من «بناء الطبيعة» إلى «بناء المعجزة»
تتأتَّى ضرورة ومنطقية الانتقال من «بناء الطبيعة» إلى «بناء المعجزة» من أن الطبيعة
هي
الإطار الذي تتجلى فيه المعجزة، حتى إنه يستحيل تصورُ المعجزة في غياب تصور ملائم للطبيعة.
١٤٣ فالمعجزة — خرقًا للطبيعة كانت أو عملًا من أعمالها — تقوم في قلب الطبيعة لا
بعيدًا عنها، ومن هنا كان الارتباط بينهما. ويرجع ذلك — فيما يبدو — إلى أن الطبيعة —
بوصفها
العالم الأكبر (
Macrocosm) — هي الأكثر تأثيرًا في تثبيت
دلائل النبوة. فإنه يستحيل تثبيت النبوة بشهادة خاصة لكل فرد،
١٤٤ بل لا بد من «شهادة عامة» لا تقوم إلا في حدود ما يشمل النوع الإنساني بأسره؛
وأعني الطبيعة أو العقل. والحق أنه لم يكن من الممكن أبدًا تصور هذه الشهادة العامة (المعجزة)
تقوم بعيدًا عن الطبيعة في إطارِ وعيٍ لم يتميز تمامًا عن الطبيعة. ومن هنا، فإنه قد
تعذر —
وذلك في مرحلة لم يبلغ فيها العقل البشري تمامَ وعيه بذاته على الأقل
١٤٥ — أن تكون هذه الشهادة عقلية. وبالرغم من أن الإسلام قد تطور بشهادة صدق النبوة
من «معجزة» تخرق نظام الطبيعة إلى «إعجاز» يتحدَّى ملكات الإنسان وقُواه العقلية، فإن
أحدًا
لم يستطع — إلا فيما ندر — أن يتصور نبوةً تقوم دون معجزة خارقة للطبيعة. ومن هنا تواترت
الأخبار عن معجزات للنبي تخرق نظام الطبيعة؛ كانشقاق القمر ونبوع الماء من بين أصابعه،
وحديث
الشاة المسمومة، فبدا بذلك وكأنَّ أرقى أشكال «الإعجاز» لم تقدر على الانفصال عن أدنى
درجات المعجزة.
١٤٦ وبعبارة أخرى، بدا وكأن المعجزة لا تقوم أبدًا بعيدًا عن الطبيعة. وهكذا يبقى
فهمُ الطبيعة ضروريًّا ولازمًا لفهم المعجزة.
واللافت أن التصور الأشعري للطبيعة، مواتًا وتفككًا وافتقارًا لأدنى فاعلية أو تقوُّم
ذاتي، يتَّسق تمامًا وتصورهم للمعجزة فعلًا خارقًا للنظام الطبيعي أو «العادة». فالطبيعة
الأشعرية — على عكس الطبيعة الأرسطية — ليست عالمًا لأشياء تتضمن في ذاتها أصل حركتها،
بل
عالمًا لأشياء موات غير فاعلة. وقد ارتبط هذا التصور الأشعري للطبيعة بالرغبة في بيان
الهيمنة
المطلقة للقدرة الإلهية على أهم مقدور لها وهو الطبيعة. ومن هنا، فإن الاعتقاد الأشعري
في
«عدم وجود أصل باطني يُعَد مصدر سلوك الأشياء … يُعَد مقدمةً ضرورية للاعتقاد في … أن
دقائق
سلوك أيِّ كائن إنما ترجع بوجه خاص إلى فعل من أفعال إرادة الله القادر على كل شيء».
١٤٧ وهكذا فإنه «لا مجال — عند الأشاعرة — للقول بمقوم داخلي يُضفي خصائصَ ذاتية
للأشياء مستقلة عن إرادة الله … فعلاقة الحلاوة بالعسل ليست شيئًا ذاتيًّا فيه بموجب
مقوم
ذاتي، وإلا لما أمكن أن تستحيل الأعراض من حلاوة إلى حموضة مثلًا، وإنما ذلك كله يتوقف
على
مبدأ خارجي: قدرة الله».
١٤٨
انتقد الأشاعرة، إذن — والباقلاني خاصة
١٤٩ — فكرةَ «الطبع» أو الطبيعة بوصفها «مقومًا ذاتيًّا باطنيًّا في الأجسام يجعلها
تفعل من تلقاء ذاتها أو بموجب طبيعتها»،
١٥٠ فبدا وكأنه «لا شيء في الوجود يملك فعلًا خاصًّا به يرجع إلى طبيعته».
١٥١ ذلك أنه ليس من فاعل على الحقيقة — لدى الأشاعرة — إلا الله. واللافت أن البناء
الأشعري للطبيعة يتأدى منطقيًّا إلى تصورها، على هذا النحو، مواتًا وبلا أدنى فاعلية.
فالعالم
الطبيعي — لدى الأشاعرة — يبدو «كتلة منفصلة الأجزاء، لا فعل لجزء منه في الجزء الآخر».
إنه
عالم من التفتُّت والخواء يفتقر إلى أيِّ قانون موضوعي أو علاقة ضرورية بين أجزائه. فجواهره
لا تقدر على أن تتقوم بذاتها، وتبقى فقط ببقاء زائد على وجودها يكون من الله، وفوق ذلك
كله
فإنه لا سبيل أمامها للاتصال بعضها ببعض إلا بفعل من الله أيضًا. أما الأعراض فإنها لا
تبقى
في الوجود زمانين، بل تفنَى دومًا وتتجدد. وهذا التجدد لا يكون من نفسها بل من «الله».
وهكذا،
فإن أبسط العناصر التي تتألف منها الطبيعة الأشعرية
١٥٢ تبدو أعجز من أن تدوم في الوجود بذاتها وذلك يبرر — ولا شك — تصور الطبيعة مواتًا
ولا فاعلية.
وقد تأدَّى الإنكار الأشعري لفكرة «الطبع الذاتي» أو الطبيعة الفاعلة في باطن الشيء
إلى
إنكار «الضرورة» في الوجود، والقول — عِوضًا عن ذلك — بالخلق المستمر من الله دون وسائط.
فإن
«الله بقدرته اللامحدودة، قد خلق العالم بنفسه ودون أيِّ توسط، وكذلك فإنه يدبر العالم
أيضًا
بقدرته اللامحدودة ودون أيِّ توسط، وهكذا فإن كلَّ ما يوجد في العالم من موجودات، إنما
يوجد
بخلق مباشر من الله دون وساطة».
١٥٣ وهكذا، فإنه ليس من مجال في العالم لقانون موضوعي ثابت أو علاقة ضرورية تحكم سير
ظواهره، بل ثمة فقط قدرة إلهية مطلقة تفعل بلا وساطة ودون التقيد بمقتضيات قانون أو ضرورة.
وبعبارة أخرى، «فإن الطبيعة — كما نفهمها عادة — تتلاشى في الإرادة الإلهية»؛
١٥٤ حتى لتستحيل إلى هباء أو عدم.
١٥٥
لاح، إذن، أن الفاعلية الوحيدة الحقَّة في الطبيعة — طبقًا للأشاعرة — ليست فاعليةً
ذاتية
أو «مباطنة»، بل فاعلية «مفارقة»؛ أعنى فاعلية إلهية تتحقق من خلال الخلق المستمر، وتعني
فكرةُ الخلق المستمر «أن كلَّ حادثٍ ينقسم إلى أجزاء منفصلة مستقل بعضها عن بعض تمام
الاستقلال، بحيث لا تتصل هذه الأجزاء بعضها ببعض اتصال علَّة بمعلول أو سبب بمسبِّب؛
ذلك أن
هذه الأجزاء يخلقها الله دائمًا».
١٥٦ وعلى هذا، فإنَّ «إنكار الضرورة أو العلية» هو النتيجة القصوى اللازمة عن القول
بالخلق المستمر. ذلك أن «تصور جميع الأحداث في الطبيعة مستقلة بعضها عن بعض يقضي تمامًا
على
أية صلة بين لحظة ما في حياة الطبيعة واللحظة التي تليها»،
١٥٧ وبهذا ينتفي «التلازم الضروري بين وجود الكائن في لحظة ما وبين وجوده في اللحظة
السابقة لها مباشرة وفي اللحظة اللاحقة لها مباشرة»
١٥٨ وأما ما يبدو من ترابط ظاهري بين الحوادث في العالم، فإنه ليس أبدًا ترابطًا
ضروريًّا أو عليًّا، بل إن «مرجعه إلى أن الله قد أجرى خلق الأشياء على هذا النحو من
التوالي
مجرى العادة بإرادة منه لا نُدرك سرَّها، فخُيِّل لنا أن ذلك يجري على نسق من ترابط العلة
بالمعلول. ولكن الأمر ليس كذلك في الواقع، وإنما العادة التي أجراها الله لحكمة خفية
هي التي
صورت لنا الأمر هكذا».
١٥٩ وإذن، فإنها «العادة» — وليست الضرورة — هي ما يفسر الارتباط الظاهري بين الحوادث
والكائنات في العالم. فالحق أنه قد بدا للأشاعرة أنه يستحيل تمامًا تصور الله — فاعلًا
على
الحقيقة — في عالم ينطوي على أدنى أثر للضرورة، فكان أن ضحَّوا بالقانون العلِّي الطبيعي
إنقاذًا لفاعلية القدرة الإلهية المطلقة.
وهكذا فإن كل ما يحدث في العالم، إنما يستند في وجوده — طبقًا للأشاعرة — إلى إرادة
الله
وقدرته المطلقة ابتداءً، ودون أيِّ روابط علِّية تربطه بغيره من الموجودات. فإن «الاقتران
بين
ما يُعتقد في العادة سببًا، وما يُعتقد مسببًا، ليس ضروريًّا عندنا (أي الأشاعرة)، بل
كل
شيئَين ليس هذا ذاك ولا ذاك هذا. وإن إثبات أحدهما لا يتضمن على الإطلاق إثباتَ الآخر،
ولا
نَفْي أحدهما يتضمن على الإطلاق نفيَ الآخر، وليس من ضرورة وجود أحدهما وجود الآخر، ولا
من
ضرورة عدم وجود أحدهما عدم الآخر»
١٦٠ إن العلة، إذن، لا تتضمَّن معلولها على نحو ما يتضمن «الموضوع» محموله في القضايا
التحليلية في المنطق. ومن هنا، فإنه ليس من «استحالة منطقية» البتة في تصور «العلة» دون
«معلولها» أو العكس. إذ العلِّية — طبقًا للأشاعرة — ليست قانونًا عقليًّا أوليًّا يتأدَّى
إنكاره إلى تناقض ذاتي أو استحالة منطقية. وهكذا، فإن التلازم بين العلة والمعلول ليس
أبدًا
تلازمًا منطقيًّا يستحيل إنكاره.
وإذ تكشَّف التحليل المنطقي عن أن «العلية» ليست قانونًا عقليًّا أوليًّا يتأدَّى
إنكاره
إلى تناقض ذاتي أو استحالة منطقية، فإن تحليلًا تجريبيًّا «للعلِّية» يكشف عن أن «اطِّراد
الاقتران بين شيئَين لزم عنه أن رسخَت في أذهاننا جريانها على وَفق «العادة» ترسُّخًا
لا
انفصال عنه، وهذه «العادة» مكتسبة وليست فطرية في الذهن، وهي حصيلة عامل نفسي ذاتي أخطأ
الفلاسفة فجعلوه فيزيقيًّا موضوعيًّا».
١٦١ وهكذا «العلِّية» ليست قانونًا كامنًا في «العقل»، أو قانونًا كامنًا في
«الطبيعة»، وإنما مجرد «عادة» «تستقر في النفوس من الأمور المتكررة المعقولة عند الطبائع
السليمة».
١٦٢ فالحق أنه ليس من دليل على أن «النار» مثلًا علة، والاحتراق معلول لها سوى مجرد
المشاهدة.
وقد كان يمكن أن يكون التطابق كاملًا بين هذا التفسير الأشعري «للعلِّية»، وبين التفسير
الحديث لذات المفهوم، وخاصة عند هيوم؛ فكلاهما «لم يستطع — على قول هيوم — أن يجد في
طبيعة
الأشياء تفسيرًا للعلِّية. فاستعاض عن التفسير الميتافيزيقي للعلية بوصف العملية النفسانية
التي تُعين في حكم العلية».
١٦٣ ولكن بينما اكتفى هيوم بوصف هذه العملية النفسانية، فإنَّ الأشاعرة قد ارتدوا عن
هذه «المثالية الذاتية» — التي تُفسح مكانًا للإنسان — إلى مثاليتهم الإلهية الأثيرة،
فردوا
الاقتران المشاهد بين الأشياء، لا إلى مجرد عادتنا في الإدراك، بل إلى «ما سبق من تقدير
الله
سبحانه وتعالى، لخلقها على التساوق، لا لكونه ضروريًّا في نفسه، غير قابل للفوت»
١٦٤ فبدا بذلك وكأن المحورية الإلهية لم تَغِب عن النسق أبدًا.
فقد أدرك الأشاعرة — بحقٍّ — أنَّ ردَّ الاقتران المشاهد بين الحوادث في العالم إلى
مجرد
فعل «العادة»، ليس يعني شيئًا سوى نزع الفاعلية عن «الطبيعة» واستبدالها بفاعلية «إنسانية».
والحق أن ذلك لا يعني أكثر من الانتقال بالمسألة من إطار «نظرية الوجود» إلى إطار «نظرية
المعرفة»،
١٦٥ والمهم أن خرق النظام الطبيعي يكون، في الحالين، مستحيلًا.
١٦٦ إذ «العادة» تمثِّل فقط «تفسيرًا معرفيًّا» للمتحقق والمطَّرد، وليس «تبريرًا
أنطولوجيًّا» للممكن أو غير المطرد. ومن هنا اضطرَّ الأشاعرة إلى إفساح المجال «لفاعلية
إلهية» تخلق الأشياء على التساوق والتعاقب. وهكذا، فإن «وراء العادات الإدراكية عند الإنسان
تقديرًا من الله أن تجيء الأشياء المقترنة على صورة من التساوق بحيث تظل مقترنةً دائمًا،
وقد
لا يريد الله للأشياء مثل ذلك الاقتران فيبطل ما بينها من ضرورة التلازم، وعندئذٍ قد
ترى
النارَ محيطة بقطعة الورق دون أن تحترق بها قطعة الورق، وقد ترى الشمس ساطعة دون أن ينتشر
في
الأرجاء نور».
