وفي حين اتسمت الصياغة الأشعرية لتلك العلاقة بطابع صوري مجرَّد، حيث لم يُدرك الأشاعرة
هذه
الدوائر أو المفاهيم في حالة من التعيُّن والامتلاء — يمكن معها صياغة علاقة بينها أكثر
عينية —
بل أدركوها في حالة من التجريد والخواء، لا يمكن معها إلا صياغة علاقة ذات طابع صوري
ومجرد. ومن
هنا فقد أمكن — طبقًا للأشاعرة — أن تتعيَّن إحدى هذه الدوائر بمعزل تام عن الدائرتَين
الأخريَين، في حين أنَّ هاتين الدائرتَين؛ وأعني الإنسان والعالم، لا يتعيَّنان أبدًا
بمعزل عن
«الله». وهكذا، فإنَّ العلاقة بين الدوائر لا تتَّسم — فيما يتعلَّق بتعيُّن كلٍّ منها
بإزاء
الأخرى — بفاعلية متكافئة، بل بفاعلية إحداها وتبعية الأخرى. وذلك يتفق — لا شك — مع
نسق المنطق
الصوري الذي يتبلور منه شطرٌ هامٌّ حول فاعلية «الجوهر» وتبعية سائر «المقولات» له. وبذات
الطريقة تتبلور بنية النسق الأشعري في فاعلية الجوهر أو «الله»، وتبعية سائر المقولات،
أو
«الإنسان والعالم» له.
ومن حسن الطالع أن المعتزلة قد أفلحوا — إلى حدٍّ كبير — في إدراك هذه الدوائر أو
المفاهيم
الثلاثة على نحوٍ من التعيُّن والامتلاء — لا التجريد والخواء — أمكن معه صياغة علاقة
بينها ذات
طابع ديالكتيكي عيني. وهكذا، فإنه لا يمكن — طبقًا للمعتزلة — أن تتعيَّن واحدة من الدوائر
الثلاث بمعزل عن الدائرتَين الأخريَين؛ وحتى «الذات الإلهية» نفسها لا تتعين بمعزل عن
الإنسان
والعالم، بل بواسطتهما، وأعني «بالتعين» هنا، أن كل دائرة من الثلاث تعتمد في وجودها
على
الأخرى. وعلى هذا، فإن ثمة «هُويَّة» بين هذه الدوائر، ولكنها ليست «هُوية» مجردة تعني
أن هذه
الدوائر شيء واحد، بل هُوية تحتفظ فيها كلُّ واحدة بتميزها أو اختلافها عن الدائرة الأخرى.
وإذن، فإنها أدنى إلى هُوية هيجل العينية — التي تحتفظ بالوحدة والتنوع في آنٍ معًا —
منها إلى
هُويَّة أرسطو الصورية التي لا تتَّسع لغير الوحدة دون التنوع والاختلاف. وتبعًا لذلك،
فإن
العلاقة بين دوائر الوجود الثلاث — عند المعتزلة — تقوم على نحوٍ من «التفاعل والاستيعاب»
وليس
«التسيُّد والاستبعاد»، كالحال عند الأشاعرة.
وانطلاقًا من أنَّ ثمة بنيةً ذات طابع خاص تنتظم كافة عناصر النسق المعتزلي، فإنه
ينبغي
الخوض في بحث النبوة عند المعتزلة، ببيان مدى تجلِّي هذه البنية في شتى عناصر هذا النسق.
ذلك
أنَّ الخوض في النبوة قبل رصد تجلِّي هذه البنية في النسق، يخرج بالبحث — لا شك — عن
حدود
العلم. ومن هنا، فإن محاولةً لإجلاء الطابع البنوي للمباحث الاعتزالية في «الإلهي» و«الإنساني»
و«الطبيعي»، تُعَد توطئةً ضرورية لبحث النبوة في حدود العلم وحده.
(١) نحو صياغة بنيوية موجزة للمباحث الاعتزالية
ثمة — بالفعل — ضربٌ من التآلف الباطني العميق بين عناصر البحث الاعتزالي في «الإلهي
والإنساني والطبيعي»، يبدو عصيًّا تمامًا على التفسير إلَّا في حضور بنية عميقة، تبدو
ككيانٍ
«أنطولوجي» قارٍّ داخل هذه العناصر، يهبها الوحدة والتآلف. إذ الحقُّ أنَّ التآلف الباطني
بين
هذه العناصر يبلغ حدًّا من العمق يتجاوز رده إلى مجرد الارتباط الظاهري، الهش بينها.
وإذن،
فإن ثمة نظامًا عقليًّا — أو مبدأً معرفيًّا شارحًا — واحدًا يتبدَّى، بجلاء، عند تحليل
هذه
العناصر. ولا بدَّ من التأكيد على أنه بالرغم من كون هذه العناصر لا تُفسَّر — علميًّا
—
بمعزل عن «البنية»، فإنَّ هذه «البنية» لا تُرصد — بدورها — بمعزل عن هذه العناصر. وهكذا،
فإنه بينما تحتاج العناصر — في تفسيرها — إلى البنية، فإن البنية — بذات القدر — تحتاج
إلى
العناصر، في تحققها، وإذن، فإنه ليست للبنية أيُّ خاصية قبلية
(Apriority)، بل تتسم علاقة البنية بعناصرها بخاصية
ديالكتيكية. وهذا يعني أنه لا يمكن التماس البنية إلا أثناء عملية تحليل عناصر البنية
نفسها.
وعلى هذا، فإنَّ عملية تحليل عناصر النسق المعتزلي تكون، لا مجرد رصد لتجلِّي البنية
فقط —
كما قد يسبق إلى الوهم — بل رصدًا بالأحرى لتحقق البنية ذاته. وأما ما سبق من تأكيد لتحقق
البنية في النسق المعتزلي وتحديد لطبيعتها التعالقية
(Correlative) أو الإحالية، فإنه لم يتمَّ أبدًا بمعزل عن
تحليل عناصر النسق ذاتها. وإذن، فإن تحليلًا للإلهي والإنساني والطبيعي — عند المعتزلة
—
يحقِّق «البنية» ويجلِّيها في آنٍ معًا.
وقد تأدَّى المعتزلة — فيما يتعلق بالإلهي — إلى نفي كون الصفات قديمة وزائدة على
الذات،
١٢ وذلك «لأنه لو شاركته الصفات في القدم الذي هو أخص الوصف لشاركَته في الإلهية».
١٣ وبعبارة «واصل» الصريحة، فإن «مَن أثبت معنى وصفة قديمة فقد أثبت إلهين».
١٤ وهكذا، فإنه بينما مضى الأشاعرة إلى أن «اسم الله تعالى لا يصدق على ذات قد
أخلَوها عن صفات الإلهية»؛
١٥ فإن المعتزلة قد صاروا — في المقابل — إلى أن اسم الله تعالى لا يصدق حقًّا إلا
على ذات «بسيطة» تخلو عن أي صفة قديمة وزادوا عليها، تحمل شبهة «التركيب»، وبالتالي التعدد.
وإذن، فإن نفيَ الصفات يرتبط — في التحليل الأخير — بالنفي المعتزلي للذات الإلهية على
نحوٍ
من الوحدانية المطلقة التي تستلزم «بساطة» الذات، بالمعنى الفلسفي؛ أي خالٍ من التركيب.
١٦
والحق أن نفي الصفات — قديمة وزائدة على الذات — لا يرتبط فقط بمجرد التصور المعتزلي
«للذات الإلهية»، بل يرتبط أيضًا — وهو الأهم — بالبنية التعالقية أو الإحالية للنسق
المعتزلي. فقد ارتبط نفيُ الصفات المعتزلي بتصوُّر بعينه لكلٍّ من «الإنساني» و«الطبيعي»
عند
المعتزلة، بحيث يبدو وكأن ثمة تعلقًا متبادلًا أو إحالة بين هذين التصورَين من جهة، وبين
نفي
الصفات من جهة أخرى. وأعني أن نفي الصفات يرتبط «بالفاعلية النسبية» لكلٍّ من الإنساني
والطبيعي — بإزاء الإلهي — عند المعتزلة. وهكذا يتكشف النسق المعتزلي عن أكثر جانب من
جوانبه
خصوبةً وثراءً؛ أعني عن تصوُّر «الإلهي» لا يقوم البتة بمعزل عن الإنساني والطبيعي.
١٧
ويبدو أن الطابع التعالقي (
Correlative) أو الإحالي لبنية
النسق المعتزلي يتجلى — فيما يتعلق بقضية الصفات — في مسألة «الصفة والوصف»؛ فقد صار
المعتزلة
إلى «أن الصفة ليست بمعنى أكثر من الوصف الذي هو قول القائل وإخبار المخبر عمَّن أخبر
عنه
بأنه عالم قادر».
١٨ وهكذا يوحد المعتزلة بين الصفة والوصف في مقابل التمييز الأشعري بينهما. وبينما
يتغيَّا التمييز الأشعري التأكيد على تبعية الوصف «الإنساني» للصفة «الإلهية»، فإن التوحيد
المعتزلي بينهما يهدف إلى التأكيد على قيام الصفة «الإلهية» مع الوصف «الإنساني» في آنٍ
معًا.
فإن «الله تعالى كان — حسب المعتزلة — في أزله بلا صفة ولا اسم من أسمائه وصفاته العليا؛
لأنه
لا يجوز أن يكون في القدم واصفًا لنفسه — لاعتقادهم خلقَ كلامِه — ولا يجوز أن يكون معه
في
القدم واصفٌ له مخبرٌ عما هو عليه. فوجب أنه لا صفة لله سبحانه قبل أن يخلق خلقه، وأن
الخلق
هم الذين يجعلون لله الأسماء والصفات؛ لأنهم هم الخالقون لأقوالهم التي هي صفات الله
سبحانه وأسماؤه.»
