة وعموميتها — على هذا النحو — بل
يتعداه إلى ضربٍ من التشابه القوي بين رؤى الشعوب المختلفة للنبوة. فقد «اتَّسم تفكير
المصريين والعبرانيين والإغريق حول الإلهام والنبوة بدرجة كبيرة من التشابه، وكذلك تحدَّث
الوثنيون واليهود والمسيحيون — في عصر الإمبراطورية الرومانية — عن «الوحي» بتعبيرات
واحدة».
٨ وينهض هذا التشابه — لا شك — شاهدًا آخر على وحدة ظاهرة النبوة وشمولها.
وقد ذهب البعض — بتأثير الارتباط بين النبوة والأنطولوجيا فيما يبدو — إلى وصفِ النبوة
بأنها تعبِّر عن «نزوع طبيعي للكشف عن المستقبل عند الإنسان».
١٢ ولكن ثمة مَن يعلو بها عن مجرد «النزوع الطبيعي» إلى كونها تعبر عن «استعداد قائم
في العقل»،
١٣ إذ «توجد في النفس الإنسانية ملكة ملازمة لها تُمكنها من الهجس أو سبق النظر بالمستقبل».
١٤ وأيًّا ما كان الأمر، فإن النبوة تعبِّر عن نزوع «طبيعي أو عقلي» يتميز به
الإنسان بما هو كذلك
١٥ — وذلك مع التجاوز المؤقت عن الفرق بين النبوات الدينية، وبين ما يُسمى
«بالنبوءات العلمانية (
Secular prophecies) التي تتحدث عن
مستقبل العالم والحياة على هذا الكوكب، كما في كتابات لوكريتس ودارون مثلًا، ونبوءات
فلاسفة
التاريخ الذين تنبَّئوا بالانهيار والفناء — مثل اشبنجلر — وكذلك الفلاسفة الذين وضعوا
نُصْب
أعينهم هدفًا أقصى تتجه نحوه الأحداث بنوع من الحتمية»
١٦ — فإن ذلك النزوع للإنسان بما هو كذلك ينكشف من خلال ذلك كله.
١٧
وهكذا تتكشف النبوة — بوصفها ظاهرة عامة — لا عن مجرد التبادل الثقافي بين الحضارات،
بل
عن بناء للوجود البشري نازعًا — بطبيعته — إلى تجاوز وضعِه. ومن هنا تبدو النبوة مدخلًا
للأنطولوجيا، وذلك من حيث تعبر عن نزوع الوجود — بما هو كذلك — إلى قهر تناهيه والاتصال
بالأبدية، نزوعًا شاملًا تؤكِّده دراسة في التاريخ الحضاري للنبوة.
ثانيًا: نبوات الشرق القديم٢٦
يبدو من مخلفات الشرق القديم أنَّ أهم مسألة مسَّت شغافَ قلب الشرقيين وبلورَت وجدانهم
هي المسألة الدينية. إذ انشغل الشرقي، أبدًا، بإله حاول أن يجد سبيلًا للاتصال به والتعرُّف
على مراميه، ومن هنا نشأت حاجتُه إلى «النبوة والعِرافة» التي قام عليها «كثيرٌ من الرائين
والعرَّافين كانت تغصُّ بهم معابدُ الشرق الأدنى القديم».
٢٧ وهكذا «مثَّل التنبؤ أو العِرافة، واحدًا من أكثر جوانب الدين أهمية في بابل
وآشور، حتى إنه لا يكاد يوجد شعبٌ آخر غيرهما حاز نظامًا للتنبُّؤ والعِرافة على مثل
هذه
الدرجة من الإحكام والتركيب».
٢٨ ولقد كشفت النقوش عن شعوب أخرى أظهرَت اهتمامًا بالغًا بالمسألة ذاتها. فقد
«تحدَّث نصٌّ حثيٌّ (
Hittite) «يرجع للقرن الثالث عشر قبل
الميلاد» عن وجودٍ للأنبياء، وإن كان لم يذكر شيئًا عن نمط التنبُّؤ السائد.
٢٩ كما أن ثمة نقشًا آراميًّا — عُثر عليه في سوريا — قد سُجل عليه أن الإله بعل
تحدث إلى الملك زاكير (
Zakir)، من خلال الرائين والعرافين،
مشيرًا إلى أنه سوف يُخلصه من أعدائه».
٣٠ وكذلك فإن «التعرف على وحي الأرباب، والاحتكام إليهم في القضايا، والقسم في
حضرة تماثيلهم، كان أمرًا شائعًا بين الكبار والعاديِّين من السومريِّين المتديِّنين»
٣١ كما «استغل الكلدانيون ملاحظةَ المجموعة النجمية في إقامة علم يمكِّنهم من
التنبؤ بحظوظ الناس ومعرفة المصير الذي قُدر لهم»،
٣٢ وإذن، فقد شاع التنبؤ والعرافة بين كافة شعوب الشرق القديم.
واللافت أن أنماط التنبُّؤ والعرافة،
٣٣ قد تنوَّعت إلى حدٍّ كبير. فبينما لاحظ الكلدانيون النجوم، «فإن النمط السائد
للعِرافة في بابل وآشور، كان هو التنبؤ من خلال فحص كبد حيوان مذبوح
(
Hepatascopy)؛ حيث كان العرَّاف — وكان في آنٍ معًا
كاهنًا ومفسرًا ومتنبِّئًا بخطط الآلهة — يذبح، بعد القيام بطقوس معينة، حيوانًا ينزع
كبده،
ومن خلال النظر في أجزائه والعلامات التي على سطحه يمكنه التنبؤ بالمستقبل».
٣٤ وأما البابليون، فقد اعتقدوا «أنَّ الإله يكشف عن نفسه في «الحلم»، معلنًا
إرادة السماء وكاشفًا للمستقبل».
٣٥
وقد كشفت النقوش التي عُثر عليها في مدينة ماري، بأرض ما بين النهرين
(
Mesopotamia) عن تحوُّل مثير في طبيعة النبوة ذاتها.
٣٦ إذ لوحظ أن «مجموعة نصوص ميلِّينيوم الثانية (
Second Millennium
Texts)، التي عُثر عليها بماري، تَصِف الرائين بأنهم أفواهٌ للآلهة
يتحدثون باسمهم».
٣٧ وقد انطبق هذا الوصف — فيما يبدو — على الأنبياء العبرانيِّين. ولهذا قيل: «إن
الكشوف الأثرية الفرنسية في تل الحريري (
Tel-el-Hariri) —
مركز حكم مملكة ماري القديمة — قد تمخضَت عن عدة نصوص تُظهر تشابهًا لافتًا مع نبوة العهد
القديم».
٣٨ فقد أصبح «أنبياء إسرائيل ينطقون بكلمة الإله «يهوا». مثلما كان أنبياء ماري
ينطقون بكلمة الإله داجون (
Dagon).»
٣٩ ويبدو أن التوافق بين النبوَّتَين قد تجاوز مجردَ طريقة نطقِ الأنبياء إلى
مضمون النبوة ذاته، «فإن كثيرًا من أقوال أنبياء ماري كانت ذات طبيعة سياسية؛ إذ أشارت
إلى
ضرورة رعاية الملوك للفقراء والمعوَزين؛ مما يدل على أن البُعد الأخلاقي لم يكن غائبًا
عن
نبوة ماري»،
٤٠ وهذا القول — إن صح — يُقلل من صدق الزعم بأنه «بينما كان أنبياء إسرائيل
ينطقون باسم الرب، ولكن لمصلحة الشعب، فإن أنبياء ماري كانوا أيضًا ينطقون باسم الرب،
ولكن
لمصلحة الرب نفسه».
٤١
حقًّا إن ثمة ما يميِّز النبوَّة العبرية عن نبوَّات الشرق القديم، ومنها نبوَّة
ماري
بالطبع. من ذلك، مثلًا، «أن النبي العبري لم يكن — كالنبي الشرقي القديم — ينطق باسم
إله محلي
٤٢ (
Lacal)، بل كان ينطق باسم خالق السموات
والأرض، الواحد الأحد الذي يعلو على العالم، والذي يتعذر الإحاطة بحكمته … «وكذلك» فإن
النبي في ماري كان امتدادًا للمؤسسة الدينية أكثر منه ناطقًا باسم إله متعالٍ».
٤٣ وإضافة إلى ذلك «فإن النبوة العبرية قد لعبَت دورًا فعالًا في صياغة الأحداث
السياسية لشعب إسرائيل»،
٤٤ وهذا ما أخفقَت فيه النبواتُ الشرقية الأخرى نسبيًّا. ولكنَّ ذلك لا يعني البتة
أن ثَمة قطيعةً بين النبوة العبرية من جهة وبين نبوات الشرق القديم من جهة أخرى؛ إذ يتحدى
التاريخ مثل هذه القطيعة بحسم.
ثالثًا: نبوات الشرق الأقصى (الهند والصين)
انتفى الدور الذي تقوم به النبوة — في الأديان التقليدية — من الديانتَين، الهندية
والصينية تمامًا، ويرجع ذلك إلى الطبيعة الباطنية الخاصة لهاتين الديانتَين، والتي ترتدُّ
بدورها إلى عناصر أعمق في التحليل، سواء في التطور الباطني الخاص لفكرة الألوهية والوعي
بها، أو في حياة هذين الشعبين. ذلك أن «الروح فيها — حسب هيجل — غير منفصل عن الطبيعة.
فالألوهية هي المضمون، مضمون كلِّ شيء، والإله هو الوحدة الطبيعية للروحي والطبيعي. وهذه
الصيغة من التدين قد حدَّدها نمطُ الحياة الطبيعية إذ ذاك».
٤٥ ولهذا يسيطر على كلتا الديانتَين «الشعورُ بأن الجزئية قد ابتلعها الكلي الذي
هو الوجود الخالص، وأن الوعي التجريبي الجزئي مضافًا إليه كل الجزئيات في الطبيعة والعالم
المتناهي هي كلُّها عدمٌ أمام هذا الكلي».
٤٦ وهكذا بات الانفصالُ فيهما بين العقل الكلي، وهو الله، وبين العقل الجزئي، وهو
الإنسان، انفصالًا ظاهريًّا هشًّا، أو أنه لا يوجد البتة أدنى انفصال؛ حيث ابتلع «الله»
في
جوفه كلَّ «الجزئيات المتناهية»، فاستحال الوجود وحدة لا انفصال فيها.
٤٧ ولا شك في «أن الفكرة المتطورة للدين تفترض — سلفًا بالضرورة — أن الفصل بين
العقل الكلي — وهو الله — وبين العقل الجزئي — وهو الإنسان — قائم بالفعل ويشعر به الوعي».
٤٨ وما النبوة — بل والدين عامة — إلا محاولةٌ لتجاوُز هذا الانفصال
٤٩ بين الله والإنسان وقهره. ومن هنا، فإنَّ أيَّ دين يتجاهل هذا الانفصال ويُذيبه
في ثنايا وحدة كونية تفنَى فيها الجزئيات المتناهية في جوف الكلي، لا مكان فيه للنبوة
أو
الوحي، أو أنهما يتحوَّلان — على الأقل — من الاتصال بكائنٍ مفارقٍ إلى الكشف عمَّا هو
كامنٌ في الإنسان الذي لا ينفصل عن الله.
وهكذا، فإنَّ الوحيَ في الديانة الهندية «لا يُنظَر إليه بوصفه حادثةً تحدث في لحظة
تاريخية معينة، يُعلن فيها الإله عن نفسه لشخص محدد، بل هو وحيٌ لا زماني
(
Timeless)، لا يختصُّ فقط أشخاصًا بعينهم في التاريخ؛
حيث إنه كشف لما هو كامنٌ في الإنسان».
٥٠ ومن هنا، كان «بوذا» نبيًّا، لا بمعنى أنه تلقَّى وحيًا خاصًّا من كائن مفارق،
بل بمعنى أنه بلغ طَور الاستنارة الكاملة بعد تأملات في الوجود اختلى فيها بذاته، «فلفظة
«البوذا» تعني فقط المستنير (
Enlightened one)»،
٥١ ذلك الذي أنارَت ذاتَه معرفةٌ اكتسبها من تأملاته، وليس وحيًا تلقَّاه من إله
خاص.
وثمة أيضًا نوعٌ من الارتباط بين غياب «الوحي والنبوة» بمعناها التقليدي من الدين
الهندي من ناحية، وبين طبيعة هذا الدين نفسه من ناحية أخرى؛ إذ «الدين — تَبعًا للمفهوم
الهندي — هو العودة بالإنسان إلى أصل الوجود الذي هو الروح».
٥٢ و«الروح أو «الله» هنا هو الجوهر غير المتعين، المجرد الذي يخلو من المضمون،
الفارغ الخاوي … ومن ثَم فمهمَّة الإنسان — حتى يتحد مع الله — في الديانة الهندوسية
هي أن
يُفرغ نفسه من كل مضمون لكي يكون فارغًا تمامًا مثل الله … «وذلك لأن» الطابع الجوهري
للعبادة في أي دين يقابل تصوُّرَ هذا الدين لله».
٥٣ وإذن، فإنَّ على الإنسان إعدامَ نفسه على الدوام — أو بتعبير أفلاطون «ممارسة
الموت» — حتى يبلغ مرحلة الوحدة مع الله. وليس من شك في أن المرء لن يُحقق ذلك من خلال
الوحي، بل «عبر تجربة وجودية خاصة».
