(أ) الإمامة … مسألة سياسية
يبدو متعذرًا إمكان تصوُّر معنى مسألة خلافة النبي
ﷺ دون ما حدث من تنازع وشقاق.
فقد مضى النبيُّ تاركًا أمرَ خلافته دون حسم.
٣٥ وهكذا بات تقريرُ أمر الخلافة متروكًا للأمة، تختار وتعيِّن. ولكن الأمة — التي
أدرك النبي، في مرض موته، التنازع يدب في أوصالها — لم تكن كيانًا متجانسًا على نحوٍ
مثالي،
بل كيانًا حيًّا — وككل حياة — مؤلَّفًا من قوى عدة تتنازعها المصالح والولاءات القديمة
التي لم تجفَّ جذورها بعدُ، فإن «جذور الواقع الجديد لم تكن قد ترسخت، إلى حدٍّ يحول
دون
استمرارية بعض بصمات الأوضاع القديمة».
٣٦ وهكذا فإن اختيار الخليفة لم يكن بيد أمة موحدة الأهواء والمصالح — ولا وجود
لها إلا في ذهن البعض — بل كان أمرًا اختصت به «قوى» تصارعَت فيما بينها من أجل أن يحسم
كلٌّ منها الأمر لصالحه.
٣٧ ولقد كان طبيعيًّا أن يتقرَّر «أمر الخلافة» لصالح أعظم هذه القوى وأكثرها
فعالية. ومن هنا صحَّ قول الطبري إن اختيار الخليفة لم يقع على أساس الشورى، بل كان مغالبة.
٣٨
فبعد أن قُبض النبي
ﷺ اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة، وفي نيَّتهم مبايعة أحد
شيوخهم خليفةً على المسلمين. وقد استندوا في ذلك إلى «سابقة في الدين وفضيلة في الإسلام
ليست لقبيلة من العرب»،
٣٩ فإنَّ النبيَّ قد «لبث في قومه بضع عشرة سنة، يدعوهم إلى عبادة الرحمن وخلع
الأوثان، فما آمن به من قومه إلا قليل»،
٤٠ أما الأنصار فقد «خصَّهم الله بالنعمة، ورزقهم الإيمان به وبرسوله
ﷺ …
فدانت بأسيافهم له العرب».
٤١ «ولذا يناديهم شيخهم» أن: «شدوا أيديَكم بهذا الأمر، فإنكم أحقُّ الناس وأولاهم به».
٤٢ ترتدُّ جدارة الأنصار بالخلافة، إذن، إلى «سابقة في الدين وفضيلة في الإسلام
ليست لقبيلة من العرب». ويبدو أن إحساسهم بهذا التميُّز كان من الحدَّة بحيث رأى البعض
في
هرولتهم إلى مبايعة أحدهم بالخلافة «إظهارًا لعدم رضائهم عن سياسة النبي «نفسه» المتسامحة
تجاه قرشيِّي مكة حديثي العهد بالدين (مسلمة الفتح)»،
٤٣ أولئك الذين كان تدينهم شكليًّا إلى حد كبير، حيث تقبَّلوا تعاليم الإسلام «دون
تمثُّل لروحها، بل ابتغاء ما يجنيه الانتماء للجماعة الجديدة من مكاسب، و«كذلك» لأن فروض
الإسلام الخارجية تلائم مزاجهم التجاري إلى حدٍّ كبير».
٤٤ وهكذا أقام الأنصار دعواهم بأحقية الخلافة على إحساسٍ حادٍّ بتميُّز المكانة
الدينية.
في مقابل تميُّز «المكانة الدينية»، هذا، انبثق «تميُّز» قرشي مضاد، ارتكز في جزء
منه
أيضًا على «المكانة الدينية»، إلا أنه اعتمد بصورة أساسية على إحساسٍ حادٍّ بتفوُّق المكانة
القبلية.
٤٥ وبهذا اعتمدَت دعوى قريش بأحقية الخلافة على «أولوية الدين والقبيلة معًا».
٤٦ وقد تجلَّى ذلك — كأوضح ما يكون — حين أكَّد أبو بكر — في اجتماع السقيفة — على
وضعٍ قبليٍّ متميز بقوله: «نحن عشيرة رسول الله
ﷺ، ونحن مع ذلك أوسط العرب أنسابًا،
ليست قبيلة من قبائل العرب إلا ولقريش فيها ولادة.»
٤٧ وذلك بعد أن كان قد أكد الوضع الديني المتميز أيضًا بقوله: «كنا معشر المهاجرين
أول الناس إسلامًا، والناس لنا فيه تبع.»
٤٨ والحق أن «عمر بن الخطاب» كان أكثرَ صراحةً في ردِّ أحقية قريش بالخلافة إلى
أصل قبلي خالص، فإنه أسقط أيَّ اعتبار لتميُّز الوضع الديني أيضًا كما فعل أبو بكر. يقول
—
في تبرير أحقية قريش بالخلافة — مشيرًا للأنصار: «يريدون أن يختزلونا من أصلنا (كسادة
وأصحاب سلطان بالطبع)، ويُغصبونا الأمر».
٤٩ ثم أردف: «والله لا ترضى العرب أن تؤمِّركم ونبيها من غيركم، ولكن العرب لا
ينبغي أن تُولي هذا الأمر إلا مَن كانت النبوة فيهم وأولو الأمر منهم. لنا بذلك على مَن
خالفنا من العرب الحجة الظاهرة، والسلطان المبين. مَن ينازعنا سلطان محمد وميراثه، ونحن
أولياؤه وعشيرته، إلا مُدلٍ بباطل أو متورط في هلكة.»
٥٠ وهكذا حسمت قريش أمرَ الخلافة، اعتمادًا على أولوية دينية تارة، وأولوية قبلية
تارة أخرى.
وعلى هذا ﻓ «إن قريشًا [هي التي] اختارت لنفسها فأصابت»،
٥١ ولكن اللافت أن قريشًا التي اختارت، لم تكن قريش (بني هاشم) أفقر بطونها،
٥٢ قبل أن يكون فرع الرسول، بل قريش (تيم وعدي وأمية) أغنى بطونها وأكثرها
امتيازًا طبقيًّا واجتماعيًّا. والحق أنه بدا أن ثمة تواطؤًا
٥٣ بين هذه القوى المتميزة اجتماعيًّا على الاستبداد بأمر الخلافة دون سائر
المسلمين.
فقد قُبض النبي
ﷺ وكان علي بن أبي طالب، عندئذٍ، هو أبرز وجوه بني هاشم، ويبدو
أنه كان واثقًا من خلافته للنبي، إلى حدِّ أنه رأى أن ليس لأحد أن يطلبَها غيرُه.
٥٤ فقد كان يرى في نفسه، وهو الرجل الذي خبر سُنَّة الرسول خبرةً تامة، وكذلك رأى
فيه فقراء الصحابة خاصة
٥٥ الضمانة الأساسية لاستمرار النهج الاجتماعي الذي ساد شِبْهَ الجزيرة على يد
النبي، «وأيضًا الضمانات الأساسية كي لا يعودَ ملأ قريش وأغنياؤها — الذين التحقوا بالإسلام
عندما لم يجدوا طريقًا لمقاومته — للإمساك بالسلطة والسلطان تحت رايات الدين الجديد».
٥٦ وهكذا فإنه حتى عمر — الذي هَمَّ بإحراق ابن أبي طالب
٥٧ إبَّان تنازعهما على البيعة لأبي بكر — قد أدرك أخيرًا أنه «لو وَلِيَها الأجلح
(علي بن أبي طالب) لحمل الناس على الجادة».
٥٨
وبرغم ذلك كلِّه، وبالرغم من أن قريشًا قد احتجَّت على أحقيتها بالخلافة في مواجهة
الأنصار بحجة تذهب بالخلافة إلى علي بن أبي طالب مباشرة،
٥٩ وذلك في حال كون «الحجة» لا «القوة» هي سبيل السلطان، فإن قريشًا «قد اجتمع
رؤساؤها واختاروا أبا بكر الصديق، رضي الله عنه، وكان قبل الإسلام وزيرًا في حكومتها،
يتولَّى فيها منصبًا هامًّا، ومن بعده كان العهد إلى عمر بن الخطاب، وكان هو الآخر وزيرًا
في حكومة قبل الإسلام، يتولَّى سفاراتها الخارجية».
٦٠ وبالرغم من أنه كان أجدر بعمر — الذي أدرك أخيرًا أن عليًّا لو وُلِّي الخلافة
لحمل الناس على الجادة — «أن يعهد بالخلافة لعلي كما فعل أبو بكر بالنسبة له، لكنه أوصى
بعقد مجلس من كبار الصحابة وأناطه مهمة اختيار الخليفة من بعده، ومعلوم أن غالبية أعضائه
كانوا من زعماء الطبقة الأرستقراطية الثيوقراطية. وبحكم مصالحهم الاقتصادية ووضعيتهم
الاجتماعية ناوروا للحيلولة دون اختيار علي، وبايعوا عثمان بن عفان بالخلافة»،
٦١ وهو من بطن أمية ذي السلطان العالي في حكومة قريش الجاهلية. وهكذا تواطأت
«الأرستقراطية القرشية» على إقصاء ابن أبي طالب عن مقام الخلافة.