١٩ وهكذا يتبدَّى الطابع التعالقي أو الإحالي لبنية النسق المعتزلي من حيث إن إطلاق
الصفة أو الاسم على «الله» يُحيل بالضرورة إلى إثبات الوجود «للإنسان». وقد رأى البعض
«هنا
إثباتًا لقديم بجانب القديم»
٢٠ إلا أن الأمر لا يبدو كذلك على الإطلاق؛ بل إنه يبدو كذلك فقط على أصل الأشاعرة
في التمييز بين الصفة والوصف، وأما على أصل المعتزلة في التوحيد بينهما، فإنه ليس في
الأمر
أكثر من نفي القدم عن صفة «الإلهي» من جهة، وإثبات الضرورة والفاعلية للوجود الإنساني
من جهة
أخرى.
ويتأكَّد الطابع التعالقي أو الإحالي لبنية النسق المعتزلي أيضًا، من أن نفيَ الصفات
لم
يكن عملًا خاليًا من أيِّ دلالة بشرية. فالحق أن ثمة دلالة «أيديولوجية» لافتة لهذا النفي
تتبدَّى خاصة من تحليل الدلالة الأيديولوجية للنقيض «المعرفي» لهذا النص؛ أعنى التجسيم.
فقد
تبلور نفي الصفات — تاريخيًّا — كنقيض معرفي وأيديولوجي أيضًا لعقائد التشبيه والتجسيم.
إذ
التجسيم قد تطور عن مجرد إثبات الصفات زائدة على الذات؛ ذلك أنه «إنما وجب «التجسيم»
في
الواحد منَّا لعلة، تلك العلة مفقودة في القديم تعالى، وهي أن أحدنا عالم بعلم، وقادر
بقدرة،
والعلم والقدرة يحتاجان إلى محلٍّ مخصوص، والمحل المخصوص لا بد من أن يكون جسمًا، وليس
كذلك
القديم لأنه تعالى قادر لذاته، فلا يجب إذا كان عالمًا قادرًا أن يكون جسمًا».
٢١ وإذن، فإن مبرر نفي كون الصفات «زائدة على الذات» هو مخافة «التجسيم» تمامًا كما
كان نفي كونها «قديمة» هو مخافة «التعدد».
واللافت أن «التجسيم» لم يكن مجردَ إدراك معرفي ساذج للذات الإلهية وصفاتها، بل إنه
قد
لعب دَورًا فعَّالًا في مناصرة أيديولوجيا بعينها. فثمَّة ما يحمل على أن «التجسيم» قد
ازدهر
— أولًا — بين فِرَق الشيعة الغلاة خاصة. والحقُّ أن هؤلاء «إنما كانوا يريدون بالصفات
الجسمية التي يُضفونها على الإله رفع الأئمة إلى المرتبة التي تجعلهم يشاركون في علم
الربوبية».
٢٢ وعلى هذا، فإنَّ «المغيرة بن سعيد الجبلي» حين «جعل لله أعضاء على عدد حروف
الهجاء وهيئتها، فكأنه يريد أن يقول إن الوحي إنما هو نزول الله نفسه إلى الإمام أو النبي،
وإن كلَّ كلمة يتلقَّاها إنما هي حلول يستمر باستمرار الوحي».
٢٣ وإذن، فإن قصد التجسيم لم يكن شيئًا غير «نقل الألوهية أو بعض صفاتها إلى الإمام».
٢٤ وعلى هذا، فإن «التجسيم» يتكشَّف فقط عن إدراكٍ معرفيٍّ فجٍّ للذات الإلهية
وصفاتها، بل — وأيضًا — عن قصد أيديولوجي صريح، يتمثَّل بتبرير ذلك الضرب من «التأكيد
بالمشاركة» على قول ماسينيون.
٢٥
ومن الطبيعي أن تكون الأيديولوجيا التي يناصرها التجسيم — تبعًا لذلك — ذات طبيعة
استبدادية تسلطية. فإنها — وبصرف النظر عن كونها تبلورت في مواجهة سلطة جائرة — تنتهي
— إذ
تستبدل «فعالية» الإنسان «بتأليه» الإمام — إلى بناء السلطة — على العموم — على أساس
أكثر
جورًا وتسلُّطًا. ولا شكَّ أيضًا أن هذه الأيديولوجيا تنبني — أصلًا — على عجز «الإنساني»
وانعدام فاعليته في العالم، ومن هنا يُحيل التعالي بأخص ما يخصه إلى نطاق «الإلهي». وإذن،
فإنها أيديولوجيا لا إنسانية مستبدة.
٢٦ ولا جدال في أن مناهضة التجسيم «معرفيًّا»، بنفي الصفات، إنما تتأدَّى أيضًا إلى
مناهضة هذه الأيديولوجيا،
٢٧ وذلك بصياغة أيديولوجيا تحررية تنبني — جوهريًّا — على فاعلية الإنسان في العالم.
ومن هنا، فإن «نفي الصفات» يرتبط — في التحليل الأخير — بتكريس نوع من الأيديولوجيا الإنسانية
التحررية. وهنا أيضًا الطابع التعالقي أو الإحالي لبنية النسق المعتزلي؛ حيث أحال تصور
بعينه
«للإلهي» إلى تصور معين «للإنساني».
ويبدو أن نفي الصفات — قديمةً وزائدة على الذات — ليس وحده الذي يؤكِّد على الطابع
التعالقي أو الإحالي لبنية النسق المعتزلي. ذلك أن إثبات الصفات — على طريقة المعتزلة
— عينًا
للذات أو وجوهًا لها قد تأدَّى، بدَوره، إلى إجلاء ذات الطابع. فقد أشار إثبات الصفات
على هذا
النحو؛ أعني «إثبات صفة هي بعينها ذات»،
٢٨ مسألة التمييز بين صفة وأخرى من جهة، ومسألة الأساس الأنطولوجي للصفة من جهة
أخرى. فطبقًا للمعتزلة، لا تتبدَّى الصفات — كالحال عند الأشاعرة — كياناتٍ موضوعيةً
أولانية
تقوم — أنطولوجيًّا — بالذات زائدة عليها، بل «هي اعتبارات ذهنية ننظر نحن بها إلى الذات».
٢٩ ومن هنا، فإنَّ الأساس الأنطولوجي للصفات عند المعتزلة يُعدُّ — ولو إلى حدٍّ ما
— ذا طبيعة إنسانية، في حين كان عند الأشاعرة ذا طبيعة مطلقة. وربما يؤكد هذه الطبيعة
الإنسانية للأساس الأنطولوجي للصفات عند المعتزلة، ما سبق أن ألمح إليه الأشاعرة من أن
«الله»
— حسب المعتزلة — «ليس له سبحانه علم، ولا قدرة، ولا حياة، ولا سمع، ولا بصر، ولا بقاء،
وأنه
لم يكن له في الأزل كلام، ولا إرادة، ولم يكن له في الأزل اسمٌ ولا صفة؛ لأن الصفة عندهم
هو
وصف الواصف، ولم يكن في الأزل واصف، والاسم عندهم هو التسمية، ولم يكن في الأزل مسمٍّ».
٣٠ وبعبارة أخرى، لم يكن ثمة اعتبارات ذهنية في النظر إلى الذات؛ لأنه لم يكن ثمة
«ذهن» يمثِّل أساسًا أنطولوجيًّا لهذه الاعتبارات؛ أعني الصفات. وإذن، فإن الأساس الأنطولوجي
للصفات الإلهية يتعلق جوهريًّا بالإنساني، ويُحيل إليه عند المعتزلة.
وأما فيما يتعلَّق بتمايز الصفات واحدةً عن الأخرى؛ فرغم أنَّ في كون الصفات اعتباراتٍ
ذهنيةً في النظر إلى الذات ما يفسِّر تمايزها — إذ التمايز بين الصفات مستمدٌّ من تمايز
«النظرات» إلى الذات — فإن ثمة من المعتزلة مَن صار إلى «أن الصفات للذات إنما اختلفت
لاختلاف
ما يُنفى عنه من العجز والموت، وسائر المتضادات من العمى والصم، وغير ذلك، لا لاختلاف
ذلك في نفسه».
٣١ وإذن، فإن تمايز الصفات إنما يتأتَّى من تمایز أضدادها المنفية. فالصفات لا
تتمايز من خلال ما تُثبته، لأن ما تُثبته شيء واحد هو الذات؛ ولهذا فإنها تتمايز من خلال
ما
تنفيه. وتبعًا لذلك، فإن الصفات لا تتحدَّد — وبالتالي تتمايز عن غيرها — «ذاتيًّا»؛
أعني
بذاتها، بل بتميُّزها عن «آخرها»، أعني أضدادها. وهنا — أيضًا — يتجلى الطابع التعالقي
أو
الإحالي لبنية النسق المعتزلي، حيث «الصفة» تُحيل إلى «آخر» خارج ذاتها، هو ضدُّها.
وثمة من المعتزلة أيضًا مَن صار إلى أنه «إنما اختلفت الأسماء والصفات لاختلاف المعلوم
والمقدور».
٣٢ وهذا يعني أن الصفات تتمايز أيضًا من «متعلقاتها»، لا من «أضدادها» فقط. والمهم
في الحالَين أنها لا تتمايز بدءًا من «ذواتها» أبدًا، بل — دائمًا — من شيء خارج عنها.
واللافت في تمايز الصفات بدءًا من متعلقاتها أن «الطبيعي والإنساني» — أو متعلق الصفة
— بات
يلعب دورًا فعَّالًا في تحديد «الصفة الإلهية» وتمييزها عن غيرها. وإذن، فإن الصفات المعتزلية
«ليست — كمثيلتِها الأشعرية — كياناتٍ مطلقةً محضًا»،
٣٣ بل ضروبٌ من الاعتبار في النظر إلى الذات تتحدد طورًا بالقياس إلى «أضدادها»،
وطورًا آخر بالقياس إلى «متعلقاتها». وفي كل الأحوال، فإن «الإحالة إلى آخر تتعلق به»،
لا
«الإطلاق المجرد» هو السمة الغالبة على الصفة عند المعتزلة.