٥٤ فإن الدين الهندي، ليس دينَ «مفارقة وتعالٍ»، بل دين «مباطنة ومحايثة»؛ وذلك
لكون الله جوهرًا «مباطنًا»، لا «مفارقًا». ولهذا، فإن أيَّ حركة تبغي الاتصال بالله،
إنما
يُبلورها «التأمل في الداخل» وليس «التلقي من الخارج».
٥٥ إذ لم يَعُد الدين — تبعًا لذلك — إيمانًا بحقائق خاصة تلقَّاها الإنسان بوحيٍ
من مصدر، مفارق، بل أصبح كشفًا ذاتيًّا تُؤكده تجربةٌ خاصة، تؤدي بصاحبها إلى الالتحام
بأصل
الوجود. ومن هنا كان الدين الهندي في غير حاجة إلى الوحي أو النبوة بمعناهما التقليدي.
وذلك
ما أكَّدَت عليه كلُّ الكتابات الكلامية الإسلامية التي ألزمَت البراهمةَ إنكارَ النبوات،
وأفاضَت في عرض آرائهم والرد عليها، وإن كان قد غاب عن فطنة الأقدمين ردُّ هذا الإنكار
البرهمي للنبوة إلى الطبيعة الخاصة للدين الهندي الذي تبلور بدءًا من مفهوم للألوهية
صاغَته
ظروفٌ خاصة.
٥٦
وأما الصيني، فقد عزف عن أن يسلكَ سبيلَ السماء، راضيًا بالانكفاء على الأرض، قانعًا
بما قاله أحدُ أسلافه الحكماء من أن «طريق السماء طويل، في حين أن طريق الإنسان قريب
المنال؛ «لذا» لن يُمكنَنا بلوغ السماء؛ إذ لا سبيل إليها».
٥٧ وإذن، فإن «الفلسفات «والأديان» التي تعاقبَت على الصينيِّين، وأسهمَت في تشكيل
بنائهم النفسي والذهني ظلَّت واقفةً على الأرض بصورة دائمة».
٥٨ وهكذا أصبح مفهومَا «الإنسان والطبيعة» هما «المحور» الذي تبلور حوله الوعيُ
الصيني، «حتى بات على غير استعداد أن يتقبَّل أو يستوعبَ فكرةَ أن تكونَ هناك قوًى أخرى
غير
الإنسان أو شيء وراء الطبيعة»،
٥٩ أو أنه تقبَّل ذلك واستوعبه شرطَ أن يكون «الله هو الوجود الفارغ الذي لا مضمون له».
٦٠ وسواء تقبَّل الوعيَ الصيني «الله» — بوصفه وجودًا فارغًا — أو لم يتقبَّلْه
بالمرة، فإنَّ افتقاد هذا الوعي لمفهوم متطور عن إله متعالٍ يُدرك البشر بعنايته، قد
أدَّى
إلى غياب «أدب النبوة» بوصفه ضربًا من الاتصال المقصود بين الله والبشر، وحلَّ محلَّه
الاقتصارُ على صياغة مجموعة من الحِكَم والمواعظ الأخلاقية بهدف الحصول على السلام الشخصي
للفرد على هذه الأرض التي ارتبط بها الصينيُّ أشد الارتباط. ولم يدَّعِ الحكماء أبدًا،
أنهم
تلقَّوا هذه المواعظ من إله، بل «إنهم فصَّلوا الأخلاقيات عمَّا وراء الطبيعة، إلى الحد
الذي أشار معه «ماكس فيبر» إلى أن الكونفوشيوسية كانت نزعةً عقلية إلى حدٍّ بعيد، حتى
إنها
تقف عند الحد الأقصى لما يمكن أن يدعوه الفرد الأخلاق الدينية».
٦١ وهكذا، فإنه «بالرغم من رغبة الحكماء الصينيِّين في إصلاح الإنسان، والتطلُّع
إلى عالمٍ تسوده روحُ الصلاح والاستقامة، شأنهم في ذلك شأن الأنبياء العبرانيِّين، فإنه
من
غير الممكن وصْفُ هؤلاء الحكماء بأنهم أنبياء ينقلون ما ألهمهم به الله إلى البشر»؛
٦٢ إذ يخلو التراث الصيني تمامًا من أي محاولة للاتصال بالسماء، حتى إن «كونفوشيوس
قد رفض، فيما يذكر أحدُ طلابه، أن يناقش «طريق السماء».»
٦٣
وعلى ذلك يمكن القطع بأنه «لا يوجد أيُّ أثر لتجربةٍ ادَّعى فيها حكيمٌ صينيٌّ أنه
سَمِع صوتَ الإله يدعوه إلى أداء مهمة محددة».
٦٤ ومع ذلك، فقد ورد في أحد المؤلفات الصينية القديمة حديثٌ عن طُرُق للتنبؤ
والعرافة، منها التنبؤ بأوراق نبات العرافة وصدفة السلحفاة.
٦٥ ولعلنا نلحظ من مجرد التسمية أن هذه النبوءات لا تعني توجيهًا إلهيًّا لوضعٍ
بشريٍّ، حيث تفتقد إلى البُعد المفارق، وهي لا تعدو كونها طريقةً في معرفة حظوظ البشر،
انبثقَت من حياةٍ لم تعرف غيرَ الانكفاء على الطبيعة، نباتًا كانت أم حيوانًا.
رابعًا: النبوة عند الإغريق
كغيرهم من الشعوب القديمة، نظرَ الإغريق إلى التنبُّؤ والعرافة بتقدير عظيم، حتى
«إن
أفلاطون قد سمح «لبيثيا» — عرَّافة معبد دلفي — أن تؤديَ وظيفتها في جمهوريته المثالية.»
٦٦ «فإنها — أي عرافة معبد دلفي — وكاهنات معبد دودونا، قد أتَيْن «للإغريق»
خيراتٍ لا حصرَ لها بفضل ما أُصبْنَ به من هوس، ومن هذه الخيرات ما يتعلق بالأمور الخاصة،
ومنها ما يتعلق بالصالح العام».
٦٧ فهم (أي الإغريق) «لم يقوموا بهجرة إلى أيونيا أو آسيا أو صقلية قبل أن
يستشيروا الكاهنة «بيثيا» أو يتلقَّوا الوحي من دودونا … وكذلك لم يخوضوا أيَّ حرب قبل
التماس نصيحة الآلهة أولًا».
٦٨ ومن ناحية أخرى، «كان أهل أثينا لا يعقدون اجتماعًا عامًّا إلا إذا حضره أهلُ
التنبؤ … كما خصص الإسبرطيون رجلًا من أهل العيافة ليتولَّى نصْحَ الملوك».
٦٩ وهكذا تحكَّمَت الآلهةُ في حياة الإغريق الذين «كانت الخطوة الطبيعية التي
يقومون بها، عندما يسعَون وراء كلمة الإله في أمر ما، هي التحري عن الأمر من نبي
(
Prophet)، وليس استشارة كتاب».
٧٠ وبالرغم من أن ذلك يمثِّل، من ناحية، طابعًا عامًّا للوجود البشري، فإنه يعكس
من ناحية أخرى، إحساسًا بالنقص العقلي، «فقد كانت الأمم القديمة في حاجة إلى استشارة
الآلهة
لأنها كانت في حالة من الضعف العقلي والاجتماعي لا تتمكَّن معها من الاعتماد على نفسها
في شيء».
٧١ يؤكد ذلك أن تطور العقل الإغريقي واتجاهه نحو الكمال الفلسفي، قد تحوَّل
بالنظرة الإغريقية للنبوءة من الإذعان إلى الرفض النسبي أو النقدي.
«فالنبي
ΠeoφyTys، بوصفه مفسِّرًا لإرادة الإله، يظهر
لأول مرة عند هومر (
Homer) متمثلًا في صورة بدائية بسيطة،
فعندما دعا «آخيل» (
Achilles) الإغريقَ جميعًا — في الكتاب
الأول من الإلياذة — سائلًا إياهم عن سبب غضب الإله أبوللو، الذي تبدَّى في انتشار وباء
الطاعون، ومقترِحًا عليهم أن «يتحرَّوا كاهنًا مقدسًا، أو نبيًّا، أو حتى حالم أحلام.
لأن
الحلم أيضًا يأتي من زيوس»، فإن النبيَّ «كالكاس» (
Calchas)
الذي يُوصَف بأنه أفضل العرَّافين؛ لأنه يعرف ما حدث وما سيحدث بواسطة هبة النبوءة
(
Prophecy) التي وهبَه أبوللو إياها هو الذي أجاب عن سؤاله».
٧٢ فبدا وكأن مصير المدينة قد ارتبط بنبوءة من فم نبي. والحق أن النبوءة قد ارتبطت
عند الإغريق دائمًا بأزمة تُجابه المصير البشري
٧٣ في مستواه الفردي أو الجماعي. وبالرغم من أن «سوفوكليس» قد أظهر ذلك تمامًا في
«أوديب ملكًا»، إلا أن متغيرًا هامًّا، يعكس التحول في النظرة الإغريقية إلى النبوءة،
تنطوي
عليه هذه الدراما؛ إذ بدا عنده أن أزمات المصير يمكن مجابهتُها، لا من خلال النبوءات
فقط،
بل من خلال الجهد العقلي للإنسان أيضًا. فإن تيريسياس الضرير «ذلك الأمير الذي يرى الغيب
كما يراه أبوللو»،
٧٤ يزعم في ثقة مفرطة أنه يحتفظ بالحقيقة القوية،
٧٥ ويبدو أنه كان متصلبًا في معتقده هذا، فاندفع أوديب يتناوله بالنقد المر،
قائلًا: «كيف كان ذلك، ولماذا لم تتفوَّه حين كانت الكلبة
٧٦ تُلقي أشعارها؟ مع أن تفسير اللغز لم يكن من شأنِ أيِّ وافد إلى المدينة، وإنما
كان خليقًا بكهانة الكاهن، ولكن اتَّضح أن الطير لا يعلمك وأن الآلهة لا تُلهمك شيئًا،
أما
أنا، أوديب، الذي لم أعلم شيئًا فجئت وأُسكت هذا الحيوان بحكمتي، لا بعلم الطير».
٧٧ وهكذا يبدو، للمرة الأولى، أن ثمة سبيلًا آخر لمجابهة المخاطر، غير النبوءة، هو
الحكمة الإنسانية. ويبلغ «درب الحكمة» أقصاه حين نُصغي إلى القول: «من أجل ذلك لن أكترث
في
المستقبل بأي نبوءة تأتي من هنا أو من هناك».
٧٨ وطبقًا لأفلاطون، «فإن عدم الاكتراث بالنبوءات لا يتحقق إلا ببلوغ الإنسان تمام
قواه العقلية».
٧٩ وذلك يُحمل على الزعم بأن «دراما سوفوكليس» تكشف عن اتجاه عام للعقل الإغريقي
نحو الاكتمال.
٨٠ والحق أن ذلك صحيح إلى حدٍّ كبير؛ إذ ينعَى «نيتشه» على الفكر الإغريقي تحوُّله
في ذات الفترة تقريبًا عن ينابيعه الصوفية والمأساوية إلى عقلانية جافة ومذهبية مشوهة.
٨١ والواقع أن موقف الحضارة الإغريقية من النبوءة — كما تكشف عنه الأدبيات
الإغريقية من هومر إلى سوفوكليس — لَيصلح موقفًا عامًّا تطور على غراره الحضارات مواقفها
من
المعارف ذات المصدر غير الإنساني (أي النبوات).
٨٢
لاح، إذن، أن النبوءة، من حيث هي ظاهرة عامة، تُظهر ضربًا من ضروب المجابهة والتقابل
مع
النسق العقلاني الإغريقي، ويبدو أيضًا أن النسق النبوئي
(
Prophetic) الإغريقي ذاته، قد تمخَّض عن تقابل مُوازٍ
للتقابل الآنف، وإن كان في خطٍّ معاكس.
٨٣ إذ «يمكن التمييز بين نمطين للنبوءة عند الإغريق؛ الأول: هو النمط العلمي أو
المتعقلن (
Some) للنبوءة، وفيه يقوم العرَّاف أو المتنبئ
بتأويل العلامات والإشارات طبقًا لمبادئ ثابتة يقوم عليها التأويل، ويبقى المتنبئ — في
إطار
هذا النمط — إنسانًا مسيطرًا على نفسه (
Self-Possessed)
تمامًا (أي غير خاضع لتأثير قوة ما)، فهو يدَّعي لنفسه القدرة على قراءة ما تقوله الآلهة،
بسبب ما تعلمه فقط. والثاني: هو النمط الجذبي (
ecstatic)،
والحدسي (
intuitive) والحماسي
(
enthusiastic)، أو غير المتعقلن
(
insom) للنبوءة. وخيرُ مثال لذلك النمط هو النبي الذي
سيطر عليه الإله تمامًا، بحيث يتحول في حالة جذبه أو مسه إلى فم يتحدث من خلاله الإله
نفسه».
٨٤ وقد اتَّسق هذا التمييز مع التطور الدلالي للفظة
ΠeoφyTys — النبي — الإغريقية، التي لم تكن تُشير، بحسب
النشأة، إلى التكهن والتنبؤ الغامض، بل إلى نوع من القراءة الواعية للمستقبل من خلال
تأويل
إشارات معينة طبقًا لقواعد خاصة. ولكن ظروفًا خاصة جعلت من اليسير تطور الفكرة القائلة
بأن
الجذب والوجد الصوفي يعدَّان من العناصر الضرورية في النبوءة.