٦٢ وإذ تحقَّق هذا الإقصاء بالتركيز على تميُّز المكانة الاجتماعية — التي
يحدِّدها الوضع المالي والمادي عامة — للقوى المهيمنة — ولعل ذلك ما عناه أبو عبيدة حين
قال
لابن أبي طالب: «يا ابن عم، هؤلاء (يعني أبا بكر وعمر)
٦٣ مشيخة قومك» — فإن عليًّا قد وجد نفسه بإزاء ضرب من ضروب «العصبية الاجتماعية»
كشف عنها قوله يخاطب عالمًا جاء الإسلام ليقهره: «ألا إن بليتكم قد عادت كهيئتها يوم
بعث
الله نبيكم».
٦٤ وهكذا يبدو أن ما ترتَّب على اجتماع السقيفة
٦٥ من استبداد «الأرستقراطية القرشية» — ذات المجد التليد — بأمرِ الخلافة، وغل يد
الفقراء والمستضعفين عنها، يُعَد تحولًا بالإسلام عن قصده،
٦٦ بل لعله يعني — كما قصد ابن أبي طالب — أنَّ العرب قد انتهَوا إلى وضع لا يختلف
عن ذلك الذي كانوا عليه يوم بعث الله النبي، أي إنهم بتعبير صريح «قد عادوا إلى الجاهلية».
٦٧
ولعلَّ أهم ما ترتب على اكتشاف هذه «الجاهلية» — التي انتهى إليها تحليل ابن أبي
طالب
للصراع حول الخلافة — هو ذلك الانقلاب الهائل في النظر إلى الإمامة ذاتها. فإنه إذا كان
النظر لمسألة الإمامة أو الخلافة في إطار سياسي خالص قد انتهى بالعرب إلى ذلك التنازع
الذي
أودى بهم إلى هذه الجاهلية الأولى، فإنَّ تجاوز هذا الوضع لم يكن ممكنًا أبدًا، إلا بالنظر
إلى الإمامة في إطار ديني خالص، ليتسنَّى القضاء على أيِّ تنازع تنشأ عنه «الجاهلية».
فإن
الإمامة والحال كذلك، تغدو أحدَ أصول الإيمان التي لا يجري عليها خلاف. والحق أن شيئًا
لم
يكن ليؤكِّد هذه الجاهلية — التي تحدَّث عنها ابن أبي طالب — أبلغ من موته الدامي، الذي
تبدَّى عن إصرار، لا هوادة فيه، على استبداد وجوه قريش وسادتها بالخلافة دونه؛ وهو أمل
المستضعفين في خلاصٍ لن يتحقق إلا عبر استمرارية نهج الرسول الذي وعد به ابن أبي طالب.
ولقد
أظهر هذا الإصرار — الذي بدا غريبًا
٦٨ — وكأن خلافة ابن أبي طالب غير مرغوبة أو مستحبة من البشر، فانتهى أنصار الرجل
ومشايعوه إلى أن «إرادة الأرض» تُعارض خلافة لم يشكوا لحظة في أنها وحدها الجديرة بتحقيق
«مقاصد السماء». ولهذا انشغلوا بالبحث عن إرادة أعلى من إرادة البشر تستند إليها الإمامة
مطلقًا، «فجعلوا السلطة والإمامة شأنًا من شئون السماء التي لا دخل للبشر فيها».
٦٩ وكان ذلك مبتدأ التعالي بالإمامة من كونها إحدى «مسائل السياسة» إلى كونها أحد
«أصول الإيمان»،
٧٠ وهو ما غدا أهم سمة للفكر الشيعي إطلاقًا.
(ب) الإمامة … قاعدة دينية
انتهى أنصار الإمام المغدور إلى أنه «ليست الإمامة قضية مصلحية تُناط باختيار العامة
وينتصب الإمام بنصبهم، بل هي قضية أصولية، وهي ركن الدين، لا يجوز للرسل عليهم السلام
إغفاله وإهماله، ولا تفويضه إلى العامة وإرساله».
٧١ وهكذا كان القول «بالنص والوصية» على شخص الإمام، هو أخطر ما ترتب على أن
الإمامة شأنٌ من شئون السماء، لا اختصاص للبشر فيها. فقد بات السبيل إلى «نصب الإمامة»
هو
«النص والتعيين الذي حدث وتم من الله ورسوله على شخص الإمام أو على صفاته، نصًّا جليًّا
أو
خفيًّا — على خلاف بين فرقاء هذا المعسكر — لأن هذا الواجب ليس واجبًا على الجماعة المسلمة،
وإنما هو واجب على الله. فليس للبشر سبيل واختصاص في هذا المقام».
٧٢ وهكذا جوبه إقصاء «الفرد» — ابن أبي طالب — عن الإمامة، بإقصاء «المجموع» —
الأمة بأسرها — عن مسألة الإمامة أيضًا.
٧٣ إذ «إن الشيعة القائلين بالنصِّ قد جرَّدوا مجموع الأمة من الثقة التي تؤهلها
لحمل أمانة اختيار الإمام، فوضعوا هذه الأمانة في الله وعلى الله».
٧٤
ومن هنا تبدو منطقية القول بأن نظرية «النص والوصية» لم تتبلور — بحيث تغدو أحدَ
أهمِّ
ملامح الفكر الشيعي
٧٥ — إلا بعد مقتل الإمام علي؛ إذ «لم يكن الشيعة من بداية الأمر يعتبرون مفهوم
الإمامة والخلافة أمرًا مقدسًا لا يتغير؛ فقد كانوا وحسب يؤيدون حقَّ عليٍّ في الخلافة».
٧٦ أي إن «هذا المذهب (مذهب النص والوصية) قد حدث قريبًا،
٧٧ وإنما كان من قبل ذلك يذكر الكلام في التفضيل ومَن هو أولى بالإمامة».
٧٨ وهذا يعني أن ثمة تحولًا شيعيًّا عن مجرد الاعتقاد في «أحقية» ابن أبي طالب
للإمامة إلى الاعتقاد في «النص» على إمامته. والحق أن هذا التحول لا يجد تبريره إلا في
أن
الشيعة بعد أن تكررت ثوراتهم وانتفاضاتهم وتمرداتهم الفاشلة، وجرَّت عليهم المزيد من
الاضطهاد، «عادوا إلى الذات فانكفئوا عليها، وعاشوا المأساة، وغدا الحزن وحبُّ آل البيت
رباطًا عاطفيًّا ألَّف بين قلوبهم، ورصَّ لَبِنات بنيانهم … ثم تطلَّعوا إلى ربهم آملين
مؤملين في الخلاص، فتمنَّوا وحلموا بسلطة إلهية عادلة تتمثَّل في إمام معصوم، عصمة
الأنبياء، عالم علم الأنبياء، منزه عن نواقص البشر، لم يشترك البشر — العصاة غير المعصومين
— في اختياره والبيعة له، «وإنما السماء هي التي اختارته وعيَّنَته، والله سبحانه هو
الذي
صنعه على عينه كي يملأ الأرض عدلًا بعد أن مُلئت بالجور والفساد».
٧٩
لعلَّ أخطر ما ترتَّب على القول بالنص — من الله — على شخص الإمام، أن «الإمامة»
اتَّخذت من النسق الشيعي مكانةً طالت مقام النبوة، إن لم تُجاوزه. فإذا كان «ليس للناس
أن
يتحكموا فيمن يعيِّنه الله هاديًا ومرشدًا لعامة البشر، كما ليس لهم حقُّ تعيينه أو ترشيحه
أو انتخابه؛ لأن الشخص الذي له من نفسه القدسية استعدادًا لتحمُّل أعباء «الإمامة» العامة
وهداية البشر قاطبة يجب ألَّا يُعرف إلا بتعريف الله ولا يُعيَّن إلا بتعيينه».
٨٠ وهكذا «لا تكون «الإمامة» إلا بنص من الله سبحانه وتوقيف»،
٨١ فتصبح بذلك كالنبوة «التي ترجع «بدَورها» إلى قول (نص) الله وتوقيفه».
٨٢ ولهذا اعتقد الشيعة «أن الإمامة كالنبوة لا تكون إلا بالنص من الله تعالى على
لسان رسوله أو لسان الإمام المنصوب بالنص على الإمام من بعده،
٨٣ وحكمها في ذلك حكم النبوة بلا فرق».