واللافت أن هذا التصور المعتزلي للصفات — على «الإحالة» لا «الإطلاق» — لم يقف عند
حدِّ
التنظير المجرد، بل تجاوزَه إلى النظر العيني في صفات بعينها؛ ومن أهمها «القدرة». فقد
صار
المعتزلة إلى إسقاط تصور «القدرة الإلهية» في ذاتها، مطلقةً من كل تحديد؛ أعني دون اعتبار
لفعاليةِ كلٍّ من «الإنساني والطبيعي»، بل إنَّ «قدرة الإنسان وحريته — عندهم — تُخصِّص
القدرة الإلهية».
٣٤ فثمة — تبعًا للمعتزلة — قدرة إنسانية دون إنكارها «مناكرة للضرورة ومجاحدة
لمطالبات الشريعة».
٣٥ وهذه «القدرة الإنسانية» ليست عاطلةً عن الفعل، بل «العبد «بها» قادرٌ خالق
لأفعالِه خيرِها وشرِّها».
٣٦ وتبعًا لما تأدَّى إليه المعتزلة من أنه «محال أن يكون مقدور واحد لقادرَين»،
٣٧ فإنهم صاروا إلى أنه «لا يُوصف البارئ بالقدرة على فعل عباده، ولا على شيء هو من
جنس ما أقدرهم عليه، ولا يُوصف بالقدرة على أن يخلق إيمانًا لعباده يكونون به مؤمنين،
وكفرًا
لهم يكونون به كافرين، وعصيانًا لهم يكونون به عاصين، وكسبًا يكونون به مكتسبين».
٣٨ وإذن، فإن «القدرة» لم تَعُد — كشأنها عند الأشاعرة — كيانًا مطلقًا محضًا، بل
صار «ما يقدر عليه العباد» يلعب دورًا فعَّالًا في تحديد القدرة الإلهية والحد من إطلاقها.
ويبدو أنَّ ما يحدِّد «القدرة الإلهية» ويخصصها عند المعتزلة، ليس «الإنساني» فقط بل
و«الطبيعي» كذلك. فقد صار «معمر» إلى «أنه لا يوصف القديم بأنه قادر إلا على الجواهر،
وأمَّا
الأعراض فلا يجوز أن يُوصف بالقدرة عليها، وأنه ما خلق حياة ولا موتًا ولا صحة ولا سقمًا
ولا
قوة ولا عجزًا ولا لونًا ولا طعمًا ولا ريحًا، وأنَّ ذلك أجمع فعل الجواهر بطبائعها».
٣٩ وإذن فإن فاعلية الجواهر — طبقًا لمعمر — تفعل أفعالها في تخصيص القدرة الإلهية،
وذلك من حيث «لا يجوز أن يوصف الله بالقدرة على فعلها». وعلى هذا، فإن تصوُّر القدرة
الإلهية
لا يقوم — طبقًا للمعتزلة — بمعزل عن «القدرة الإنسانية» من جهة، و«فاعلية الجواهر» في
نطاق
الطبيعة من جهة أخرى، وذلك ما يؤكِّد على الطابع التعالقي أو الإحالي للبنية المهيمنة
على
النسق المعتزلي.
وإذا كان قد بدا صعوبة تصور «الإلهي» — طبقًا للمعتزلة — في مطلقيته؛ أعني بمعزل
عن
تعلقاته الإنسانية والطبيعية، فاللافت أنه يستحيل أيضًا — طبقًا لهم — تصوُّر «الإنساني»
أو
«الطبيعي» بمعزل عن «الإلهي». إذ يرتبط تصورهم «للإنساني»، جوهريًّا، بتصورهم «للإلهي»
عادلًا، وكذا فإن تصورهم «للطبيعي» يرتبط — على نحو صميمي — بتصورهم «للإلهي» حكيمًا.
وهكذا
يكون المعتزلة قد تأدَّوا من تصور الله «عادلًا» إلى تصور الإنسان «فاعلًا» أو العكس،
ومن
تصوُّر الله «حكيمًا» إلى تصوُّر الطبيعة إطارًا للضرورة والنظام، أو العكس أيضًا.
٤٠
فقد صار المعتزلة إلى أن «أفعال العباد كلها مخلوقات للعباد، والعبد هو الذي يخلق
فعلَ
نفسه خيرًا أو شرًّا؛ لأن العبد عندهم مستطيع باستطاعة نفسه قبل الفعل، ولا يحتاج إلى
الاستطاعة والقوة من الله تعالى. وإذا كان العبد مستطيعًا باستطاعة نفسه قبل الفعل، فأفعاله
مخلوقة من جهته».
٤١ وإذن، فإن ثمة فاعلية مستقلة للإنسان في العالم، مستمدة من قدرته — الحقيقية، لا
المجازية — على فعله، والتي «هي قدرة عليه وعلى ضده «أيضًا»، و«التي» هي غير موجبة للفعل».
٤٢ ويعني كون القدرة «على الفعل وعلى ضده أيضًا»، أنها «تقوم على العدم الذي
يُغذِّيه الترجيح»؛
٤٣ وذلك «لأن نسبة القدرة إلى الطرفين، إن كانت على السوية استحال أن تصير مصدرًا
للأثر إلا عند مرجِّح»،
٤٤ ومن هنا، فإن القدرة «غير موجبة للفعل»، على معنى أن الفعل لا يكون بها على
الإيجاب والاضطرار، بل على الترجيح والاختيار. واللافت أنَّ هذه «القدرة» تبدو — حسب
المعتزلة
— جوهرًا أصيلًا في الإنسان؛ إذ «الإنسان حيٌّ مستطيع بنفسه»،
٤٥ وليس «بعرض» زائل زائد على ذاته، كما بدا للأشاعرة. ومن هنا، «فإنها — أي القدرة
— تبقى»،
٤٦ ولا تفنى، في حين صار الأشاعرة — وبسبب من كونها عرضًا — إلى أنها «لا تبقى، بل
تزول بزوال الفعل الذي تصاحبه».
واللافت أن هذا التصور المعتزلي للإنسان، قادرًا على الحقيقة، لم يتبلور بدءًا من
التأمل
الخالص (
Pure) في الإنسان فقط. حقًّا إن «الإنسان يحسُّ من
نفسه وقوع الفعل على حسب الدواعي والصوارف. فإذا أراد الحركة تحرك، وإذا أراد السكون
سكن، ومن
أنكر ذلك جحد الضرورة. فلولا صلاحية القدرة الحادثة لإيجاد ما أراد، لما أحسَّ من نفسه
ذلك»؛
٤٧ وأعني أن الإحساس بالقدرة يقوم على واقعة إنسانية معاشة، لا سبيل إلى دحضها. ولكن
الأهم، أنَّ هذا التصور المعتزلي «للإنساني» يرتبط جوهريًّا — إضافةً إلى ذلك — بالتصور
المعتزلي «للإلهي». فقد صار المعتزلة إلى إضافة الفعل إلى العبد وحده؛ أعني تصور الإنسان
فاعلًا على الحقيقة، لأن ثمة من فعلِه ما هو ظلم وجور. وبسبب من كونه «فاعلًا» على الحقيقة،
فإنَّ الظلم والجور يضافان إليه بالضرورة. وأما إضافة فعل العبد إلى «الرب» — أو تصور
الإنسان
فاعلًا على المجاز — فإنه يتمخض عن معضلة تتعلَّق بمصدر الظلم والجور … أهو «الرب» أم
«العبد»؟ وإذ صار الأشاعرة إلى أنه «العبد» لا شك، ولكن لا من حيث هو فاعل لهما — حيث
لا فاعل
إلا الرب — بل من حيث «قام به»،
٤٨ فإن المعتزلة صاروا إلى أنه «الرب»؛ لأن حقيقة الظالم «هو فاعل الظلم، لا مَن قام
به الظلم فيما تراءى للأشاعرة».
٤٩ وإذن، فإن إضافة أفعال العبد إلى الرب — أو إنكار الفاعلية الإنسانية — تتأدَّى —
طبقًا للمعتزلة — إلى إضافة الظلم والجور إلى الله، وبالتالي تقويض عدله من الأساس. وأما
إثبات الفاعلية للإنسان في العالم، فإنه يُعَد — تبعًا لذلك — التوطئة الضرورية لتأسيس
العدل
الإلهي.
ويبدو أنه ليس «الظلم» فقط، يُضاف إلى «الله»، بسبب من إضافة فعل العبد إليه، بل
و«العبث»
أيضًا. فإنه «لو كانت هذه الأفاعيل — أفعال العباد — الله خلقها، لبطل الأمر والنهي وبعثة
الأنبياء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقَبُحت المساءلة والمحاسبة والمعاقبة».
٥٠ وإذن، فإن كون الإنسان «فاعلًا» على الحقيقة يبرِّر إضافة «الحكمة» إلى أفعال
«الله» ذاته؛ كإنزال الكتب وبعثة الأنبياء والثواب والعقاب، وأما إضافة «الفعل الإنساني»
إلى
الله، فإنه يسلب «الفعل الإلهي» نفسه، مبرر المعقولية والحكمة — وهكذا على الدوام — يحيل
تصور
الإنسان «فاعلًا» إلى تصور الله «عادلًا» وحكيمًا في فعله. وهذا ما يتكشف عن حضور البنية
ذات
الطابع التعالقي أو الإحالي للنسق المعتزلي.