٨٥ ويبدو أنه يتعذر تفسيرُ الارتباط بين أحد أنماط النبوءة الإغريقية (النمط غير
المتعقلن) من جهة، وبين سائر المظاهر الانفعالية كالوجد الصوفي والجذب بل والجنون من
جهة أخرى
٨٦ ذلك الذي دفع أفلاطون إلى القول: «إن القدماء قد اشتقوا من اسم الهوس اسمًا
لأجمل الفنون وهو فن التنبؤ بالغيب أو النبوءة»
٨٧ إلا بإظهار ارتباط تقاليد النبوءة عند الإغريق بجذورها في الحضارات الشرقية
القديمة، خاصة إذا أدركنا «أن العبرانيِّين كانوا يسمون الأنبياء، أحيانًا، بالمجانين
المجذوبين».
٨٨ والحق أنه لا غبار أبدًا على هذا التواصل الإغريقي بحضارات الشرق القديم، «فإن
من العبث أن ننسبَ للإغريق ثقافة أصيلة، إنهم بالعكس، هضموا الثقافة الحية لشعوب أخرى،
وإذا
ما استطاعوا أن يُوغلوا في البُعد إلى هذا الحد؛ فذلك لأنهم عرفوا أن يلتقطوا الرمح من
حيث
تركه شعبٌ آخر، لكي يُلقوا به إلى أبعد».
٨٩
آلهة التنبؤ عند الإغريق: تميَّز الإغريق عن غيرهم من
الشعوب القديمة بالحديث عن آلهة خاصة بالتنبؤ.
٩٠ وقد كان «زيوس وأبوللو» هما إلهَا الوحي والنبوءة عندهم. أما زيوس،
٩١ فقد «تفرَّد بالوحي والإنباء بالغيب بعد أن قهر أباه كرونوس «الزمان».»
٩٢ وبذا تحدَّدت النبوءة، بادئ ذي بدء، بأنها قهر الزمان وكسر التناهي: متلائمة في
ذلك مع الروح الإغريقي. إذ يبدو أن «قهر الزمان» كان مطلبًا إغريقيًّا مُلحًّا؛
٩٣ لأن نظرتهم إليه «للزمان» اتسمت بقدر كبير من العداء والجفوة، فهو يعدُّ عدوًّا
للبشر؛ لأنه تدهور وانحدار؛ ولذا «فإنه «يبخس قيمة العالم» كما قال هوراس، الذي عبَّر
بذلك
عن ميل إغريقي إلى نسبة المثالية إلى الثبات واعتباره أسمى قيمة من التغير».
٩٤ ومن هنا انبثق الوحي والنبوءة، بوصفهما قهرًا لزمان تُصوره الإغريق منهارًا.
٩٥ فبدا وكأنهما «الوحي والنبوءة» يعدان، عند الإغريق، قهرًا للانهيار ذاته. والحق
أن ذلك فهمٌ جد رفيع، ولا يقلل من شأنه إلا أن الإغريق قد وضعوا «الانهيار» حيث كان يجب
وضع
«التقدم»، فبدا وكأن الوحي والنبوءة بمثابة قهر للتقدم، وهو أمر لا يمكن قبوله بحال.
وبالرغم من أن النبوءة عند الإغريق، قد انبثقت بوصفها «قهرًا» لزمان منهار، فإنها
لا
تعني نفيَ هذا الزمان وإلغاءَه بقدر ما تعني تأكيدَه وإثباتَه … فإنها، وإن قامت لنفي
الزمان المنهار وقهره، تفقد وجودها نفسه في غياب هذا الزمان. فهي بمثابة لحظة «السلب»
لهذا
الزمان، وهي لحظة تستحيل، حتى منطقيًّا، دون افتراض لحظة «إيجاب» تسبقها. وهكذا فإن النبوءة
أو «لحظة السلب» تستحيل تمامًا في غياب الزمان المنهار، أو «لحظة الإيجاب» … ويبدو أن
ثمة
ما يؤكد ذلك على مستوى الميثولوجيا الإغريقية، فإن كرونوس — الذي انبثقَت النبوءة، كالطائر
الخرافي، من رماده — لم يكن مجردَ إلهٍ مات؛ إذ كان يمثِّل مرحلة تاريخية و«عصرًا اقترن
في
الذهن الإغريقي بالعصر الذهبي للبشر»
٩٦ الذي لم يكن فيه شرٌّ ولا فساد ولا حروب، بل كان فترةً زاهية من فترات تاريخ
العالم تعيش فيها الآلهة مع البشر في وئام ومحبة. وبالمثل لم يكن زيوس مجردَ إله تفرَّد
بالوحي والنبوءة، بل كان يمثل، أيضًا، عصرًا اعتبره الإغريق عصر شقاء للبشر، حيث «تخضبت
فيه
الأرض بالدماء، فهجرتها الآلهة، واحدًا إثر الآخر»
٩٧ أي إنه يعد، ببساطة، عصر تدهور وانهيار بالنسبة للعصر الذي سبقه. وانتقالًا من
كون زيوس وكرونوس «إلهين» إلى كونهما «مرحلتين أو عصرين»، يتأكد أن النبوءة قد انبعثَت
من
رماد «عصر أو زمان سعيد» لتولد من أحشاء «عصر أو زمان منهار» لولاه ما كانت أبدًا. وهكذا
خرجت النبوءة (النبوة) من قلب «زمان منهار» تحاول أبدًا تجاوزَه وقهرَه، وذاك شاهد على
جدليتها الخلَّاقة.
ولعلَّ أهم ما يميِّز عصر «زيوس» — الذي خرجت منه النبوءة — أنه عصر الانفصال بين
الإله
والإنسان، وفي المقابل تميَّز عصر «كرونوس» — الذي لم يعرف النبوءة أبدًا — بأنه عصر
الوحدة
بين الإله والإنسان، فإذا كان زيوس «الإله والعصر» لم يتفرَّد بالوحي والنبوءة إلا بعد
قهر
كرونوس «الإله والعصر» أيضًا، فإن ذلك يعني أن الوحي والنبوءة قد انبثقا من ذلك الانفصال
المرِّ بين الإله والإنسان بقصد تجاوزه.
٩٨ ولذا فإن إنكار الانفصال بين الإله والإنسان يؤدي إلى غياب الوحي والنبوءة
بمعناهما التقليدي بصورة مطلقة،
٩٩ والحقُّ أنَّ الوحيَ والنبوءة — بوصفهما محاولة لتجاوز الانفصال
الإلهي-الإنساني الذي حدث في لحظة معينة من الزمان — يكشفان عن حنين الإنسان إلى خبرته
الماضية، حيث البراءة والعيش مع الله. ولكن الإنسان، وخاصة في أزمنة البؤس، يتجاوز الإحساس
«بالحنين» إلى محاولة «استعادة» هذه الخبرة الماضية في حياته، وإذ تتعذر هذه الاستعادة
فعليًّا، فإنها تتحقق عبر الفكر، بحيث تُصبح أفكارًا ورُؤَى تتراءَى في رأس بشرية قلقة.
١٠٠
وإذا كان زيوس قد وضعنا في مواجهة التصوُّر العام للنبوءة، بوصفها قهرًا للانهيار
وانبثاقًا عنه في ذات الوقت، فإن «أبوللو» — ثاني آلهة التنبؤ عند الإغريق — قادر على
الاقتراب بنا من التصور الإغريقي للنبوءة؛ لأنه — كما قيل عنه بحق — «أقرب الآلهة إلى
الروح اليونانية»،
١٠١ وهو قول له دلالته ومغزاه.
وقد تمثَّل دور أبوللو فيما قاله هو نفسه: «سوف أُعلن للناس في نبوءاتي مشيئة زيوس
التي
لا محيص عنها، ولا رادَّ لها»،
١٠٢ حيث كان معبد دلفي — أشهر معابد التنبؤ الإغريقية — هو مكان الكشف عن نبوءاته،
«إذ لم يكن التقرب من الآلهة، بشكل مباشر، أمرًا ممكنًا، بل يتعين على المرء أن يمضيَ
إلى
أحد مراكز النبوءة — وأفضلها دلفي — سائلًا أبوللو أن يدلَّه على مشيئة الآلهة في أمر
ما»،
١٠٣ وحينئذٍ لم يكن أبوللو يُعلن نبوءته في كلمات صريحة، بل في تلميحات وألغاز
١٠٤ «تنطق بها كاهنة معبده «بيثيا» في حالة الهذيان، بعد أن تتقمصها روح الإله».
١٠٥ ولهذا «اتَّجه الترويج الدلفي (
Delphic
propaganda) إلى تقديم أبولُّو على أنه الناصح والملهم في كل أسطورة
تتضمن شيئًا عن نبي أو نبوءة».
١٠٦ وكيف لا … وهو الناطق بلسان آلهة الأوليمب جميعًا إلى البشر!
واللافت أن أبوللو لم يكن إلهًا للنبوءة فقط، بل كان إلهًا «للموسيقى والطب والشعر
والرماية»،
١٠٧ ولعل جوهرًا واحدًا يجمع بين وظائف هذا الإله هو الانسجام والتناغم
(
Harmony)، فما الطب والموسيقى والشعر إلا تحقيقٌ
للانسجام والتناغم في ميدان معين. وهكذا يكون أبوللو — من حيث هو يختص بهذه الوظائف —
هو
إله الانسجام والتناغم؛ ولهذا قيل عنه — فيما يبدو — إنه «الأقرب إلى الروح اليونانية»،
التي تميل بطبيعتها إلى البحث عن التناسق والتناغم في الكون أو المجتمع أو النفس.
١٠٨ ويبدو أن النبوءة — من حيث كونها إحدى هبات إله «للانسجام والتناغم» — تكشف
بدورها عن هذا التناغم والانسجام، فكثيرًا ما جاءت النبوءات مرتبطة بأزمة في المصير تُواجه
فردًا أو مدينة بأكملها، وما كان الانسجام يعود إلى هذا أو تلك إلا من خلال نبوءة من
إله.
فالطاعون الذي يحاصر، مثلًا، مدينة لن يرتفع إلا بنبوءة تُعيد إليه الانسجام. وقد تكون
النبوءة — من ناحية أخرى — محاولة لبثِّ الانسجام بين زمان منهار (واجهه الإغريق بجفوة)،
وبين مثال ثابت (نسبوا إليه القيمة الأسمى). وأخيرًا، قد تكون النبوءة — بوصفها ضربًا
من
ضروب الاستباق الزماني — محاولة من الإنسان لتصور المستقبل؛ رغبةً في تحقيق التوازن بين
عناصر الزمان الثلاثة … وهكذا تكون النبوة محاولة لتحقيق الانسجام في عالم الإنسان.
خامسًا: النبوة والكهانة عند العرب قبل الإسلام
بالرغم من أن تراث العرب السابق على الإسلام قد خلا تمامًا من أيِّ أثر للفكر النظري
الخالص، فإنه يمكن — بدءًا من «روايات الإخباريين»، واعتمادًا على القول بأنه لا يوجد
شعب
لا يفكر، وإن تباينت طرق التفكير
١٠٩ — بلورة نسق نظري متكامل يلمُّ شتات ظاهرة النبوة والكهانة عند العرب قبل
الإسلام. (وأعني بالنسق، هنا، القدرة على تفسير أكبر قدر من الأفكار «بلحمها» في مركب
تبدو
دونه منعزلة وعصية على التفسير). ويبدو — بادئ ذي بدء — أن «المركب» الذي يمكن بلورته
حول
النبوة والكهانة عند العرب، يُعد جزءًا من «النسق الميثولوجي» الذي ألمحنا إلى أن النبوءات
تتَّخذ فيه مسارًا لحركتها يتجه من «الأسفل إلى الأعلى». أو من «إنسان» يبادر بنفسه إلى
الاتصال «بإله» طالبًا عونه وعلمه الفريد بالأحداث. وبالرغم من أن هذه القدرة على الاتصال
بالآلهة (بمبادرة إنسانية خالصة)، كانت مخصوصة «ببعض الناس من ذوي المواهب … وهؤلاء هم
الكهَّان، وهم المتنبئون بالغيب الذين كانت القبيلة تلجأ إليهم لاستشارتهم في كل أمر
عظيم،
وللتنبؤ لها عمَّا ستفعله في المستقبل (وهذه هي الكهانة الحقيقية)، وإما للتفرُّس في
الأمور
أو الأشياء لاستخلاص الأسرار منها أو لمعرفة مكان الأشياء الضائعة مثلًا (وهذه هي العرافة)».
١١٠ فإن الأمر المؤكد، على أي حال، هو أن نبوءات العرب قبل الإسلام، تمثِّل في
الغالب، «ردًّا من الإله» على سؤال «بادره به الإنسان»، أعني أنها تكشف عن «مبادرة إنسانية
خالصة». وهذا ما تؤكده، بوضوح، الطرق المستخدمة للتنبؤ في هذه النبوءات، فإنها جميعًا،
كالاستقسام بالأزلام والزجر، تمثِّل جهدًا إنسانيًّا خالصًا للتعرف على مقاصد الإله وإرادته
في أمر من الأمور. فالاستقسام بالأزلام — وهي طريقة في التنبؤ أفرزها الطابع التجاري
للحياة
العربية آنئذٍ
١١١ — تعتمد، أساسًا على «الكاهن الذي يحمل الأزلام، وهي عبارة عن أسهم يُكتب عليها
عبارات يُفهم منها جمل من نوع الجمل التي لها علاقة بفعل أو بنهي عن فعل، فإذا جاء أحد
يريد
الاستقسام (أي التعرف على إرادة الآلهة في أمر ما)، أجال الكاهن الأزلام، فما يخرج يُعمل
به».