١٦٧ وعلى هذا، فإن الإرادة الإلهية المطلقة هي وحدها القانون الفاعل في
الطبيعة.
واللافت أن إنكارَ العلِّية — بوصفها واحدًا من القوانين الموضوعية والضرورية في
الطبيعة
— وردَّها إلى ما سبق من تقدير الله، بخلقه الأشياء على التساوق، قد ارتبطَا جوهريًّا
بإفساح
المجال لإمكان معجزات الأنبياء.
١٦٨ إذ يعني إنكار «الضرورة» أن تُصبح الطبيعة مجالًا «للإمكان» لا «للحتم». وتبعًا
لذلك لا يكون أيُّ خرق في الطبيعة خرقًا لقانون ضروري أو حتمي الوقوع، بل حادثًا ممكنًا؛
حيث
لا ضرورة هناك. «وبذلك تستوي المعجزات مع قوانين الطبيعة في اندراجها تحت الإمكان والجواز،
لا
الضرورة والوجوب، لتبقى جميعًا معلقةً على حكم المشيئة الإلهية التي لا تتقيد بشيء، والتي
تتناول كلَّ شيء. إذ لو كانت قوانين الطبيعة ضرورية وحتمية لأصبح وقوع المعجزات مستحيلًا،
ولكن لما كان شيء ما لا يستحيل على قدرة الله كانت المعجزات جائزة لأن القوانين الطبيعية
١٦٩ نفسها ممكنة وليست واجبة».
١٧٠ وهكذا يتخارج إمكان المعجزات — منطقيًّا — من التصوُّر الأشعري للطبيعة. إذ يتأدى
هذا التصور للطبيعة إلى أن «لا يُمتنع — طبقًا للأشعري — أن يحضر عندنا جبال شاهقة، وأصوات
عالية، ونحن لا نُبصرها ولا نسمعها، ولا يُمتنع أيضًا أن يُبصر الأعمى الذي يكون بالمشرق
«بقة» بالمغرب، «وكذا» فإنه يجوز انقلاب الجبال ذهبًا إبريزًا، ويجوز انقلاب مياه الأودية
دمًا وغيره، ويجوز حدوث الإنسان من غير الأبوين».
١٧١ ذلك أن الله قادر على كل شيء ممكن، وذلك كله ممكن،
١٧٢ حيث العالم لا ينطوي على أي أثر للضرورة أو الحتم.
وإن تكشَّف بيان إمكان المعجزة عن عجز «الطبيعة»، فإن بيان معناها يتكشف عن عجز
«الإنسان». ﻓ «المعجزة في اللغة مأخوذة من العجز الذي هو نقيض القدرة»؛
١٧٣ وأعني أن «أصل وصف «الشيء» في اللغة بأنه معجز مأخوذ من عجز الخلق عنه».
١٧٤
وقد بدا للأشاعرة أنَّ «العجز» لا يتجاوز كونه مجرد أصل «لغوي» للمعجزة، دون أن
يكون
شرطًا «وجوديًّا» لها.
١٧٥ ومن هنا، فإن وصف الشيء «بأنه معجز على معنى إثبات «عجز» الخلق عنه صحيح على موجب
اللغة ومقتضى المواضعة، غير أن معتقد ذلك من أهلها (اللغة) غالطٌ فيما طريق معرفته النظر
والحجة. وذلك ليس بمأخوذ عنهم ولا مرجوع فيه إليهم، وإنما يُرجع فيه إلى مقتضى الأدلة
وموجب الحجة».
١٧٦ وتقتضي الأدلة — كما توجب الحجة — «أن المعجزة إن كانت خارجةً من قبيل مقدورات
البشر، فلا يتصور أيضًا عجز المتحدين بالمعجزات».
١٧٧ فإنه «لا يصح عجز الخلق إلا عمَّا تصحُّ قدرتهم عليه».
١٧٨ إذ «العجز» عن «العجز» غير متصور عقلًا. وعلى هذا، فإن «العجز» يفترض — منطقيًّا
— «قدرة» سابقة عليه. ذلك أنه لو صح «عجز» الخلق عمَّا لا تصح «قدرتهم» عليه «لصحَّ وصفُهم
بالعجز عن ذات القديم سبحانه وذات صفاته الذاتية … ووصفهم بالعجز عن إبداع الأجسام واختراع
الأنام وإنشاء الجوارح والقدر والأسماع والأبصار وغير ذلك من الأجناس التي لا يقدر عليها
إلا
ربُّ العالمين عز وجل … فلما علمنا استحالة «عجزهم» عن ذلك أجمع لأجل استحالة «قدرتهم»
عليه،
ثبت بذلك أنه محالٌ وصْف الخلق بالعجز عمَّا يستحيل كونه مقدورًا لهم».
١٧٩ وهكذا فإنه لا «عجز» حيث لا «قدرة».
وإذن، فإن قدرة الخلق شرط للمعجز؛ حيث إنه «إذا ثبت أن من حق المعجز وشرطه أن يكون
مما
ينفرد الله تعالى بالقدرة عليه دون خلقه، استحال لذلك وصفُ الخلق بالعجز عنه على الحقيقة».
١٨٠ ولكن ذلك لا يعني أن الأشاعرة قد أثبتوا — وحتى حين اقتضى المذهب — «قدرةً» فاعلة
للإنسان. فالحق أن «القدرة» — كشرط للمعجز — قد ارتبطت جوهريًّا … لا بإفساح المجال للإنسان
«فاعلًا» على الحقيقة، بل بإفساح المجال للإنسان «عاجزًا» على الحقيقة. إذ ارتبطت «القدرة»
—
كشرط للمعجز — لدى الأشاعرة بمجرد تصور «الإعجاز»، لا في عجز الخلق عن المعجز (وذلك ما
يستحيل
معه وصف الخلق بالعجز عنه على الحقيقة)، بل «في امتناع الخلق عن معارضة المعجز، والامتناع
عن
المعارضة، يعني وجود المعارضة ضرورة، والعجز مقترن بها».
١٨١ ولأنه لا معارضة إلا عن قدرة، فقد أثبت الأشاعرة «قدرة» ولكن «العجز» مقترن بها،
وهنا يبدو الإنسان — ولا شك — «عاجزًا» على الحقيقة.
وهكذا تأدَّى الأشاعرة إلى «قدرة» هي و«العجز» بمثابة واحدة. فالحقُّ أنهم، وإن عجزوا
عن
تصور المعجزة في غياب «القدرة». فإنهم قد افترضوا قدرةً، سرعان ما غيَّبوها وأفنَوها
من بعدُ.
وعلى هذا، فإن ثمة «قدرة»، ولكنها قدرة محكومة بالإعدام، فإنها لا تُوجد (أو بالأحرى
لا
تُفترض) إلا لتُعدم وتزول؛ وذلك ليتأكَّد كون الإنسان «عاجزًا» على الأصالة، وكون الله
منفردًا «بالقدرة» وحده. إنَّ القدرة، إذن، هي مجرَّد مقدمة للعجز؛
١٨٢ إذ بدا أنَّ العجز الحق لا يثبت إلا مع هذه القدرة الوهمية. وبعبارة أخرى، بدَا
افتراض الإنسان قادرًا على المجاز مقدمة لإثبات عجزه على الحقيقة.
وإذا كان افتراض القدرة في الإنسان — كشرط للمعجزة — هو، برأي الأشاعرة، تجوُّز وتوسُّع،
فإن في مجرد تسمية المعجزة «معجزة» تجوُّزًا أيضًا. إذ كما أن الله هو «القادر» وحده
على
الحقيقة، فإنه كذلك وحده «المعجِز» على الحقيقة؛ إذ هو فاعل العجز في غيره. ولذلك «فإن
سمينا
غيره مُعجِزًا، كما في فَلْق البحر، وإحياء الموتى، فذلك إنما هو بطريق التجوُّز والتوسُّع».
١٨٣ وهكذا يبدو العالم بأَسْره وجودًا من «المجاز» الخالص، ويبقى الوجود الإلهي هو
«الحق» وحده؛ وأعني أن ظاهرية وهشاشة الوجود — غير الله — تتبدَّى في جميع عناصر النسق
الأشعري.
وإذ تأدَّى بيان معنى المعجزة — على هذا النحو — إلى إظهار «عجز الإنسان»، كما سبق
وتأدَّى بيان إمكانها إلى إظهار «عجز الطبيعة»، فإن «العجز» يبدو — تبعًا لذلك — هو الطابع
الأصيل لكلٍّ من الوجودَين الإنساني والطبيعي، لدى الأشاعرة، وإن القدرة أو الفاعلية
«في عالم
الإنسان أو عالم الطبيعة» — حتى حين تقتضي الضرورةُ افتراضَها — لا تعدو كونها مجرَّد
وَهْم
طارئ، أو وجود مجازي يهدف إلى تكريس العجز «الإنساني أو الطبيعي» مطلقًا.
واللافت أنَّ التعريف الاصطلاحي للمعجزة يتكشَّف بدوره عن ذات الغياب الإنساني والطبيعي.
ﻓ «المعجزة — اصطلاحًا — هي ظهورُ أمرٍ خلاف العادة في دار التكليف لإظهار صدق ذي نبوة
من
الأنبياء أو ذي كرامة من الأولياء مع نكول مَن يُتحدَّى به عن معارضة مثله».
١٨٤ وقد اتَّفق الأشاعرة — إلا الإسفرائيني
١٨٥ — على تعريف المعجزة بأنها «أمر» وذلك لتشمل «القول كالقرآن، والفعل كقلب العصا
حيَّة، والترك كعدم إحراق النار لسيدنا إبراهيم».
١٨٦ واشترطوا أن تكون بخلاف العادة «ليتميَّز بها المدِّعي عن غيره».
١٨٧ إذ إنَّ «المعتاد من الأفعال يشترك في دعواها الصادق والكاذب»
١٨٨ أو «ليخرج عنها السحر والشعبذة؛ فإنَّ كلًّا منهما معتاد وغرابته للجهل بأسبابه».
١٨٩ وقد قيَّدوها بدار التكليف؛ «لأنَّ ما يفعله الله تعالى يوم القيامة من أعلامها،
على خلاف العادة، فليست بمعجزة لأحد»،
١٩٠ وكذلك شرطوا فيها إظهارَ صدقِ النبي «لجواز ظهور ما يخالف العادة على مدَّعي
الإلهية فلا يكون دلالة على صدقه، كالذي يظهر على الدجَّال في آخر الزمان».
١٩١ وهكذا اجتهد الأشاعرة في جعل التعريف جامعًا لسائر ما يرَونه من عناصر
المعجزة.
ومن الواضح أن التعريف الأشعري للمعجزة — اصطلاحًا — بأنها «أمر خارق للعادة» يستحيل
تمامًا إلَّا في إطار تصور للطبيعة خلوًا من أي فاعلية أو قدرة على التقوم الذاتي، ومفتقرة
لأي قوانين موضوعية ضرورية تُهيمن على حركتها. ومن هنا، فإن تصور الطبيعة «عجزًا ومواتًا»
يُعَد مقدمة ضرورية لتصور المعجزة «أمرًا خارقًا للعادة». ومن ناحية أخرى، فإن الإشارة
في
التعريف إلى أن صدق النبي يكون من المعجزة، بل ويكون منها فقط،
١٩٢ ترتبط — لا شك — بتصور للإنسان خلوًا من العقل والحكمة. فالحقُّ أن تصوُّر صدق
النبوة لا يتأتَّى إلا من المعجزة يمثل — رغم كونه انعكاسًا ضروريًّا لمجمل الرؤية الأشعرية
للعالم — نتاجًا طبيعيًّا لإنكار الأشاعرة للتحسين والتقبيح عقلًا؛ وأعني إنكارهم أيَّ
فاعلية
عقلية في مجال المعرفة. وإذ يعني هذا الإنكار سلبَ الإنسان مصدر «اليقين الذاتي» وإبقاءه
في
احتياج دائم إلى دلائل خارجية يستمدُّ منها اليقين، فإن الأشاعرة قد مضَوا إلى «أن سلامة
معجزته (النبي) عن المعارضة (هي فقط) دليل على صحته، وأما سلامة شرعه عن التخليط والنقض
فيه
فلا يدل على صحته».
١٩٣ ذلك أن «سلامة الشرع عن التخليط والنقض» يكون من مدارك العقول لا شك، والعقول —
عند الأشاعرة — أعجز من أن تُدرك بمفردها أيَّ شيء. ولو كان الأشاعرة — كالمعتزلة وغيرهم
—
يعتقدون في تحسين العقل وتقبيحه لانتهَوا إلى أنه «لا يحتاج النبي في الحجة على نبوته
إلى
أكثر من سلامة شرعه وما لا يأتي به من التناقض فيه»،
١٩٤ وذلك دون حجة أو معجزة. وبهذا يصبح مصدر اليقين «داخليًّا» يقتضيه العقل، لا
«خارجيًّا» يقتضيه «النقص». واللافت — على أي حال — أن تعريف المعجزة، اصطلاحًا، يتكشف
— من
حيث يشير إلى أن صدق النبوة لا يكون إلا بها — عن عجز عقل الإنسان، وغياب حكمته، تمامًا
كما
سبق وتكشف تعريفها لغة عن غياب قدرته.
واللافت أن المعتقد الأشعري في أنه «لا دليل يفصل بين الصادق والكاذب في ادعاء الرسالة
إلا الآيات المعجزة»،
١٩٥ لا يتكشف فقط عن تصور للإنسان «عاجزًا»، بل يتكشف أيضًا عن كون النبوة «ناقصة».
إذ النبوة — بوصفها فعلًا على الجواز — لا تنضبط بذاتها، بل بفعل خارجي عنها هو المعجزة.