٨٤ ولهذا، ﻓ «إن دفع الإمامة كفر، كما أن دفع النبوة كفر؛ لأن الجهل بهما على حدٍّ
واحد … لأن منطلق الإمامة هو منطلق النبوة، والهدف الذي لأجله وجبت النبوة هو نفس الهدف
الذي من أجله تجب الإمامة. واللحظة التي انبثقت بها النبوة هي نفسها اللحظة التي انبثقت
بها
الإمامة … واستمرت الدعوة ذات لسانين: النبوة والإمامة، في خط واحد، وامتازت الإمامة
على
النبوة أنها استمرت بأداء الرسالة بعد انتهاء دور النبوة. إن النبوة لطف خاص، والإمامة
لطف عام».
٨٥
ومن أخطر ما ترتَّب أيضًا على القول «بالنص» — الذي بدا مظهرًا ليأس شيعي شامل من
خيارات البشر — أن الإمامة لم تَعُد «منصبًا إنسانيًّا دنيويًّا»، بل «منصبًا إلهيًّا
يختاره الله بسابق علمه بعباده كما يختار النبي».
٨٦ وقد اقتضى ذلك ضربًا من التطور على مهام الإمام، التي اتسعت لتشمل — عند الشيعة
— على كلِّ مهام النبي،
٨٧ فأخرجهم ذلك إلى القول بأن الإمامة قرين النبوة».
٨٨ والحق أن ثمة ضربًا من التماثل اللافت بين دور الإمام في النسق الشيعي وبين دور
النبي في النسقَين الأشعري والاعتزالي. فالإمام — حسب الشيعة — «يكون في كل حال بمنزلة
الرسول في أنه يبلِّغ ويعلِّم ويُرجع إليه في المشكل، ويؤخذ عنه الدين، وكما لا يجوز
ألَّا
يكون الرسول مع الحاجة إلى معرفة الشريعة، فكذلك لا يجوز ألَّا يكون الإمام في كل حال
مع
الحاجة إلى ذلك».
٨٩ وهكذا فكما «أن الرسول إذا انبعث كان انبعاثه لطفًا في الأحكام العقلية، «بحيث»
ينتدب العقلاء لها عند إرسال الرسول»،
٩٠ فإن الإمام — طبقًا للشيعة الاثنَي عشرية — «يكون — بدوره — لطفًا في الزجر عن
المقبحات العقلية».
٩١ إذ «إن الأحكام الشرعية الإلهية لا تُستقى إلا من مائهم (يعني الأئمة)، ولا يصح
أخْذها إلا منهم، ولا تفرغ ذمة المكلف بالرجوع إلى غيرهم، ولا يطمئن بينه وبين الله إلى
أنه
قد أدى ما عليه من التكاليف المفروضة إلا من طريقهم».
٩٢ ومن ناحية أخرى، فإنه إذا كان من بين مهام «النبي» عند الأشاعرة أن «يبين
الأغذية والأدوية وتمييزها عن السموم المؤذية والمضرة، «حيث إن» شيئًا من ذلك لا يُستدرك
عقلًا»،
٩٣ فإن بعض غلاة الشيعة يرون من مهام «الإمام» أن «يُعلمنا اللغات وأن يُرشدنا إلى
الأغذية ويميزها عن السموم»؛
٩٤ وذلك «لأن التكليف لا يتم إلا بسلامة البدن؛ فما لا تتم السلامة إلا به صار
كأنه من باب الدين».
٩٥ وإذا كان المعتزلة قد احتجوا على جواز بعثة الرسل بأن «العقل يدل على الشكر
والعبادة الله تعالى … ولكنه لا يدل على أعيان الأفعال التي بها يُعبد، وعلى شروطها،
وأوقاتها وأماكنها؛ لأنها لو دلت على ذلك، لكان ذلك كدلالتها على سائر الواجبات العقلية،
التي عند وجود سببها لا تختلف أحوال المكلفين فيه. فكان يجب أن تكون هذه أحوال هذه الأفعال.
وكيف يدل العقل على أن الصلاة بلا طهارة لا تكون عبادة، ومع الطهارة تكون عبادة، وحال
الخضوع فيها وبها لا يتغير … وذلك يبين أنه لا مجال للعقليات «في الوقوف على أعيان الأفعال
التي بها يُعبد الله ويُشكر».»
٩٦ ومن هنا تجب بعثة الرسل لتبيينها؛ فقد رأى الشيعة أن هذه الواجبات، وإن كانت
تُعلم صفتها وشروطها من قِبَل الرسول، فإنها تُعلم كذلك من قِبَل الإمام، فإن «نعمة الله
هي
الأصل، فلا بدَّ من وجوب شكره عليها؛ فإذا لم يُعلم كيف يشكره، فلا بد من مبيِّن لذلك
(هو الإمام)».
٩٧ فالإمام، عند الشيعة، هو «بيان؛ لأنه حجة الله تعالى على خلقه، و«لذا» لا يخلو
الزمان من حجة هو نبي أو إمام؛ فإذا لم يَجُز خلو المكلفين من الأنبياء لكونهم حجة، فكذلك
الأئمة».
٩٨ وعلى هذا، فإن مهام الإمام الشيعي لم تَعُد «من مصالح الدنيا، «التي» ليس فيها
إلا اجتلاب نفع عاجل، أو دفع ضرر عاجل، دون الثواب والعقاب»،
٩٩ فقد أصبحت كبرى مهامه «أن تُعلم من قِبَله الأمور كما تُعلم من قِبَل الرسول».
١٠٠
وقد اقتضى استبداد «الإمام» بمهام «النبي»؛ القول بدوام النبوة ذاتها في الأئمة،
أو —
بعبارة أصرح — القول بأن «الأئمة أنبياء».
١٠١ فإنه إذا كان «كل الناس في الإسلام ينادون بأن دورة النبوة قد خُتمت مع خاتم
النبيين، فإن ما قد خُتم فعلًا — حسب الشيعة — ليس سوى النبوة التشريعية».
١٠٢ أما النبوة، بحصر المعنى «فهي علمٌ أبديٌّ يشعُّ نورُه باستمرار على الأرض،
سواء ظهرت في شخص معين أو ظلَّت كامنةً عند الله؛ فالنبوة لا نهائية، أي لا خاتمة لها».
١٠٣ وهكذا اندفع الغلاة في الزعم بنبوة أئمتهم،
١٠٤ الذين «هم مبلِّغو العلم الذي هو إرث نبوي، وبهذا التبليغ تستمر هذه النبوة
الباطنية التي هي الولاية «الإمامية» إلى يوم الحشر».
١٠٥ «ومن هنا نشأت مع فكرة الإمامة المستمرة، فكرة النبوة المستمرة».
١٠٦
وقد انبثقت فكرة الإمامة المستمرة — التي تفرَّع عنها القول بالنبوة المستمرة — من
ضرورة «إثبات حجة قاطعة «للخلاف» في الكتاب والسنة»،
١٠٧ أو «قيِّم على الكتاب (القرآن) يخلف النبي الناطق».
١٠٨ إذ «إن نص القرآن وحده لا يكفي؛ لأن له معنًى مستورًا وأعماقًا باطنة وتناقضات
واضحة. فهو ليس كتابًا يمكن استخراج علمه بالفلسفة المشتركة، بل لا بد من أن نُؤوِّل
النص
وأن نعود به إلى مستوى يكون فيه معناه حقيقيًّا. وتلك ليست مهمة الجدل الكلامي؛ لأننا
لا
ننشئ هذا المعنى بالقياس؛
١٠٩ وإنما نحتاج في ذلك إلى رجل ملهَم ذي إرث روحي، يُمسك بالظاهر وبالباطن معًا.
وهذا هو حجة الله وقيِّم الكتاب والإمام».
١١٠ وقد برهن على هذا المعنى، جعفر الصادق، حين «نظر في القرآن، فإذا هو يخاصم به
المرجئ والقدري والزنديق الذي لا يؤمن به، حتى يغلب الرجال بخصومته، «فعُرف» أن القرآن
لا
يكون حجة إلا بقيِّم، فما قال فيه من شيء كان حقًّا … «ومن هنا» فإن عليًّا كان قيِّم
القرآن، وكانت طاعته مفترضة، وكان الحجة على الناس بعد رسول الله.»
١١١
والحق أن الشيعة قد أدركوا — حتى قبل رؤية المرجئة والقدرية والزنادقة يخاصمون بالقرآن،
فيغلبون الرجال بخصومته — أن «القرآن، إنما هو خطٌّ بين الدفتين، لا ينطق بلسان ولا بدَّ
له
من ترجمان، وإنما ينطق عنه الرجال …»
١١٢ ولكن بماذا ينطق الرجال عن القرآن؟ … أبعلم مكنون في الصدور اكتسبَته «الصفوة»
— وهم الأئمة بالطبع — إرثًا عن الأنبياء أو إلهامًا من الرب؟ أم بوعي منفتح على العالم
يحاول تأسيس أيديولوجيا، تتكئ على نصٍّ ديني يراه محايدًا وحمَّال أوجه، وذلك في معارضة
أيديولوجيا مسيطرة؟ … هنا، أيضًا، يلحظ المرء ذلك الضرب من التحول الشيعي الأثير من «ما
هو
سياسي» إلى «ما هو ديني». فالحق «أن التأويل (أو النطق عن القرآن) الشيعي لم يظهر إلا
معارضة لتأويل خاص يخدم مصلحة سياسية».