والحق أن النسق المعتزلي يتكشَّف — في معظم أجزائه — عن حضور مؤثِّر لهذه «الفاعلية
الإنسانية» في العالم. فقد صار المعتزلة مثلًا، بدءًا من هذه الفاعلية، إلى تأسيس نسق
للأخلاق
ضمن حدود إنسانية خالصة. إذ القانون الأخلاقي المعتزلي ليس — كمثيله الأشعري — مجردَ
«معطًى
إلهيٍّ» يخضع له العقل، بل «وجود موضوعي» يُدركه العقل. فالأفعال — طبقًا للمعتزلة —
ليست تقع
خارج نطاق التناول الأخلاقي كما بدا للأشاعرة، بل إنها تنطوي على كل عناصر التقويم الأخلاقي.
«فالأفعال إنما توصف بالحسن أو القبح — أي تتقوَّم أخلاقيًّا — لصفات تخصُّها».
٥١ وأعني أن ثمة صفات عينية موضوعية باطنة في الأفعال تُبرِّر أخلاقيتها، بحيث إن
«الحكم على الفعل أنه حسن أو قبح إنما يرجع إلى وجوه عائدة إلى الفعل»،
٥٢ وليس إلى مجرد «إضافة» من الخارج، تتبلور — طبقًا للأشاعرة — في أمر الله بالفعل
أو نهيه عنه. ومن هنا، فإن «الظلم قبيح لأنه ينطوي على ضرر لا نفعَ فيه».
٥٣ أعني لأنَّ ثمة صفةً موضوعية باطنة فيه، وليس لمجرد نهي الله عنه. وإذن، فإن
موارد الشرع — أو الأمر والنهي — إنما هما «مخبران عمَّا في الأفعال من أخلاقية باطنة،
لا
مثبتان لها»،
٥٤ أو أنهما «دلالتان على حال الفعلَين لا أنهما يوجبان حسن أحدهما وقبح الآخر»؛
٥٥ وأعني أنهما يصفان حال الفعل فقط، دون أن يُضيفا إليه من الخارج أخلاقية، هي
بالأحرى باطنة فيه.
وقد تأدَّى المعتزلة من كون الأخلاقية مباطنة للأفعال، لا مضافة إليها
٥٦ من الشرع، إلى «أن التحسين والتقبيح من مدارك العقول على الجملة»؛
٥٧ وأعني أنَّ في مقدور العقل مستقلًّا إدراك «الأخلاقية» في الأفعال؛ وبالتالي
تأسيس نسق للأخلاق في حدودٍ إنسانية خالصة. واللافت أن هذا النسق الأخلاقي قد تبلور —
أساسًا
— على أنَّ ثمة ضربًا من الوجود «الموضوعي» المستقل للأشياء في العالم من جهة، وعلى قدرة
«العقل» على المعرفة مستقلًّا ودون عون من جهة أخرى، وليس من شكٍّ في أنَّ «الموضوعي»
و«العقلي» هما إطارا الفاعلية الحقَّة للإنسان في العالم.
وأيضًا، يتبدَّى ما اتَّفق عليه المعتزلة من أنَّ «أصول المعرفة، وشكر النعمة واجبة
قبل
ورود السمع»،
٥٨ عن أن ثمة إمكانية لتأسيس نَسق معرفي في إطار إنساني. فالمعرفة — حسب المعتزلة —
تدين بضرورتها لأي سلطة مفارقة، بل هذه الضرورة مستمدة من الطبيعة العاقلة للإنسان. إذ
«العقل
والفكر واجب».
٥٩ والمهم أن هذا الوجوب ليس من «الشرع»، بل إن «وجوبه عندهم عقلًا»،
٦٠ وإذن، فإن المعرفة تُعَد نشاطًا ضروريًّا للإنسان من حيث هو كذلك؛ أعني من حيث
إنه ذو عقل، وليست — كما اعتقد الأشاعرة — نشاطًا يدين بضرورته أو وجوبه إلى سلطة
مفارقة.
واللافت أن النسق المعرفي المعتزلي يتكشَّف — عند تحليله أيديولوجيًّا — عن حضور
«الإنساني» بقوة
٦١ إذ يبدو أنَّ هذا النسق المعرفي قد تبلور — خاصة — في مواجهة مذهب «التقليد»، أو
ما يُعرف بمذهب «السلطة»
authoritarianism في المعرفة، فإن
صار البعض إلى أنَّ «العمل (أو المعرفة) بالتقليد، كأصحاب الحديث وغيرهم (وربما كان المعنيُّ
الشيعة)»،
٦٢ فإن المعتزلة قد تأدَّوا إلى «إنكار التقليد، من حيث إن القول به يؤدي إلى جحد الضرورة»،
٦٣ وأعني أنه ينتهي إلى تقويض سلطة العقل، وهي سلطة لا بد منها، حتى للتقليد ذاته
فيما يبدو. ذلك أنه لا بدَّ من تبرير عقلي يستند إليه التقليد، وإلا فإنَّ «تقليد الموحد
لِمَ
صار أولى من تقليد الملحد، ومن يقول إن الله يُرى، لِمَ صار تقليده أولى من تقليد مَن
ينفي الرؤية؟»
٦٤ وإذن، فإن «التقليد» يسقط هو ذاته، في غياب العقل تمامًا. ذلك أن سلطة التقليد لا
يمكن أن تكون هي المصدر النهائي للمعرفة، «ما دامت لا تنطوي في ذاتها أبدًا على ما يشهد
بوجوب
التوقف عندها. وإذن فلا بدَّ من أن يكون هناك معيارٌ معيَّن للاختيار بين المتنافسين.
وهذا
المعيار ينبغي أن يكون مقياسًا معينًا خارجًا عن نطاق السلطات المتنافسة ذاتها»؛
٦٥ وأعني ينبغي أن يكون معيارًا عقليًّا. والحق أن الإنكار المعتزلي للتقليد يرتبط
جوهريًّا بكونه، أعني التقليد، يمثِّل التنظير الأيديولوجي — على مستوى المعرفة — لغياب
الفاعلية الإنسانية، ومن هنا، فإن العقلانية المعتزلية المضمون تُعَد، ولا جدال، تنظيرًا
أيديولوجيًّا — على صعيدٍ معرفيٍّ — لحضور الفاعلية الإنسانية في العالم.
والحق أن الضرورة العقلية للمعرفة عند المعتزلة لا تتكشَّف فقط عن تنظيرٍ أيديولوجي
لحضور
«الإنساني»، بل وأيضًا، عن تميُّز الأنطولوجيا المعتزلية — عن نظيرتها الأشعرية — باستقلال
نسبي عن التدخُّل الإلهي في صورته المباشرة على الأقل. فاللافت أن المعتزلة قد «استشرفوا
إدراك وجود قوانين موضوعية في الطبيعة تجري وفقها الظاهرات الطبيعية كلها.»
٦٦ ومن هنا، فإن «الطبيعة» — عند المعتزلة — قابلة للمعرفة دون عون خارجي، وهكذا
يتأدَّى المعتزلة من «إنسان» يتصف بقدرته على المعرفة «بذاته»، أعني دون عون خارجي، إلى
«طبيعة» تُقدم — بما تنطوي عليه من قوانين موضوعية — على الوجود بذاتها؛ أعني دون عون
خارجي
أيضًا. وهكذا على الدوام، يتكشَّف النسق المعتزلي عن البنية ذات الطابع الإحالي أو التعالقي
المهيمنة عليه.
واللافت أنَّ هذا الحضور للفاعلية الإنسانية، عند المعتزلة، قد تجاوز إطار التنظير
في
المعرفة والأخلاق إلى التجلِّي، بوضوح، في القضايا ذات الطابع الاجتماعي، كالأسعار والأرزاق
مثلًا. فقد صار المعتزلة إلى «أن السعر من أفعال العباد»؛
٦٧ أعني أنه يتحدد في ظلِّ شروط من صنع الإنسان، في الأغلب. والحق أن القاضي عبد
الجبار قد حاول، سيرًا على معتزليته المهادنة، إضافة «السعر» إلى الإلهي والإنساني معًا،
فصار
إلى أنه «غير ممتنع أن يضاف «السعر» إليه (أي الإنسان) وإلى الله سبحانه».
٦٨ ولكن يبقى أن «فاعلية الإنساني» هي العنصر الأهم في «التسعير»،
٦٩ وأما «الإلهي» فإنه يبقى له أنه أباح للإنسان ذلك.
٧٠
وأما فيما يتعلق بالأرزاق، فقد صار المعتزلة إلى ضرورة إثبات فاعلية للإنسان، حتى
يتجنَّبوا ما سلَّم به أصحاب القول بأن «كلَّ مَن أكل شيئًا أو شرب، فإنما تناول رزقَ
نفسه،
حلالًا كان أو حرامًا»،
٧١ من أن الله، إذن، «يُطعِم ويرزق عبادَه طعامًا ثم يكتبه عليهم حرامًا، فيوجب
عليهم — على قبول ما أعطاهم — العقاب، ويحرمهم — بأخذ ما صيَّر إليهم — الثواب، فقالوا
— بذلك
— بتجوير الرحمن ونسبوه إلى الظلم والعدوان».
٧٢ وهكذا صار المعتزلة إلى إثبات فاعلية للإنسان — في الأرزاق — تجنبًا لنسبة الجور
والظلم إلى الله، وذلك من حيث يتأدى غياب هذه الفاعلية إلى كون «الحرام» — الموجب للعقاب
—
رزقًا من الله كالحلال، وهذا ما صار إليه الأشاعرة بالفعل. وقد أدى إثبات هذه الفاعلية
الإنسانية، في الأرزاق، إلى تجويز «أن يزيد الرزق بالطلب وينقص بالتواني»،
٧٣ في حين يتأدى تغييبها إلى «أن من الواجب الكفَّ عن طلب الرزق على كل حال؛ لأنه
فيه ترك التوكل والشك فيما وعد».