ومن
هنا يتأتَّى النقص فيها، فهي في حاجة إلى ما تكتمل وتتقوم به. والمعجزة، عند الأشاعرة،
هي —
كالنبوة — فعل على الجواز والإمكان، وبالتالي فإنها لا تنضبط أو تتقوم بذاتها. ولكنها
— على
عكس النبوة — يستحيل أن تنضبط بعلامة أو بفعل خارجي؛ أعني بمعجزة أخرى؛ لأن ذلك يستلزم
تسلسلًا «لتلك الأفعال الخارجية» إلى غير نهاية. وهكذا ذهب الأشاعرة إلى أن المعجزة تنضبط
ضمن
شروط نظرية محدودة يتعين الإحاطة بها. وبالرغم من أنه كان يمكن — ابتداءً من هذه الشروط
— ضبط
المعجزة وتقويمها بما يتلاءم والوضع الإنساني — وأعني محاولة بناء منطق عقلي داخلي للمعجزة
تحدث وتتطور في إطاره — فإن هذه الشروط — التي ظلت كالمعجزة خارجية تمامًا
١٩٦ — لم تتقوَّم إلا في إطار انسحاب شامل لما هو إنساني.
فإنَّ أول شروط المعجزة وأحكامها «أن تكون من أفعال الله سبحانه التي ينفرد بالقدرة
عليها
دون سائر خلقه».
١٩٧ وإذ بدا أن لفظة «فعل» لا تتَّسق — كما سبق أن أظهرنا عند تعريف المعجزة اصطلاحًا
— وبنية النسق الأشعري، فإن بعض المصنفات الأشعرية قد أضافت إلى شرط «الفعل من الله»
«ما يقوم
مقامه من التروك، أو ما يجري مجرى فعله (أي الله) وإن لم يكن في نفسه فعلًا».
١٩٨ ذلك أن من المعجزات ما ليس فعلًا، بل انتفاء فعل، مثل ما إذا قال نبي «آيتي أن
يُمتنع على أهل هذا الإقليم القيام مدة ضربها، فذلك من الآيات الظاهرة، وليست هي فعلًا،
بل
انتفاء فعل».
١٩٩
واللافت أن اشتراط الأشاعرة كون المعجزة فعلًا لله ينفرد به دون سائر خلقه، قد تبلور
أساسًا في مواجهة إثبات المعتزلة قُدرًا فاعلة للعباد، ثم تأديهم من ذلك إلى «أن من معجزات
الرسل ما يدخل جنسه تحت قُدر العباد».
٢٠٠ وبالرغم من أن المعتزلة قد قيدوا هذا الإطلاق بأنه «يتعذر عليهم (أي العباد) فعلُ
الكثير منه (المعجزات) على الوجه الذي يفعله الله تبارك وتعالى، ويُصدق به رسله»،
٢٠١ فإن الأشاعرة لم يتهاونوا ألبتة في مواجهة المعتزلة؛ وذلك «لأجل أنه إن ما يدخل
تحت قُدر العباد أو مثله، ربما عرضَت فيه الشُّبه وحصلت الشكوك للمكلفين في أنه مما يتم
بحيلة
من الحِيَل وسبب من الأسباب يكون للذي فعل ذلك الجنس الذي هو داخل تحت قُدر العباد …
وأيضًا
فإنه متى جُوِّز أن يكون من المعجزات ما يدخل مثله تحت قُدر البشر أوجب ذلك الشك في الآيات
«المعجزات» من وجه آخر على مذاهب القدرية «المعتزلة» خاصة. وذلك أنهم يزعمون أن من قدر
على
إيقاع الفعل على وجه قدر على إيقاعه على غيره من الوجوه، ووجب أيضًا أن يكون من ذلك الجنس
على
ما لا نهاية له، وألَّا تتخصص قدرته على إيقاعه على وجه دون وجه وبجزء منه دون أمثاله
… فإذا
كان ذلك عندهم كذلك، وجب أن نكون الآن قادرين على نظم مثل القرآن في بلاغته وما هو أفصح
وأوجز
وأبلغ منه، وعلى الصعود إلى السماء، [لأننا قادرون على فعل جزء من «النظم»، وفعل جزء
من
الحركات في جهة العلو، والقدرة عندهم على جزء من الشيء قدرة على الشيء ومثله وخلافه].»
٢٠٢ «فنحن إذن قادرون على فعل الصعود إلى السماء، وإنما يتعذَّر ذلك علينا لفقد العلم
بكيفية تأتِّي هذه الأفعال. ويجب أن نعتقد أنه لا يؤمن أن يكون تعذُّر صعودنا إلى السماء
والمشي على الماء لفقد العلم بكيفية ترتيب الحركات واتصالها. وكذلك فلا يؤمن أن يكون
نظم
القرآن على هذا الحد من البلاغة إنما تأتَّى لمورده لفضل علمه وتقدُّمه في البراعة واللسن
ومعرفته بوجوه تصاريف الكلام ونظومه وأوزانه، وإن تعذر ذلك على غيره».
٢٠٣ وإذن، فإنَّ تجويز المعتزلة أن يكون من المعجزات ما يدخل مثله تحت قُدر البشر،
يتأدَّى — برأي الأشاعرة — إلى تقويض المعجزة تمامًا.
٢٠٤ ومن هنا، فإنه «لم يجز — طبقًا للأشاعرة — أن يكون مما يدخل جنسه تحت قُدر
العباد، «بل» يجب ألَّا يكون المعجز إلا ممَّا ينفرد الله عز وجل بالقدرة عليه دون سائر
خلقه».
٢٠٥ وهكذا، فإن شرط الأشاعرة الأول في المعجزة قد انبثق في مواجهة تصوُّر للقدرة
الإنسانية فاعلة في ميدان المعجزات. وبدحضه أي أثر لهذه القدرة، وتصوره المعجزة فعلًا
ينفرد
به الله دون سائر خلقه، بدا متسقًا تمامًا مع بنية نسق لا يرى في العالم إلا «إلهًا فاعلًا»
في مواجهة «إنسان عاجز».
وقد شرط الأشاعرة أيضًا، في المعجزة «أن تكون خارقة للعادة»،
٢٠٦ وقد اتفقوا على أن مآل هذا الشرط تمييز مدعي النبوة عن غيره؛ «إذ لو كانت عامة
معتادة يستوي فيها البارُّ والفاجر، والصالح والطالح، ومدَّعي النبوة المحقُّ بها والمفتري
بدعواه، لما أفاد ما يقدر معجزًا تمييزًا وتنصيصًا على الصادق».
٢٠٧ وإذن، فإن تمييز «الصدق» مشروط أبدًا بظهور «الخرق». وهذا يعني أنَّ الصدق أو
«الحق» ليس صفةً قائمة في باطن الصادق، ويمكن للعقل أن يتبيَّنَها بنفسه، بل صفة قائمة
في
الخارج، وليس للعقل إلا أن يتلقاها من مصدر مفارق أو خارق. وتبعًا لذلك، فإن الصدق ليس
«اكتشافًا»، بل «اكتسابًا». والحقُّ أنَّ تصوُّر الصدق هكذا، يرتبط — في التحليل الأخير
—
بتصور الأشاعرة للتحسين والتقبيح «اكتسابًا» من الشرع، وليس «اكتشافًا» من العقل. ويبدو
أنَّ
هذا التصور قد تأدَّى بالأشاعرة إلى معضلة حقة، حين تعلَّق الأمر — خاصة — بإظهار صدق
النبوة.
فإن صدق النبوة لا يمكن اكتسابه من الشرع؛ إذ الشرع لم يثبت بعدُ. ومن حيث المبدأ، فإن
هذا
الصدق يستحيل اكتشافه بالعقل؛ إذ ليس للعقل — لدى الأشاعرة — إلا الكسب والتلقِّي فقط.
كيف
السبيل، إذن، إلى إظهار صدق النبوة، والصدق — طبقًا لنظرية الأشاعرة في التحسين والتقبيح
— لا
يثبت إلا من الله بشرع، وهذا الشرع — في حالة إظهار صدق النبوة — لم يثبت بعدُ؟! بدَا
للأشاعرة أنه لا سبيل إلى ذلك إلا بفعل من الله؛ أعني أن إظهار صدق النبوة سيكون — هو
الآخر —
من الله، لكن «بفعل» لا «بشرع». وقد كان لزامًا أن يكون هذا الفعل «مخصوصًا» ليتميز به
«مدعي
النبوة المحق» عن «المفتري بدعواه». ومن هنا جاء اشتراط كونه «خارقًا للعادة»، واللافت
— على
أي حال — أن هذا الشرط ينبني على تصور للعقل الإنساني جوهره «التلقي والكسب» وليس «الفحص
والكشف». ولو أن الأشاعرة أظهروا قدرًا من الثقة في العقل، لأدركوا — كما أدرك «ثمامة»
من
المعتزلة والإباضية وكثير من الخوارج والكرَّامية
٢٠٨ — أنه يمكن الحكم على صدق النبوة اعتمادًا على مضمونها فقط، دون خوارق
العادات.
وقد بدَا للأشاعرة أن اشتراط خرق العادة في المعجزة مطلقًا؛ أعني دون تخصيص أو تقييد،
يمكن أن يتأدَّى إلى ضرب من الاشتباه واللبس؛ ذلك أنَّه «ما من أمر من «الأفعال الخارقة»
وغير
الخارقة إلَّا وهو مقدور لله تعالى أن يُظهره على يدي من شاء من عباده على حسب إيثاره
واختياره، وإنكار ذلك يجرُّ إلى التعجيز، وإبطال كون الفعل مقدورًا لله — تعالى — وهو
مستحيل».
٢٠٩ وابتداءً من تصوُّر الله هكذا؛ إرادة وقدرة خالصتَين ومطلقتَين من كل تحديد،
وخوفًا من الانجرار إلى تعجيزه، فإن الأشاعرة أو «أهل التحقيق لم يمنعوا من جواز إجراء
مثل
ذلك «الخارق للعادة» على مَن ليس بنبي»،
٢١٠ بل وصاروا — فعلًا — إلى «جواز انخراق العادات في حق الأولياء».
٢١١ وإذن، فإن «خرق العادة» ليس مختصًّا بالمعجزة لا غير، بل «إن المعجزات والكرامات
متساوية في كونها ناقضة للعادات».
٢١٢ وقد بدا للمعتزلة، خاصة — بل وبعض الأشاعرة كالإسفرائيني — أنَّ استواء المعجزة
والكرامة في «الخرق» يمكن أن «يجرَّ إلى ظهور ما كان معجزة لنبي على يد ولي، وذلك يُفضي
إلى
تكذيب النبي المتحدي بآيته، القائل لمن تحدَّاه: لا يأتي أحد بمثل ما أتيت به. فلو جاز
إتيان
الولي بمثله، لتضمن ذلك نسبة الأنبياء إلى الافتراء».
٢١٣ ومن هنا فإنهم قد أنكروا كرامات الأولياء جملة، كي لا يكون من سبيل للقدح في
دلالة المعجزة على النبوة. وبالرغم من السخرية القاسية
٢١٤ التي لاقاها المعتزلة جزاء هذا الإنكار، فإن الأشاعرة باتوا مضطرين — على الأقل —
إلى «البيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات»، وكان ذلك بتأثير النقد المعتزلي لا شك.
وقد بان للأشاعرة الفرق بين المعجزات والكرامات في تقييد «الخارق للعادة» حين يختصُّ
بالمعجزة، بشرط «أن يكون واقعًا مفعولًا عند تحدِّي الرسول، عليه السلام، بمثله وادعائه
آية
لنبوته وتقريعه بالعجز عنه من خالفه وكذَّبه».
٢١٥ وهكذا تأدَّى شرط «خرق العادة» إلى شرط أن تكون المعجزة «مقترنة بالتحدي»
٢١٦ فإنه لا يكفي في الفعل المعجز أن يكون، فقط خارقًا للعادة، بل لا بدَّ من
التحدِّي؛ وأعني أن يدَّعيَه النبي آية يتحدَّى بها قومه. ومن هنا فإنه «لو ظهرت آية
من شخص
وهو ساكت صامت، فلا تكون الآية (رغم كونها خارقة) معجزة».
٢١٧ ذلك أن المعجز «ليس بمعجز لجنسه ونفسه وحدوثه، وإنما يصير معجزًا لما فيه من
الاحتجاج والتحدي».
٢١٨ وهكذا، فإن لا شيء فاعل بذاته لدى الأشاعرة، وحتى فيما يتعلق بالمعجزة، فإن
الإعجاز ليس قائمًا في ذات الفعل المعجز، بل مُستمدًّا أو مُكتملًا — لا فرق — من قرينة
خارجية؛ وإذن فإنَّ عالمَ الأشاعرة خِلوٌ — على الدوام — من «الذاتية». ومن هنا «فإن
المعجزة
لا تدل لعينها (لذاتها)، وإنما تدل لتعلُّقها بدعوى النبي الرسالة، ونزولها منزلة التصديق
بالقول … ولا يتأتى ذلك دون التحدي».
٢١٩ والحق أن شرط «التحدي» في المعجزة ليس يعني شيئًا سوى اشتراط «وعي» البشر بعجزهم
الدائم بإزاء الفعل المعجز، وهذا ما يؤكده إرداف الأشاعرة شرط «التحدي» بشرط «تعذر المعارضة»،
وتبعًا لذلك، فإنه يبدو وكأن الأشاعرة قد انتقلوا من مجرد «وجود» العجز، كشرط للمعجزة،
إلى
اشتراط «الوعي» به أيضًا.
وإذ يعني «التحدي» طلب المعارضة — ولو بلا تصريح
٢٢٠ — فإنَّ الأشاعرة قد شرطوا في الفعل المعجز، «أن يتعذَّر على المُتحدى به فعل
مثله في الجنس أو على الوجه الذي وقع التحدي عليه».
٢٢١ وقد كان ذلك لأن «الأمر إذا خرق العادة وادَّعاه النبي آية له، وأنه مخصوص به،
وظهر مثله على الوجه الذي ظهر على يده على يد ساحر كذاب، ومَن ليس نبيًّا ولا مدَّعيًا
لذلك،
الْتبس الأمر ولم يكن ما ظهر على يده حجة في نبوته، إذ قد عُلم ظهوره على يد مَن ليس
بنبي».
٢٢٢ وهكذا، فإنَّ إمكان معارضة «المعجز» بفعل مثله يؤدي إلى القدح في دلالة المعجزة
على النبوة. ومن هنا شرطوا في «المعجز» تعذُّر المعارضة، بل وجعلوه «حقيقة الإعجاز».
٢٢٣ واللافت أن جعل «حقيقة الإعجاز» في تعذر معارضة المعجز،
٢٢٤ إنما يؤكد على أن «الإعجاز» يتقوم «سلبًا»، لا «إيجابًا»؛ إذ «الإعجاز» — تبعًا
لذلك — يتأتَّى، لا من فاعلية ذات المعجز، بل من «عدم» فاعلية مَن يتحدَّاهم المعجز.