١١٣ فقد «جاء التأويل الشيعي معارضًا للتأويل الأموي
١١٤ الذي بدأه معاوية في جداله لأبي ذر في تفسير آية كنز الذهب».
١١٥ فبينما يرى معاوية أن الآية:
وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ
وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ١١٦ «قد نزلت في أهل الكتاب فقط، وأنه لا ضير على المسلم من أن يكنز الذهب والفضة،
فإن أبا ذر يقول: «بل نزلت فينا وفيهم».»
١١٧ وإذا كان معاوية من ناحية أخرى، «يستأجر المؤوِّلين ليستغل القرآن في تثبيت
أمره ومقاومة عليٍّ ودعوته، فقد كان من الطبيعي أن يرد الشيعة على هذا (التأويل السياسي)
بالمثل».
١١٨ وهكذا انبثق التأويل (أو النطق عن القرآن) الشيعي، ذو طبيعة سياسية واجتماعية خالصة.
١١٩ ولكن سرعان ما لحقه التحول الأثير من ما هو «سياسي» إلى ما هو «ديني»، أو من
«الأيديولوجيا» إلى «علم الباطن».
وقد ارتبط التحول في هذا الميدان، كغيره، من مستوى «الأيديولوجيا» إلى مستوى «العلم
الباطن» بتراجع الشيعة على الصعيد السياسي.
١٢٠ فإذا «انسحب الأئمة من ميدان السياسة والكفاح وانزوَوا في بيوتهم في المدينة،
اهتبل الغلاة هذه الفرصة في الكوفة، وتمسكوا بالتأويل وأسبغوا القدسية والإلهية على الأئمة».
١٢١ وهكذا استحال الإمام من «منظِّر سياسي» إلى «إنسان مؤلِّه» «ذي إرث روحي، يمسك
بالباطن وبالظاهر معًا». واستحال التأويل (أو النطق عن القرآن) بدوره، من «صياغة واعية
لأيديولوجيا سياسية معارضة» إلى «حديث صعب مستصعب، لا يحتمله ملك مقرَّب ولا نبي مرسل،
ولا
مؤمن ممتحن»
١٢٢ وهو حديث «مخصوص، لا يصلح إلا للخصوص، والخصوص قليل»
١٢٣ وهؤلاء الخصوص هم الأئمة «الذين ليس لغيرهم من الأنبياء والمرسلين والملائكة
المقربين فيه حظ ولا نصيب».
١٢٤
بهذا العلم الباطني المستور، «اختص الأئمة بتأويل القرآن دون غيرهم من البشر»،
١٢٥ «فالتأويل مستودع عند واحد «فقط»، دونه التأويلات الزائفة. إذ إن «باب المعاني
مقفل»، بعد أن «أضحى مفتاحُه بأيدي خزنة العلم الإلهي».»
١٢٦ فقط، وهم الأئمة من آل البيت.
١٢٧ وهكذا بات الإمام مصدرَ أيِّ علم ديني، بل ودنيوي، فهو «إمام في سائر الدين»
«كما» يجب أن يكون «عالمًا بالسياسة التي أمرُه ونهيُه منوطٌ بها».
١٢٨ ويصدر الإمام في علمه هذا عن «قوة الإلهام، التي تسمَّى بالقوة القدسية، والتي
تبلغ عنده الكمال في أعلى درجاته. فيكون في صفاء نفسه القدسية على استعداد لتلقِّي
المعلومات في كل وقت وفي كل حالة. فمتى توجَّه إلى شيء من الأشياء وأراد معرفته استطاع
علمه
بتلك القوة القدسية الإلهامية، بلا توقف، ولا ترتيب مقدمات، ولا تلقين معلِّم، وتنجلي
في
نفسه المعلومات كما تنجلي المرئيات في المرآة الصافية، لا غطش فيها ولا إبهام».
١٢٩ وهذه القوة القدسية التي يرى فيها الشيعة مصدر «علم الإمام الإلهامي»، هي ذاتها
مصدر «وحي النبي»؛ لأنه إذا كانت للنبي «روح القدس، فيه حمل النبوة. فإنه إذا قبض النبي
انتقل روح القدس فصار إلى الإمام».
١٣٠ وهكذا لم يَعُد علم الأئمة علمًا إنسانيًّا فيه أثرٌ للتحصيل أو المراجعة
والتأمل في العالم، بل علم «لدني من الله يتم بالإلهام والنكت في القلب والنقر في الأُذُن
والرؤيا في النوم، والملك المحدِّث، ورفع المنار، والعمود والمصباح، وعرض الأعمال».
١٣١ وهكذا لا يصبح من فارق البتة بين «إلهام الإمام» وبين «وحي النبي»؛ إلا في أن
الشيعة يسمون «إلهام الإمام» «تفهيمًا وتحديثًا»، بدلًا من تسميته «وحيًا»، ويرون أن
الفارق
بين «التحديث» وبين «الوحي» أن الإمام لا يرى الملك، وإنما هو «يسمع الصوت ولا يرى الشخص»،
«ويُعطَى السكينة والوقار حتى يعلم أنه كلام الملك»؛
١٣٢ أي إنه ليس من فارق جوهري بين الإمام والنبي. ومن هنا فإن «الأحكام الشرعية
الإلهية لا تُستقى إلا من مائهم — أي الأئمة — ولا يصح أخذها إلا منهم».
١٣٣ إذ «إن أسرار الدين متوقفة على تعليم الأئمة من نسل فاطمة الزهراء، فهم الكواكب
والنجوم والمصابيح تُرسل نور المعرفة إلى قلوب أتباعهم، كما أن العين المبصرة بدون القمر
والشمس والمصباح لا تحقق الفائدة المرجوة، كذلك المسلم لا بد له من أن يستمد من الأئمة
أنوار العلم والمعرفة، وإلا فإن العقول
١٣٤ وحدها لا تكفي».
١٣٥ وهكذا بات «الإمام ضرورة معرفية (إبستمولوجية)؛ لأنه «لا مدرك للعلوم إلا
بالتعليم» منه، على قول الغزالي؛ ولذا فإنه (الإمام) «مرشد ضروري وجوده في كل عصر حتى
لا
يبقى العالم جاهلًا».»
١٣٦ وقد ارتبطت هذه الضرورة لا بحاجة إلى الإمام «معرفية» فقط، بل «دينية» في
الأساس. إذ بات الإمام — كذلك — «حجة يُهتدى بها إلى الله، مَن تركه هلك، ومَن لزمه نجا».
١٣٧ وقد ردَّ الشيعة هذا الاحتياج «المعرفي» و«الديني» للإمام إلى تعليم النبي
نفسه؛ إذ قال: «تعلموا من عالم أهل بيتي أو ممَّن تعلَّم من عالم أهل بيتي تنجوا من النار».
١٣٨ وهكذا ارتبط الإيمان الحق، والنجاة من النار، لا بتمثُّلٍ واعٍ لتعليم الدين،
بل باتباع تعليم الإمام. ولهذا بدا أن «مَن مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية».
وتبعًا لذلك صار «الموت عن جاهلية» مصيرًا لذلك الذي مات ولم يعرف «إمام» زمانه، تمامًا
كما
كان مصيرًا لذلك الذي مات ولم يعرف «نبي» زمانه. فبدا وكأن ضرورة الإمام المعرفية والدينية،
تهدف عند الشيعة إلى إبرازِ ضربٍ من التطابق الكامل بين النبوة والإمامة، أو التأكيد
— على
الأقل — على «أن لعلم النبوة متممًا ضروريًّا هو علم الإمامة.»
١٣٩
وقد أفضى القولُ بالضرورة المعرفية «الإبستمولوجية» للأئمة — التي تفرَّع عنها القول
بتناسخ النبوة في الأئمة — إلى القول بالضرورة الوجودية «الأنطولوجية» لهم، والتي ترتب
عليها إثبات نوع من الوجود المتميز أو المفارق للإمام. ومن هنا نشأت «ميتافيزيقا الإمامة»
التي نشأت «ميتافيزيقا النبوة»،
١٤٠ كقطبٍ موازٍ لها فيما بعدُ. فإذا كان «الأشاعرة» قد ردوا اختصاص النبي بالنبوة
إلى اصطفاء من الله، لا تدركه العقول، وردَّ «المعتزلة» هذا الاختصاص إلى «رفعة مخصوصة»
تمكن منها النبي بعمله، فإن الشيعة قد اندفعوا لتبرير اختصاص أئمتهم بالنبوة المستمرة
إلى
تأسيس — ما يمكن تسميته — «ميتافيزيقا الإمامة»، وتعني النظر إلى الإمامة بوصفها أحدَ
أهم
العناصر في نسق شامل للوجود العام (الأنطولوجيا).