٧٤ وفي حين يتأدَّى إثباتها — أيضًا — إلى أن الإنسان «قد يأكل رزق غيره إذا غصب
شيئًا وأكله»،
٧٥ فإن تغييبَها يتأدى — في المقابل — إلى أنَّ «كلَّ ما غصب غاصب أو أخذه من المال
أخذًا غصبًا، فهو من الله له بتقدير وعطاء ورزق».
٧٦ وهكذا، فإنه بينما بدا إثبات فاعلية للإنسان، في مجال الأرزاق، سبيلًا لإثبات
عدالة «السماء»، وتحقيق عدالة «الأرض»، فإن تغييبها قد تأدَّى إلى التضحية بالعدالتين
معًا.
واللافت — على أي حال — هو الطابع الإحالي للعلاقة بين الإلهي والإنساني وهو الطابع المميز
للبنية المهيمنة على النسق المعتزلي بأسره.
وإذا كانت البنية المعتزلية ذات الطابع التعالقي أو الإحالي، قد تأدت إلى ضرورة إثبات
فاعلية للإنسان، وذلك من حيث يصعب تصوُّر الإلهي «عادلًا» دون تصور الإنساني «فاعلًا»،
فإنها
تتأدى أيضًا إلى ضرورة إثبات فاعلية «الطبيعي» وموضوعيته، وذلك من حيث يصعب — كذلك —
تصور
الإلهي «حكيمًا» دون تصور الطبيعي إطارًا للفاعلية والنظام، أو الموضوعية. وإذن، فإن
«الاتجاه
العام عند المعتزلة في مسألة علاقة الله بالإنسان له صداه أيضًا في مسألة علاقة الله
بالمادة
أو بالعالم»،
٧٧ على معنى أن تصور الإنساني «فاعلًا» قد أحال إلى تصور الطبيعي أيضًا «فاعلًا»،
وكلاهما — في النهاية — يميل إلى تصور الإلهي «عادلًا وحكيمًا».
والحقُّ أن ثمَّة ما يؤكِّد على أنَّ المعتزلة قد أثبتوا فاعليةً للطبيعي، أو — على
الأقل
— «أباحوا بعض الحرية للأشياء».
٧٨ فقد صار معمر إلى «أن هيئات (أي الأعراض أو الكيفيات) الأجسام فعلٌ للأجسام طباعًا»،
٧٩ وأعني «أنه لا يوصف القديم بأنه قادر إلا على الجواهر، وأما الأعراض «أو الهيئات»
فلا يجوز أن يوصف بالقدرة عليها، وأنه ما خلق حياة ولا موتًا ولا صحة ولا سقمًا ولا قوة
ولا
عجزًا ولا لونًا ولا طعمًا ولا ريحًا، وأن ذلك أجمع فعل الجوهر»،
٨٠ «إما طبعًا (أي بطبائعها)؛ كالنار التي تُحدِث الإحراق، والشمس التي تُحدِث
الحرارة، والقمر الذي يُحدِث التلوين، وإما اختيارًا؛ كالحيوان يُحدث الحركة والسكون،
والاجتماع والافتراق».
٨١ ولقد صار معمر إلى حدِّ «أنَّ حدوث الجسم وفناءَه عنده عَرَضان»؛
٨٢ أعني أنهما من فعل الجسم ذاته. وإذن فقد بدا أنَّ ثمة — في علم الكلام — «تفسيرًا
لظواهر الطبيعة، من حيث كونها فعلًا للطبيعة، لا من حيث كونها صادرة عن الله»، وذلك على
عكس
ما قطع به البعض.
٨٣ ولربما كان في إلحاح الشهرستاني — وهو بصدد التأريخ لأفكار المعتزلة — على أن
«أكثر ميلهم أبدًا إلى تقرير مذاهب الطبيعيِّين منهم دون الإلهيِّين»،
٨٤ دلالة قصوى على ذلك؛ أعني على تأمل الطبيعة في إطار «الطبيعي» دون
«الإلهي».
واللافت أن الفاعلية في العالم الطبيعي تتحقَّق «طبعًا» لا «اختيارًا» — كالحال في
العالم
الإنساني — ذلك «أنَّ كلَّ ما جاوز حدَّ القدرة «الإنسانية» من الفعل فهو — على قول النظَّام
— من فعل الله تعالى بإيجاب الخلقة؛ أي إن الله طبع الحجر طبعًا، وخلقه إذا دفعته اندفع،
وإذا
بلغت قوة الدفع مبلغها عاد الحجر إلى مكانه طبعًا».
٨٥ وإذن، فإن ثمة — طبقًا للمعتزلة — «مقوِّمًا ذاتيًّا باطنيًّا في الأجسام يجعلها
تفعل من تلقاء ذاتها بموجب طبيعتها»؛
٨٦ هو الطبع. ويعني الطبع أو الطبيعة أنَّ ثمَّة «للأشياء أساسًا للنمو والتنظيم
والحركة في ذاتها»؛
٨٧ وأعني أن ثمة قوانينَ موضوعيةً تنتظم نموَّها وحركتها. وهكذا، فإنَّ الطبيعة —
طبقًا للمعتزلة — ليست «مواتًا» يفتقر إلى أدنى فاعلية، بل «نظام» يستمد فاعليته من قوانين
موضوعية تحكم سَيْره. والحقُّ أن هذه القوانين الموضوعية، في الطبيعة، ذات مصدر إلهي.
إذ
«الطبع» — أو القانون الذي ينتظم سَيْر العمليات الطبيعية — «هو — عند النظَّام — من
فعل الله
بإيجاب الخلقة»، وعلى قول معمر، فإن الكيفيات أو الأعراض «فعلٌ للأجسام طباعًا، على معنى
أن
الله هيَّأها بحيث تفعل هيئاتها — أعراضها — طباعًا».
٨٨ وإذن، فإن الأثر الإلهي في الطبيعة هو — طبقًا للمعتزلة — ما تنطوي عليه من
«قوانين ثابتة»، وليس ما تظهره من «فاعلية مهيمنة»، على نحوٍ مباشر كالحال عند
الأشاعرة.
ويبدو أن هذا التصور المعتزلي للعالم الطبيعي في قبضة «قوانين منظمة»، لا هيمنة «قدرة
مطلقة»، قد تأدَّى إلى تصوُّر بعينه «للإلهي». ذلك أنه إذا كان الطبع — أو القانون الطبيعي
—
هو من «فعل الله» في الأشياء بإيجاب الخلقة، فإنَّ المعتزلة؛ وأعني النظَّام خاصة، وقد
صاروا
إلى «أنَّ الباري تعالى ليس موصوفًا بالإرادة على الحقيقة، سواء لأفعاله أو لأفعال عباده».
٨٩ إذ الإرادة لا بدَّ فيها من خاطرَين يأمر أحدهما بالإقدام والآخر بالكف، وبالطبع
فإنَّ الفعل الإلهي لا يكون — طبقًا للمعتزلة — عُرضةً للخاطرَين، بل يكون — بسبب من
عدل الله
وحكمته — على جهة واحدة، هي الأصلح، ومن هنا تنتفي الإرادة على هذا المعنى، ولكن تبقى
الإرادة
على معنى العلم. ذلك أنه «إذا وصف الله بالإرادة شرعًا «في أفعاله»، فالمراد بذلك خالقها
ومُنشِئها على حسب ما علم».
٩٠ وإذن، فإن معنى كون الله مريدًا لأفعاله — ومنها طبائع الأشياء وقوانينها — أنها
تكون على حسب ما علم، أو أنها، بالأحرى، علمه. وهكذا تكون قوانين الطبيعة — من حيث هي
فعل
الله — هي علم الله ذاته، أو أنها — على الأقل — تجلٍّ مباشر له. ولعله يمكن التقدم بالتصور
المعتزلي خطوة إلى الأمام؛ أعني إلى حدود التصور الاسبينوزي للقوانين الطبيعية بأنها
ليست
شيئًا إلا علم الله ذاته.
٩١ واللافت — على أي حال — أن الطابع الإحالي لبنية النسق المعتزلي يتجلَّى — بوضوح
— من حيث إن تصورًا «للطبيعي» يحيل إلى «تصور» بعينه للإلهي.
وإذن، فقد بدا أنَّ ثمة «بنيةً» ذات خصائص محددة تنتظم كافة عناصر البحث المعتزلي
في
الإلهي والطبيعي والإنساني. لقد أمكن — رغم ما بين هذه المسائل من تباين — صياغتها في
نسق
شامل لا يجد أبدًا أي تفسير بمعزل عن هذه البنية المعنية. ولقد تبدَّت هذه البنية عن
طبيعة
تعالقية أو إحالية؛ وأعني أنها تتكشَّف عن ضرب من العلاقة التبادلية
(
reciprocity) بين كلٍّ من الإلهي والطبيعي والإنساني، حتى
لقد لاح صعوبةُ تصوُّرِ أيٍّ منهم بعيدًا عن الآخر. وهذه الصياغة المعتزلية للبنية تتكشف
عن
مضمون مستنير لنسق تمركزت رؤيته للعالم في «الاستيعاب» دون «الاستبعاد». وبالرغم من الطابع
النظري المحض لهذه البنية، إلا أنها ليست كيانًا عقليًّا مغلقًا يوجد على نحوٍ ميتافيزيقي،
بل
إن البنية — بالأحرى — تتولد عن أصل اجتماعي فيما يقول جان بياجيه.