والحقُّ
أنَّ «فاعلية السلب» هذه؛ وأعني تلك الفاعلية التي تتحقق «سلبًا»، من خلال حذف وإعدام
فاعلية
«الآخر»، وليس «إيجابًا» من خلال حضور إيجابي لفاعلية «الذات» — مع حضور الآخر فاعلًا
أيضًا —
تُعَد ملمحًا من الملامح الأساسية للنسق الأشعري.
٢٢٥
وإذ بدا للأشاعرة أن المعجزة قد تتعلَّق «بالتكذيب»
٢٢٦ أيضًا، وليس بالتصديق فقط، فإنهم قد شرطوا في المعجزة — حين تتعلق بالتصديق
بالطبع — «ألَّا تظهر مكذِّبة للنبي؛ مثل أن يدَّعيَ مُدَّعي النبوة، فيقول: آيةُ صِدقي
أن
يُنطق الله يدي؛ فإذا أنطقها الله تعالى بتكذيبه وقالت: اعلموا أن هذا مفترٍ فاحذروه،
فلا
يكون ذلك آية»؛
٢٢٧ وذلك «لأن المكذب هو نفس الخارق».
٢٢٨ وأما «لو قال: معجزتي أن أُحييَ هذا الميت، فأحياه، فكذبه، ففيه احتمال»،
٢٢٩ فإن أكثر الأشاعرة قد صاروا إلى أن «الصحيح أنه لا يخرج بذلك عن كونه معجزًا؛ لأن
المعجز (هو) إحياؤه، وهو غير مكذب له، إنما المكذب هو ذلك الشخص بكلامه. وهو بعد الإحياء
مختارٌ في تصديقه وتكذيبه ولم يتعلَّق به دعوى … وقيل هذا الذي ذكرنا من عدم خروجه عن
كونه
معجزًا إنما هو إذا عاش بعد الإحياء زمانًا واستمر على التكذيب»،
٢٣٠ وأما «الباقلاني»، فهو الأشعري الوحيد الذي مضى إلى أن «هذه آية مكذبة لا تدل»،
٢٣١ وإن كان إنكار «الباقلاني» كونه معجزًا يبدو هنا مطلقًا، حسب «الجويني»، فإنَّ
ثمَّة مَن رأى أن «الباقلاني» قد قيَّد إنكار الإعجاز — في المثال الآنف — بشرط حين أظهر
أنه
«لو خرَّ ميتًا في الحال، بطل الإعجاز لأنه كان أُحيي للتكذيب».
٢٣٢ ويبدو أن إنكار «الباقلاني» — مطلقًا أو مقيدًا — لم يمنع الأشاعرة من التأدي إلى
أن «الميت إذا حَيِيَ وكذَّب، فتكذيبه ليس بخارق للعادة. وللنبي أن يقول: إنما الآية
إحياؤه،
وتكذيبه إياي كتكذيب سائر الكفرة
٢٣٣ … وأنه لا فرق بين استمرار الحياة مع التكذيب وبين عدمه لوجود الاختيار الإنساني
في الصورتين»،
٢٣٤ وذلك بخلاف تكذيب اليد أو الضب أو الخالي من الوعي والاختيار عمومًا.
وبعيدًا عن اختلاف الأشاعرة حول شروط معجزة «التكذيب»، فإنه يبقى أن ثمة اتفاقًا حول
إمكان معجزة التكذيب. ومن هنا كان شرط تميُّز معجزة التصديق عنها. ذلك أن اشتراط «ألَّا
تظهر
المعجزة مكذبة للنبي» ليس يعني أكثرَ من إمكان ظهور المعجزة مكذبة. واللافت — على أي
حال — أن
تصور «التكذيب» ممكن بمعجزة يقوم — كتصور «التصديق» لا يكون إلا بمعجزة — على ذات الثابت
المتكرر في كل عناصر النسق الأشعري؛ وأعني به غياب الإنسان، قدرةً وحكمة أو عقلًا
وفاعلية.
ولذات السبب؛ أعني إمكان المعجزة مكذبة،
٢٣٥ شرط الأشاعرة في المعجز «أن يكون موافقًا للدعوى»،
٢٣٦ بمعنى أن يكون ما ادَّعاه النبي معجزةً له، هو ما ظهر عليه فعلًا، حتى لا يقدحَ
من دلالة المعجزة على التصديق. فإنه «لو قال «النبي»: معجزتي أن أُحييَ ميتًا، ففعل خارقًا
آخر؛ كنتق الجبل مثلًا، لم يدلَّ على صدقه، لعدم تنزُّلِه منزلةَ تصديق الله إياه».
٢٣٧ ولكن يبدو أن الأشاعرة قد أدركوا أن هذا الشرط يتأدَّى إلى تقييد
٢٣٨ لا مبرر له؛ ولهذا فإنهم صاروا إلى «أنه لا يجب تعيينُ المعجز، بل يكفي أن يقول
أنا آتٍ بخارق من الخوارق ولا يقدر أحدٌ على أن يأتيَ بواحد منها».
٢٣٩ فبدا بذلك وكأن الأشاعرة قد صاروا — حرصًا على الإفلات من خناق تقييد الذات
الإلهية — إلى إلغاء مبرر الشرط — أو الشرط نفسه — على الحقيقة.
وقد شرط الأشاعرة أيضًا «ألَّا تتقدَّم المعجزة على الدعوى؛ فلو ظهرت آية أولًا وانقضت،
فقال قائل: أنا نبي، والذي مضى كان معجزتي، فلا يُكترَث به؛ إذ لا تعلُّق لما انقضى بدعواه»،
٢٤٠ وكذا فإن «التصديق ﺑ «معجزة» قبل الدعوى لا يُعقل».
٢٤١ ذلك أن المعجزة قبل الدعوى لا تكون، أصلًا، معجزة. ولهذا فلو أن نبيًّا ادعى ما
مضى معجزة له، فإنه «يُطالب به، أي بالإتيان بذلك الخارق (يلاحظ أنه لم يَقُل بتلك المعجزة)
أو بغيره بعد الدعوى؛ فلو عجز كان كاذبًا قطعًا».
٢٤٢ إنه مُطالب بذلك لأن «الخارق» غير مقرون بدعوى نبوة، لا يكون «معجزة» أبدًا؛
فالمعجزة — كما سبق القول — لا تكون كذلك، لجنسها أو حدوثها، وإنما لما فيها من التحدي
والاحتجاج والاقتران بالدعوى. وعلى هذا، فإنَّ ما ظهر من خوارق على الأنبياء، قبل دعواهم
النبوة، مثل «كلام عيسى في المهد، وتساقُط الرطبِ الجَنِيِّ عليه من النخلة اليابسة،
فإنهما
معجزتان له، مع تقدُّمِهما على الدعوى، و«مثل» معجزات «النبي محمد» من شقِّ بطنِه، وغسل
قلبه،
وإظلال الغمامة، وتسليم الحَجَر والمَدَر عليه، فإنها كلها متقدِّمة على دعوى الرسالة
… تلك
الخوارق المتقدمة على الدعوى ليست معجزات، إنما هي كرامات وظهورها على الأولياء جائز،
والأنبياء قبل نبوتهم لا يقصرون عن درجة الأولياء، فيجوز ظهورُها عليهم، وحينئذٍ تُسمَّى
إرهاصًا؛ أي تأسيسًا للنبوة».
٢٤٣ وإذن، فإن ظهور الخارق، حتى على نبي صادق، لا يُعَد قبل دعواه النبوة معجزة له،
بل إرهاصًا بنبوته، وعلى هذا فإن الاقتران بالدعوى من غير تقدُّم عليها يُعَد من أهم
شروط
«المعجزة». وإذ يقوم هذا الشرط على رباط صميمي لا ينفك بين الدعوى والمعجزة، فإنه يقضي
على
أية محاولة لقبول الدعوى بتأمل إنساني يستقل — ولو جزئيًّا — عن أي خارق سابق أو لاحق
أيضًا.
وبالرغم من أن الأشاعرة قد أجازوا تأخُّرَ «المعجزة» عن الدعوى، وذلك مع التمييز
بين
««المتأخر» بزمان يسير يُعتاد مثله، فإنه دالٌّ على الصدق»،
٢٤٤ وبين «متأخر بزمان متطاول»، يدل على الصدق أيضًا، ولكن مع تباين وجه دلالته على ذلك؛
٢٤٥ فإن ذلك لا يعني قبولًا لدعوى النبوة دون معجزة، ولو ستظهر بعد حين؛ ذلك أنهم قد
قالوا بانتفاء التكليف حينئذٍ، فإنه «لا يجب على الناس التصديق بنبوته ومتابعته من الزمان
الواقع بين الإخبار «بالدعوى» وحصول الموعود به (أي المعجزة)؛ لأن شرط التكليف بالتصديق
والمتابعة العلم بكونه معجزًا؛ وذلك إنما يحصل بعد وجود ما وعد به (أي المعجزة).»
٢٤٦ وهكذا فإنه لا سبيل إلى التصديق أو المتابعة «بالعقل»، حتى مع انتظار لمعجزة ستقع
حينًا ما. والحقُّ أنَّ هذا «الغياب» المطلق «للعقلانية» هو ما تتكشف عنه كافة شروط المعجزة،
ممَّا يعني «حضورًا» قويًّا لبنية النسق الشاملة فيها. وإذ تُمثِّل جملة هذه الشروط شروطًا
للتصديق، فإن بحثًا في كيفية دلالة المعجزة على «التصديق» يبدو الآن، ملحًّا.
دلالة المعجزة على الصدق
إن المعجزة علامة أو شهادة خارجية
Extrinsic Testimony
على الدعوى، وأعني أنها كيان قائم بذاته، منفصل تمامًا عن الدعوى، وليس جزءًا منها. وعلى
هذا،
فإن برهان الصدق يقوم من انفصال تام عن موضوعه (المراد إثبات صدقه)، وهذا يعني أنَّ إثبات
الصدق هنا يبدو عمليةً صورية تمامًا، لأنه لا يتعلق البتة بطبيعة الدعوى أو موضوعها ذاته،
٢٤٧ بل بالقائم منفصلًا عنها. ولأن برهانَ صدق الدعوى خارجيٌّ ومنفصلٌ عنها، فإن
دلالته على صدقها، لا تتأكد — فيما يبدو — إلا بعون خارجي أيضًا. ولو أنَّ الأشاعرة علَّقوا
صدقَ الدعوى — إلى جانب البرهان الخارجي — على برهان باطني
٢٤٨ أيضًا، لأمكنهم — دون شك — إدراكُ دلالته على صدقها عقلًا.
فاللافت أن دلالة المعجزة على صدق الدعوى «ليست دلالةً عقلية محضة»؛
٢٤٩ لأن الدلالة العقلية هي «دلالة يجد العقل «فيها» بين الدال والمدلول علاقةً ذاتية
ينتقل لأجلها منه إليه».
٢٥٠ وهكذا ينطوي مفهوم «الدلالة العقلية» على ضرورة قيام «علاقة ذاتية» بين الدال
والمدلول و«بسببها» ينتقل «العقل» من الأول إلى الثاني. فإن «دلالة الفعل على وجود الفاعل،
ودلالة إحكامه وإتقانه على كونه عالمًا بها»
٢٥١ تستحيل تمامًا في غياب علاقة ذاتية ضرورية بين كلٍّ من الدالِّ والمدلول، بحيث
«لا يُقَدر في العقل وقوعه (الدال) غير دالٍّ عليه (المدلول)».
٢٥٢ وإذ لا مكان في النسق الأشعري ﻟ «علاقة ذاتية»، لا يقدر معها «العقل» على تصور
«الدال» غير دالٍّ على «المدلول»، فإنَّ الأشاعرة قد صاروا إلى امتناع هذه الدلالة العقلية.
فالدلالة العقلية «ترتبط لنفسها بمدلولاتها ولا يجوز تقديرها غير دالة عليها»،
٢٥٣ «أو أنها» «تتعلَّق بمدلول بعينه، ولا يقدر في العقل وقوعها غير دالة عليه».
٢٥٤ وهذا يعني أن «تحقُّق «الدال» يستلزم في نفس الأمر تحقُّقَ المدلول فيها مطلقًا».
٢٥٥ والحق أنه «ليس كذلك سبيل المعجزات»
٢٥٦ عند الأشاعرة. ذلك أن «خوارق العادات؛ كانفطار السموات، وانتشار الكواكب، وتدكدك
الجبال يقع عند تصرُّم الدنيا وقيام الساعة، ولا إرسال في ذلك الوقت، وكذلك تظهر الكرامات
على
أيدي الأولياء من غير دلالة على صدق مدِّعي النبوة».
٢٥٧ … «وكذلك فإن انقلاب العصا حيَّة، لو وقع بديًّا (أي ابتداء) من فعل الله عزَّ
وجلَّ من غير دعوى نبي، لمَا كان دالًّا على صدق مدَّعٍ».
٢٥٨ وهكذا، فإنه يمكن أن يتحقَّق الدالُّ (المعجزة) دون أن يستلزم تحقق المدلول
(الدعوى). وتبعًا لذلك «فقد خرجت المعجزات عن مضاهات دلالات العقول».
٢٥٩
ومن ناحية أخرى، فإنَّ دلالة المعجزة على صدق دعوى النبوة «ليست دلالةً سمعية، لتوقُّفها
على صدق النبي، فيدور»؛
٢٦٠ أي: إن الأشاعرة قد منعوا «الدلالة السمعية» لأنها تؤدي إلى الدور المنطقي. إذ
الدلالة حينئذٍ تتوقف على صدق النبي، ولكن صدق النبي نفسه يتوقف، أصلًا، على تلك الدلالة.
وهكذا يكون الأشاعرة قد أنكروا أن تكون دلالة «المعجزة» على الصدق، دلالة «باطنية» تتقوم
بالعقل، أو حتى دلالة «خارجية» تتقوم بالسمع.