١١٢ أما (الزجر) — الذي يكشف بدوره عن جانب آخر للحياة العربية
١١٣ — فإنه يتمثل في «رمي الطيور بالحصاة، ثم يصيح الرامي ليُفزعَها ويزجرَها،
وعندئذٍ يراقب حركة طيرانها، فإن تيامنت تفاءل بها، وإن تشاءمت (أي تياسرت) تشاءم بها».
١١٤ ومع أن ثمة مَن يرى في الزجر عملًا يتجاوز مجرد «التفاؤل والتشاؤم»، إلى كونه
عملًا «يحدث من بعض الناس من التكلم بالغيب عند سنوح طائر أو حيوان، والفكر فيه بعد مغيبه،
وهي قوة في النفس تبعث على الحرص والفكر فيما زجر فيه من مرئي أو مسموع. وتكون قوته المخيلة
قوية فيبعثها في البحث مستعينًا بما رآه أو سمعه فيؤديه ذلك إلى إدراك ما».
١١٥ فالزجر، هنا، يقترب من النبوة، وذلك من حيث هو يرتبط بقوة المخيلة التي وجد
فيها الفلاسفة المسلمون مصدرًا للنبوة، إلا أنه (الزجر) يظل، مع ذلك، انعكاسًا لجهد إنساني
خالص. وهكذا يبدو أن «فعالية الإنسان» هي البنية الجوهرية التي تبلورت حولها طرق التنبؤ
عند
العرب، ممَّا يؤكد أن نبوءات عرب ما قبل الإسلام تنتمي إلى نبوءات «النسق الميثولوجي»،
الذي
تتأسَّس فيه النبوءة على «مبادرة إنسانية خالصة» يكون «الرد الإلهي» جوابًا مباشرًا عليها.
ولذا، كان ضروريًّا أن تتناقض «نبوة الإسلام» مع نبوءات ذلك «النسق الميثولوجي». إذ تنتمي
«نبوة الإسلام» إلى ما أسميناه بنبوات «النسق الديني» الذي تتَّخذ فيه النبوة مسارًا
لحركتها يتَّجه — على عكس «النسق الميثولوجي» — من الأعلى (الله) إلى الأسفل (الإنسان)،
أو
بعبارة أخرى، تتأسس فيه النبوات على «مبادرة إلهية خالصة» دون طلب مباشر من الإنسان.
ولهذا
رفض الإسلام أيَّ محاولة للتنبؤ تقوم على «مبادرة إنسانية»، فأصبح «الاستقسام بالأزلام»،
رجسًا من عمل الشيطان، كما غدت «الطيرة» — التشاؤم — شركًا، كما قال الرسول. وبالرغم
من أن
الإسلام يناقض، بذلك، «نبوءات النسق الميثولوجي» مناقضةً جذرية؛ حيث انقلب مسار النبوة
تمامًا، إلا أن «التاريخ» يأبى القول، مع ذلك، بالقطيعة المطلقة بين نبوته وبين النبوءات
الميثولوجية. فقد أظهرت هذه النبوءات الميثولوجية — كما أوردها الإخباريون — ارتباطًا
وثيقًا بنبوة الإسلام، لأن النبي محمد
ﷺ يبدو وكأنه مركزُ هذه النبوءات ومحورها.
١١٦ فإنه ما من نبوءة، من هذه النبوءات الميثولوجية، إلا بشرت به نبيًّا،
١١٧ أو ربطت نفسها على الأقل بمرحلة من حياته.
١١٨ بل إنه إذا حدث ولم تحمل النبوءة من تلك النبوءات إشارة إلى النبي محمد
ﷺ، فإن النبي نفسه كان يُشير إليها مقررًا لها،
١١٩ ومدركًا، فيما يبدو، لقيمة التواصل التاريخي، حتى في دائرة النبوات.
سادسًا: النبوءات البدائية
إذا كانت النبوءة تكشف، حقًّا، عن بناء عام للوجود الإنساني، فإنَّ ذلك ينفي تمامًا
اختصاصَها بحضارة دون غيرها، بحيث يمكن الحديث عن «نبوءات بدائية». وذلك بالرغم من أن
البدائي لم يعرف «النبوءات» حقًّا، إلا بعد أن غدا «اتصاله الشخصي» بالآلهة متعذرًا.
١٢٠ «فقد سعت الجماعات البدائية — بعد أن استحال الاتصال الشخصي بالآلهة — إلى
التعرف على المستقبل، من خلال «نبوءات» يحملها عضوٌ من الجماعة، يعتقدون أن الآلهة قد
أصابته بالمس»،
١٢١ وهكذا نشأت «النبوءات البدائية»، وهي تنتمي، بلا شك، إلى نسق النبوءات
الميثولوجي؛ لأنها — بحسب نشأتها — تمثِّل ملاحقة من «الإنسان» «لإله» تركه وحيدًا وصَعِد
إلى السماء. ولأن الإنسان لم يقوَ على مواجهة العالم وحيدًا، فقد اتسمت هذه النبوءات
بأهمية
بالغة، إلى حدِّ أن بعض القبائل البدائية قد جعلت من التماس «نبوءات الآلهة» شيئًا أشبه
بطقس العماد، لا ينتسب دونه الفرد إلى القبيلة. إذ لم تكن قبائل الهنود الحمر تسمح بانتساب
الصبي إليها إلا بعد أن يخوض طقسًا أوليًّا يتمثل في التماس الرؤيا والنبوءة، «فقد كان
على
الصبي، فيما بين التاسعة والعاشرة، أن يحيا في الغابة منعزلًا بعض الوقت دون ماء أو طعام،
إلى أن يتلقَّى الرؤيا أو النبوءة بعد يومين أو ثلاثة من الصوم والصلاة. وعندما تأتي
الرؤيا
في النهاية، يعود الصبي إلى القبيلة، وقد أصبح عضوًا كاملًا فيها».
١٢٢ وقد ارتبط ذلك فيما يبدو، بقدرة المتنبِّئين على «صياغة أقدار أممهم وقبائلهم
في مناسبات عديدة»،
١٢٣ حيث ارتبطَت نبوءاتهم بالأحداث الحاسمة التي تُواجه القبيلة. ويبدو أن هذه
الثقة البدائية في النبوءات لم تتزعزع للآن؛ «فقد أشارت مصادر عدة إلى أن قدوم الرجل
الأبيض
إلى القارة الأمريكية، قد جُوبِهَ بالعديد من النبوءات، ولم يزل المتنبئون يظهرون، حتى
الوقت الحاضر، بين قبائل الهنود الحمر، وخصوصًا في أوقات الأزمات التي تُجابه القبائل».
١٢٤
من نبوءات «النسق الميثولوجي» إلى نبوءات «النسق الديني»
تنتمي كل النبوءات، السابق الحديث عنها، إلى «نسق النبوءات الميثولوجي»، أعني أنها
جميعًا تمت «بمبادرة إنسانية خالصة»، أو أنها مثَّلت «ردًّا إلهيًّا» على «سؤال إنساني»،
فقد كان «المسار» الذي تتحرك فيه كلُّ النبوءات الميثولوجية يبدأ من «الأسفل إلى الأعلى»
أو من «الإنسان إلى الإله»، وكان ذلك، بلا شك، انعكاسًا لبنية تصورية أعمق، وجد فيها
البدائي تفسيرًا لوضعه في العالم.
١٢٥ والحق أن النبوءات الميثولوجية تُعدُّ — من حيث هي انعكاس لبنية تصورية أعمق
— صورًا للوعي الإنساني في مرحلة من مراحل تطوره. ولذا، فإن «بناء الوعي» بل «وبناء
الواقع»
١٢٦ — الذي يمكن أن يُعدَّ صورة له — قد تركَا تأثيرًا حاسمًا على أنماط التنبؤ
السائدة في النبوءات الميثولوجية، بحيث يمكن التمييز داخل «النسق الميثولوجي» بين نمطَين
أساسيَّين للنبوءة، يعكس كلٌّ منهما بناءً معينًا للوعي والواقع، أحدهما «النمط الطبيعي»
والآخر «النمط الذاتي».
-
(أ) النمط الطبيعي: التصقت نبوءات هذا النمط «بالطبيعة» التصاقًا تامًّا، بحيث كانت إرادة الإله
تكشف عن نفسها في نبوءات هذا النمط من خلال موجودات الطبيعة؛ أعني «من خلال أحشاء
الأضاحي المرتبة على المذبح الإلهي، أو حفيف الأوراق في السنديانة المقدسة (هكذا
كان زيوس يُعلن إرادته)، أو بملاحظة الإشارات والعلامات، كحركات الأشياء الملقاة
في عين ماء، أو حركات صورة الإله عندما تُحمل (وهي طريقة الكشف عن إرادة الإله في
مصر)، أو من خلال إجراء القرعة وضرب القداح، وكذلك من خلال ملاحظة الطيور المحلقة».١٢٧ واللافت أن السمة الجوهرية لكلِّ أنماط التنبؤ هذه، هي أنها اتجهت
جميعًا إلى الكشف عن إرادة الإله ووحيه من خلال أشياء قائمة في الطبيعة الخارجية
(حركات أشياء — أحشاء أضاحي — حفيف أشجار — تحليق طيور). إنه، ببساطة، عالم
البدائي كله، وقد انعكس في نبوءاته. وقد ارتبط ذلك النزوع الطبيعي ببناء الوعي
البشري آنذاك؛ إذ لم يكن الإنسان يميِّز نفسه عن الطبيعة، بل لعله أحسَّ نفسه في
هوية معها؛ ولهذا تبلور وعيُه في صورة طبيعية خالصة، بحيث لم يتمايز هذا الوعي عن
موضوعه، بل بات جزءًا منه. «فقد كان الإنسان البدائي يشير إلى عالم الظواهر
المحيط به، «بضمير المخاطب» «أنت» «ليؤكد توحُّده بالعالم الذي يبدو رفيقًا له»،
في حين يشير الإنسان الحديث إلى نفس العالم «بضمير الغائب» «هو» «وذلك ليؤكد
انفصاله عن العالم».»١٢٨ وهكذا تبلور وعيُ البدائي من وحدته مع الطبيعة، ولم يكن له — حتى وهو
بصدد الكشف عن إرادة الإله ووحيه — أن يتعالى بناء وعيه؛ ولذا انعكس بناء وعيه،
بكل طبيعته الفجَّة، على طرقه في التنبؤ بإرادة الإله؛ أعني أنه تعرف على إرادة
الإله حيث كان يقوم وعيه، في الطبيعة، ومن هنا ارتبطت كلُّ طرق التنبؤ في هذا
النمط بالطبيعة، لم تتمايز عنها.
-
(ب) النمط الذاتي: إذا كان «النمط الأول» قد تبلور في ظل إدراك إنساني بأن قدرًا من التمايز عن
الطبيعة لازمٌ للسيطرة عليها. «فالحق أن كون الوعي غير متمايز عن موضوعه، يعني
أنه ليس ثمة وعيٌ على الإطلاق؛ لأن الوعي سيكون عندئذٍ مجردَ جزء من أجزاء الكون.
«ولذا» يستلزم الوعيُ ضربًا من التعارض أو التمايز عن موضوعه … وقد تحقق هذا
التعارض أو التمايز، بانبثاق «الذات» بوصفها العامل الجوهري في المعرفة».١٢٩ وهكذا تحوَّل «الوعي» من «بناء طبيعي» إلى «بناء ذاتي».١٣٠ وقد ترك ذلك أثرًا حاسمًا على النبوءات، بحيث تبلورت نبوءات «النمط
الذاتي» بدءًا من هذا التحول؛ أعني أن انبثاق «الذاتية» في النبوءة قد توازى مع
انبثاق «الذاتية» في الوعي؛ فقد انتقل الإنسان من التعرف على إرادة الإله، من
خلال الأشياء القائمة في «الطبيعة»، إلى التعرف عليها في قلب «الذات» من خلال
الحلم والرؤيا،١٣١ «حيث كان الشخص، المختص بالنبوءة — في إطار هذا النمط الذاتي — يقوم
ببعض الطقوس الأولية، ثم ينام في المعبد طوال الليل، فيتلقى «الوحي» من خلال
الحلم والرؤيا».١٣٢ وهكذا استحالت النبوءات من «نمط طبيعي» إلى «نمط ذاتي»، والحقُّ أن
ذلك يتطابق مع مسيرة الوعي الإنساني الذي ينتقل من مرحلة الالتصاق والوحدة مع
الطبيعة إلى الانفصال والانقسام، حيث يميِّز نفسَه عن الطبيعة، ويدرك أنه «ذات»؛
«فحياة الروح في مرحلتها الطبيعية والغريزية، كانت ترتدي ثوب البراءة والبساطة
وسرعة التصديق، غير أن ماهية الروح ذاتها تعني امتصاص هذه الحالة المباشرة في شيء
أعلى. إنَّ ما هو روحي يتميَّز عمَّا هو طبيعي، كما أنه يتميَّز بصفة خاصة عمَّا
هو حيوان؛ فالحياة الروحية لا تتَّسم بأنها مجرى متصل محض من النزوع، وإنما هي
تنقسم على نفسها لكي تحقِّق ذاتها».١٣٣
وبالرغم من أن نبوءات «النمط الذاتي» قد حقَّقت قدرًا من التقدُّم الروحي،
يفوق ذلك الذي حققته نبوءات النمط الطبيعي،
١٣٤ وذلك إذ تبلورت في ظلِّ بناءٍ للوعي يقوم على تمايز «الذات» وتعاليها
على الطبيعة، إلا أن نبوءات النسق الميثولوجي بنوعَيها، قد انبثقت مع ذلك من وعي
لحمته «الطبيعة» وسداه. ولهذا اتَّخذ مسار هذه النبوءات شكلَ الصعود من «أسفل إلى
أعلى» أو «من الإنسان إلى الله»، حيث الإله هنا ليس سوى جزء من الطبيعة، أو هو،
في أفضل صورِه، صورة من الإنسان.