١٤١ إذ اعتقد الشيعة أن للأئمة قدسيةً وخصوصية تبلغ حدَّ الاعتقاد «بوجود «إنسان
رباني» أو «رب إنساني» دون أن تتضمن هذه المقالة فكرة التجسد.»
١٤٢ ومن هنا تميَّز الأئمة بضرب من الوجود المتعالي على وجود البشر.
١٤٣ إذ إن لهم وجودًا مفارقًا سابقًا، في الأزل، على وجودهم الأرضي، أشار إليه الله
نفسه؛ إذ خاطب النبي: «يا محمد، إني خلقتك وعليًّا، قبل أن أخلق سمواتي وأرضي وعرشي،
فلم
تزل تُهللني وتُمجدني، ثم جمعت روحَيكما فحللتهما واحدة، فكانت تُمجدني وتقدسني وتهلِّلني،
ثم قسمتها ثنتين، وقسمت الثنتين ثنتين، فصارت أربعًا: محمد واحد وعليٌّ واحد والحسن والحسين
ثنتان، ثم خلق الله فاطمة، ابتدأها روحًا بلا بدن.»
١٤٤ ولكن النبي إذ أدرك — فيما يبدو — ما في خلقه والأئمة — قبل خلق السموات والأرض
والعرش — من غلو جامح، فقد قنع بالقول: «خُلقت أنا وعليٌّ من نور واحد، قبل أن يخلق الله
آدم بأربعة عشر ألف عام».
١٤٥ ومن هنا فإنه كما كان النبيُّ «نبيًّا وآدم بين الطين والتراب»، كان عليٌّ
بدوره «وليًّا (إمامًا) وآدم بين الطين والتراب».
١٤٦ ولهذا بدَا أن الإمامة، كالنبوة، وجهٌ من وجوه الحقيقة الإلهية الكامنة في
الأزل تتجلَّى دوريًّا على الأرض في صورة إمام. فكما أن «سنَّة النبي قد جرَت على أن
يتصور
في كل زمان بصورة أكمل البشر ليُعلي شأنهم … «إذ» له من التمكين في التصور بكل صورة حتى
يتجلَّى في هذه الصورة «الأخيرة».»
١٤٧ فإن عليًّا — على قول النبي — قد أُرسل مع كافة الأنبياء-الصور سرًّا، وأرسل
معه جهرًا.
١٤٨ بل إن عليًّا قد رأى لنفسه، «التمكين في التصور بكل صورة»، تمامًا كالنبي؛ ولذا
تصور نفسه «آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى، ينتقل في الصور كيف يشاء، مَن يراه فقد رآهم».
١٤٩ وبهذا صار «الإمام» — تمامًا كالنبي عند الصوفية المتفلسفة — مصدرَ «وحدة دينية وكونية»
١٥٠ حيث «يجمع بين النواميس المختلفة المتفرقة المتبائنة بالكشف عن حقائقها فتصير
مجموعة كأنها شريعة واحدة. وكأن أممها أمة واحدة.»
١٥١ فالإمام هو «نهاية الكل من الرسل»،
١٥٢ وهو كذلك أيضًا و«آدم بين الطين والتراب». ولهذا يعد الإمام — عند الشيعة —
كالنبي عند الصوفية،
١٥٣ في مرتبة «الإنسان الكامل» الذي «هو القطب الذي تدور عليه أفلاك الوجود من أوله
إلى آخره، وهو واحد منذ كان الوجود إلى أبد الآبدين، ثم له تنوع في ملابس ويظهر في كنائس».
١٥٤ وبهذا استحال الإمام من «معلم لا مدرك للعلوم إلا به» إلى «قطب تدور عليه أفلاك
الوجود من أوله إلى آخره»؛ أي إن تميز الأئمة «إبستمولوجيًّا» قد تأدَّى إلى تميزهم
«أنطولوجيًّا»؛ حيث ترتدُّ جدارتهم بالنبوة المستمرة إلى ضربٍ من الوجود المفارق يجعلهم
«ظاهرًا من جنس البشر»، وباطنًا من جنس «الإنسان الرباني» الذي «أقرَّت له جميعُ الملائكة
والروح والرسل بمثل ما أقروا به لمحمد؛ «لأنه» يحمل مثل حمولته، وهي حمولة الرب».
١٥٥ وهكذا يكون النسق الشيعي قد تأدَّى من الضرورة «الإبستمولوجية» إلى الضرورة
«الأنطولوجية» للإمامة التي لم تَعُد فقط مفيضةً للمعرفة على العقول، بل «فاعلة لجميع
الأشياء أولًا وآخرًا».
١٥٦
وقد تأدَّى الشيعة — بتأثير الضرورتين الإبستمولوجية والأنطولوجية للإمامة، فيما
يبدو —
إلى القول «بوجوب» الإمامة. والحق أنه ليس هناك خلاف بين فرق الإسلام حول هذه القضية.
إذ
«اتفق جميع أهل السنة، وجميع المرجئة، وجميع الشيعة، وجميع الخوارج على وجوب الإمامة».
١٥٧ وهكذا «قال الناس كلهم: لا بد من إمام.»
١٥٨ ولهذا لم يفارق الشيعة جمهرة الأمة بمجرد القول بوجوب الإمامة، بل فارقوها —
حقًّا — في «الطريق الذي منه تجب الإمامة». إذ الوجوب قد يكون مأخوذًا من السمع أو العقل.
فطبقًا لمعتزلة البصرة، وكذلك الجبائيان؛ أبو علي وأبو هاشم، وجمهور أهل السنة، «لا ينبغي
أن تظن أن وجوب ذلك مأخوذ من العقل.»
١٥٩ «أما الشيعة فكلهم يقولون إن طريق وجوبها هو «العقل»، ومن المعتزلة أيضًا مَن
قال إن طريق وجوبها العقل — ولكن بمفهوم مختلف اختلافًا تامًّا عن مفهوم الشيعة — وهم
المعتزلة، البغداديون والجاحظ من معتزلة البصرة.»
١٦٠ ويتمثل الفارق الجوهري بين الشيعة والمعتزلة في إيجاب الإمامة عقلًا، في أن
الشيعة يوجبونها عقلًا على «الله»، في حين يقول المعتزلة بإيجابها عقلًا على «البشر».
وقد
ردَّ الشيعة إيجابهم للإمامة عقلًا على الله إلى أن «نصب الإمام لطف، لأنه مُقرِّب من
الطاعة ومُبعد عن المعصية، واللطف واجب على الله.»
١٦١ وبدورها، كانت النبوة — عندهم — «من الألطاف الواجبة على الله.»
١٦٢ وعلى هذا فإن «الهدف الذي لأصله وجبت «النبوة» هو نفس الهدف الذي من أجله تجب
«الإمامة» … فكما أن النبوة لطف من الله كذلك الإمامة».
١٦٣ وهكذا يتبدَّى اعتبار «الإمامة قرين النبوة» أحد أهم موجهات النسق الشيعي على
الإطلاق.
ويبدو أن المعتزلة — إذ قالوا: إن النبوة واجبة بالعقل على الله تعالى لمصلحة المكلفين؛
«لأنها لطف في العقليات»
١٦٤ — كانوا، دون سائر الفرق الأكثر إدراكًا لارتباط «بحث النبوة» باعتقاد الشيعة
في الإمامة. وقد بلغ هذا الإدراكُ حدَّ الخوف من تصور «إلزاماتهم على الشيعة في الإمامة
ترجع عليهم في النبوات.»
١٦٥ وهو ما اعتذروا عنه بأن «وجوب النبوة عندهم كان مقيدًا بحسنها»،
١٦٦ في حين كان وجوب الإمامة، عند الشيعة، مطلقًا. والحق أن «القاضي عبد الجبار»
كان — بين المعتزلة — الأكثر إدراكًا لارتباط بحث «النبوة» باعتقاد «الإمامة»؛ إذ «استنفد
شطرًا كبيرًا من محاولته «تثبيت دلائل النبوة».»
١٦٧ في «تفنيد دلائل الإمامة» كما تصورها الشيعة، وذلك إضافة إلى إشارته اللافتة في
بحثه للإمامة — ضمن أجزاء المغني — إلى التوتر الدائم بين النبوة والإمامة. ولعلَّ ذلك
يجعل
القول بأن «بحث النبوة» قد انبثق في مواجهة «اعتقاد الإمامة» قولًا ممكنًا.
بان، إذن، أن البحث الاعتقادي في النبوة قد نشأ مرتبطًا — تاريخيًّا ونظريًّا — بتبلور
عقيدة الشيعة في الإمامة، التي كان الخلاف حولها أول ما نشأ من الخلاف بين المسلمين.