وإذ يستحيل فعلًا — وبمقتضى النسق الأشعري — أن تكون دلالة المعجزة على الصدق دلالة
«باطنية»، فإنه يستحيل بذات القدر — وبمقتضى النسق أيضًا
٢٦١ — ألَّا تكونَ دلالة المعجزة على الصدق دلالة «خارجية». والحق أن دلالة المعجزة
على الصدق كانت عند الأشاعرة دلالة «خارجية» بالفعل، ولكنها لا تتقوم من السمع (حيث الدور
المنطقي)، بل من علم بالصدق يخلقه «الله» فينا عقب ظهور المعجزة، فإنه «عند ظهور المعجزة
يحصل
الجزم بصدقه (أي النبي) بطريق جرى «العادة»، بأن الله تعالى يخلق العلم بالصدق عقيب ظهور
المعجزة».
٢٦٢ وعلى هذا، فإن دلالة المعجزة على الصدق هي دلالة خارجية، ولكنها ليست سمعية، بل
بالأحرى «دلالة عادية»، من مصطلح «العادة» الأشعري، بمعنى أن دلالتها على الصدق تكون
من
«إجراء الله تعالى «عادته» بخلق العلم بالصدق عقيب ظهور المعجزة».
٢٦٣ وهكذا فإن دلالة المعجزة على الصدق، كسائر ما عداها، فعل «من الله أيضًا».
٢٦٤
وكما بدا للأشاعرة أن ردَّ دلالة صدق المعجزة على الدعوى إلى «السمع»، يتأدَّى إلى
«مأزق»
الدور المنطقي، فإنه يبدو أيضًا، أن ردَّهم دلالة صدقها إلى «عادة» الله بخلق العلم بالصدق
عقب ظهورها، يتأدى إلى «مأزق» تجويز عدم دلالتها على الصدق. ذلك أن كون اقتران ظهور المعجزة
بالصدق يكون بمجرى «العادة»، وكون هذه «العادة» جائزة الانخراق، على مذهب الأشاعرة، يؤدي
إلى
أنه «يجوز إخلاء المعجزة عن اعتقاد الصدق».
٢٦٥ وهذا «التجويز» يتأدَّى إلى أنه «يجوز إظهاره (أي المعجزة) على يد الكاذب
حينئذٍ»، فإنه لا يمنع هذا «الجواز» إلا استحالة خرق العادة من المعجزة، وخرق العادة
«عامة»
ممكن عند الأشاعرة. ومن هنا فإنه يجوز — بمقتضى النسق الأشعري — إظهارُ المعجزة على يد
الكاذب؛ «إذ لا محذور سوى خرق العادة في المعجزة، والمفروض أنه جائز».
٢٦٦ وهكذا فإن ردَّ الأشاعرة دلالة صدق المعجزة على الدعوى إلى «إجراء الله عادته
بخلق العلم بالصدق عقيبه» يتأدَّى إلى شناعة تفوق شناعةَ الدور المنطقي، وهي تجويز ظهور
المعجزة على يد الكاذب. وإن صار الأشاعرة إلى أن ذلك «وإن كان ممكنًا عقلًا، فمعلومٌ
انتفاؤه (عادة)»،
٢٦٧ فإن تلك «العادة» مما يجوز — على مذهبهم — إخراجها أيضًا. وهكذا يبقى جواز ظهور
المعجزة على يد الكاذب قائمًا لا يتزعزع. وليس يُجدي هنا قول الأشاعرة بأنه «يستحيل وقوع
المعجزة على حسب دعوى الكاذب؛ لأنها تتضمن تصديقًا، والمستحيل خارجٌ عن قبيل المقدورات».
٢٦٨ إذ يبقى هذا القول مرسلًا؛ أعني لا يقتضيه مجمل النسق، بل — أو لعله — يتعارض
معه.
وإذ جوبه الأشاعرة بهذه الشناعة القاسية، فإنهم قد اضطروا إلى التماس دلالة صدق المعجزة
على دعوى النبوة من ضرب من «الإيمان» السابق على الدعوى بأن ثمة إلهًا مطلقَ القدرة،
وكذا من
الاعتقاد بإمكان النبوة. وبعبارة أصرح التمس الأشاعرة دلالة صدق المعجزة من الإيمان قبل
«دعوى
النبوة»، بما جاءت «النبوة» أصلًا لنؤمن به. فبدا وكأنهم قد ارتدوا إلى «الدور المنطقي»
الذي
سبق ومنعوه. فطبقًا للأشاعرة «المعجزة، إنما تدل في حق مَن يعتقد الرب قادرًا يفعل ما
يشاء،
فيقول النبي في مخاطبة مَن سبق اعتقاده للإلهية: قد علمتم أن ابتعاث النبي غير منكر عقلًا،
وأنا رسول الله إليكم. وآية صدقي أنكم تعلمون تفرُّدَ الرب تعالى بالقدرة على إحياء الموتى،
وتعلمون أن الله عالمٌ بسرِّنا وعلانيَّتِنا، وما نُخفيه من سرائرنا ونُبديه من ظواهرنا،
وإنما أنا رسول الله إليكم، فإن كنت صادقًا فاقلب يا رب هذه الخشبة حية تسعى، فإذا انقلبت
كما
قال، وأهل الجمع عالمون بالله تعالى، فحينئذٍ يعلمون على الضرورة أنَّ الربَّ تعالى قصد
بإبداع ما أبدع تصديقه».
٢٦٩ وبصرف النظر عن أن أولئك الذين يعنيهم النبيُّ «بخطابه» ليسوا، في الأساس أولئك
العالمون بإله متفرد القدرة والعلم؛ بل — بالأحرى — مَن يجهلونه، فإن هذا التصور — وهو
الأهم
— يتأدَّى إلى إظهار «عقم» المعجزة؛ ذلك أن مَن يعتقدونه من «الله» هكذا، ويعتقدون —
فوق ذلك
— من أن ابتعاث النبي غيرُ منكر عقلًا، ليسوا في حاجة، أصلًا، إلى معجزة حتى يؤمنوا بصدق
دعوى
النبوة. وهكذا يكون الأشاعرة قد تأدوا إلى إظهار عقم المعجزة، لا دلالتها على الصدق.
والحق أن
نسقًا كهذا، غاب عن «العقل» ليس أمامه إلا حصد التناقضات. ولو كان «العقل» حاضرًا هناك،
كشريك
للمعجزة، لا فاعل أصلي، لأمكن أن يُفلت الأشاعرة من أنه «لا دليل على صدق النبي غير المعجزة»،
٢٧٠ إلى أن ثمة دلائلَ أخرى، يتكشفها «العقل» في طبيعة النبوة، من حيث تتبدَّى خاصة،
كشكل من أشكال «الوعي» يقتضيه «الواقع» في «مرحلة» ما، ولأمكن أن يُفلتوا بالتالي من
كل صور
التناقض التي فرضها غياب «الإنسان» من النسق، أولًا وأخيرًا.
ويبقى، على أي حال، أنَّ «النبوة» من حيث هي «قول الله تعالى لمن اصطفاه من عباده
أرسلناك
وبعثناك، وبلِّغ عنَّا» هي «إمكان نظري»، وأن «المعجزة» من حيث هي «فعل خارق للعادة يُظهره
الله تصديقًا للنبي» هي كذلك، «إمكان نظري». والحق أن تصورهما «إمكان نظري» ليس غايةً
في ذاته
عند الأشاعرة، بل مجرد توطئة لإثباتهما (تحقق فعلي).
النبوة والمعجزة … من «الإمكان النظري» إلى «التحقق الفعلي».
إنَّ الانتقال بالنبوة والمعجزة من «الإمكان النظري» إلى «التحقق الفعلي» يمثل انتقالًا
من «العام» إلى «الخاص». ذلك أنه بينما يتعلق «الإمكان» بإظهار إمكان النبوة «عامة» في
مواجهة
المخالف على العموم، فإن «التحقق» يتعلق بإثبات نبوة «خاصة» في مواجهة مخالف بعينه. وهنا
يبدو
وكأنَّ الأشاعرة قد أدركوا أنه لا بدَّ من سبق «منطقي» للعام على الخاص. وليس ذلك يتعارض
مع
حقيقة أنَّ هذا «السبق المنطقي» للعام على الخاص، يأتي — في الإدراك الأشعري — تاليًا
«للسبق
الفعلي» للخاص على العام. فالحقُّ أنه لو لم تكن ثمة نبوة خاصة متحققة «فعلًا»، لما كان
الأشاعرة قد صاروا، أبدًا، إلى تأسيس إمكان النبوة عمومًا. وإذن، فإن «الخاص» هو الذي
يؤسِّس
«العام»، «فعليًّا»، وذلك رغم أنه يستحيل العكس «منطقيًّا». ويبقى، إذن، أنه لا تناقض
بين
القول بأنه لولا نبوة محمد
ﷺ — (أي الخاص) — لما أثبت الأشاعرة النبوةَ عمومًا (أي
العام)، وبين كونهم أقاموا نبوةَ محمد نفسها (أي الخاص)، على إثبات النبوة عمومًا (أي
العام)،
على أنَّ المهم — على أي حال — أن نُدرك أنَّ «العام»، هنا، ليس هو «الغاية»؛ بل «الخاص»
هو
الغاية والمبدأ والمنتهى أيضًا. فالحق أن إثبات نبوة محمد
ﷺ هو «غاية» البحث الأشعري
في النبوة بأَسْره.
وأما أن ثمة انتقالًا — في النبوة — من «الإمكان» إلى «التحقق»، فإن ثمة، في مكة،
من زمن
ما مَن «ادَّعى النبوة، وظهرت المعجزة على يده، وكلُّ مَن كان كذلك كان رسولًا حقًّا».
٢٧١ فأما أنه «ادعى النبوة»، فقد أجمع الأشاعرة على أن ذلك «معلوم»؛ وإن كان ثمة مَن
رآه معلومًا «بالتواتر»،
٢٧٢ وثمة مَن مضَى إلى «أن العلم بظهور النبي،
ﷺ، بمكة والمدينة ودعوته إلى
نفسه واقع من جهة «الاضطرار».»
٢٧٣ ولكن «الاضطرار» هنا، حتى ولو كان «لا يمكن جحده، ولا الارتياب به»،
٢٧٤ ليس يعني شيئًا أكثر من «التواتر»، ولكنه من نوع ذلك «الخبر المتواتر «الذي هو»
طريق العلم الضروري … «والذي به» علمنا البلدان التي لم ندخلها، وعرفنا الملوك و«الأنبياء»
والقرون الذين كانوا قبلنا، وبه يعرف الإنسان والدَيه اللذَين هو منسوب إليهما».
٢٧٥ وإذن، فإن «الاضطرار» هنا، ليس أبدًا اضطرارًا «عقليًّا»؛ إذ يستحيل ذلك على
مقتضى النسق الأشعري. وعلى أي حال، فإن ادعاء النبي محمد
ﷺ للنبوة معلومٌ تمامًا، سواء
من طريق التواتر أو الاضطرار. ولو أن أحدًا تطرَّق إلى الشك من ذلك «لجحد الضرورة (ليست
عقلية)، ولسقطت مكالمته».
٢٧٦
وأما أنه «أظهر المعجزة»، فإن ذلك أيضًا «معلوم» بإجماع الأشاعرة، وإن كان طريق العلم
بذلك يتباين بحسب نوع المعجزة. «فأما العلم بظهور القرآن على يده ومجيئه من جهته، وأنه
تحدَّى
العرب أن يُؤتَى بمثله، فواقع لنا، ولكلِّ مَن خالفنا «اضطرارًا».»
٢٧٧ «وأما سبيل العلم بكلام الذراع، وتسبيح الحصى، وحنين الجذع، وجعْل قليل الطعام
كثيرًا، وانشقاق القمر، وأشباه ذلك من أعلامه، عليه السلام، فهو النظر والاستدلال، لا
الاضطرار».
٢٧٨ فقد بدا للأشاعرة أنه بينما كان «ثبوت القرآن، وظهوره عليه، وعجز العرب والعجم عن
المعارضة بمثله، معلومًا «بالتواتر» الموجب للعلم «الضروري»»،
٢٧٩ فإنه «لا نزاع في أنها (أي المعجزات غير القرآن) لم تُنقل إلينا نقلًا متواترًا
«يوجب العلم الضروري»، بل إنما نُقلت على سبيل رواية الآحاد، ورواية الآحاد لا تُفيد
العلم».
٢٨٠ وإذ بدا للبعض أن عدم إفادة أخبار هذه المعجزات للعلم، يمثِّل — من طرف خفي —
إنكارًا لهذه المعجزات ذاتها،
٢٨١ فإنهم قد صاروا إلى أن سبيل العلم بهذه المعجزات، هو «الخبر المستفيض المتوسط بين
التواتر والآحاد، فإنه «يشارك» التواتر في إيجابه للعلم والعمل، و«يفارقه» من حيث إن
العلم
الواقع عنه يكون علمًا مكتسبًا «نظريًّا»، والعلم الواقع عن التواتر يكون «ضروريًّا»
غير مكتسب».
٢٨٢ وإذن، فإن معجزات النبي، غير القرآن، إنما تُفيد «علمًا» … ولكنه علم «نظري»،
مكتسب من «النظر» في الخبر وروايته وقرائن الأحوال، في حين أن خبر القرآن ومعجزته بلغَا
حدًّا
من «التواتر» يوجب العلم «بالاضطرار». واللافت، على أي حال، أن إظهار النبي للمعجزة،
معلومٌ
بالإجماع، سواء من طريق الاضطرار أو من طريق النظر والاستدلال. وبهذا — لا غيره — أي
بتواتر
ادِّعاء النبوة وإظهار المعجزة، تواترًا موجبًا للعلم الضروري، أثبت الأشاعرة تحقُّقَ
نبوة
محمد
ﷺ فعليًّا، في مواجهة المخالفين، وكانوا من أصحاب النبوات السابقة خاصة، حيث تم
إفحام المخالفين — ممن لا نبوة لهم — في معرض إثبات النبوة «عمومًا» بوصفها إمكانًا
نظريًّا.
وبينما بدا للأشاعرة أنَّ العلم بتحقق نبوة محمد
ﷺ ومعجزته، على هذا النحو، من نوع
الضرورات، و«لا حجاج في درء الضرورات»،
٢٨٣ فإن ثمة من حاجَّ في الضرورات،
٢٨٤ وأنكر نبوة محمد
ﷺ والمعجزات، وهما: «طائفتان، تمسَّكت إحداهما بالمصير
إلى منع النسخ، وتمسكَت الأخرى بالمماراة في آياته ومعجزاته».