١٣٥ إنه، إذن، إلهٌ نشأ على الأرض، ولسبب ما، صَعِد إلى السماء، فكان أنْ
لاحقه «الإنسان» بطلب الوحي. ولهذا أخذت النبوءات في هذا النسق مسارَ الصعود إلى
الإله دائمًا.
وإذ يواصل الوعيُ قطعَ مسيرة تقدُّمه الروحي، فإنه يبلغ في النهاية مفهوم
«الإله المجرَّد»، الذي ليس كمثله شيء. إنه على عكس الأول، إلهٌ لم يخلقه أحد؛
لأنه هو علَّة الخلق بأسره، فقد بلغ حدًّا من الشمول والكلية والعلو، جعله الخالق
لا المخلوق؛ أعني أننا إذا كنَّا، في النسق الميثولوجي، بإزاء إنسان خلق الإله
على صورته،
١٣٦ فإننا، هنا في النسق الديني، بإزاء إله هو الذي خلق الإنسان على صورته.
١٣٧ وإذا كان الإنسان في النسق الميثولوجي، حين خلق الإله، خلقه أرضيًّا،
ثم أصعده بعد ذلك إلى السماء، فإن الإله، في النسق الديني، حين خلق الإنسان، خلقه
سماويًّا، ثم أهبطه إلى الأرض. ولهذا اتخذت النبوات في هذا النسق الديني نفسَ
المسار الهابط «من أعلى إلى أسفل» أو «من الله إلى الإنسان»، أي أن الله نفسه
أصبح يبادر إلى كشف وحيه ونقل إرادته إلى البشر دون طلب منهم. «فقد كان الله في
أرقى أشكال النبوة يتحدث (هو نفسه) من خلال فم إنسان».
١٣٨ وبهذا تم التحول من «نبوءات النسق الميثولوجي» إلى «نبوَّات النسق
الديني»، وكان ذلك مرتبطًا، أشد الارتباط بقدرة الوعي الإنساني على بلورةِ مفهومٍ
راقٍ عن الألوهية. وقد اشتمل هذا النسق على النبوات الكبرى الثلاث (اليهودية
والمسيحية والإسلام) التي تميزت، جميعًا، بأنها قامت على «مبادرة إلهية خالصة».
وبرغم أن النبوة باتت تتم «بمبادرة إلهية خالصة» بعد أن كانت تتحقق «بمبادرة
إنسانية»، إلا أن النبوة لم تصبح، أبدًا، تجريدًا ميتافيزيقيًّا، أو مونولوجًا
إلهيًّا، لا علاقة له «بالوعي والواقع». بل لعلَّ المضمون الإنساني للنبوة قد بلغ
الذروة، بعد أن غدا «الوضع الإنساني» في تاريخيته، هو «قصد» هذه المبادرة الإلهية
الخالصة. ولهذا فإننا لسنا بإزاء لحظة نبوية واحدة ينطوي عليها هذا النسق، بل
بإزاء ثلاث لحظات، يعكس الانتقال بينها من لحظة إلى أخرى، تحولًا في أبنية الوعي
والواقع. إذ يبدو أن تفسير هذا الانتقال، ذي اللحظات الثلاث، غير ممكن على
المستوى الإلهي الخالص، وبمعزل تام عن «الوضع الإنساني». حقًّا إن ثمَّة مَن يرى
في ذلك انتقاصًا من شأن الله، ولكن «الله» لا يضيره أبدًا أن يكون فعله مبررًا
بوضع تاريخي معين، بقدر ما يضيره أن يكون فعله بلا غاية.
نبوات النسق الديني أو النبوات في الأديان المنزَّلة
-
(أ) النبوة اليهودية: تمثِّل اليهودية أولى لحظات النبوة في النسق الديني؛ «فقد أصبحت «المبادرة»
(initiative) في الفعل النبوي اليهودي، من
«الله» الذي يقوم بإبلاغ مقاصده من خلال «الرؤى» والوحي السماعي، بحيث لا يمكن
اعتمادًا على أي وسيلة إنسانية إجباره على كشف خططه ومقاصده.»١٣٩ ولذا «امتلأ النبي إحساسًا بأنه مرسل من الله، ويُعَد هذا الإحساس
واحدًا من أهم سمات النبوة التوراتية «الدينية»
(biblical)»١٤٠ وقد ترك هذا الإحساس «بالرسالة» أثرًا حاسمًا على طبيعة النبوة
ذاتها؛ فبعد أن كان ما ينطق به المتنبئ أو العرَّاف، في النبوءات الميثولوجية،
مجرَّد «تفسير أو تأويل خاص» لإرادة الإله، كما يراها، أصبح النبي، في نبوات
النسق الديني، بتأثير إحساسِه الحادِّ بالرسالة، ملزمًا بنقل كلمة الله حرفيًّا
(Verbal).١٤١
وبالرغم من ذلك، يتعذَّر القول بانقطاع النبوة اليهودية، بوصفها أولى لحظات
النسق، عن تراث النبوءات الميثولوجية السائد آنئذٍ؛ أعني لم تتخلص النبوة
اليهودية، بحكم التجاور التاريخي، من بعض شظايا التنبؤ في النسق الميثولوجي
بشكلَيه «الطبيعي والذاتي». «فإن ثمة العديد من النصوص المقدسة، التي تؤكد ممارسة
العبرانيِّين «لكثير من أنماط التنبؤ الميثولوجي في شكلها الطبيعي»؛ كالتنجيم
بالماء والزيت، والتبليغ من خلال أرواح الموتى، ونبوءات الأشجار».
١٤٢ حقًّا إن الكتاب المقدس قد أدان بقوة هذه الممارسات الميثولوجية،
١٤٣ «لأنها تقوم على العلم والصنعة، وتعتمد على قدرة المهارة الإنسانية
في النفاذ إلى الإرادة الإلهية، وبهذا تكون «المبادرة» في الفعل النبوي بيد
الإنسان. ومع ذلك فإنه (أي الكتاب المقدس) قد اعتبر الأحلام والرؤى (وهي الشكل
الذاتي للتنبؤ الميثولوجي) أداةً مشروعة يكشف من خلالها الله عن إرادته بجانب النبوة».
١٤٤ وذلك يعني، من جهة، أن نمط التنبؤ الذاتي، وهو أحد أشكال النسق
الميثولوجي، قد وجد لنفسه مكانًا في نبوات النسق الديني؛ مما يعني أن القول
«بانقطاع تاريخي تام» بين النسقَين «الديني والميثولوجي» قولٌ زائف.
١٤٥ ويعني ذلك، من جهة أخرى، أن «نبوات النسق الديني» كأي ظاهرة ترتبط
بالإنسان لم تبدأ مكتملة؛ «فمع أن النبوة ظاهرة قديمة في الديانة اليهودية، إلا
أنها لم تأخذ شكلها المتكامل، إلا عند منتصف القرن الثامن قبل الميلاد».
١٤٦
ولكن، وبالرغم من التأثير الميثولوجي على النبوة اليهودية، «فإن النبي المرسل
(
the messenger-prophet) — الذي اعتُقد أنه
يتلقَّى دعوة مباشرة «من الله» ليعمل وينطق بحسب أمره — أصبح فيها هو الأداة
الأكثر أهمية لتعيين إرادة الله».
١٤٧ ولهذا، فإن الأثر الذي مارسَته النبوءات الميثولوجية على النبوة
اليهودية قد تلاشى، إلى حدٍّ كبير، بعد عصر داود، «حيث أصبح الشكل الوحيد المشروع
للوحي، منذئذٍ، هو ذلك الذي يأتي من الله بواسطة «نبي» اختاره واصطفاه».
١٤٨ ومع ذلك، فإن بروز ظاهرة «النبي المرسل» بوصفه «الأداة الأكثر أهمية
لتعيين إرادة الله»، قد ارتبط أيضًا، بمؤثرات ميثولوجية يصعب إنكارها. فقد اعتقد
العبرانيون — وكانوا في ذلك، كالبدائيِّين تمامًا
١٤٩ — أنه كان يمكن «تلقِّي كلمة الله مباشرة (في لقاء شخصي)، حين تجلى
الله على الجبل تجلِّيًا عامًّا» (
public
theophany).
١٥٠ ويبدو أنه لولا خوفهم
١٥١ من هذا اللقاء الشخصي (الذي تصوروه ممكنًا)، لما قُدِّر للنبوة، في
شكلها الأرقى، أن توجد أبدًا. فقد دفعهم «الخوف» إلى الطلب من «موسى» — ولعله قد
أظهر من ضروب «الشجاعة» ما جعله أهلًا لالتماس العون منه — أن «اذهب واسمع كلَّ
ما يقوله إلهنا لك، ونحن سوف نفعله برضًى تامٍّ».
١٥٢ وقد أصبح موسى «نبيًّا» يتحدث باسم الله إلى البشر، بدءًا من هذا
التكليف — ولنلاحظ أنه كان تكليفًا إنسانيًّا — بتلقِّي كلمة الله. وهكذا نشأت
النبوة، في شكلها الديني الأرقى، لصيقة بالميثولوجيا،
١٥٣ وذلك بالرغم من أنها تطورت بالوعي الميثولوجي تطورًا جذريًّا.
ومع أن اللحظة الأولى من النبوَّات الدينية «اليهودية»، قد تبلورت في إطار
البنية الميثولوجية للوعي البشري آنئذٍ، فإنها قد أظهرت، بوصفها لحظة التأسيس،
حُزمةً من الأفكار يمكن اعتبارها، على الإطلاق، خصائصَ عامةً للفعل النبوي، نعرض
لأهمها:
- أولًا: انبثقت النبوة من جدل «الخوف» و«الشجاعة»؛ إذ لاح أنه لولا تكفُّل
«الشجاعة» — شجاعة النبي — بقهر «خوف الجماعة» لمَا كانت النبوة قد خرجت
إلى حيِّز الوجود. ولهذا فإن «الخوف» ضياع للنبوة وإهدار — وهو كذلك
بالنسبة للوجود ذاته — في حين أنَّ «الشجاعة» تأكيد لها وإظهار — وهو
فعلها للوجود أيضًا — ولا شكَّ أن ذلك يكشف عن الطابع الأخلاقي للنبوة،
كما أنه يكشف — من حيث «إنَّ المسألة الأخلاقية المتعلقة بطبيعة الشجاعة
تقود بطريقة لا مهرب منها إلى المسألة الأنطولوجية المتعلقة بطبيعة الوجود»١٥٤ — عن ارتباط النبوة بالأساس الأنطولوجي للوجود الإنساني.
فالقول بأن «النبوة» تنبثق عن «الشجاعة» يعني — باستدلال بسيط — أنه
انبثاق عن محاولة «لتأكيد الذات «لنفسها»، وذلك بالرغم من وجود ذلك الذي
يميل إلى الحيلولة بين الذات وبين تأكيد نفسها».١٥٥ وهكذا يكشف الارتباط بين النبوة والشجاعة١٥٦ عن الطبيعة الأنطولوجية للنبوة، بوصفها محاولة لتأكيد الوجود
لذاته، في مواجهةِ كلِّ ما يحول دون ذلك.
- ثانيًا: إن النبوة، وهي تنبثق من «شجاعة فرد» تنهض في مواجهة «خشية شعب»،
تأكيدًا على «أن الأنبياء يمثلون وعيًا فرديًّا متقدمًا متميزًا عن الوعي
الجماعي لأممهم،١٥٧ وإن كان «وعيهم» جزءًا من هذا الوعي الجماعي في ذات الوقت».١٥٨ وهكذا تعكس «شجاعة النبي» تقدمًا في «وعيه». فبدا وكأن
النبوة لا تجد «مطمحها» في الوعي الخامل أو الوجود البليد.
- ثالثًا: ليست النبوة، في جوهرها، تنبؤًا، بل «توسطًا» يؤسِّس «حوارًا» بين
الله والإنسان. والحق أن اللفظ العبري
nabi، لا ينطوي — كما لاح آنفًا١٥٩ — على دلالة أكثر من ذلك. ولأن النبوة «توسُّط» يؤسِّس «حوارًا»،١٦٠ فإن كل محاولة لجعلها «صوتًا منفردًا» تُعَد عدوانًا على
جوهرها الأصيل.
- رابعًا: إذا كانت النبوة توسُّطًا، يؤسِّس «حوارًا»، بين الله والإنسان،
يتَّصف طرفاه بالندية، فإنه يحق للإنسان — من حيث هو طرف في الحوار — أن
يُسهم بدَور في اختيار «الأداة» التي يتحقق عبرها الحوار؛ أعني النبي.
