المفهوم الفلسفي للدولة
١
منذ أن نادى أفلاطون بأن العدالة ليست هي حُكم الأقوى، أخذ الناس يُصدرون حكمهم على الدولة بناءً على حكمة الأهداف السامية التي تعمل الدولة على حمايتها. والواقع أن العقل البشري بدأ يمُجُّ الفكرة القائلة بأنه من الممكن الدفاع عن احتكار الدولة للسلطة الإلزامية، بغضِّ النظر عن الأهداف التي تسعى الدولة لتحقيقها. إننا نرى، كما يرى أرسطو، أن الدولة تنشأ لتحقيق الحياة الكريمة، ونصرُّ أيضًا — كما أصرَّ هوبز من قبل — على أنه لا يمكن أن تقوم حضارة من الحضارات لو لم تكفل الدولة الأمن المنشود اعتمادًا على سلطانها على الحياة والموت، ونوافق، مع لوك، على أن وجود جهاز حاكم عام يَرضَى الأفراد عن أعماله هو الذي يمكن أن يخول لنا حقنا في الحياة والحرية، وفي امتلاك الأشياء التي لولاها لأصبحت حياتنا شقاء وبؤسًا. وقد تمكن روسو من التوصل إلى شروط الدولة التي يمكن للأفراد، بالخضوع لقوانينها، أن ينعموا بقدر من الحرية أكبر من القدر الذي كانوا ينعمون به في المجتمع السابق على المجتمع المدني. وقد كتب هيجل في هذا الصدد عبارة مشهورة قال فيها: «إن الدولة هي الفكرة المقدسة التي تعيش فوق الأرض.» وقال: «إن الفرد يستمد كل ما له من قيمة من اندماجه في أوجه النشاط التي تقوم بها الدولة.»
والواقع أنه ليس هناك سوى القليل من الأنظمة التي حَظِيت بقدر من الثناء والإطراء أكثر مما حظيت به الدولة، باعتبارها نظامًا سياسيًّا. ولعله من الضروري أن نتفهم الأسباب والدوافع التي دعت إلى الثناء على الدولة. والحقيقة أنه نادرًا ما انصبَّ المديح على دولة حقيقية، على الرغم من أن الممتدح قد يجد مثله الأعلى متمثلًا في مجتمع حقيقي. وهذا الثناء ليس دفاعًا عن أهداف معينة يعتبرها المفكر أمرًا صالحًا، ويرى أنه لا يمكن تحقيقها إلا عن طريق هيئة لها طابعها الخاص، نطلق عليها «الدولة». ومما هو جدير بالذكر أن هذه الأهداف لها طابع ثابت لا يتغير تقريبًا في تاريخ الفلسفة السياسية، وهي محاولة للبحث عن الشرائط التي يحقق الأفراد — رجالًا ونساء — عن طريقها ذاتيتهم. كما أن الأفراد يحاولون أيضًا تحقيق رغباتهم المتصارعة بوسائل مختلفة؛ ولذلك وجب قيام منظمة عامة تحدد هذه الشرائط التي يمكن أن يسير عليها مثل هذا العمل. بيد أن الأفكار قد اختلفت وتضاربت من حيث شكل هذه المنظمة، إلا أن الأسس العامة التي يجب أن تسير بمقتضاها ما هي إلا المسائل التي أُثِيرت، والتي لم يتم الاتفاق عليها.
وإذا ما استبعدنا الفوضوي المتفلسف (ونادرًا ما تكرر ظهور هذا المخلوق في تاريخ الفلسفة السياسية)، وجدنا أن هناك اعترافًا عامًّا تقريبًا بضرورة وجود سلطة إلزامية تحدد لوائح السلوك الاجتماعي التي يمكن السماح بوجودها.
إن التسليم بطبيعة البشر يوضح لنا أن الحل الذي يخالف الحل السابق يؤدي إلى وجود قرارات فردية تشيع الفوضى في جنباتها، وهذا كفيلٌ بالقضاء على سبل الحياة المستقرة.