فقد
تمحور النسق الشيعي — سياسيًّا وعقائديًّا — حول الإمامة، التي تحوَّلت — بتأثير القمع
السياسي — من «مسألة سياسية» إلى «عقيدة دينية». وقد ترتَّب على ذلك أن تضخَّم «دور الإمام»
حتى استوعب «دور النبي»، بل «والله» عند الغلاة. ولهذا كان لزامًا
١٦٨ التنظير «لاعتقاد في النبوة» موازٍ لاعتقاد الشيعة في الإمامة. ومن هنا أصبح
«الوسط الشيعي هو الوسط الذي كان — دون غيره — ملائمًا لينشأ فيه (وبالأحرى في غيره،
كردِّ
فعلٍ على تمحوره حول الإمامة) علمُ نبوة يكون مدارًا للتأمل والتطور».
١٦٩
والحق أنَّ ثمة تداعيات أخرى، انبثق في إطارها البحث الاعتقادي في النبوة، انعكست
—
خاصة — في الصورة التي ظهر عليها البحث في المصنفات الكلامية الأولى. فاللافت أن النبوة
لم
تظهر كإحدى العقائد، في أيٍّ من المصنفات الأولى الخاصة ببيان عقائد الإيمان، وكان أول
ظهورها في مصنفات التأريخ للفِرَق والرد عليها.
١٧٠ ولعلَّ ذلك يكشف عن حقيقة أساسية جوهرها أن مبحث النبوة عند كلٍّ من الأشاعرة
والمعتزلة قد نشأ بادئ ذي بدء، مبحثًا دفاعيًّا خالصًا يهدف إلى الرد على آراء الفرق
المخالفة في مسألة النبوة. وكان ذلك في نهاية القرن الثاني الهجري، فيما يبدو إذا كان
الإمام الشافعي ٢٠٤ﻫ (أحد أسلاف الأشاعرة المتقدمين) أول من صنَّف في «تصحيح النبوة والرد
على البراهمة».
١٧١ كما كتب بشر بن المعتمر ٢١٠ﻫ — كأول معتزلي
١٧٢ — في «إثبات النبوة»
١٧٣ في ذات اللحظة التاريخية تقريبًا،
١٧٤ واللافت أن ثمة حسًّا دفاعيًّا حادًّا يتبدَّى في عنوان المصنفين؛ فالأول يتحدث
عن «تصحيح» لا بدَّ أن سبقه «اعوجاج» وراءه — دون شك — البراهمة الذين تكفَّل المصنف
بالرد
عليهم، وكذلك يتحدث الثاني عن «إثبات» لا بد أن ثمة «إنكارًا»
١٧٥ كان سابقًا عليه. وقد ظلت النبوة هكذا؛ مبحثًا دفاعيًّا متداولًا في كتب
التأريخ للفرق والرد عليها، إلى أن كان القرن الرابع الهجري، حيث انتقلت النبوة من التداول
في كتب الفرق فقط، إلى الظهور، كإحدى العقائد المستقلة، في كتب العقائد، مثل «العقيدة
الطحاوية» للطحاوي ٣٢١ﻫ، و«كتاب التوحيد» للماتريدي ٣٣٣ﻫ. وهكذا استغرق انتقال النبوة
من
«مصنفات الفرق» إلى «مصنفات العقائد» قرنًا كاملًا، اختمرت خلاله — دون شك — عوامل هذا
الانتقال التي تتبلور أساسًا في اتساع نطاق «العلم» — علم الكلام — وبلوغه مزيدًا من
الاكتمال والتطور.
وبالرغم من أن حجج البراهمة في إبطال النبوات — التي تقوم على مفارقة قاسية تُلزم
العقل
إلزامًا يتعذر تجاوزه إلا بما يجاوز العقل ذاته
١٧٦ — هي التي استنهضت كافة الردود الدفاعية عند المتكلمين، فإن الأمر لم يكن
ليمضيَ على هذا النحو، لو أن الحجج البرهمية قد احتفظت بوجودها في إطارها الحضاري الخاص،
١٧٧ دون أن تتسرب إلى الوسط الحضاري الإسلامي. فقد بدا أن ثمة، في الوسط الإسلامي،
من «أُعجب بقول البراهمة بإبطال النبوات»؛
١٧٨ كابن الراوندي الملحد ٢٩٧ﻫ، والرازي «الطبيب» ٣١١ﻫ، بل وإبراهيم النظَّام
المعتزلي ٢٣١ﻫ.
وبصرف النظر عن النظَّام،
١٧٩ فإن موقف ابن الراوندي الملحد من النبوة يكاد أن يكون اجترارًا كاملًا لموقف
البراهمة منها، حتى إنه «يُعلن في أول بحثه أنه لا يعمل شيئًا سوى أنه يردِّد أقوالًا
جرَت
على ألسنة البراهمة في ردِّ النبوات».
١٨٠ فإنه والرازي «الطبيب» أيضًا — كالبراهمة — يكرِّسان التناقض بين العقل والنبوة
بدلًا من تفكيكه ورفعه، ولكن مع فارق جوهري بينهما، يتمثَّل في أنه إذا كان ابن الراوندي
—
كما أعلن — «لا يعمل شيئًا سوى أن يردِّد أقوالًا جرَت على ألسنة البراهمة في ردِّ
النبوات.» فإن الرازي «الطبيب» قد تقدَّم خطوة بتأسيس إنكاره للنبوة على أساس عقلي خاص،
١٨١ استمده من ممارساته العلمية والتجريبية، دون أن يكون — كما كان ابن الراوندي —
مجرد متابع لأقوال البراهمة. ومع ذلك، فإن منهج ابن الراوندي في النقل عن البراهمة يُعد
مقدمةً ضرورية لمنهج الرازي في تمثُّل عقلانية دخيلة بقصد استيلاد عقلانية أصيلة.
١٨٢
وقد أفرد ابن الراوندي كتاب «الزمردة»
١٨٣ لإنكار الرسل وإبطال رسالتهم. وأول ما يبدأ به حجة البراهمة الشهيرة في «أن
العقل أعظم نعم الله. وأنه هو الذي يُعرف به الرب ونِعمه، ومن أجله صح الأمر والنهي
والترغيب والترهيب. فإن كان الرسول يأتي مؤكدًا لما فيه (أي العقل) من التحسين والتقبيح
والإيجاب والحظر فساقط عنَّا النظر في حجته وإجابة دعوته (أي النبي)؛ إذ قد غُنينا بما
في
العقل عنه، والإرسال على هذا الوجه خطأ. وإن كان بخلاف ما في العقل من التحسين والتقبيح
والإطلاق والحظر، فحينئذٍ يسقط عنا الإقرار بنبوته».
١٨٤ وهكذا تبدو النبوة في الحالَين لا معنًى لها؛ لأنها إما أن تُقرَّ ما يُقرُّه
العقل، وحينئذٍ تكون تابعةً له، ولا حجة فيها، وإما أن تُخالف ما يُقرُّه العقل، وحينئذٍ
يجب رفضها.
١٨٥ وإذ صاغ ابن الراوندي العلاقة بين العقل والنبوة على هذا النحو، فإنه يقرِّر أن
النبوة تخالف ما يُقرُّه العقل، «فإن الرسول أتى بما كان منافرًا للعقول؛ مثل الصلاة
وغسل
الجنابة، ورمي الحجارة (في الحج)، والطواف حول بيت لا يسمع ولا يُبصر، والعَدْو بين حجرَين
(الصفا والمروة) لا ينفعان ولا يضران، وهذا كلُّه مما لا يقتضيه عقل، فما الفرق بين الصفا
والمروة، إلا كالفرق بين أبي قبيس وحرى (جبلان بمكة)، وما الطواف على البيت إلا كالطواف
على
غيره من البيوت».
١٨٦ وهكذا لم يأتِ الرسول إلا «بما كان منافرًا للعقول»؛ ولهذا فإن القول بأن
«الرسول شهد للعقل برفعته وجلاله»،
١٨٧ إن دلَّ على شيء، فإنما على كذب الرسول، لأنه «إن كان صادقًا، فلِمَ أتى بما ينافره».
١٨٨
ولأن النبوة تخالف ما يُقرُّه العقل، والرسول كاذب، فإن المعجزات التي يحتجُّ بها
الأنبياء على النبوة غير مقبولة؛ لأن «المخاريق شتى وأن فيها ما يبعد الوصول إلى معرفته،
ويدق عن المعارف لدقته».
١٨٩ ومن ناحية أخرى، فإن أخبار هذه المعجزات قد تواترت إلينا عن «شرذمة قليلة يجوز
عليها المواطأة في الكذب»؛
١٩٠ إذ «مَن ذا الذي يسلم أن الحصى يسبِّح أو أن الذئب يتكلم؟»
١٩١ كما يباشر ابن الراوندي نقدًا لمنطق المعجزة الداخلي المتهافت، خاصة حين يسخر
من معجزة الملائكة الذين أنزلهم الله يوم وقعة بدر لنصرة النبي، قائلًا: «إنهم كانوا
مغلولي
الشوكة، قليلي البطشة، على كثرة عددهم، واجتماع أيديهم وأيدي المسلمين، فلم يقدروا على
أن
يقتلوا زيادة على سبعين رجلًا …» ثم يتساءل: «أين كانت الملائكة في يوم أُحُد لمَّا توارى
النبي ما بين القتلى فزعًا، وما باله لم ينصروه في ذلك المقام؟!»