ولذا، فإن اختيار النبي لمهمته ليس فقط عملًا إلهيًّا، بل هو عمل له
أساسه في الواقع الإنساني.١٦١ فقد لوحظ من النص: «اذهب واسمع كل ما يقوله إلهنا لك … ونحن
سوف نفعله برضًى تام»،١٦٢ أن تكليف النبي (وهو، هنا، موسى) بتلقِّي كلمة الله، كان —
في جانب منه — تكليفًا إنسانيًّا. إذ يبدو أن «الله» حين اختار شخصًا
يهبه النبوة، فإنه يختار، بما له من علم، شخصًا، يدرك (أي الله) أنه
سيلقَى القبول من البشر؛١٦٣ أعني أن «الاختيار الإلهي الصريح» لشخص النبي، يقوم على
إدراكه (أي الله) لضرب من «الاختيار الإنساني المضمر» لذات الشخص. حقًّا
إن ثمة مَن يرى أن الاختيار الإنساني لشخص النبي وقبوله، هو الذي يرتبط
باختيار إلهي سابق له، في الأزل.١٦٤ وذلك ما يجعل «الاختيار الإلهي» سابقًا على «الاختيار
الإنساني»، في حين يؤدي الرأي الأول إلى عكس ذلك. وعلى أي حال، فإن هذا
التعارض ينشأ عن تباين المنظور
(perspective)، الذي ننظر منه لمسألة
«الاختيار النبوي». ففي حين يبدو «الاختيار الإنساني» مقدمة «للاختيار
الإلهي» على مستوى «التاريخ»، فإن «الاختيار الإلهي» يتقدم على «الاختيار
الإنساني» على مستوى «الميتافيزيقا».
ولكن، وبغضِّ النظر عن أن «اختيار النبي» يكون بأولوية إلهية أو إنسانية،
فإنَّ النبيَّ هو شخص وقع عليه الاختيار، بسبب من امتيازه وتفوقه، لينقل كلمة
الله إلى البشر. إذ إن الله لا يمكن أن يُعطيَ وحيًا خاصًّا لكل إنسان — على قول ريماروس
١٦٥ — طالما أن المعجزات المتتالية ستنقض النظام الطبيعي، وبالتالي يكون
الله مناقضًا لنفسه. ولهذا لو كان الوحي لا بدَّ من أن يحدث بالمرة، فإنه يحدث في
مناسبات نادرة لأشخاص معينة يثق الناس بشهادتهم، أما غيرهم فلا يوجد لديهم وحيٌ
مباشر، ولكن يوجد فقط شهادة عن الوحي.
١٦٦ وإذ يستحيل الوحي الخاص — لأنه يعني انهيارًا لنظام الطبيعة،
وبالتالي يكون الله مناقضًا لنفسه — فإن لنا أن نرى في النبوة — بوصفها وحيًا
عامًّا — إقرارًا «باجتماعية» الوجود الإنساني؛ فالنبوة لا تكون أبدًا، حيث لا
يكون «كيان اجتماعي»،
١٦٧ تكون هي محور بنائه النظري والعقائدي، في لحظة ما، فقد ظهر أيضًا، أن
النبوة — من حيث هي بناء يخضع لتحولات شتى — إقرار «بتاريخية» الوجود الإنساني.
ولهذا فإن النبوة ليست شيئًا قائمًا في الفراغ، بل إنها انبثاق محدَّد له أبعاده
الاجتماعية والتاريخية. والحق أن تجربة الوحي تُبرهن على أن الاهتمام الإلهي
يتعلق، أساسًا، بالأمم والشعوب، خاصة حين الشدائد والأزمات. وهذا بالرغم من أنَّ
ثمَّة بعضًا من تجارب الوحي الفردي، فقد بدا، منذ اللحظة الأولى، أن «الجماعة» هي
قصد الخطاب النبوي. والجماعة هنا، هي جماعة محددة دائمًا، «فإنه لما كان الجنس
البشري مكونًا من شعوب مختلفة، لم يكن باستطاعة الوحي تربية الشعوب كلها «دفعة
واحدة»، ولكنه بدأ بشعب واحد من أجل تربيته وتحرير وجدانه، حتى يقوم هذا الشعب،
بدوره، بتربية الشعوب الأخرى».
١٦٨ والحق أن الشعب اليهودي — الذي بدأ به «الوحي» مسيرة تحرير الوعي
البشري من أوهامه — لم ير «الوحي» رسالة وأمانة، بل رأى فيه مصدرًا للتمييز
والتفوُّق على سائر الشعوب والأمم. وبهذا تشوه الجوهر الأصيل للوحي، بسبب أنانية
الجماعة الأولى وتمركزها حول ذاتها
١٦٩ (
its egocentrism) الذي جعلها تُدرك
سعادتها «في فخرها بأنها، وحدها، التي تتمتع بالخير (أو بنعمة الوحي) مع استبعاد الآخرين».
١٧٠
حقًّا، إنَّ ثمَّة تيارًا، في اليهودية، حاول أن يتجاوز النظرة الأنانية
الضيِّقة للوحي — بوصفه هبة خاصة يستمدُّ منها العبرانيون امتيازهم وتفوقهم — إلى
نظرة إنسانية أرحب تضع الوحي في إطاره الشامل. وقد اتَّجه هذا التيار، من جهة،
إلى تأصيل ذاته بدْءًا من أفكار بعض الأنبياء، خاصة عاموس،
١٧١ «الذي يذهب إلى أن الاختيار (اختيار اليهود لحمل أمانة الوحي في
بدئه)، لا يعني أن الله قد منح اليهود حقوقًا خاصة، ولا يعني أن انتصارهم على
الآخرين أكيد، وإنما يعني أن الله سيُنزل بهم أشد العقاب إذا ارتكبوا أي خطايا
ولو كانت عادية».
١٧٢ ومن جهة أخرى، أمدَّت حركة التنوير اليهودي في القرن الثامن عشر، هذا
التيار بكثير من مصادر القوة.
١٧٣ وبالرغم من كل ذلك، يبقى أن رؤية «الاختيار» على أنه معيار «امتياز
وتفوق» هي الرؤية الفاعلة، بقوة، في الوجدان اليهودي؛ ولذا كان تجاوز هذه اللحظة
الأولى من الوحي أمرًا ضروريًّا،
١٧٤ لأنها حادَت — وكان ذلك ضروريًّا أيضًا
١٧٥ — عن قصده وغايته.
وقد تباينت الآراء، بشدة، حول السبب في ابتداء الشعب اليهودي بالوحي؛ فمن قول
بتفوقه «الروحي»، إلى قول بتميزه «المادي»، إلى تفسير ذلك بافتقاده «الشعب
اليهودي»، أي تميُّز «مادي أو روحي» على الإطلاق. فثمة مَن يرى «أن إيثار الله،
شعبَ اليهود على سائر الشعوب بإنزال الشريعة له دونهم، يمكن تعليله بجنوح سائر
الشعوب إلى الوثنية، وإقامة شعب اليهود وحده على عبادة الإله الواحد».
١٧٦ وهكذا اختار «الرب» الشعب، لأن «الشعب» اختار الرب. وإذ تنكشف
«تقليدية» هذا التفسير، من خلال تلك العبارة التلمودية: «لماذا اختار الواحد
القدوس، تبارك اسمه، بني إسرائيل؟ لأن … بني إسرائيل اختاروا الواحد القدوس،
تبارك اسمه»،
١٧٧ فإن القول بأنه «لم تكن سائر الشعوب تستحق أن تتلقى الشريعة؛ لئلا
يُعطى القدس للكلاب»،
١٧٨ يكشف أيضًا، عن «عنصريته». وهكذا يضعنا الأخذ ﺑ «الامتياز الروحي»،
تفسيرًا لابتداء اليهود بالوحي، في مواجهة «عنصرية» تُنافي شمول الألوهية وعدلها.
ولذا، فإنَّ ثمَّة مَن يرى أن اليهود «قد تم اختيارهم، وأُعطوا رسالة من أجل
الازدهار الدنيوي لدولتهم، ومن أجل مزاياهم المادية»
١٧٩ ولكن هذا التفسير يخفق أيضًا؛ حيث يجعل من «النتيجة» سببًا؛ إذ إن
التاريخ اليهودي، في معظمه، هو تاريخ البحث عن «دولة» أو وطن، تتحقَّق فيه
الهُوية، التي صاغها «الوحي» أصلًا، أعني أن لا دليل في التاريخ، على ازدهار
«دولة» لليهود، قبل ابتدائهم «بالوحي»، بل لعل العكس هو الصحيح.
١٨٠ وهكذا لا يبقى إلَّا أن علَّة ابتداء اليهود بالوحي، هي افتقادهم لأي
امتياز مادي أو روحي على الإطلاق. فإنه «نظرًا لأن الله لم يشأ أن يُوحيَ لكل
إنسان بمفرده، فإنه قد اختار شعبًا واحدًا هو أكثر الشعوب قحة وشراسة كي يبدأ معه
عمله التربوي من الأساس».
١٨١ ويبدو أن هذا التفسير الأخير هو الأدنى إلى الصواب حقًّا. وذلك حيث
برهن التاريخ، من جهة، على همجية القبائل العبرانية وشراستها، وبالتالي «عدم
امتياز العبرانيِّين بالعلم والتقوى عن سائر الأمم»،
١٨٢ وكذا، فإن هذا التفسير يتَّفق، من جهة أخرى، مع النظر للوحي، على أنه
تربية للبشرية وإنجاز لمزيد من التقدم في وعيها. ولهذا لم يكن الله ليبتدئ بوحيه
شعبًا قطع في مسيرة الوعي شوطًا كبيرًا، بل يبتدئ به، بالأحرى، شعبًا في أدنى
أطوار خبرة الوعي. ويتجلَّى هذا «التدني» في خبرة الوعي، في جنوح الشعب اليهودي —
بعد ابتدائه بالوحي — إلى الوثنية وعبادة آلهة أخرى
١٨٣ ولهذا كان هذا الشعب — كي يتحقَّق قصد الوحي — في حاجة، لا إلى نبي
واحد فقط، بل إلى «سلسلة متصلة من الأنبياء تمتدُّ على مدى قرون، من إبراهيم إلى
موسى، ومن صموئيل إلى ناثان، ومن إيليا إلى عاموس … إلخ، في ظاهرة لا مثيل لها أبدًا».
١٨٤ والحق أن هناك مَن يرى في هذه الظاهرة — تعدد الأنبياء — «واحدة من
هبات الرب لإسرائيل»
١٨٥ إلا أن ثمة من يعتقد «أن انحراف بني إسرائيل نحو عبادة الأوثان، بعد
موسى، وتركهم عهدَ الله، هو السبب في بعث الأنبياء إليهم لتجديد ما نسوا من التوراة».
١٨٦ وهكذا تنهض هذه الظاهرة دليلًا على غلظة الشعب وجهله، وليس امتيازه
وتفوقه وعلمه.
١٨٧ بل إنه، ورغم هذا التعدد اللامألوف في أنبياء اليهود، فإن المرء يلحظ
نبرةَ أسًى وقنوط، لعدم توبة الشعب وسلوكه طريق الرب، في كتابات معظم الأنبياء،
إن لم يكن جميعهم. ومن هنا «كان لزامًا أن يأتيَ مربٍّ أفضل ينتزع هذا الكتاب
الأول من بين يدي الطفل، بعد أن أصبح الكتاب فارغَ المحتوى … فأتى المسيح.»
١٨٨
-
(ب) نبوة المسيح: أظهر الوعي في اليهودية عجزًا عن إدراك «المعنى المجرد» بمعزل عن «الكيان
الحسي»؛ ولهذا كان «العهد القديم يمثِّل طورًا أوليًّا في تطور الجنس البشري،
«حيث» كان الوحي آنذاك أقرب إلى طبيعة الجنس البشري في تلك المرحلة الأولى من
تطوُّر الطبيعة المادية التي لا تَقْدر على إدراك المجردات والموضوعات الخالصة».١٨٩ ولهذا، فإنَّ قدرة «الوحي» على امتلاك هذا الإدراك «المجرد»، كان
يعني ضرورةَ تجاوز اليهودية، بوصفها لحظة من نبوات النسق الديني، تقوم على قدر من
«الوعي» تمَّ تجاوزُه ذاته. وتمثل المسيحية لحظة «البدء» في امتلاك «المجرد».
فبالرغم من أن الواقعة الأساسية قبل المسيحية هي «تجسد الموجود الكلي» في صورة
«كائن حسي»، إلا «أن الله حين اتخذ صورة الإنسان، متجسدًا على شكل المسيح، قد
استحال إلى واقعة تاريخية، «كان» لا بد للفكر من العمل على تجاوزها أو رفعها، حتى
تعلو تلك «الحضرة» للمستوى (الآن) التاريخي»،١٩٠ وهكذا يعلو الفكر «بالتجسد الحسي» إلى مستوى «المجرد».
ولعل أهمية البحث عن جذور التحول النبوي، في طبيعة الوعي وتحولاته، تكمن في
أن ذلك يحول دون وقوع هذا الفكر في كثير من مواضع الاشتباه والالتباس. فقد رأى
أحد آباء الكنيسة في هذا التحوُّل النبوي، انعكاسًا لتحوُّل في جوهر الألوهية
ذاتها؛ إذ ذهب مرقيون،
١٩١ إلى القول، تفسيرًا لهذا التحول فيما يبدو، «بوجود إلهين، أحدهما
الإله العادل (
Dieu Juste)، الذي اتَّخذ من بني
إسرائيل شعبًا مختارًا وأنزل عليهم التوراة، أما الآخر فهو الإله الخيِّر
(
Dieu Bon)، الذي ظهر متمثلًا في المسيح،
وخلَّص الإنسانية من خطاياها، وقد كان للإله الأول السلطان على العالم، حتى ظهر
الإله الثاني، فبطلت جميع أعمال الإله الأول وزال سلطانه».