ولكن إذا حاولنا مناقشة حاجة المجتمع إلى سلطة إلزامية يجب أن يطيعها الجميع، فمعنى ذلك أننا فتحنا الباب لمشكلة لا نهاية لها؛ فالأفراد لا يقومون بإطاعة هذه السلطة من أجل الطاعة ذاتها، وإنما يطيعونها من أجل أهداف يعتقدون أنها ستتحقق عندما تؤدي هذه السلطة عملها، فهم يخضعون للأوامر لأنهم يعرفون ما تتضمنه هذه الأوامر من معنًى، وهم يفسرون هذه الأوامر على ضوء الرضا الذي يَسعون إلى تحقيقه في هذه الحياة، ومن حين لآخر يرفضون هذه الأوامر على أساس أنها تحرمهم من هذه النواحي. وما الطاعة إلا عادة البشر الطبيعية، ودائمًا ما تحدث بعض الحالات العرضية حيث يكون القرار الذي يُتَّخذ هو العصيان، ولكنه يُتَّخذ بحرارة، ويُدافَع عنه بحماسة شديدة.
وتوضح لنا هذه الحالات أن الأفراد يؤدون الطاعة للدولة، لا يفعلون ذلك من أجل النظام فقط، ولكن لِما سيتمخض عن هذا النظام أيضًا. وهم يقومون بتقدير قيمة الدولة من زاوية موجبات الرضا التي يعتقدون أنها تُتيحها لهم، وما من شك في أن هذه التقديرات تختلف باختلاف عامل المكان وعامل الزمان. وإن الخبرة هي التي تجعلنا نتوقع كل ما هو قانوني، كما أن مطالب مجتمعٍ ما في فترةٍ ما ستختلف عن مطالب مجتمع آخر في فترة أخرى، بيد أن ما يتضمنه ذلك واضح كل الوضوح؛ إذ إن ممارسة السلطة الإلزامية في مجتمعٍ ما ليست غير مشروطة، ويجب أن تؤدي عملها عن طريق القوانين واللوائح؛ إذ يجب عليها أن تحقق تلك الأهداف التي يعتبرها المواطنون نواحيَ أساسية. ولذلك، إذا قمنا بدراسة طبيعة الدولة، فمعنى ذلك أنها دراسة نواحي السلطة التي أمكن تحقيقها. وتتحدد الدولة في نظر كل مواطن بما تقوم به من أعمال. ولكنه لا يمكن تبرير ذلك بمجرد أنها دولة، ولا يهتم المواطنون بالهدف الفلسفي للدولة، ولكنهم يهتمون بالنتائج التي تتمخض عن هذه العمليات الحقيقية التي تتركز في الخبرات التي يمرون بها في حياتهم اليومية.
وربما ينظر فيلسوف، مثل بيرك، إلى الدولة على أنها مشاركة في كل نواحي الفضيلة، وما تبلُغه من كمال. أما الرجل العادي فينظر إليها على أنها الوسيلة التي تحكمه، هذه الوسيلة التي تشبع موجبات الرضا التي له حق فيها. ولقد شعر الفيلسوف بالارتياح ليكون مثلًا أعلى للدولة، وعندئذ يقوم بتحويل ما يتضمنه هذا المثل الأعلى إلى نواحي الدولة الحقيقية. ويمكن القول بأن هذا المثل الأعلى ما هو إلا فكرة الفيلسوف الشخصية، وهي فكرة مرغوب فيها على ضوء الخبرة التي مر بها؛ فلقد قام بإخراج سيرة حياته إلى حيز الوجود وترجمتها إلى مقاييس حقيقية. وإن نظرية هوبز عن الدولة هي في أساسها مبنية على إصراره، وكان ذلك في فترةٍ سادَتْها الحرب الأهلية. على أن النظام في حد ذاته هو أعلى مرتبة دون النظر إلى ما يحدده هذا النظام، بيد أن تأكيد هيجل من أن شخصية الدولة تعتبر قاصرة إلا باختيار ملك يسوسها، لهُو حقيقة أقل شيوعًا من تجنيده لمملكة بروسيا كأسمى شكل، حيث تستطيع الدولة أن تدمج نفسها. فإذا لم نأخذ بوجهة النظر التي تقول كما جادل بوزنكييه بأن الهدف النظري يمكن تحقيقه دائمًا في ظل الحقيقة الحية، وأن الفشل الذي مُنينا به لا يُعزى إلى الدولة ولكن إلى الموارد التي لا تأتي بها الدولة، ولكن تسعى جاهدة إلى تعاونها. ومن الواضح أن نظرية الدولة يجب أن تكون وسيلة للحكم على ما تحققه الدول لا للحكم على الواقع. ولا نستطيع أن نقول مع هيجل: إن «واجب واجب الفرد الأعلى هو أن يكون عضوًا في الدولة، حتى نقدر صفة الدولة التي يعتبر الفرد عضوًا فيها.»