٩٢ ولا جدال في أن صياغة نسق معتزلي تنتظمه «بنية» ذات طبيعة خاصة، يؤدي إلى أن يكون
البحث في أي مسألة جزئية، عند المعتزلة، محكومًا بمجرد الكشف عن تجلي هذه البنية الخاصة
في
تلك المسألة الجزئية، وبالتالي سلب «الجزئية» عن تلك المسألة وإدماجها في نسق بنياني
كلي
تستمد منه المعقولية والتفسير. وهكذا تتحقق شروط العلم، حيث لا علم إلا بالكلي. ومن هنا
فإن
البحث في النبوة عند المعتزلة لن يتجاوز كونه محاولة لإدراك تجلِّي البنية المهيمنة على
النسق
بأسره فيها، وبالتالي سلب الجزئية عنها، وإدماجها في النسق الشامل، حيث المعقولية
والتفسير.
من بناء الطبيعة إلى بناء المعجزة
تأدَّى المعتزلة إلى أنَّ الطبيعة، كسائر ما عداها، تنطوي على ما تتقوَّم به «ذاتيًّا».
فإن ثمة «مقوِّمًا ذاتيًّا باطنيًّا في الأجسام يجعلها تفعل من تلقاء ذاتها، أو بموجب
طبيعتها».
١٤٧ وهكذا، فإن أهم ما يترتَّب على تقوُّم الطبيعة «ذاتيًّا»، أنها فاعلة بذاتها. ومن
هنا، فإنَّ المعتزلة قد «أباحوا بعض الحرية (أو الفاعلية) للأشياء»،
١٤٨ فصار «معمر» إلى أنَّ الأغراض هي فعل الجواهر بطبائعها، وصار الجاحظ أيضًا إلى أن
أثبت الطبائع «الذاتية» للأجسام، وأثبت لها — تبعًا لذلك — أفعالًا مخصوصة بها.
١٤٩ واللافت أن هذه «الفاعلية» ليست تصدر عن الصدفة أو الاتفاق، بل الطبيعة أو الطبع،
الذي هو من فعل الله بإيجاب الخلقة على قول النظَّام، تتحكم في هذه الفاعلية. ويعني هذا
الطبع
أو الطبيعة أن ثمة «للأشياء أساسًا للنمو والتنظيم والحركة في ذاتها».
١٥٠ وهذا يعني أن ثمة أساسًا موضوعيًّا في الطبيعة ينتظم حركتها ونموها. وهكذا تأدَّى
المعتزلة إلى أن ثمة قوانين موضوعية قائمة في الطبيعة تنتظم فاعليتها، وإذن فإن الطبيعة
—
طبقًا للمعتزلة — ليست «مواتًا» يستمد فعله من مصدر خارجي، على غير قانون ثابت، بل «نظام»
فاعل بذاته، على أساس قانون موضوعي ثابت؛ وأعني أنها طبيعة في قبضة «قوانين، منظمة» تفعل
بها،
لا هيمنة «قدرة مطلقة» تخضع لها.
ويبدو أن هذه القوانين الطبيعية قد بدَت للمعتزلة بمثابة علم الله ذاته. إن «الطبيعة»
—
من حيث هي فعل لله — إنما أنشأها الله، لا على حسب ما أراد؛ حيث لا يوصف بالإرادة على
الحقيقة، بل على حسب ما علم.
١٥١ فبدا وكأن إنشاء الطبيعة على حسب العلم يعني أن انتظامها، على نحو معين من
النظام، يُعَد تجلِّيًا مباشرًا لعلمه، إن لم يكن هو علمه ذاته. وإذن، فقد صار المعتزلة
إلى
حدِّ الدنو من التصور الاسبينوزي للقوانين الطبيعية، ليست شيئًا إلا علم الله ذاته. وإذا
كان
اسبينوزا قد تأدَّى من ذلك إلى أنه «لا يحدث شيء في الطبيعة مناقض لقوانينها العامة،
أو حتى
لا يتفق مع هذه القوانين، أو لا يصدر عنها بوصفه نتيجة لها. إذ لو حدث شيءٌ في الطبيعة
يناقض
قوانينها العامة، كان هذا الشيء مناقضًا أيضًا لأمر الله وعقله وطبيعته»
١٥٢ — أي إنه أنكر المعجزة، بوصفها خرقًا للطبيعة؛ لأنها تكون بذلك خرقًا لعلم الله
ذاته — فإن من المعتزلة، أيضًا، مَن صار إلى حدِّ الإنكار الصريح لتلك المعجزات، ولمبررات
قد
لا تختلف في جوهرها عن المبررات الاسبينوزية. فقد صار النظَّام إلى إنكار معجزة انشقاق
القمر.
واللافت في إنكاره أنه لم يقف عند حدِّ الشكِّ في طريق تواترها فقط، بل تعدَّاه إلى «أن
جامع
أجزاء القمر لا يقدر على تفريقها».
١٥٣ إذ الجمع، من حيث هو مراد الله، قد تحقَّق — على أصل النظَّام في إنكار إرادة
الله واستبدالها بالعلم — على حسب ما علم، ومن هنا، فإنَّ تفريق أجزائه يُعَد — لا شك
— نقضًا
لهذا العلم. وكذا، فقد أنكر النظَّام سائر المعجزات، من هذا النوع، مثل «تسبيح الحصا
في يده،
ونبوع الماء من بين أصابعه».
١٥٤ ورغم أن كتب الكلام لم تذكر من بين المعتزلة، غير النظَّام، ممن يُنكر هذا الضرب
من المعجزات، فإنه يبقى التأكيد على أن هذا الضرب من المعجزات هو مما يستحيل البتة على
مقتضى
النسق المعتزلي. إنه يستحيل، أولًا، على قانون «الطبيعة»، وذلك من حيث تنطوي على قوانين
موضوعية ثابتة، أدنى أن تكون هي علم الله ذاته، ويستحيل، ثانيًا، على قانون «العقل»،
وذلك من
حيث يقرر أنَّ ثمة ما تتقوم به النبوة «ذاتيًّا»، وإذن فإنها في غير حاجة إلى ما تتقوم
به
«الخارج». ومن هنا، فإنه يمكن الاطمئنان — حتى ولو غاب ذكر النظَّام — إلى أن إنكار هذا
الضرب
من المعجزات هو مقتضى النسق، أو — بالأحرى — لا وعيه المضمر.
وإذ أدرك المعتزلة استحالة المعجزة هكذا؛ أعني بوصفها مقومًا خارجيًّا للنبوة، فإنهم
قد
تأدوا إلى تصورها مقومًا «باطنيًّا» للنبوة؛ وأعني أن علامة صدق النبوة تقوم في «باطنها»
لا
خارجها. ومن هنا صار ثمامة بن أشرس وأتباعه من القدرية «المعتزلة» إلى أنه «لا يحتاج
النبيُّ
في الحجَّة على نبوَّته إلى أكثر من سلامة شرعه وما يأتي به من التناقض فيه»،
١٥٥ وهكذا، في حين صار الأشاعرة إلى أنه «لا دليل على صدق النبي غير المعجزة».
١٥٦ بوصفها سلطة خارجية تستمد فاعليتها من كون النبوة لا تنطوي على ما تتقوم به
ذاتيًّا، فإن المعتزلة يتأدون، في المقابل، إلى أن «لا دليل على صدق النبي غير سلامة
شرعه من
التناقض». إذ النبوة، هنا، تنطوي في ذاتها على ما يتمكَّن به «العقل» من الحكم على صدقها.
وقد
يُصار إلى أن مجرد «سلامة الشرع عن التناقض، لا يمثِّل معجزة». والحق أنه ليس كذلك على
طريقة
الأشاعرة فقط، وأما طبقًا للمعتزلة فإن ثمة «معجزة» أكثر جوهرية تقوم في شهادة «العقل»،
لا
شهادة «الخارج». وهي الأكثر جوهرية، من حيث إنه لا يمكن البرهنة على النبوة — وهي ذات
مضمون
عقلي — إلا بشهادة من «العقل» لا من «خارجه». ومن جهة أخرى، فإنه بينما يقوم صدق النبوة
—
طبقًا للأشاعرة — في «الإضافة» من «الخارج»، مع ما يعنيه ذلك من عدم الثقة في مضمونها،
فإن
الثقة في هذا المضمون ذاته هي ما تأدَّى بالمعتزلة إلى تصور علامة صدقها تُستمد من «التأمل»
في الداخل، ولا جدال في أن هذا الضرب من المعجزة هو ما يقتضيه النسق المعتزلي، وذلك من
حيث
يتسق، أولًا، مع تصور الطبيعة تنطوي على قوانين موضوعية ثابتة لا سبيل إلى خرقها … وهنا
لا
خرق، ومن حيث يتَّسق، ثانيًا، مع قانون العقل، الذي يقرر أن ثمة ما تتقوم به النبوة
«ذاتيًّا»، وإذن فإنها في غير حاجة إلى ما تتقوم به من الخارج. ومن هنا فإنه يمكن الاطمئنان
—
حتى ولو غاب ذكر ثمامة — إلى أن هذا الضرب من المعجزات هو مقتضى النَّسق المعتزلي، أو
—
بالأحرى — لا وعيه المضمر.
ومن العجيب حقًّا أن هذا الضرب من المعجزة، طبقًا للمعتزلة، هو ممَّا يتَّفق مع الطبيعة
الخاصة للمعجزة الأهم في الإسلام. إذ الحق أنه لا يمكن النظر إلى المعجزة الأهم للنبي
محمد
ﷺ في انفصال عن الطبيعة الباطنية الخاصة لذات دعواه. فإن هذه المعجزة؛ أعني معجزة
القرآن، تتبلور بوصفها تقومًا «ذاتيًّا» لا «خارجيًّا» للنبوة. وهكذا تتوحد المعجزة مع
ذات
الدعوى، بحيث يغدو التماس صدقها قائمًا في «التأمل» في «ذات» الدعوى، لا في «الإضافة»
من خارجها.