١٩٢ فبدا وكأن عدم ربط هذا التحول النبوي بتحولات وعي الإنسان وعالمه،
يؤدي، لا محالة، إلى ربطه بتحولات في الألوهية ذاتها. فقد أدَّى العجز عن تصور
إله واحد يكون منه وحي متحول أو متغير، لارتباطه بتحولات العالم الإنساني، إلى
إلصاق التغير بالإله نفسه. وتلك، بلا شك، هي النتيجة الطبيعية والمنطقية لأي نظرة
تغلو في عزل الوحي عن قصده الإنساني — وهو أساس تحوُّله — لتُفسح المجالَ لردِّه
بكل تحولاته إلى إرادة الله المطلقة. ولا شك أن هذا «الأساس الإنساني» لتحولات
الوحي، يجعل من هذه التحولات «اتصالًا»، لا «انقطاعًا»، بمعنى أنَّ «اللحظة
اللاحقة» من نبوَّات النسق الديني لا تنقطع تمامًا عن «اللحظة السابقة» عليها،
بل، بالأحرى، تتواصل معها.
١٩٣ ويظهر ذلك أن كل لحظة نبوية، وإن كانت تمثِّل، في حد ذاتها، بناءً
مكتملًا، إلا أنها تكشف — على نحوٍ كليٍّ — عن ضرب من النقص الباطن الذي يجد
كماله في لحظة نبوية أعلى، وهكذا دواليك حتى يتحقق الكمال المطلق في النبوة. وهذا
يعني أن «النقص» أو السلب — بتعبير فلسفي — الذي يعبِّر عن نفسه في تلك الرغبة
الدائمة في التجاوز الباطنة في كل نبوة،
١٩٤ يُعَد جزءًا من طبيعة النبوة نفسها. ولكنه «نقص» لا يحمل أيَّ دلالة
«أخلاقية»؛ حيث إنه ذو طابع «أنطولوجي»، يتجلَّى في دفع النبوة دائمًا صوب
«الاكتمال» والتمام، وبهذا فإنه يحيل إلى «الاكتمال الأنطولوجي»، وليس إلى
«التدني الأخلاقي».
١٩٥ ومع أن «الاكتمال» يمثِّل بذلك واقعةً نهائية تتحقق في الختام، إلا
أنه يبدو قائمًا منذ البداية، باطنًا في كل لحظة من لحظات التطور النبوي؛ وذلك
لأن «النقص أو السلب» الباعث على التطور النبوي بأسره، يكتسب كلَّ معناه وحقيقته
من هذا الحضور الباطن «للكل المكتمل» في كل لحظة من لحظات التطور. وهذا يعني أن
«الغائية» تتحكَّم في مسار التطور النبوي، فهو ليس تطورًا بلا منطق، بل تطورًا
«نمائيًّا» يحرِّكه شعورٌ باطني بالنقص أو السلب من ناحية، ورغبة في التجاوز إلى
ما هو أسمى — لا يمكن فهمها إلا في حضرة «الكل» — من ناحية أخرى. وهكذا تتبدَّى
«الغائية» خلف كلِّ تحوُّل من نبوة إلى أخرى. يؤكِّد ذلك — مثلًا — أنه إذا كان
الوحي في المسيحية قد ارتبط بضرب من «الوعي»، نجح في إدراك المضمون المجرد وراء
الشكل المحسوس، ولكنه أضاع هذا الإدراك حين صهرهما معًا في «وحدة مباشرة»،
١٩٦ فإن القصد الغائي للوحي أو الوعي يدفع إلى لحظة أعلى يتحقَّق فيها
إدراك المجرَّد والمحسوس، أو «الله والإنسان» في وحدتها الباطنية التي تتبدى خلف
انفصالهما الظاهر. وهذه اللحظة هي «الإسلام».
-
(ﺟ) نبوة الإسلام: يمثل الإسلام القصد «الغائي»١٩٧ للوحي، حيث تحقَّق فيه لحظات إدراك الوحدة بين الله والإنسان، بالرغم
من انفصالهما المباشر.١٩٨ فإذا كان الوحي قد بدأ مسيرته من «انفصال الله عن الإنسان»،١٩٩ فإنه قد أدرك أخيرًا وحدتهما قائمة خلف هذا الانفصال ذاته. وبهذا
يكون قد بلغ غايته واكتماله، بعد أن عانى كثيرًا من ضروب الاغتراب في لحظات نبوية
«ميثولوجية ودينية»، أدرك في كلٍّ منها صورةً مشوَّهة لهذه الوحدة، أو أنه أدركها
جزئيًّا، على الأقل. أما «الوحدة» في أرقى صورها، فقد تحققت فقط في نبوة محمد
ﷺ، التي تبدو — تبعًا لذلك — باطنةً في كلِّ لحظة من لحظات التطور النبوي
التي تظهر فيها هذه «الوحدة» جزئيًّا. ولهذا أدرك الحقيقة — دون شك — مَن ذهب إلى
أن نبوة محمد، بدأت من يوم أن خلق الله الأرض وعرج إلى السماء، أو أنها بدأت وآدم
بين الماء والطين، وهي في ذات الوقت تُعَد خاتم النبوات٢٠٠ وأعلى مراتب اكتمال الوحي. ولا يمثل «الاكتمال» هنا، نهايةً للتاريخ
بل لعله يمثِّل بدايته الحقة؛ إذ يعني الاكتمال أن الروح البشري قد حقَّق،
بالوحي، درجةً من «الوعي» تؤهِّله لإكمال مسيرة تطوره معتمدًا على قواه الخاصة.
«فالنبوة تبلغ كمالها الأخير، من إدراك الحاجة إلى إلغاء النبوة نفسها. وهو أمر
ينطوي على إدراكها العميق لاستحالة بقاء الوجود معتمدًا إلى الأبد على مِقوَد
يُقاد منه، وأن الإنسان لكي يحصِّل كمال معرفته لنفسه لا بد أن يترك ليعتمد في
النهاية على وسائله هو.»٢٠١ وهكذا تكشف النبوة — سواء في أطوار التحول أو طور الاكتمال — عن جوهر
إنساني أصيل، لا يقلل منه أبدًا مصدرها المفارق. وتتجلى أهمية هذا الجوهر في أنه
المسئول وحده عن بناء النبوة واكتمالها في التاريخ، بهذا الشكل دون غيره. فلا شك،
أن بناء النبوة واكتمالها في التاريخ — بهذا الشكل الفائق من النظام والإحكام —
ليس عملًا عشوائيًّا أنتجه الحظ، بل عملًا يستمد دلالته الكاملة من «بنية كلية»
تستقر خلفه. وهي ليست بنية صورية تجريدية؛ فبالرغم من أن «البنية» تمدُّ عناصر
البناء الجزئية بكامل معناها وحقيقتها، فإنها لا تظهر مطلقًا بعيدًا عن هذه
العناصر الجزئية، وبهذا يتأكَّد طابعها الواقعي ومضمونها الإنساني.
بنية النسق النبوي
بدَا أنه يتعذَّر تفسير التحوُّل في النسق النبوي من نبوة إلى أخرى، إلا بالانتقال
من
«النبوات الجزئية» إلى مفهوم «البنية الكلية» الكامنة خلفها. ولا شك أن في ذلك انتقالًا
من الملاحظة الأولية البسيطة إلى العلم الدقيق،
٢٠٢ حيث «إن البحث عن الهياكل البنيانية وتحليلها يمثلان لحظة ضرورية من لحظات كل علم».
٢٠٣ ويعني تحليل النسق أو «الهيكل البنياني»، إظهار «العلاقات التي تعطي للعناصر
المتحدة (داخله) قيمة وضعها في مجموع منتظم».
٢٠٤ إذ إن عناصر النسق لا تتراص بعضها إلى جوار البعض الآخر، في تجاور عفوي مصطنع
يدنو من النظرة الذرية الاستاتيكية للفكر والعالم. تلك النظرة المعادية للفلسفة التي
يعدُّ الكلي الحي
Vital totality مضمونها الحق. بل تتشابك
هذه العناصر في علاقات جوهرية، تتوقَّف فيها على بعضها من جهة، وعلى علاقتها «بالبنية
الكلية» من جهة أخرى، بحيث لا يمكن فهم أي عنصر من هذه العناصر الجزئية؛ إذ ما تمَّ
انتزاعه من سياق علاقاته البنائية. وتنجح هذه «العلاقات» في إبراز بعض «القيم» التي
يتبلور حولها النسق وهي لا تخلو من أن تكون قيم «اختلاف» أو قيم «تماثل»، أعني أن بعض
العلاقات بين عناصر النسق تخضع للعديد من ضروب التطور والتحول، في حين أن بعضها الآخر
يتماثل في جميع صور النسق وأشكاله.
وتعتبر قيم الاختلاف هي القيم «الأهم» في النسق؛ لأنها تؤكِّد حيويته وتاريخيته.
فإنه
لولا هذه القيم، لأصبح النسق مجرد صورة خالصة (Pure
form)، لا علاقة لها بالواقع والتاريخ. ولهذا تجلَّى «النسق النبوي» في
صور تاريخية عديدة (ميثولوجية ودينية)، نشب الاختلاف بينها جميعًا، وذلك بالرغم من أن
ثمة
قيمًا ثابتة تتماثل في كل هذه الصور. وقد ارتبط هذا الاختلاف — كما أشرنا آنفًا — ببناء
وعي الإنسان وواقعه. وذلك يعني أن بنية النسق النبوي ليست صورية مغلقة؛ إذ هي تنفتح على
وعي الإنسان وواقعه، إلى حدِّ أنها تتطور، في إطارهما، جدليًّا.
أما قيم «التماثل»، فإنها تتمثل في علاقات النسق الثابتة والمتماثلة في كل صورِه؛
أعني تلك العلاقات التي تظهر مثلًا في أدنى أشكال النبوة وأكثرها بدائية، وتحتفظ بوجودها
في أرقى أشكالها وأكثرها تطورًا أيضًا، مؤكدة أن النسق النبوي في شكله الأرقى، لم يتجاهل
ضروبه الأولية التي يمكن ردُّها إلى العصور البدائية أحيانًا. فإذا كانت النبوات قد نشأت
عن الانفصال الفاجع بين الله والإنسان، وذلك بقصد إعادة الوحدة بينهما، فإن هذا «القصد»
—
أعني تحقيق الوحدة بين الله والإنسان وقهر انفصالهما — يُعَد واحدًا من أهم قِيَم التماثل
بين النبوات جميعًا، دون تمييز بين نبوءات ميثولوجية ونبوات دينية. فقد ارتبط هذا
«القصد»، جوهريًّا، بأدنى صور النبوة وأكثرها بدائية، وأرقاها وأكثرها تطورًا أيضًا.
حقًّا لقد اختلفت ضروب هذه «الوحدة» وصورها، باختلاف النبوات وأشكالها، بمعنى أن هذه
الوحدة، قد تحققت، جزئية، أو مشوهة في معظم صور النبوة، إلى أن تحققت في أرقى صورها،
في
أرقى النبوات بالمثل، ولكن يبقى أن جميع النبوات، هي في صميمها محاولة لإعادة الوحدة
بين
الله والإنسان.
وبالرغم من أنَّ ارتباط النبوة بالوعي، في صوره العديدة، هو الذي أظهر الاختلاف بين
عناصر النسق النبوي ولحظاته؛ إذ ترتبط كلُّ نبوة بشكل خاص من أشكال الوعي، وهي أشكال
تاريخية، تمايزت النبوات تبعًا لتمايزها. إلا أن هذا الارتباط، يمثِّل — في حدِّ ذاته
—
واحدًا من أبرز قيم التماثل بين عناصر النسق النبوي. إذ تعد النبوة — أي نبوة — انعكاسًا
دائمًا للوعي — وهذا هو الأهم — بغضِّ النظر عن صوره العديدة. وهكذا انعكس المضمون
البدائي «للوعي» — المتَّحد بالطبيعة — على «نبوءات النسق الميثولوجي»، في حين أظهرت
«نبوات النسق الديني» صورة أرقى للوعي، أدرك فيها المجرد؛ أي إن ارتباط النبوة بالوعي،
مطلقًا، هو علة تمايز صورها. فبدا وكأن «الاختلاف» بذلك، ينبثق من قلب «التماثل». وذلك
يعني أن «التماثل» يتقدم «الاختلاف» منطقيًّا، ممَّا يؤكد أسبقية «النسق الكلي» على
أجزائه.
والحق أن قِيَم التماثل بين عناصر النسق النبوي، لا تقتصر فقط على البناء الداخلي
للنبوة، بل تمتدُّ لتشمل النبوة، بوصفها وجودًا متحققًا في العالم؛ أعني أن هناك تماثلًا
خارجيًّا بين عناصر النسق النبوي أيضًا. وتتعلَّق أولى قيم التماثل الخارجي بممارسات
الأنبياء السابقة على تلقِّي النبوة. فقد لوحظ أن طقوسًا معينة — كان يمارسها المتنبئ
البدائي التماسًا لنبوءة الآلهة — احتفظ بها النسق النبوي في أرقى صوره. من ذلك مثلًا،
أن
المتنبئ في قبائل الهنود البدائية، كان يلتمس النبوة بالصوم واعتزال الجماعة،
٢٠٥ واللافت أن النبي محمد
ﷺ، قد تلقَّى أرقى أشكال النبوءة وأكملها،
بالصوم والعزلة، ولا شك في أن سائر النبوات، قد أظهرت بدَورها، هذا التماثل
الطقسي.