٢٨٥ فأما «مَن أنكر رسالته، لاعتقاده إحالة نسخ الشرائع وتبدُّل الذرائع، كبعض
«اليهود»، «فإن» منهم مَن أحال ذلك عقلًا … ومنهم مَن أحاله سمعًا
٢٨٦ … «وأما» مَن أنكر رسالته بمجرد القدح في معجزاته، والطعن في آياته، «فهُم»
النصارى، وغيرهم من المعترفين بجواز نسخ الشرائع وبعثة الرسل».
٢٨٧ وقد أدرك الأشاعرة أنهم مضطرون — تبعًا لذلك — إلى الخوض في تجويز النسخ، وبيان
معجزة النبي وطبيعتها؛ أي الخوص في مباحث نظرية خالصة، فبدا وكأنهم قد تحولوا، بذلك،
من إثبات
نبوة محمد
ﷺ، «واقعة فعلية» — حسب التاريخ المتواتر — إلى إثباتها «واقعة نظرية»، أعني
حسب النظر أيضًا.
فقد بدا للأشاعرة أنه لا يمكن إثبات النسخ — في مواجهة منكريه — اعتمادًا على مجرد
العلم
بتواتر نقله؛ ولو كان من نوع التواتر الموجب للعلم الضروري. إذ تبقى الضرورة، هنا، غيرَ
عصيَّة على الجحد؛ لأنها لا تتأسس عقليًّا. وعلى هذا فإن بحثهم في «النَّسخ» يتعلق، أولًا،
بإثباته «ممكنًا نظريًّا»، لا «واقعًا فعليًّا»؛ وأعني تأسيس «النسخ» على تصور نظري لضرب
من
«الاقتضاء الإلهي»، يبدو — طبقًا لهم — عصيًّا على أي نكران، وحيث كان بالمقدور تأسيس
«النسخ»
— وهو الأرسخ — على نوع من الضرورة العقلية أو التاريخية، أو — بالأحرى — على ضرب من
«الاقتضاء الإنساني»، فإن ردَّ الأشاعرة «للنسخ» إلى «الاقتضاء الإلهي» يتكشف عن حضور
قوي
لبنية تأبى إلا أن تنتظم عناصر نسقهم بأسرها.
وقد خاض الأشاعرة في النسخ، بذكر حقيقته ابتداءً؛ وذلك لإدراكهم أن مقصدهم في إبطال
ما
انتحله الخصم لا يتبين إلا بذكر حقيقة النسخ. و«النسخ في اللغة لفظ مشترك؛ فربما تَرِد
والمراد بها الإزالة والتمحيق … وقد يُطلق النسخ ولا يراد به حقيقة الإزالة، ولكن يراد
به
النقل، وذلك نحو قولهم: نسخ فلان كتابًا».
٢٨٨ وإذ تبدو دلالة معناه الأول؛ أي الإزالة — وهو «أظهر معانيه في اللغة»
٢٨٩ — واضحة جلية، فإنَّ دلالة المعنى الثاني؛ أي النقل، تبقى في حاجة إلى إجلاء.
فالنسخ، على معنى النقل، ينطوي على دلالة «الحفظ والإبقاء»؛ ذلك أن مَن ينسخ «كتابًا»
أو
«أثرًا» إنما يهدف إلى حفظه وإبقائه، لا مَحْقه وإفنائه. وهكذا فإن لفظ «النسخ» ينطوي
— بحسب
اللغة — على دلالتَين متناقضتَين تمامًا، أولاهما «المحق والإفناء»، والثانية هي «الحفظ
والإبقاء». وبالرغم من أنه كان يمكن — بدءًا من هاتين الدلالتين المتناقضتين — تطوير
تصور
نظري، أو اصطلاحي للنسخ، ذي طبيعة جدلية؛ وأعني تصوره تأليفًا ينطوي في ذاته على «السلب
والإيجاب» أو الإفناء والإبقاء في وحدة خلاقة، لا يكون «نسخ شريعة» فيها، إفناءً مطلقًا
لها،
بل إفناءً يُبقي منها على أكثر عناصرها حياةً. ولكن الأشاعرة — فيما يبدو — قد أخفقوا
في بلوغ
هذا التصور.
٢٩٠ ذلك أنهم عجزوا عن تصور النسخ — في المصطلح — إفناءً وإبقاءً، في ذات الوقت، ولم
يقدروا إلا على تصوُّره مَحْقًا وإفناءً، فقط. وذلك يرتبط — لا شك — بهيمنة «البنية»؛
حيث
«الغياب الإنساني» أظهر «الاقتضاء الإلهي» — علة النسخ — متعلقًا «بذاته» فقط، دون أخذ
لوضع
«الآخر» التاريخي في الاعتبار. فبدا بذلك وكأن «النسخ» فعلٌ «صوري» ذو طبيعة واحدة، وليس
فعلًا «متعينًا» مزدوج الدلالة.
فالنسخ — في المصطلح الأشعري — «هو الخطاب الدالُّ على ارتفاع الحكم الثابت بخطاب
آخر،
على وجهٍ لولاه لاستمرَّ الحكم المنسوخ. ومن ضرورة ثبوت النسخ على التحقيق، «رفع حكم
بعد ثبوته».»
٢٩١ وهكذا لا بدَّ من حكم ثابت «يرفعه» حكم آخر، و«الرفع» هنا، رفع «صوري» محض —
يُفني فقط ويُزيل — وليس رفعًا «هيجليًّا» يُفني ويُبقي في ذات الوقت. فإن «إبراهيم،
ﷺ، مأمورٌ عندنا وعند أصحابنا «بالذبح» أولًا. ونُسخ ذلك عنه آخرًا، وعين المأمور به
هو الذبح، ولم يكن أفعالًا تمتدُّ وتتعدد، حتى يُصرف «الأمر» إلى الشيء، والنسخ إلى غيره»؛
٢٩٢ ومتى انصرف النسخ هكذا «إلى عين المأمور به، كان رفعًا للحكم على التحقيق»؛
٢٩٣ أي محقًا وإفناءً فقط.
وعلى النقيض صار المعتزلة إلى «أنَّ حدَّ النسخ هو النص الدال على أن «مثل» الحكم
الثابت
بالنص المتقدم، زائلٌ على وجه لولاه لكان ثابتًا».
٢٩٤ ويُستفاد من هذا التعريف أن ثمة ضربين من الأحكام في الشريعة — أي شريعة —
أولاهما: «أحكام ثابتة قطعيًّا»، لا ينصرف إليها النسخ فيما يبدو، والأخرى: هي «مثل الأحكام
الثابتة»؛ أي أحكام تماثل الأحكام الثابتة، ولكنها ليست كذلك في الجوهر، وتلك هي التي
ينصرف
إليها النسخ فيما يبدو. وإذن، فإن النسخ في الشرائع لا ينصرف إلى «عين» أحكامها الثابتة،
بل
إلى «مثل» أحكامها الثابتة. وإذا كان النسخ عند المعتزلة، لا ينصرف — تبعًا لذلك — إلى
عين
الحكم الثابت، فإنه «لا يرفع حكمًا ثابتًا، وإنما يبيِّن انتهاءَ مدة شريعة».
٢٩٥ وهذا البيان لا يكون — بالطبع — بنفي عين أحكامها الثابتة، بل بنفي «مثل» أحكامها
الثابتة. ومن هنا، فإن النسخ لا يكون «إفناءً» فقط، بل «إفناءً وإبقاءً» معًا. ولعل ذلك
ما
دفع الأشاعرة إلى القول بأن المعتزلة يردون النسخ إلى «تبيين معنى لفظ لم يُحط به أولًا،
وتنزيل له (للنسخ) منزلةَ تخصيص صيغة عامة».
٢٩٦ فإن «تخصيص صيغة عامة»، مثلًا، لا يعني «إفناءً» مطلقًا لكل ما تنطوي عليه عامة،
بل يعني، بالأحرى، «نفيًا» للثانوي وغير الجوهري فيها من جهة، و«حفظًا» للخاص والجوهري
فيها
من جهة أخرى. وليس من شكٍّ في أنه لا يمكن فهم هذا الطابع «الجدلي» للنسخ عند المعتزلة
—
المفارق تمامًا للطابع «الصوري» للنسخ عند الأشاعرة — بعيدًا عن الحضور «الإنساني» الفعال
في
البناء الاعتزالي للعلم.
وعلى أيِّ حال، فإنه سواء كان النسخ ذا طابع «صوري» ينصرف إلى عين الحكم الثابت،
أو طابع
«جدلي» ينصرف إلى مثل الحكم الثابت، وسواء كان «رفعًا للحكم الثابت على التحقيق» — أي
مَحقًا
وإفناءً فقط — أو كان «تخصيصًا لصيغة عامة» — أي إفناءً وإبقاءً معًا — فإن النسخ، بالإجماع،
جائز، ولعله يكون واجبًا عند المعتزلة. فالنسخ ليس مما يستحيل لنفسه؛ لأن «كل ما يستحيل
لذاته
يعلم استحالته عند تصور ذاته، والنسخ ليس كذلك»؛
٢٩٧ إذ إن «تصويره (أو تصوره) ممكن، لا استحالةَ فيه».
٢٩٨ وكذلك فإنه يستحيل صرفُ استحالته إلى غيره؛ أي إلى تأديه إلى مُحال إلهي مثلًا؛
«إذ ليس في تجويزه خروجُ صفة من صفات الإلهية عن حقيقتها؛ فإن الحكم ليس بصفة نفسية للفعل
كما
قدرناه، وليس في تقدير النسخ ما يُفضي إلى تغيُّر العلم والإرادة»؛
٢٩٩ أي ليس فيه ما يُفضي إلى «محال إلهي» كما تصوَّره منكرو النسخ عقلًا. فقد صار
منكرو النسخ إلى أن «الدليل على إحالة النسخ من جهة العقل أنه يوجب البداء «والجهل على
الله»؛
لأن الأمر بالشيء يقتضي كونه مصلحة، واعتقاد الآمر به كونه كذلك. والنهي عنه بعد الأمر
به يدل
على أنه قد بدا للآمر وانكشف له أن ما كان أمر به مفسدة، ليس بمصلحة، على ما توهمه. وذلك
منتفٍ عن الله، جل ذكره».
٣٠٠ وإذن، فإن «النسخ مُحال؛ لأنه يدل على الجهل أو البداء، وكلاهما مُحالٌ على الله تعالى».
٣٠١ وبالرغم من أنه بدا للبعض من الأشاعرة — وكانوا في ذلك يأكلون على موائد المعتزلة
ما يتعذَّر على مقتضى نَسقهم بَلْعُه — أنَّ الاحتكام إلى منطق المصلحة — مصلحة العباد
— هو
المخرج من المأزق؛ إذ «ربما حدثت مصلحةٌ لم تكن حاصلةً «من» قبل، فإن المصالح تختلف بحسب
الأوقات؛ كشرب الدواء الخاص في وقت دون وقت. فربما كانت المصلحة في وقت «هي» ثبوت الحكم،
لاشتماله فيه على ما يجب رعايته، وفي وقت آخر ارتفاعه (أي الحكم) لاشتماله فيه على مصلحة
أخرى
حادثة بعد زوال الأولى، أو مرجوحيتها مقيسة إلى الثانية، فلا يلزم ما ذكرتم من الجهل
أو البداء».
٣٠٢ وإذ يبدو ذلك — من حيث يفسح المجال لدَور إنساني فاعل في النسخ — غير متصوَّر على
مقتضى النسق الأشعري، فإن ثمة من الأشاعرة — وهم الأصلاء حقًّا — مَن صار إلى أنه «لا
يجب
رعاية المصلحة في الأحكام عندنا، فلا يلزم اشتمال الحكم المنسوخ على مصلحة».
٣٠٣ وعند هؤلاء، يستحيل القول بالبداء، لا بدءًا من مصلحة العباد، بل بدءًا من أنَّ
«علم الباري سبحانه متعلق بالمعلومات على ما هي عليه، ولا يتجدد له علمٌ لم يكن».
٣٠٤ وأما النسخ، فإنه لا يُعلل؛ إذ «إن الله تعالى يفعل ما يشاء، كيف يشاء، وعلى أي
وجه شاء. وأن ذلك كله تصُّرف في مملكته لا يُسأل عمَّا يفعل، وهم يُسألون. فإذا تقرَّر
ما
قلناه ثبت جواز النسخ لا محالة».
٣٠٥ وهكذا عاد النسخ يجد تفسيره — أو بالأحرى عدم تفسيره — في دائرة إلهية مغلقة.
وأما الاحتجاج على منع النسخ عقلًا، بأنَّ «ما أوجبه الله تعالى، فقد أخبر عن كونه
واجبًا؛ فلو حظره، وأخبر عنه كونه محظورًا، لانقلب الخبر الأول خُلفًا واقعًا على خلاف
مُخبره، وذلك مستحيل»،
٣٠٦ فإن الأشاعرة يؤكدون على زيف هذا الاحتجاج، من حيث يتقوم على تصوُّر «للحكم» صفة
«ذاتية» للفعل. وليس ذلك صحيحًا على أصولهم؛ إذ «الوجوب ليس بصفة للواجب على أصلنا»،
٣٠٧ بل «الوجوب» — على أصلهم — مجردُ «خبر» عن الواجب. وعلى هذا، فإن «المعنى بكون
الشيء واجبًا، أنه الذي قيل فيه «افعل»؛ فإذا أخبر الرب تعالى عن وجوب الشيء، فمعناه
أنه أخبر
عن الأمر به. فإذا نهى عنه، أخبر عن النهي عنه».
٣٠٨ وإذ يكون «الوجوب» — على هذا النحو — «خبرًا»، لا «صفة ذاتية» للفعل، فإن ذلك
يعني «حيادية» الفعل، وبالتالي إمكانية «اكتسابه» أي حكم تعلق به «الخبر»، دون أن يعني
الأمر
انقلابًا في طبيعة الفعل أو تناقضًا. ومن هنا فإنه «ليس بين الإخبار عن الأمر به (بالفعل)
تحقيقًا، وبين الإخبار عن النهي تناقض، ولا يتصف واحد من الخبرَين بالخروج عن كونه صدقًا
حقًّا».