١٩٢ ويتبدَّى المنطق المتهافت للمعجزة — طبقًا لابن الراوندي — في أنه «إذا كانت
المعجزة نصرًا من الله يجيء في وقت الحاجة إليه، فإن حدوثها في الحالات الأكثر حرجًا
وضيقًا
أولى من حدوثها في الحالات الأقل حرجًا وضيقًا.»
١٩٣
ولا يتوقف ابن الراوندي عند انتقاد هذه المعجزات المتواترة فقط، بل يتطرف في نقد
المعجزة الدائمة؛ أعني القرآن. فإن كان إعجاز القرآن يتأتى من «نظمه العجيب في البلاغة
والفصاحة الخارجة عن العادة»،
١٩٤ فإن ابن الراوندي يرى «أنه لا يمتنع أن تكون قبيلة من العرب أفصح من القبائل
كلها، وتكون عدة من تلك القبيلة أفصح من تلك القبيلة، ويكون واحد من تلك العدَّة أفصح
من
تلك العدَّة — وهَبْ أن فصاحته (القرآن) طالت على العرب، فما حكمه على العجم الذين لا
يعرفون اللسان، وما حجته عليهم».
١٩٥ أي إن فصاحة القرآن — طبقًا لابن الراوندي — ليست بمعجزة؛ لأنها ليست عملًا
«خارجًا عن العادة» — يتعذر تفسيره — بل عملًا يبدو في مقدور البشر بلوغه، وحتى تجاوزه.
ولذا رأى ابن الراوندي أن كلام «أكثم بن صيفي» مثلًا، أحسن من «إنا أعطيناك الكوثر».
١٩٦
وإذ أدرك ابن الراوندي أن «بعض أهل الكلام «يقولون أيضًا» إن نظمه «القرآن» ليس معجزًا.»
١٩٧ فإنه اضطر للعبور من هذا «النقد الخارجي» المتعلق بالصياغة الأسلوبية، إلى ضرب
من «النقد الداخلي»، الأكثر جذرية، يرد نشأة النص (القرآن) إلى شعور
١٩٨ الجماعة، ولا شعورها أيضًا، أو يهدف — على الأقل — إلى إبراز تحدي معنى النص
للعقل، فإن النبي «لما وصف الجنة، قال: فيها أنهار من لبن لم يتغير طعمه، وهو الحليب،
ولا
يكاد يشتهيه إلا الجائع، وذكر العسل، ولا يطلب صرفًا، والزنجبيل، وليس من لذيذ الأشربة،
والسندس يُفرش ولا يُلبس، وكذلك الإستبرق الغليظ من الديباج … ومن تخايل أنه في الجنة
يلبس
هذا الغلظ ويشرب الحليب والزنجبيل، صار كعروس الأكراد والنبط».
١٩٩ يودُّ ابن الراوندي أن يؤكِّد — طبقًا لهذا القول — أن «وصف الجنة» مستمدٌّ
بأَسْره من تجربة العيش في الصحراء، بما فيها من شظف وقسوة، وبهذا يكون النص من وضع الشعور،
وليس تبليغًا أو وحيًا من الله.
ومن جهة أخرى، يؤكد ابن الراوندي أن ثمَّة في القرآن — من جهة المعنى — ما يناقض حقائق
العقل، فهو يرى أنَّ اللغة نتاجٌ إنساني قديم؛ «فإن الكلام مُستملَى عن الوالدين، صاعدًا
قرنًا فقرنًا إلى ما لا نهاية له، فليس للخلق أول».
٢٠٠ وهذا يعني أن اللغة اصطلاحٌ وتواطؤ، وليست توقيفًا ووحيًا؛ أي أنها ليست
تعليمًا من الله. وفي هذا ما يناقض تفسير الآية:
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا،
التي تعني أن الله هو الذي أعطى اللغة لآدم.
٢٠١ وهكذا بات إعجاز القرآن — إن من حيث مبناه أو معناه — على غير وفاق العقل، وهذا
ما كرَّس إبطال النبوة تكريسًا تامًّا. وبهذا النقد الأخير «للنص» بدَا ابن الراوندي
مجاوزًا للإطار الصوري للنقد البرهمي، الذي استنفد قواه في إبراز مجرد التناقض الصوري
بين
العقل والنبوة. إذ غدا «النقد» عنده، نقدًا «للموضوعي»، وليس «للصوري».
ولكن نقد ابن الراوندي للنبوة وإبطاله لها، لم يتمخَّض — بالرغم من ذلك — عن تطوير
إطار
معرفي بديل، تنتفي منه مآخذه على نمط المعرفة النبوي؛ وأعني الاتِّباعية والتقليد خاصة.
فالحق أنه كان — هو نفسه — متابعًا ومقلِّدًا للبراهمة في الكثير. ولهذا كان الرازي
«الطبيب» ٣١١ﻫ، أكثرَ تقدمًا، حين بدَا أنه يُبطِل النبوة، بقصد إفساح الميدان لمعرفة
مدارها العقل والطبيعة. فقد طوَّر الرازي نقدًا عامًّا للنبوة والدين على أسس عقلية
وتاريخية وأنثروبولوجية؛ ولهذا بات قريبًا من تيار التنوير الأوروبي، الذي استند في «نقد
الدين» إلى الأسس ذاتها، وازداد التقارب قوة، حين طوَّر الرازي نقدًا متقدمًا للكتب
المقدسة. وهكذا، يمكن القول — حتى بصرف النظر عن الإقرار بأن نقد الرازي للدين والنبوة
«كان
منبعَ الاعتراضات التي وجَّهها عقليُّو أوروبا إلى الدين والنبوة في عهد فردريك الثاني»
٢٠٢ — إن التقارب بين الرازي وبين تيار التنوير الأوروبي يبدو أكثرَ من لافت.
٢٠٣
وقد أبطل الرازي النبوةَ انطلاقًا من قناعة كاملة بأن «الأولوية» — في أي معرفة أو
أخلاق — هي للعقل الذي «أدركنا به جميعَ ما ينفعنا ويحسن ويطيب به عيشُنا ونَصِل إلى
بُغيتنا ومرادنا، وبه أدركنا الأمور الغامضة البعيدة منا المستورة عنا، وبه وصلنا إلى
معرفة
الباري عز وجل الذي هو أعظم ما استدركنا وأنفع ما أصبنا».
٢٠٤ ولعلَّ أهم ما يُظهره «النص» أن في العقل كفايةً عن كل ما سواه، وأن النبوة لا
تُضيف شيئًا إلى ما يعرفه الإنسان «بالعقل». فبالعقل لم يعرف الإنسان الحياة والأخلاق
والصنائع فقط، وإنما عرَف الله كذلك. وعلى هذا بات أصلُ الدين والدنيا (أو مضمون النبوة)
معروفًا بالعقل، وهذا يعني أنه لا حاجة إلى النبوة. وهكذا يتأتى إبطال النبوة عند الرازي،
لا من التعارض مع العقل، بل من التوافق التام بينهما.
٢٠٥
ويبدو أن نظريته في المساواة بين البشر هي النتاج المنطقي للقول «بأولوية» العقل
في
ميدان المعرفة، لأن «العقل هو أعدل الأشياء قسمةً بين الناس جميعًا». فالبشر جميعًا يملكون
نصيبًا متساويًا من الاستعداد للمعرفة، دون أن تكون هناك «طبقية معرفية» تُقسم الناس
إلى
إمام ومأموم أو فاضل ومفضول. ولهذا، فإنه «من أين «يجب» أن الله اختصَّ قومًا بالنبوة
دون
قوم، وفضَّلهم على الناس، وجعلهم أدلةً لهم، وأحوج الناس إليهم؟ ومن أين «يجوز» في حكمة
الحكيم أن يختار لهم ذلك ويشلي (يعلي) بعضهم على بعض؟»
٢٠٦ وهكذا يرى الرازي، أنَّ النبوة — من حيث هي اختصاص للبعض بمهام التعليم
والهداية — تُقوِّض المساواة القائمة على وحدة القسمة العادلة للعقل بين البشر؛ لأنها
تؤدي
إلى تفضيل بعض الناس على بعض. وهذا ما يأباه العقل ولا يُقرُّه؛ إذ يؤدِّي هذا «التفضيل
والاختصاص» إلى الشقاق والعداوة بين الناس؛ ولذلك فإن «الأولى بحكمة الحكيم ورحمة الرحيم
أن
يُلهم عبادَه أجمعين معرفةَ منافعِهم ومضارِّهم من عاجلهم وآجلهم، ولا يفضِّل بعضهم على
بعض، فلا يكون بينهم تنازع ولا اختلاف فيهلكوا، وذلك أحوط لهم من أن يجعل بعضهم أئمةً
لبعض،
فتصدِّق كلُّ فرقة إمامَها، وتكذِّب غيره، ويضرب بعضهم وجوه بعض بالسيف، ويعم البلاء
ويهلكوا بالتعادي والمحاربات.»