١٥٧ ويبدو أن هذا التصور المعتزلي للمعجزة يعكس أيضًا تطورًا في طبيعة المعجزة، من
كونها «شهادة خارجية»
Extrinsic Testimony إلى كونها «شهادة
باطنية»
Entrinsic Testimony، وهو تطور فرضه — لا شك — تطور
وعي البشر ذاته، وذلك من حيث يُظهر الوعي، في تطوره، توجهًا من «الخارج» إلى «الداخل»،
على
الدوام. ومن هنا، فإنه إذا كانت النبوة تتكشف، طبقًا للمعتزلة، عن تحقق أقصى درجات تطور
الوعي؛ وذلك من حيث إن إدراك الوحدة الباطنية بين الإلهي والإنساني قائمة من وراء انفصالهما
الظاهر، فإن المعجزة من حيث تستحيل من كونها «شهادة خارجية» إلى كونها «شهادة باطنية»
تتكشف
عن هذا التحقق ذاته. وهكذا يجد التصور المعتزلي، للمعجزة مقومًا «باطنيًّا» لدعوى النبوة،
أساسه النظري، لا في «الدين» فقط؛ وأعني من حيث يستحيل النظر إلى المعجزة الأساسية لنبوة
محمد
ﷺ، في انفصال عن الطبيعة الباطنية لذات دعواه، بل — وأيضًا — في «العقلي»، وذلك من حيث
إن وعيَ البشر ذاته، يتكشف، في تطوره، عن ذات القصد الذي لم تكن معجزة محمد
ﷺ إلا مجرد
مجلى له.
واللافت أن البناء المعتزلي للمعجزة يتكشف، على نحوٍ صريح، عن حضور فعَّال للبنية
المهيمنة على النسق بأسره. وذلك من حيث إنه لم يتغيَّا — عكس البناء الأشعري — إطلاق
قدرة
الإلهي فقط، وفي غيابٍ تامٍّ للإنساني والطبيعي، بل إن ثمة حضورًا فعالًا للإنساني والطبيعي
في بناء المعجزة عند المعتزلة. وإذ صار المعتزلة إلى تصور الطبيعة «فاعلة»، تنتظم فاعليتها
قوانين موضوعية ثابتة، هي أدنى إلى أن تكون تجليًا مباشرًا لعلم الله ذاته؛ وإذن فإنها
مستحيلة الانخراق، حيث انخراقها يُعد نقضًا للعلم الإلهي، فإن هذا التصور للطبيعة قد
أحال إلى
تصوُّر للمعجزة المعتزلية، «شهادة باطنية» تقوم على الالتماس الباطني للصدق، وليس «شهادة
خارجية» لا تقوم إلا على سبيل الخرق. ومن جهة أخرى. إن التصور المعتزلي للإنسان «فاعلًا»
بذاته، قد أحال إلى بناء المعجزة، ضمن شروط إنسانية محددة، لا في إطار فاعلية إلهية مطلقة.
ومن هنا التأدي إلى بناء المعجزة على قانون العقل، بحيث إن قضى «العقل» بأن ثمة ما تتقوم
به
الأشياء والأفعال — ومنها النبوة — «ذاتيًا»؛ ولذا فإن حصولها في الوجود إنما يبين بنفسه،
لا
بغيره، فإن ذلك يميل إلى تصوُّر «المعجزة» علامة «ذاتية»، على الصدق، في باطن الدعوى؛
وأعني
أنها دليل «ذاتي» مستمد من «داخل» الدعوى «بالتأمل»، وليست دليلًا «خارجيًّا» مستمدًّا
من
«خارج» الدعوى «بالإضافة». وإذ يعكس بناء المعجزة هكذا، انتقالًا من «الخارج» إلى «الداخل»،
فإنه يتفق وبناء الوعي الإنساني نفسه؛ وذلك من حيث يُظهر — في تطوره — ذات «الثابت»؛
وأعني
الانتقال من «الخارج» إلى «الداخل». وليس من شك في أن هذا الاتفاق بين بناء المعجزة وبناء
الوعي ذاته، يتأدَّى إلى أن ثمة حضورًا فعالًا «للإنساني» في بناء المعجزة. وإذن، فإن
بناء
المعجزة — عند المعتزلة — قد أحال، أو أنه انعكس هو ذاته، عن تصور بعينه للإنساني وكذا
الطبيعي، ومن حسن الطالع أنه تصور لهما «فاعلين» على الحقيقة، لا مجرد المجاز. وهكذا
يتكشف
بناء المعجزة المعتزلي عن بنية ذات طابع إحالي، هي ذاتها البنية المهيمنة على النسق
بأسره.
النبوة … من «الوجوب النظري» إلى «الوقوع الفعلي»
كان من الحتم أن يتأدَّى الوجوب «العقلي» للنبوة، عند المعتزلة، إلى وجوب «واقعي»؛
وذلك
من حيث إن «كل ما هو عقلي واقعي»، بلغة هيجل. ومن هنا صار المعتزلة إلى أن نبوة محمد
ﷺ
واقعةٌ بالاضطرار؛ إذ «قد علمنا باضطرار أنَّ محمدًا هو الذي كان بمكة، ثم هاجر إلى المدينة،
وأنه كان يدَّعي النبوة، ويجعل الدلالة على نبوته القرآن، ويتحدى به العرب. كل ذلك بالنقل
المتواتر، كما نعلم البلدان وأخبارها وأخبار الملوك بالنقل، وهذا مما لا يقع فيه التنازع».
١٥٨ ولا بد من التأكيد على أن التنازع ليس يقع في ذلك، لمجرد النقل المتواتر «الذي
يوجب العلم الضروري من حيث يستحيل التواطؤ على وضعه، وهو فقط طريق العلم بالنبوة عند
الأشاعرة»،
١٥٩ بل — والأهم — لأن الوجوب العقلي للنبوة يقتضي وقوعَ النبوة ضرورة. ومن هنا فإنه
بينما يتكشف الانتقال من الوجوب العقلي للنبوة إلى وقوعها فعلًا، عن ضرب من الاتساق
والمنطقية، فإن الانتقال من الإمكان والمجاز العقلي للنبوة عند الأشاعرة، إلى وقوعها
فعلًا،
يتكشف عن ضرب من الحاجة إلى «مبرر» من الخارج، وأعني أنه لا يتكشف عن ذات الاتساق
والمنطقية.
واللافت أنه إذا كان الأشاعرة قد التمسوا — تبعًا لذلك — إثبات الوقوع في المعجزة
الحاصلة
أو حتى النسخ، بوصفهما أفعالًا خارجية تُبرر الانتقال من «الإمكان إلى الوقوع»، فإن المعتزلة
— في المقابل — قد التمسوا إثبات الوقوع، لا في المعجزة الحاصلة أو النسخ على هذا النحو؛
أعني
بوصفهما أفعالًا خارجية،
١٦٠ بل في البناء الداخلي للنبوة ذاته؛ وأعني أن إثبات «وقوع النبوة» يتأتى من
«ذاتها»، لا من «خارجها». فالنبوة تنطوي في ذاتها على ما يُبرر وقوعها؛ وأعني حسنها وصلاحها.
ومن هنا، فإن إثبات وجه المصلحة أو الحُسن في نبوة ما يمثِّل — لا شك — إثباتًا «لوقوعها»
أيضًا. ومن حسن الطالع أن إثبات وقوع نبوة محمد
ﷺ خاصة، إنما يتأكد من مجرد النظر في
ذاتها؛ وذلك من حيث إن القرآن — وهو معجزتها الأهم — لا ينفصل عن دعوى النبوة، بل هو
الدعوى
ذاتها. وهكذا التمس المعتزلة إثبات وقوع النبوة، لا كالأشاعرة في المعجزة بوصفها فعلًا
خارجيًّا يتم به التحدي وطلب المعارضة،
١٦١ بل في المعجزة، هي ذات الدعوى، من حيث تنطوي على الحسن والمصلحة. وإذن، فإن
النبوة عند المعتزلة تتقوم، في مواجهة منكر وقوعها، بمجرد سلامتِها وخلوِّها من التناقض،
ولأن
ذلك من مدرك «العقل» لا ريب، فإنه بدا وكأن وقوع النبوة يتأكد — طبقًا للمعتزلة — من
«العقل»،
لا من «الخرق».
وأما إنكار وقوع النبوة من حيث تمثِّل «نفيًا» لنبوات إلهية سابقة، فيثبت البداء،
فإن
المعتزلة قد صاروا إلى أن هذا التطور في النبوات، لا يتبدَّى عن «البداء» إلا في إطار
الفكر
الصوري الذي يرى النبوة على قانون المطلق الإلهي فقط، وأما «عينيًّا» — أي في حضور الإنساني
كذلك — فإن «الله تعالى يُتعبد بحسب المصالح، فإذا علم أن الصلاح في بعض الأوقات خلاف
ما
تقدم، تُعبِّد بحسبه، كما يفعل الأفعال بحسب المصالح».
١٦٢ وإذن، فإن التطور في النبوات لا يتكشف عن «البداء» إلا في إطار النظر الصوري،
وأما في إطار «الفكر العيني»، فإنما يتكشف عن «الحكمة»، من حيث هو مصلحة. وهكذا صار المعتزلة
إلى إثبات النسخ في الشرائع على قانون المصلحة.
١٦٣
وإذ «النسخ» يجري — طبقًا للمعتزلة — على قانون المصلحة، أو «الاقتضاء الإنساني»،
وليس
«الاقتضاء الإلهي» فقط، فإنهم صاروا إلى أنه لا يعني «النفي» التام من اللاحق للسابق
عليه، بل
إنه يُبقي منه ما تقتضيه المصلحة. ومن حسن الطالع أن «النسخ في اللغة لفظ مشترك، فربما
تَرِد
والمراد بها «الإزالة والتمحيق» … وقد يُطلق النسخ ولا یراد به حقيقة «الإزالة»، ولكن
يراد به
«النقل»، وذلك نحو قولهم نسخ فلان كتابًا».