ويمثل مفهوم «الأزمة» أيضًا، واحدًا من أهم قيم التماثل في النسق النبوي، ويُظهر ذلك
— بلا شك — طابع النبوة «الأنطولوجي» من جهة، وطابعها الواقعي التاريخي من جهة أخرى.
إذ
إن مفهوم «الأزمة» مزدوج الدلالة؛ فهو ذو دلالة ميتافيزيقية، من جهة؛ لأن «الأزمة» جزء
من
طبيعة الوجود بما هو كذلك. وهو — من جهة أخرى — ذو دلالة تاريخية واقعية. ومع ذلك ترتبط
النبوة بكليهما معًا. فالنبوة — من ناحية — محاولة لتجاوز أزمة الوجود، بما هو كذلك،
تلك
الأزمة المتمثلة في سقوط الوجود البشري في براثن «الخطيئة والنقص والموت». وقد أصابت
تلك
الأزمة — التي لا يجد الإنسان لها دفعًا — قلبَ الوجود بعد انفصاله عن «الله». وإذ تمثل
النبوة، من أبسط صورها إلى أكثرها تعقيدًا وتطورًا، محاولة لقهر هذا الانفصال، وإعادة
وحدة المتناهي باللامتناهي، فإنها تمثل — بذلك — محاولة لتجاوز أزمة الوجود ذاته. وهكذا
انبثقت النبوة من «أزمة» الوجود العام، بقصد تجاوزها؛ وبالتالي تجاوز ذاتها أيضًا.
ومن ناحية أخرى، تمثِّل النبوة محاولة لتجاوز أزمة واجهت الوجود على المستوى
التاريخي. فقد ارتبط ظهور النبوة دائمًا بأزمة حادَّة تُواجه أمة ما في مرحلة تاريخية
معينة. ويرجع ذلك بلا شك إلى عجز الإنسان — آنئذٍ — عن مواجهة أزماته، معتمدًا على ذاته،
فاندفع يلتمس خلاصه من النبوة. وقد تجلى هذا الارتباط في أدنى صور النبوة وأرقاها. فقد
لوحظ، مثلًا، أن البدائيِّين الأمريكيِّين قد أظهروا اهتمامًا عظيمًا بالنبوءات، خاصة
في
الليلة السابقة على واحدة من معاركهم الكبيرة،
٢٠٦ ولهذا واجهوا أزمة الغزو «الأبيض» للقارة بالنبوءات. وللآن، ما زال الأنبياء
يظهرون بين هذه القبائل خاصة في أوقات الأزمة.
٢٠٧ وفي مصر القديمة … حين تلقَّى أحد ملوكها القدماء أنباءً عن تمرُّد في جنوب
البلاد، ما كان منه إلا أن ذهب إلى معبد آمون ملتمسًا من الوحي ما ينبغي اتخاذه من خطوات،
وما سيحدث له.
٢٠٨ ويبدو — إجمالًا — أن مضمون النبوءات المصرية القديمة، يؤكِّد أنها تبلورت
جميعًا في إطار أزمة قوية. ولقد تعلق أيضًا مصير الوجود البشري عند الإغريق — إذا ما
ألمَّت به الأزمات — بنبوءة من فم متنبئ أو عرَّاف. فحين روَّعت الكوارث مدينة «طيبة»
(حتى لقد زلزلت زلزالها، وهوت إلى الأعماق) — بعد أن اعتلى عرشها «أوديب» الخاطئ — عندئذٍ
توسَّل الناس إلى أوديب أن يجد مخرجًا للمدينة من هذه الكارثة، بأن يسمع وحي الآلهة.
٢٠٩ وبنفس الطريقة، طلب «آخيل» من الإغريق — عندما تفشَّى الطاعون في أثينا — أن
يتحروا من كاهن أو نبي عن سر الغضب.
٢١٠
وفيما يتعلق بالنبوات الدينية الأرقى، ارتبطت النبوة اليهودية، في نشأتها وتطورها،
بأزمات الوجود اليهودي، فقد نشأت، واليهود أسرى في مصر، وحقَّقت تطورها الجوهري، واليهود
أسرى في بابل. وقد بلغ من قوة ارتباط النبوة بالأزمة عند اليهود أن ذهب البعض إلى «أن
الرب كان يسبب تلك الأزمات التاريخية، لكي يدفع بأنبيائه إلى قيادة شعبه»،
٢١١ وبالرغم مما ينطوي عليه هذا القول من مخاطر،
٢١٢ فإن أهم ما فيه هو التأكيد على تلك الأصالة العميقة بين النبوة وبين الأزمة
في الوجدان اليهودي. فقد انبثقت نبوة «موسى» من وجدان متأزم تمامًا، بفعل العبودية في
مصر، ثم الخروج والضياع في صحراء قاحلة لم يجد فيها السلوى إلا عندما خاطبه الربُّ على
الجبل. وقد تركت هذه الأزمة (الخروج والضياع) أثرَها الحاسم على طبيعة النبوة اليهودية
ذاتها، حيث جعلَت منها بحثًا دائبًا عن «الوطن» وتأكيدًا له. ولهذا أجلَّت الأجيال
المتأخرة، أولئك الذين ساهموا في بناء الدولة ومقاومة الفلسطينيِّين، إجلالًا كبيرًا،
وتحوَّلت بهم من مجرد أشخاص عاديِّين، إلى أنبياء عظام. «فلم يكن صموئيل — مثلًا — عند
معاصريه غير كاهن أو راءٍ (
Seer)، فجاءت الأجيال
المتأخرة، واعتبرته نبيًّا عظيمًا، بسبب مبادرته في إيقاظ روح الشعب ضد الفلسطينيين،
أثناء بناء المملكة».
٢١٣ وهكذا غدا تاريخ النبوة اليهودية بأسره — بعد موسى — انعكاسًا لارتباط النبوة
بالأزمة، وهو ارتباط أضفى على النبوة طابعًا قوميًّا مغلقًا.
وقد حققت النبوة اليهودية تطورَها الجوهري الأهم، إبَّان أزمة السبي البابلي، حيث
شاع
بين اليهود — أثناء هذه المحنة القاسية — ضربٌ من الأدب يحمل الأمل في الخلاص، ويعتمد
—
لضرورة التعويض (تعويض الحاضر بالمستقبل) — على الرؤيا والتنبؤ بتدخُّل الرب لتخليص شعبه
من منفاه. ومن هنا، تبلور كلُّ ما يُعرف بالتراث المسياني
(
Missianic) اليهودي، الذي يمثِّل محاولةً فريدة لتجاوز
«الحاضر البائس» عبر «يوتوبيا قوامها الرؤيا». وبذلك، لم تَعُد نبوة عصر السبي إخبارًا
أو
نقلًا لوصايا، بل تنبؤًا ورؤيا للخلاص. وهكذا تم تحوُّل النبوة من «نبوة إخبار» إلى «نبوة
«رؤى وتنبؤات وتجليات» … ومواعظ وبشارات لليهود بالعودة واستئناف الحياة ثانية في أرض
كنعان».
٢١٤
وإذا كانت أزمة السبي قد كشفت عن تحوُّل في طبيعة النبوة اليهودية، فإنها تمثِّل،
أيضًا، إرهاصًا بتحوُّل أعمق ينتقل بالنبوة عامة من طور إلى آخر. فقد كشفت النبوة —
حينئذٍ — عن مدى غضب الرب على شعبه الذي أظهر الولاء لآلهة أخرى غيره.
٢١٥ وقد بلغ غضبُ الرب حدًّا، قرَّر معه على أهل يهوذا «أن يُفنوا بالسيف
وبالمجاعة حتى يزولوا فردًا فردًا».
٢١٦ وهكذا آثر الرب — حين رأى شعبه يختار آلهة أخرى غيره — أن يتحلَّل، هو الآخر،
من اختياره لهذا الشعب، أو يوسع — على الأقل — دائرةَ اختياره لتشمل شعوبًا أخرى. وحينئذٍ
أصبحت النبوة اليهودية بطابعها القومي المغلق — الذي ارتبط بها أبدًا — تمثِّل في ذاتها
مأزقًا، لم يكن لينفرج إلا عبر تطور نبوي آخر، حققَته المسيحية. وهكذا انبثقت المسيحية
عن
سلسلة لم تنقطع، من الأزمات اليهودية.
ويتأكَّد ارتباط النبوة بالأزمة — فيما يتعلق بالإسلام — من حقيقة أن الإسلام، كدين،
لم ينفصل مطلقًا — إبَّان ظهوره — عن مقتضيات الظرف التاريخي لشبه الجزيرة العربية آنذاك.
فقد تحدَّد مضمون الإسلام العقائدي والاجتماعي في مواجهة ما تصدَّى له من أوضاع عقائدية
واجتماعية وأخلاقية سائدة، حتى إن بعض علوم القرآن الأساسية،
٢١٧ قد نشأت أساسًا لبيان مدى ما بين النص القرآني، وبين هذه الأوضاع القائمة من
ترابط وثيق. ولعل أهم ما تكشف عنه هذه العلوم، هي حيوية النص القرآني ومرونته التي
تتجلَّى من خلال النظر إلى الواقع على أنه «فعل إنساني» — يلعب دورًا في بناء النص الديني
نفسه — وليس مجردَ «معطى إلهي» لا يكشف إلا عن ذات إلهية تحاور نفسها وكأنها إله أرسطو
الذي يستغرقه تأمُّل ذاته فقط. والحق أن النص القرآني، كان يحمل — في الغالب — طابعًا
سلبيًّا بالنسبة لتلك الأوضاع السائدة، ولكن «السلب» هنا — بلغة هيجل — ليس سلبًا محضًا،
وإنما هو إنكار لمضمون محدد، وبالتالي فإنه لا يخلو من طابع إيجابي،
٢١٨ وذلك من حيث إنه يمثِّل محاولةً لإعادةِ بناءِ كلٍّ من الواقع والحقيقة. فقد
بلغ مجتمع ما قبل الإسلام مرحلةً استنفد فيها قدرته على التطوُّر والوجود الفاعل، فأصبح
لزامًا إعادة بنائه وبثِّه القدرة على الوجود والتطور. وبالرغم من أنَّ ثمَّة حركات أدبية
ودينية (كحركة الصعاليك، والتيار الديني الحنفي) قد حاولت — قبل الإسلام — أداء هذه
المهمة، إلا أنها أخفقت جميعًا في ذلك، فاقتصر دورُها على مجرد إبراز الأزمة من خلال
محاولة قاصرة لتجاوزها، ويبدو أن الإسلام فقط، هو الذي تمكَّن — باستيعاب فريد لبناء
المجتمع الكلي — من إنجاز التطور المطلوب وتجاوز الأزمة.
ولا شك أن قِيَم الاختلاف والتماثل التي تبدَّت من تحليل النبوة، تؤكِّد أن ثمة نسقًا
بنيانيًّا كليًّا ينتظم النبوات الجزئية جميعًا، نسقًا … تصبح فيه العناصر الجزئية التي
تُشكِّله، مجردَ لحظات لا معنى لها، إذا ما تم النظر إليها في عزلة عنه. ولا يعد هذا
«النسق البنياني» مجرَّد نتاج لتجاور مصطنع لهذه العناصر «النبوية» الجزئية. إذ إنه
أصلًا، هو القابض على هذه العناصر الجزئية، بحكم ظهورها، ويوجه علاقاتها ببعضها. وبهذا،
فإنَّ للنسق نوعًا من «الحضور» في كل عنصر أو لحظة جزئية، إلى أن تكتمل «حضرته الكلية»
في
آخر لحظاته (وهي الإسلام). ولا شكَّ أن القول بحضرة النسق، ومحايثته لأجزائه، هو السبيل
الوحيد إلى تأكيد «غائية» النبوة أو الوحي. وحيث ينكشف النسق وينبني من خلال لحظات
تاريخية جزئية، فذلك يعني أنه ليس نسقًا صوريًّا، يمكن تفسيره بمعزل عن مضمونه الإنساني
والتاريخي. ولعلنا بذلك لا نفتقد «النسق الكلي» في إطار نظرة جزئية (تفتيتية)، تُحيل
الفكر إلى ذرات متراصة يعوزها التفسير الكلي المتماسك. وكذلك نتحوط من «الصورية» التي
يؤدي إليها الانعزال في دائرة نسق كلي، لا ينفتح على التاريخ، فيصبح الفكر فيه «مُعطًى»
وليس «فعلًا». ولهذا، فإن رؤية تحاول — فهمًا لأي ظاهرة — أن تلتمس فيها نسقًا بنيانيًّا
كليًّا، تحاول تفسيره — عبر التاريخ — لتأكيد واقعيته وإنسانيته، لجديرة بالتأسي، حتى
في
بحث ينتمي إلى علم — علم الكلام — يُنظر إليه دائمًا خارج إطار الفلسفة الأصيلة.
٢١٩ فإن التماس «النسق الكلي» الذي ينتظم لحظاته الجزئية، يعدُّ التماسًا للعلم
والفلسفة الحقَّة؛ لأنه ينتقل بالباحث من الاكتفاء بتقديم تفسيرات وفروض ذاتية، إلى
موضوعية يتحكَّم فيها مفهوم النسق المنفصل عن «ذات» الباحث. ومن ناحية أخرى، فإن تفسير
النسق — من خلال التاريخ — يكشف عن «واقعية وإنسانية» هذا العلم أو الفلسفة الحقة.