٢٠٧ وهكذا طوَّر الرازي «نقدًا أنثروبولوجيًّا» للنبوة، إذ عدَّها أساسًا لتقويض
«الاجتماع الإنساني»؛ لأنها تؤدي إلى أن «يعمَّ البلاء ويهلكَ الناس بالتعادي والمحاربات»؛
حيث «تجعل بعضهم أئمة لبعض». وقد بدا أن الرازي يعارض، بذلك، أولئك الذين جعلوا النبوة
أصلًا للاجتماع الإنساني؛ «لأن الإنسان إذا استقلَّ بأمر نفسه، ازدحم على ما يشتهيه …
فيقع
من ذلك الهرج والتنازع، ويختل أمر الاجتماع، وهذا الاختلال لا يندفع إلا بعدل يحفظه شرع
يفرضه شارع يختص بآيات ظاهرة ومعجزات باهرة تدعو إلى طاعته وتحثُّ على إجابته».
٢٠٨ ولعلَّ الأرجح أنَّ هذا التصور الأخير، هو الذي انبثق في معارضة تصور الرازي
أصلًا. وهكذا تفترض النبوة «اختلال أمر الاجتماع الإنساني» اختلالًا لا يندفع إلا بها،
في
حين يبقى «العقل» مصدرًا أوحد لوحدة وسواسية البشر. وإذ كان «استواء البشر في الهمم
والعقول»، هو الدَّرب الذي تأدَّى بالرازي إلى إبطال النبوة، فإنه لم يكن غريبًا أن تتطور
كلُّ محاولات نقض الرازي من تصور للبشر وقد تفاوتوا في الهمم والعقول.
٢٠٩
وإذ تبدَّت «النبوة» للرازي — على صعيد السوسيولوجيا — مثارًا «للتعادي والمحاربات»
بين
البشر، في حين بقيَ «العقل» عنده، شاهدًا على وحدة وسواسية البشر؛ فإن ذات التباين قد
تبدَّى له، على صعيد الإبستمولوجيا؛ إذ يتأدَّى العقل إلى وحدة المعرفة الإنسانية، وذلك
في
الوقت الذي لا تحمل فيه دعاوى الأنبياء، غير التناقض وحده. فقد «زعم عيسى أنه ابن الله،
وزعم موسى أنه لا ابن له، وزعم محمد أنه مخلوق كسائر الناس … وماني وزرهشت (زرادشت) خالفَا
موسى وعيسى ومحمدًا في القديم، وكون العالم، وسبب الخير والشر. وماني خالف زرهشت في الكونية
(النور والظلمة) وعالمهما. ومحمد زعم أن المسيح لم يُقتل، واليهود والنصارى تُنكر ذلك
وتزعم
أنه قُتل وصُلب».
٢١٠ وهكذا فإنه ليس سوى «التناقض»
٢١١ بين الأنبياء. وهذا يعني — طبقًا للرازي — إبطال النبوة؛ لأنه لما كان مصدر
النبوة، وهو الله، واحد، والله لا يمكن أن يتناقض، فإن الأنبياء — إذن — هم الذين يتناقضون،
وهذا يعني «أنهم لا ينطقون عن الحق، والنبوة بالتالي باطلة».
٢١٢
وقد ذهب الرازي — استنادًا إلى كون «العقل» فقط، هو «الحجة»، على المستويَين
الأنثروبولوجي والإبستمولوجي — إلى تفنيد الزعم «بحجية» الكتب المقدسة. وتبعًا لذلك،
أبطل
إعجاز القرآن، إن من حيث مبناه أو معناه؛ لأنه إن كان ثمة مَن يزعمون «أن المعجزة قائمة
موجودة، وهي القرآن، ويقولون: من أنكر ذلك فليأتِ بمثله،
٢١٣ «فإن الرازي يرد» إن أردتم بمثله في الوجوه التي يتفاضل بها الكلام، فعلينا أن
نأتيَكم بألف مثله من كلام البلغاء والفصحاء والشعراء وما هو أطلق منه ألفاظًا وأشد
اختصارًا في المعاني، وأبلغ أداء وعبارة وأشكل سجعًا، فإن لم ترضَوا بذلك، فإنَّا نطالبكم
بالمثل الذي تطالبوننا به».
٢١٤ وإذا كان هذا النقد يتعلق بالقرآن من حيث مبناه فقط، فإنه من حيث المعنى أيضًا
«مملوء من التناقض، وهو أساطير الأولين، وهي خرافات».
٢١٥ ولهذا تعجَّب الرازي من القول بأن «القرآن هو المعجزة»،
٢١٦ حيث إنه «لو وجب أن يكون كتاب حجة؛ لكانت كتب أصول الهندسة والمجسطي الذي يؤدي
إلى معرفة حركات الأفلاك والكواكب ونحو كتب المنطق وكتب الطبِّ الذي فيه علوم مصلحة
الأبدان، أولى بالحجة ممَّا لا يفيد نفعًا ولا ضرًّا ولا يكشف مستورًا».
٢١٧ وهكذا تأدَّى الرازي من «إعجاز الإلهي» إلى «إعجاز الإنساني»؛ حيث رأى أن هناك
نتاجًا «إنسانيًّا» أعلى من القرآن،
٢١٨ إن من حيث الشكل والمبنى، أو من حيث المضمون والمعنى.
وإذا كانت النبوة — وبالتالي الدين — تخرج بذلك كله، عن حكم العقل تمامًا؛ فإن الرازي
يردُّ الانتشار الواقعي للدين بين البشر إلى سيادة اللاعقلانية في النظر والعمل. فإن
«أهل
الشرائع أخذوا الدين عن رؤسائهم بالتقليد، ورفعوا النظر والبحث عن الأصول … وروَوا عن
رؤسائهم أخبارًا تُوجب عليهم ترك النظر ديانةً، وتوجب الكفر عمَّن خالف الأخبار التي
روَوها
… وإن سُئل أهل هذه الدعوى عن الدليل على صحة دعواهم، استطاروا غضبًا، وهدروا دمَ مَن
يطالبهم بذلك، ونهَوا عن النظر، وحرَّضوا على قتل مخالفيهم. فمن أجل ذلك اندفن الحق أشدَّ
اندفان، وانكتم أشد انكتام».
٢١٩ وهكذا ساد الدين واندفن الحق (العقلي بالطبع) بين أهل الشرائع بالتقليد
والإكراه، وكذلك «من طول الإلف لمذهبهم، ومر الأيام والعادة، واغترارهم بلحَى التيوس
المتصدرين في المجالس، يمزقون حلوقهم بالأكاذيب والخرافات، وحدثنا فلان عن فلان بالزور
والبهتان، وبرواياتهم الأخبار المتناقضة».
٢٢٠ إن سيادة الدين، إذن، ترتبط بسيادة «اللاعقلانية» في النظر والعمل. وهكذا بدا
وكأن الرازي — الذي «ينزع نزعة فكرية حرَّة من كل آثار التقليد أو العدوى، ويؤكد حقوق
الفعل
وسلطانه الذي لا يحدُّه شيء، وينحو منحًى تنويريًّا شبيهًا كلَّ الشبه بحركة التنوير
عند
السوفسطائيِّين اليونانيِّين، وخصوصًا بحركة التنوير في العصر الحديث في القرن الثامن
عشر»
٢٢١ — يضع العلاقة بين العقل والنبوة في إطار من التناقض التام. فانتهى إلى التضحية
«بالنبوي» لأجل «العقلي».
وقد كان ضروريًّا أن تنبثق في مواجهةِ ذلك كلِّه، ردودُ المتكلمين ودفاعاتهم، ولكن
مع
القشور — في الأغلب — دون اللباب. فالحق أن تيار إبطال النبوة عند ابن الراوندي والرازي
وغيرهما، كان يبدو على أنه الرد النظري الممكن على اغتراب الإنسان — السياسي والاجتماعي
—
وضياعه في العالم. وكعادتهم، اكتفى المتكلمون بالرد النظري على دعوى «إبطال النبوة»،
دون
الاقتراب من نقد الظروف القاسية التي تؤدي إلى ضياع الإنسان واغترابه. ولعلَّه كان مؤسفًا،
حقًّا، أن يتأدَّى الردُّ الكلامي — خاصة الأشعري — إلى تكريس مزيد من الشروط التي يبدو
الإنسان في ظلِّها كيانًا غريبًا بلا حول ولا قوة.