١٦٤ إن هذا يعني أن النسخ ينطوي — بحسب اللغة — على دلالتَين متناقضتَين تمامًا …
أولاهما هي «الإزالة» أو المحق والإفناء، والثانية هي «النقل» أو الحفظ والإبقاء؛ وذلك
من حيث
إن مَن ينقل أو ينسخ كتابًا، فإنما يهدف — لا شك — إلى حفظه وإبقائه. وإذن، فإنه يمكن
صياغة
«النسخ» في تصوُّر ذي طبيعة جدلية؛ وأعني تصوره تأليفًا جدليًّا ينطوي على السلب والإيجاب
أو
«الإفناء» و«الإبقاء» في وحدة معًا. ولا يكون «النسخ» في هذه الوحدة الجدلية إخفاءً تامًّا
من
شريعة لشريعة، بل إفناءً يحتفظ فيه اللاحق من السابق بكل ما يستحق البقاء. ويبدو أن هذه
الصياغة الجدلية «للنسخ» هي الأساس النظري الممكن لتصوره على الاقتضاء «الإنساني» لا
«الإلهي». ومن هنا فقد صار المعتزلة إلى تصوره «جدليًّا» فيما يبدو.
فقد صار المعتزلة إلى أن «حدَّ النسخ هو النص الدال على أن «مثل» الحكم الثابت بالنص
المتقدم زائلٌ على وجه لولاه كان ثابتًا»،
١٦٥ وإذن، فإن ثمة ضربَين من الأحكام في الشريعة — أي شريعة — أولهما هو «عين الحكم
الثابت»، والثاني هو «مثل الحكم الثابت». ويبدو أن النسخ في الشرائع لا ينصرف — طبقًا
للمعتزلة — إلى «عين الحكم الثابت»، بل إلى «مثل الحكم الثابت»؛ وعلى قول القاضي: «إن
النسخ
لا يتناول «عين» ما كان حقًّا، حتى يجب انقلاب الحق باطلًا والباطل حقًّا، وإنما يتناول
«مثل»
ما كان حقًّا».
١٦٦ وقد ارتبط ذلك — فيما يبدو — بكون النسخ منصرفًا إلى «عين الحكم الثابت»، «يقتضي
أن يصير الحقُّ باطلًا، والباطل حقًّا».
١٦٧
وأما كونه منصرفًا إلى مثل «الحكم الثابت» فإنه لا يمتنع، وذلك من حيث إنه «لا يمتنع
في
المثالين أن يكون أحدهما حقًّا والآخر باطلًا»؛
١٦٨ أو لا يمتنع أن مثل ما كان «صالحًا» في وقت لم يَعُد كذلك في وقت آخر، ومن هنا،
لا مجرد «تجويز» النسخ، بل وجوبه.
وإذ ينصرف النسخ، عند المعتزلة، إلى «مثل الحكم الثابت»، فإنه لا يرفع حكمًا ثابتًا
بل
يبين انتهاء «مدة شريعة».
١٦٩ وهذا البيان لانتهاء مدة شريعة بالنسخ، إنما ينصرف فقط إلى «مثل أحكامها
الثابتة»، وذلك من حيث إن مثل ما كان صالحًا في هذه الشريعة في وقت سابق، لم يَعُد كذلك
في
وقت لاحق، ولا ينصرف البتة إلى عين أحكامها الثابتة؛ وإذن فإنها تبقى. ومن هنا، فإنَّ
النسخ
لا يكون «إفناءً» فقط، بل «إفناءً وإبقاءً» معًا. وهذا التصوُّر المعتزلي للنسخ «إفناءً
وإبقاءً» معًا قد صار بالنسخ إلى أنه «تبيين معنى لفظ لم يُحط به أولًا، وتنزيل له (أي
النسخ)
منزلة تخصيص، لصيغة عامة».
١٧٠ وليس من شك في أن تصور النسخ «تبيينًا لمعنى لفظ لم يُحَط به أولًا» لا يتبلور —
منطقيًّا — إلا باستيعاب سائر ما مضى من المعاني دون إفنائها، وكذا فإن تصوره «تخصيصًا
لصيغة
عامة» لا يعني «إفناءً» تامًّا لكل ما تنطوي عليه هذه الصيغة العامة، بل يعني — بالأحرى
—
نفيًا للثانوي وغير الجوهري فيها من جهة، وإبقاءً للخاص والجوهري فيها من جهة أخرى. وإذ
ترتبط
هذه الطبيعة الجدلية للنسخ بتصوره، لا على الاقتضاء الإلهي وحده كالحال عند الأشاعرة،
بل على
«الاقتضاء الإلهي» يُحيل إلى «الاقتضاء الإنساني» أيضًا، فإنها تتكشف — تبعًا لذلك —
عن ذات
البنية ذات الطابع الإحالي المهيمنة على النسق بأَسْره.
واللافت، على أي حال، أنَّ كافة عناصر البحث المعتزلي في النبوة تتكشَّف عن حضور فعَّال
«للبنية» التي سبق رصدُها تنتظم كافةَ عناصر البحث المعتزلي في الإلهي والطبيعي والإنساني.
فقد بدا — أولًا — أن ثمة ثابتًا بنيويًّا يتكرر في كلِّ جزئيات البحث المعتزلي. وهكذا
تأدَّت
قراءة الإلهي والطبيعي والإنساني، كلٌّ على حدة، إلى الكشف عن ذات الثابت. وإذ بدا هذا
الثابت
المتكرر بمثابة «الكلي الشامل» الذي ترى فيه الفلسفة، على الدوام، جوهر العلم وماهيته،
أن قصد
البحث قد اتجه إلى ردِّ كلِّ «جزئي» إليه، وذلك التماسًا للعلم الدقيق. ومن هنا فقد تغيَّا
هذا البحث في النبوة عند المعتزلة، رصد تجلِّي البنية أو تكرار الثابت المهيمن على النسق
فيها. وإذ أدرك البحث هذا التجلي قائمًا، والتكرار ثابتًا، فإنه قد أدرك بذلك شروط العلم
الدقيق بالنبوة عند المعتزلة، وذلك من حيث تجلِّي «الجزئي» عن «الكلي» أساس العلم.
وإذ يبدو الوقوف عند مجرد الثابت البنيوي المتكرر إغراقًا في «الصورية»، فإن البحث
قد قصد
إلى تحليل هذا الثابت البنيوي وردِّه إلى أصوله في العالم. ذلك أن البنية — أو الثابت
البنيوي
— لا تعبر عن بناء عقلي قَبْلي ثابت، بل تتولد — بالأحرى — عن أصل اجتماعي، فيما يرى
«بياجيه». والحق أن ثمة في بنية النسق المعتزلي ما يؤكد على كونها تولُّدًا عن أصل اجتماعي،
لا صدورًا عن بناء عقلي قَبْلي. فإنها تتبدَّى — على صعيد التحليل الأيديولوجي — عن كونها
تبلورَت في مواجهة ما يضادها «أيديولوجيًّا». ورغم أن «الأصل الأيديولوجي» للبنية هو
«الأسبق
في الوجود»، فإن «شكلها الإبستمولوجي» هو «الأسبق في الظهور»؛ ومن هنا ضرورة البدء بالرصد
الإبستمولوجي للبنية. فقد صار المعتزلة إلى تصوُّر العالم في قبضة «العقل» إلى حدٍّ كبير.
وحيث «العقل» فإن ثمة «الضرورة» لا شك. وإذ العالم في قبضة الضرورة، فإن هذا يعني أن
كلَّ ما
فيه إنما يتعين ويتحدَّد في مواجهة الآخر لا بمعزل عنه. ومن هنا فقد تأدَّى المعتزلي
إلى أنَّ
الطابع الأساس للعلاقة بين عناصر الوجود هو الإحالة المتبادلة. وهكذا، فإن «الإلهي» —
مثلًا —
لا يتعيَّن بمفرده، بل في علاقته التبادلية (Reciprocity) مع
كلٍّ من الإنساني والطبيعي. وهكذا القول في الإنسان والطبيعي كذلك.
واللافت أن هذه البنية، من حيث تتكشف على الصعيد الإبستمولوجي عن ضرورة الإنسان وعالمه،
بل ودورهما الفعَّال في تعيُّن الإلهي ذاته، تتأدى — أيديولوجيًّا — إلى بناء فاعلية
الإنسان
في العالم. وقد تغيَّا بناء هذه الفاعلية توفير الغطاء النظري لتقويض سلطة لم تُدرك وجودها
إلا في انعدام هذه الفاعلية. والحق أن الاعتزال كان يمثِّل بالفعل — وبحكم طبيعة نشأته
بين
فئات على هامش المجتمع؛ هم الموالي — صياغةً أيديولوجية ضرورية لأولئك الذين يتطلعون
إلى
إحداث تغييرات هيكلية في بناء المجتمع تَسعُ طموحاتهم. ومن هنا، فإن بنية النسق المعتزلي
لا
تُعَد صدورًا عن «مطلق» العقل، بل تعبيرًا عن رؤية للعالم مشروطة تاريخيًّا واجتماعيًّا.
ولا
شكَّ في أن صياغة البنية على هذا النحو إنما يستمد قيمته من أدائها لدور «وظيفي» يتمثل
في
تجاوز «إشكالية» تقوم، جوهريًّا، في سلبية الإنسان وانعدام فعاليته. والحق أن القيمة
المستمرة
والعظيمة للنسق المعتزلي إنما تتبدَّى في قدرته على أداء دور «وظيفي»، في عصرنا، يتمثل
في
بيان إمكان تجاوز إشكال هيمنة النسق الأشعري، الذي يبلور— بما ينطوي عليه من تصور «للعالم»
في
قبضة المطلق «حاكمًا أو إلهًا»
١٧١ — حدودَ رؤيتنا للعالم.