٣٠٩ إذ «الإخبار» هنا، لا يصدر عن «طبيعة ذاتية» للفعل — لا وجود لها عند الأشاعرة —
بل عن «ذات» تفعل ما تشاء، كيف تشاء، وعلى أي وجه تشاء. وهكذا صار الأشاعرة إلى أن النسخ
ليس
مما يمتنع عقلًا، ابتداءً من «منع البداء» على الله أولًا، ثم إحالة «انقلاب الخبر»
٣١٠ ثانيًا. وقد صاروا بعد ذلك إلى أنه «إذا ثبت جواز النسخ عقلًا، فليس تمنع منه
دلالة سمعية».
٣١١
فإن ثمة مَن صار — وهم فرقة من اليهود — إلى أن النسخ لا يجوز سمعًا، وإن جاز عقلًا.
وعند
هؤلاء، أن الخبر الموجب لمنع نسخ شريعة موسى «هو ما نقله اليهود خلفًا عن سلف عمن شاهد
موسى
منهم، أنه قال: «إن هذه الشريعة مؤبدة عليكم، ولازمة لكم، ما دامت السموات والأرض، لا
نسخ لها
ولا تبديل».»
٣١٢ ولكن يبدو أن اليهود لم ينقلوا هذه الحجة خلفًا عن سلف عمن شاهد موسى، حقًّا، بل
«تلقَّنوها من ابن الراوندي الملحد»،
٣١٣ حيث «لا يوجد نصُّ هذا القول في أيٍّ من أسفار العهد العتيق».
٣١٤ ومع ذلك، فإنهم أصروا على القول بتأبيد شريعتهم، لأن القول «إنه تعالى بيَّن في
شرع موسى — عليه السلام — أنه ثابت إلى الوقت الفلاني (أي إنكار التأبيد)، كان هذا من
الأمور
العظيمة التي تتوفر الدواعي على نقله، فوجب أن ينقل ذلك التوقيت متواترًا؛ فالنقل المتواتر
لا
يجوز الإطباق على إخفائه، فكان يلزم أن يكون العلم بانتهاء شرع موسى عند مبعث عيسى، وانتهاء
شرع عيسى عند مبعث محمد عليه الصلاة والسلام، معلومًا بالضرورة للخلق، وأن يكون المنكر
له
منكرًا للتواتر، وأن يكون ذلك من أقوى الدلائل لعيسى ومحمد على دعواهما، فلما لم يكن
الأمر
كذلك، علمنا فساد هذا القول».
٣١٥ وإذ لا يجوز «التوقيت» — تبعًا لذلك — ليس إلا «التأبيد»؛ إذ «السكوت» عنهما معًا
محالٌ كذلك.
٣١٦ ويلزم عن هذا «التأبيد»، امتناع النسخ، لوجوه: ««أولًا»، فلأنه أخبر أن هذا الشرع
ثابت أبدًا؛ فلو لم يبقَ ثابتًا أبدًا، كان كذبًا، وهو غير جائز على الله تعالى، وأما
«ثانيًا» فلأنه لو جاز أن ينصَّ الله تعالى على أن شرع موسى — عليه السلام — ثابتٌ أبدًا،
ثم
أنه لا يبقى ثابتًا أبدًا، فلِمَ لا يجوز أن ينصَّ الله على شرع محمد عليه الصلاة والسلام
أنه
ثابت أبدًا، مع أنه لا يكون ثابتًا أبدًا؟! فيلزمكم تجویزُ نسخ شرعكم، وأما «ثالثًا»
فلأنه لو
جاز أن يُخبر الله عن التأبيد مع أن التأبيد لا يحصل، ارتفع الأمان عن كلامه ووعده ووعيده،
وذلك باطل بالاتفاق».
٣١٧ وإذن، فالنسخ يمتنع سمعًا، من حيث يتأدى إلى كل هذه المحاولات القاسية.
وبالرغم من أنه كان بمقدور المتكلمين نفي المشكلة، من أساسها، اعتمادًا على أن نص
«التأبيد»، الذي اعتمد عليه اليهود في أفكار النسخ، لم يَرِد في أيٍّ من أسفار العهد
القديم،
فإنه يبدو وكأنهم قد تقبلوا النص، وناقشوا فقط مدى حجيته على مرمى اليهود. وهكذا صار
الأشاعرة
إلى أنه، ولو صح نص التأبيد، «فلا مانع من أن يكون ذلك مشروطًا بعدم ظهور نبي آخر، ويكون
هو
المراد باللفظ، ومع تصور هذا الاحتمال، فلا يقين».
٣١٨ وإذن، فالمراد من نص التأبيد، لا التأبيد على الإطلاق، بل التأبيد فقط «ما لم
يبعث الله نبيًّا تظهر الأعلام على يده يدعو إلى نسخها (الشريعة) وتبديلها».
٣١٩ وأما إن أصرَّت جماعة اليهود على أن مراد النص، لا هذا التأبيد المشروط، بل
التأبيد على الإطلاق؛ إذ «اليهود قد نقلت — وهم اليوم أهل تواتر — عن مثلهم عمَّن شاهد
موسى
أنه أكَّد هذا النفي للنسخ، وقرنه بما يدل على أنه أراد عموم الأزمان على جميع الأحوال،
إلى
أن يرث الله الأرض ومَن عليها»،
٣٢٠ فإن الأشاعرة يصيرون إلى أن «مراد النص» هكذا، غير معلوم بالاضطرار؛ «لأننا قد
سمعنا الخبر كما سمعتم، وعرفناه، كما عرفتم؛ فلو كان فيه من التوقيف والتأكيد «على التأبيد
المطلق» ما وصفتم — وقد نقله أهل الحجة — لعلمنا ذلك ضرورة، كما علمنا وجود موسى ضرورة
… وفي
رجوعنا إلى أنفسنا ووجودنا لها غير عالمة بذلك في جملة ولا في تفصيل — فضلًا عن أن تكون
مضطرة
— دليلٌ على كذبكم في هذه الدعوى».
٣٢١
وإذ مضى اليهود إلى مزيد من الإصرار على أن مراد النص هو التأبيد المطلق، فقد بدا
للأشاعرة أن لا سبيل لدحض ذلك، سوى إنكار «النص» بالكلية، فصاروا إلى أنَّ «ما يدلُّ
على كذب
هذه الدعوى أننا لا نعلم ضرورة أن موسى قال هذا القول جملة — أعني ما ادعوه عليه من قوله:
«هذه الشريعة لازمة لكم، ما دامت السموات والأرض» — فضلًا عن أن نعلم مراده به؛ لأن العلم
بمراده بالقول، إنما هو فرع للعلم بوجود القول. ونحن لا نعلم أنه قال هذا القول جملة،
فكيف
يُدَّعى علينا العلم بمراده فيه ضرورة».
٣٢٢ وهكذا صار الأشاعرة من قَبول النص مع تأويله، أو إنكار مراده فقط، إلى إنكار النص
بالكلية. ذلك أن «النص» ومراده أيضًا يتعارضان مع «واقعة»
٣٢٣ ظهور عيسى ومحمد بالنبوة. ولا يستند الإنكار الأشعري «للنص» على «واقعة» ظهور
نبوة لاحقة؛ أعني على النقد الخارجي، فقط، بل يقوم على ضرب من النقد الباطني أيضًا؛ ذلك
«أن
موسى عبرانيُّ اللسان، وأن ما نقلوه عنه ليس بصورة ما يُوردونه علينا من قولهم: إن الشريعة
مؤبدة، وإنها لا نسخ لها، وإن العمل بها واجب ما دامت السموات والأرض، وأمثال ذلك. وإنما
ينقلون كلام موسى ويترجمونه وينقلونه من لغة إلى لغة ويفسرونه … والغلط والتحريف يدخل
في
النقل كثيرًا. وهكذا يتأدَّى النقد «الخارجي» و«الباطني» إلى إنكار نص التأبيد كلية،
أو على
الأقل إلى التشكيك في صحته إلى أقصى درجة».
وقد مضى الأشاعرة إلى أن «النص» المنقول «عن موسى، عليه السلام، في هذا الباب — فيما
يرى
أكثر اليهود ممن لا يعتمد البهت في المناظرة والمدافعة — هو أنه قال: «إن أطعتموني فيما
أمرتكم به، ونهيتكم عنه ثبت ملككم، كما ثبتت السموات والأرض».
٣٢٤ وما ذكر النسخ، ولا أن الشريعة لا تُنسخ، ولا أنه لا نبي بعده ينسخها، ولا أنها
مؤبدة عليكم، ولازمة لكم ما دامت السموات والأرض، ولا شيئًا من هذه الألفاظ، وكل ما يدعونه
من
هذه الألفاظ أباطيل، ومقايلات للنصارى والمسلمين واستعارة لكلامهم وألفاظهم».
٣٢٥ وهكذا يستحيل ما يزعمه اليهود — بنص «منكور» أولًا، أو نص «مقبول» بعد ذلك — من
التأبيد وعدم جواز النسخ.
ويبدو أن الأشاعرة قد أدركوا عدم كفاية نقد النصوص وتأويلها، فقط، في إنكار التأبيد
وعدم
جواز النسخ. إذ لا يفيد ذلك في مواجهة مَن يؤمن «بالنص» دون اعتبار لشهادة «النقد». وهكذا
صاروا إلى التماس ثبات النسخ من «واقعة» تُثبته على وجه القطع. وهذا ما أدركوه «في ثبوت
نقل
المسلمين القرآن وغيره من الأعلام، وثبوت الإعجاز فيما نقلوه عن نبيِّهم — بالأدلة التي
ذكرناها، والنقل الذي يحج مثله — دليل على كذب مدَّعي توقيف موسى عليه السلام، على ما
قلتم
«أي على التأبيد ومنع النسخ»».
٣٢٦ وقد بدا للأشاعرة أنه يستحيل درْءُ هذه الحجة؛ لأنهم «إن أنكروا شيئًا منه لزمهم
في شرع موسى «ومعجزته» لزومًا لا يجدون عنه محيصًا، وإذا اعترفوا به لزمهم تكذيب مَن
نقل
إليهم من موسى عليه السلام قوله إني خاتم الأنبياء».
٣٢٧ وإذن، فقد لاح وكأن ثبات «النسخ» لا ينفصل عن ثبات «المعجزة»، فمضى الأشاعرة إلى
تثبيتها.
فأما أن النبيَّ محمدًا
ﷺ قد أظهر معجزة تحدَّى بها، وأن مَن قصد تحدِّيَهم لم
يقدروا على معارضته، فإن ذلك أجمع معلوم — عند الأشاعرة — بالاضطرار. فإن «إنكار ظهور
القرآن
على يده، واقترانه بدعوته، مما لا سبيل إليه، إلا في حق مَن رفع نقاب الحياء عن وجهه،
وارتكب
جحد الضرورة الحاصلة من أخبار التواتر بذلك؛ فإنه ما من عصر من الأعصار، ولا قطر من الأقطار،
إلا والناس فيه بأسرهم مطبقون؛ الموافقون والمخالفون، على أن ذلك مما لم يظهر إلا على
يده،
ولا صدر إلا من جهته، واستقر ذلك في الأنفس، على نحو استقرار العلم بالملوك الماضية والأمم
السالفة، والبلاد النائية، فمَن تفوَّه بإنكاره، فقد ظهرت مخازيه، وسقطَت مكالمته، وكان
كمَن
أنكر وجود مكة وبغداد … ونحو ذلك».
٣٢٨ وأما «التحدي» به، فإن «هذا أيضًا معلوم على الضرورة»،
٣٢٩ من حيث إنه قد «تواتر بحيث لم يبقَ فيه شبهة».
٣٣٠ ذلك «أنا نعلم أنه —
ﷺ — تحدَّى العرب بأن تأتيَ بمثله في براعته وفصاحته
وحسن تأليفه ونظمه وجزالته ورصانته وإيجازه واختصاره واشتمال اللفظ اليسير منه على المعاني
الكثيرة. ودعاهم إلى ذلك وطالبهم به في أيام المواسم وغيرها مجتمعين ومتفرقين. وقال لهم
في نص
التلاوة:
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ
يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ
لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (الإسراء: ٨٨) يقول ممالئًا معينًا؛ وقال:
فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ (هود: ١٣)؛ وقال:
فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ (البقرة: ٢٢) مبالغةً في تقريعهم
بالعجز عنه، مع أن اللسان الذي نزل به لسانهم، ومع العلم بما هم عليه من عزة الأنفس،
وعظم
الأَنَفة وشدَّة الحمية والحرص على تكذيب الرسول».
٣٣١ وأما أنه — بعد إظهار المعجزة والتحدي بها — «لم يُعارض، فلأنه لو عورض لتواتر؛
لأنه مما تتوفر الدواعي إلى نقله، سيما والخصوم أكثر عددًا من حصى البطحاء، وأحرص الناس
على
إشاعة ما يُبطل دعواه».
٣٣٢ فلا يمكن أن يكون قد عُورض، وسُكت عن نقله؛ «إذ السكوت عن مثل هذا والتواطؤ على
تركه مما تقضي «العادة» الجارية بإحالته».
٣٣٣ وأما الاحتجاج بأنَّ خوف السيف هو المانع من إظهار المعارضة، فإنه غير جائز؛ إذ
«الواجب بالنظر إلى العادات ومقتضى الطباع، هو النقل «والإظهار» لمثل ما هو من هذا القبيل،
ولو على سبيل الإسرار، كما جرت به عادة الناس من التحدث بمساوئ ملوكهم وإظهار معايبهم
وإن كان
خوف السيف قائمًا في حقهم».
٣٣٤ وأخيرًا، فإنه لا يمكن ردُّ ترك المعارضة إلى الإهمال وعدم الاكتراث؛ إذ «العرب
في تحاورها وتفاوضها، كانت تتشمَّر لمعارضة الركيك من الشعر والرصين المتين منه. وباضطرار
نعلم أن القرآن في اعتقادهم لم ينحطَّ عن شعر لشاعر ونثر لناثر، حتى يحملَهم الازدراء
به على
الانكفاف عن معارضته».
٣٣٥ وإذن، فقد ثبتت المعجزة، والتحدي بها، والعجز عن معارضتها. وفي ثبوت ذلك، ثبوت
صدق نبوة محمد
ﷺ وكذب من أنكرها. وإذ بدا للأشاعرة أنه «بمثل هذا الطريق» تثبت نبوات
السابقين (موسى وعيسى) — وذلك من حيث يستند التصديق بها إلى مثل هذه المقدمات المشهورة
التي
«بعضها بالتواتر، وبعضها بجاري العادات»
٣٣٦ — فإنهم صاروا إلى أن القدح في مثل هذا الطريق، فيما يتعلق بنبوة محمد
ﷺ،
ينعكس على القادحين، في نبواتهم أيضًا. ومن هنا، فإنه يمكن للنصراني أو اليهودي إنكار
الطريق
الذي منه تثبت نبوة محمد
ﷺ. إذ يمكن — آنئذٍ — أن يقابل بعيسى، «فينكر تحديه بالنبوة،
أو استشهاده بإحياء الموتى، أو عدم المعارضة، أو يقال عورض ولم يظهر، وكل ذلك مجاحدات
لا يقدر
عليها المعترف بأصل النبوات».
٣٣٧ وهكذا يتأدَّى إنكار نبوة محمد
ﷺ، من أصحاب النبوات السابقة، إلى إنكار
نبواتهم ذاتها. ولذا، فإنه لا وجه لإنكارها، استنادًا إلى منع النسخ «عقلًا أو سمعًا»،
أو
إنكار المعجزة والتحدي بها «تواترًا».
واللافت أن التحول الأشعري من «النسخ» إلى «المعجزة»، في تثبيت نبوة محمد إنما يتكشف
بقوة
عن هيمنة البنية الإطلاقية للنسق. فمن ناحية يتأكد المبدأ الأشعري في أن «لا دليل على
صدق
النبوة غير المعجزة»، على نحوٍ واقعيٍّ؛ وذلك في حين أن نبوة محمد
ﷺ يمكن أن تتقوم
واقعيًّا بما «أحدثت»، لا بما «أعجزت». ومن ناحية أخرى، يعني هذا التحول ذاته تحولًا
من
«الإنساني» — حيث «النسخ» يمكن أن يكون عنوانًا على مصلحة إنسانية تقتضيه — إلى «الإلهي»
—
حيث «المعجزة» لا تنكشف أبدًا إلا عن فاعلية إلهية فقط في مقابل غياب إنساني عام — ولعله
يؤكد
ذلك، أن الأشاعرة — حتى فيما يتعلق بهذه المعجزة — قد تعلقوا فقط بالصوري والثانوي، وتركوا
الحقيقي والجوهري. ذلك أن «المعجز» من القرآن، يقوم في «اللغة» وأسلوب النظم، وليس في
«المضمون» بما ينطوي عليه من شمول في الرؤية والفهم.
٣٣٨ فلربما بدا للأشاعرة — وهذا حق — أن تصوُّر المعجِز يقوم في «المضمون»، لا بد من
أن يتكشف عن حضور إنساني يتعذَّر تصور المضمون دونه. وهذا ما يأباه النسق الأشعري
مطلقًا.
وثمة — أخيرًا — بعضٌ من المسائل الفرعية، خاض فيها الأشاعرة؛ كعصمة الأنبياء، وتفضيلهم
على الملائكة، والتفاضل فيما بينهم، وهي مسائل تتجلَّى، بدورها، عن «البنية» المهيمنة
على
النسق بأسره. فقد أجمع الأشاعرة على «عصمة الأنبياء عن الكبائر مطلقًا».
٣٣٩ وقد لا يكون من خلاف حول ذلك، «وإنما الخلاف في أن امتناعه (أي الكبائر) بدليل
السمع أو العقل».
٣٤٠ فبينما صار المعتزلة إلى التماس مبرر هذه العصمة فيما هو «إنساني»؛ وذلك من حيث
إن «صدور الكبائر عنهم عمدًا يوجب سقوط هيبتهم عن القلوب، وانحطاط رتبتهم في أعين الناس،
فيؤدي إلى النفرة عنهم وعدم الانقياد لهم، ويلزم منه إفساد الخلائق وترك استصلاحهم، وهو
خلاف
مقتضى العقل والحكمة»،
٣٤١ فإن الأشاعرة قد صاروا — كعهدهم دائمًا — إلى التماس مبرر هذه العصمة فيما هو
«إلهي»، إذ يبدو العقل
٣٤٢ أعجز من أن يُمنطق العصمة ضمن شروط إنسانية. وعلى هذا، فإن «المحققين من الأشاعرة
علموا أن ذلك مستفاد من السمع (أساسًا) والإجماع».
٣٤٣ وهكذا تتكشف العصمة عن بنية النسق؛ أعني عن حضور «الإلهي» مطلقًا، وغياب
«الإنساني» تمامًا.
٣٤٤
وأما ما صار إليه الأشاعرة من «تفضيل الأنبياء على الملائكة»،
٣٤٥ فإنه يُعَد نموذجًا مثاليًّا لضرب من الوعي الزائف الذي انتهى إليه — لا جدال —
البناء الأشعري للعالم، غائبًا عن الإنسان، أو مُغيَّبًا عنه بالأحرى. وقد مضى الأشاعرة،
كذلك، إلى «تفضيل نبينا على سائر الأنبياء»،
٣٤٦ ويدل على ذلك النقل والعقل. ﻓ «أما النقل: فهو أنه تعالى وصف الأنبياء بالأوصاف
الحميدة، ثم قال لمحمد
ﷺ:
أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ
فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ»،
٣٤٧ أمره أن يقتديَ بهم بأسرهم … وإذا أتى ما أتَوا به من الخصال الحميدة، فقد اجتمع
فيه ما كان متفرقًا فيهم، فيكون أفضل منهم. وأما العقل … فهو أن انتفاع أهل الدنيا بدعوة
محمد
ﷺ أكمل من انتفاع سائر الأمم بدعوة سائر الأنبياء عليهم السلام، فوجب أن يكون محمد
ﷺ أفضل من سائر الأنبياء عليهم السلام. والحق أن هذا الاحتجاج الأشعري يتكشف عن حسٍّ
لا تاريخي ولا منطقي كذلك. فمن ناحية، لن يكون الأنبياء — حسب هذا الفهم — أكثر من مجرد
حاملي
صفات وخصال — لا حاملي رسالات اقتضاها الوضع التاريخي للبشر كما هي — لم توجد إلا لتجتمع
في
النبي الخاتم ليفضلَهم بها بعد ذلك. وذلك في حين يقتضي الفهم التاريخي إدراك أن: «كلَّ
نبي
يؤدي دَوره في مرحلة «ما»، والكل على مستوى واحد من الأداء من حيث الأمانة والصدق والتبليغ.
«ومن هنا» فإنه لا يوجد تفاضل بين الأنبياء».
٣٤٨ ومن ناحية أخرى، فإن كون نبوة محمد
ﷺ هي نبوة الاكتمال، لا يتأدَّى
بالضرورة، إلى أنها «الأفضل». إذ الاكتمال هنا ليس — كاكتمال المطلق — «مستغنيًا» عن
عناصرَ
سبقَته، بل إنه «محتاج» إليها، حتى إنه لا يُدرك دونها. فالحق أن نبوة محمد
ﷺ في حاجة
إلى ما سبقها من نبوات لتجدَ «مبررها». وبذات القدر، فإن ما سبقها من نبوات في حاجة إليها
ليجد «غايته». وبالطبع فإنه يستحيل، منطقيًّا، في إطار هذا الاحتياج المتبادل تصوُّر
أفضلية
عنصر على الآخر، إضافةً إلى أن تصور «الأعلى» منطويًا على «الأدنى» يستحيل كذلك منطقيًّا
في
غياب تصور «للأدنى» منطويًا على «الأعلى». والحق أنه، ما كان الأشاعرة ليتأدوا إلى كلا
المأزقين لولا أنهم أدركوا النبوة في «المطلق»، لا في «التاريخي»؛ أعني لولا أن النبوة
—
تبعًا للأشاعرة — تكون «اقتضاءً إلهيًّا» فقط، وليست «مطلبًا إنسانيًّا» أيضًا.
واللافت، على أيِّ حال، أنَّ النبوة — إمكانًا نظريًّا أو تحققًا فعليًّا — تتكشف
عن ذات
البنية المهيمنة على النسق الأشعري بأسره. فقد لاح — أولًا — أن ثمة بنية محددة، تتجلَّى
—
صراحةً أو ضمنًا — في كافة عناصر البحث الأشعري؛ حتى لقد انتظمت هذه العناصر — جميعًا
— في
نسق واحد. ومن هنا، فإن على مَن يحرمون «العلم» — علم الكلام — من الانتساب إلى الفلسفة
الحقَّة استنادًا إلى لا نسقيته وتناثر مباحثه، أن يبحثوا عن نقائص أخرى يردون إليها
هذا
الحرمان. إذ الحق أنه يمكن — بل ينبغي — اعتبار «العلم» جزءًا من الفلسفة الحقَّة، استنادًا
إلى هذه النسقية (Systematic) التي تُعَد — فيما يرى البعض —
شرطًا لكل فلسفة حقة. وأما «الحدس» أو البنية التي تنتظم هذا النسق، فإنها تتكشف — عند
الأشاعرة — عن أحادية الحضور الإلهي ومطلقيته من جهة، وغياب ما دونه تمامًا من جهة أخرى.
فهي
بنية تَعارُض واختلاف، وليس اختلافًا ووحدة في آنٍ معًا. فإنها تقوم على أنه لا يمكن
تصور
الله «إيجابيًّا» على الحقيقة، إلا في عالم يوصف على — الحقيقة — «بالسلبية» المطلقة،
ولا بأس
من أن يبدوَ — على المجاز — غير ذلك. ومع ذلك، فإن الطالع الحسن — فيما يبدو — تأدَّى
غير مرة
إلى أنه يستحيل، مع تصور العالم على هذه السلبية المطلقة، تصور الله إيجابيًّا على الحقيقة.
فبدا وكأنَّ إيجابية الله تثبت — على الأكثر — بإيجابية العالم لا سلبيته. ولا ينبغي
أن يُفهم
من ذلك إخفاق البنية الأشعرية داخل حدود النسق الخاصة؛ فإن سلامة «البنية» ترتبط بقدرتها
على
تفسير معظم — إن لم يكن كل — العناصر المؤلِّفة للنسق من ناحية، وأيضًا بقدرتها على تكييف
المتغايرات التي تبدو متعارضةً — داخل النسق — لأول وهلة، وهذا ما حققَته البنية الأشعرية
بالفعل. وأما «النقد» فإنه ينصبُّ على «مضمون» البنية، وليس على مدى دلالتها أو تأديتها
لوظيفتها داخل النسق.
وأخيرًا، فإن تصور «الفرق الإسلامية كانت أحزابًا سياسية تحتوي قوى اجتماعية تشكَّلت
وفقًا لطبيعة الأوضاع الاقتصادية»،
٣٤٩ يتأدَّى إلى إمكانية تصوُّر «البنية»، لا كتجريد مطلق، أو كمبدأ مستقل عمَّا عداه
مكتفٍ بنفسه، بل بوصفها تعبيرًا عن رؤية فرقة ما للعالم، مشروطة بوضعها التاريخي والاجتماعي.
فالبنية — المعنية — ليست نظامًا شكليًّا، منغلقًا على ذاته، ولا يتَّصل بأيِّ شيء خارجه،
بل
نتاجٌ لضربٍ من «الوعي الجماعي» بالعالم في لحظة ما؛ أي إن البنية ليست «معطًى» قَبْلِيًّا،
بل «تكوين» تاريخي. وذلك ينطوي على تصور للبنية مفتوحة ومتحركة، بمعنى قدرة البنية على
استيعاب أي تحولات أو تحورات تطرأ على وعي الجماعة بالعالم. وبالرغم من كون البنية نتاجًا
لضرب من «الوعي الجماعي»، فإنها لا تمثِّل كيانًا أنطولوجيًّا قائمًا في الفراغ منعزلًا،
بل
تمثِّل كيانًا قارًّا في الوعي الفردي. ومن هنا تأتي القدرة على التعبير عنها في إبداعات
الأفراد الثقافية؛ هذا التعبير الذي قد يتحقق على نحو «تصوري» في أعمال المفكرين والفلاسفة،
أو على نحوٍ «خيالي» في أعمال الشعراء والأدباء. ومن هنا، فإن التعبير «التصوري» عن «البنية
الإطلاقية» في إبداعات متكلمي الأشاعرة، يتوازى — دون شك — مع ضربٍ من التعبير «الخيالي»
عن
ذات البنية في إبداعات أدباء وشعراء معاصرين، بل ويمكن القول بأنه يتوازى مع إبداعات
فقهاء
ومفسرين للقرآن ومؤرخين … إلخ.
وبالرغم من ندرة البحوث في التاريخ الاجتماعي والاقتصادي للفِرَق الكلامية، فإنه
يمكن
الاطمئنان إلى أن بنيات أنساقها النظرية تمثل — إلى حد كبير — تعبيرًا عن «رؤية للعالم»
محددة
ومشروطة تاريخيًّا واجتماعيًّا.
٣٥٠ وترتبط صياغة هذه البنيات بأداء دور «وظيفي»، يتمثل في تجاوز «إشكالية» ما،
تُواجه كلَّ فرقة. ومن هنا، فإن البنية «الإطلاقية» للنسق الأشعري إنما تعدُّ نتاجَ مرحلة
تاريخية ووضع اجتماعي محدد؛ وليست نتاجَ ضربٍ من التأمل الخالص في المطلق. ومن جهة أخرى،
فإنها تقصد — وظيفيًّا — إلى تدعيم الأساس الأيديولوجي لدولة لم تدرك وجودها — ناهيك
عن
قوَّتها — إلا في تغييب الإنسان تمامًا، وإفراد القدرة للمطلق، إلهًا أو حاكمًا، فقط.
ولعلَّ
في التاريخ السياسي للأشاعرة مصداقَ ذلك؛ إذ ظلَّ الأشاعرة — في الأغلب — مفكري السلطة؛
أي
سلطة بالطبع. ويبقى الأهم، متمثلًا في أن كون «البنية» تُعَد تعبيرًا عن وضعٍ تاريخيٍّ
وأداءً
لدور وظيفي؛ إنما يعني كونها قابلةً للتجاوز، وذلك باعتبار أن «أصلها» و«قصدها» لا يقبلان
التجاوز فقط، بل لعلهما يستدعيانه. وهذا يعني أن تجاوز النسق الأشعري ليس ممكنًا فقط،
بل
واجبًا.