وسأحاول في هذا الكتاب أن أبرر وجود الدولة من ناحيتها الفلسفية؛ إذ إن ذلك كان له أثره في الحضارة الغربية. كما سأقوم بدراسة هذا المبرر على ضوء ما نعرفه عن الدول في أيامنا هذه. وسيؤدي بي هذا الأمر إلى تكوين نظرية الدولة حيث ترتبط بالحقائق التي نعرفها. وأخيرًا، وعلى ضوء هذا التكوين، سأحاول أن أستخلص بعض الحلول العملية التي يمكن التنبؤ عن طريقها بالأحداث التي ستقع مستقبلًا.
وستقوم دراستي على افتراض واحد؛ هو: أني أفترض أن مبرر السلطة الإلزامية هو سد أقصى حد ممكن من احتياجات الأفراد، بيد أنه ليس مما يُرمى إليه تحقيق هذا الهدف، ولا يمكن أن تكون نظرية الغرض أساسًا لفلسفة سياسية وافية، فهي ليست الهدف الذي يُنادَى به، ولكن الهدف الذي يمكن تحقيقه، وعندئذ يمكن أن تكون مقياسًا تقدر به قيمة المؤسسات البشرية.
٢
ولا يسعنا إلا أن نبدأ ببعض التعريفات؛ إذ إننا نعيش مع آخرين في هذا المجتمع الذي تندمج فيه جميع المؤسسات البشرية في وحدة نطلق عليها الدولة. وتقوم بإدارة شئون هذه الدولة هيئة من الأشخاص نطلق عليها اسم «الحكومة»، ولكن ما معنى هذه المصطلحات؟
المجتمع هو: مجموعة من الأفراد يعيشون جنبًا إلى جنب، ويعملون معًا لسد احتياجاتهم. وهذه الاحتياجات الأساسية المفروض إشباعها هي اقتصادية في نوعها، ويجب عليهم أن يكسبوا بعرق جبينهم قبل أن يعيشوا عيشة سعيدة.
ولكن إذا نحَّيْنا الاحتياجات الاقتصادية جانبًا، فستكون هناك فوارق متنوعة، كالاحتياجات الدينية، والثقافية، والداخلية، ويمكن للغريزة الاجتماعية إشباع هذه الاحتياجات. وليس هناك من سبب من الناحية النظرية لعدم تعادل هذه المجموعة مع مجموع الأفراد. وما تتضمَّنه هذه الاحتياجات من وسائل الإنتاج الاقتصادية تجعل من الضروري أن ننظر إلى هذا التعادل على أن له مغزى ينصب على الهيئات الاجتماعية. ولكن لأسباب تاريخية وجغرافية لا نود الخوض فيها؛ فإن المجتمعات التي نحن بصددها هي مجتمعات إنجلترا وفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة وروسيا، حيث توجد مجموعات الأفراد فيها جميعًا، وتختلف كل مجموعة عن غيرها من حيث اللغة والتقاليد، والنواحي السيكلوجية والسياسية. ولقد اخترنا هذه المجتمعات؛ لأنها قد اتخذت طابع الدولة القومية، وذلك بعد فترة طويلة من التاريخ.
وتعتبر الدولة مجتمعًا من هذا النوع، حيث توجد سلطة إلزامية، لها سموُّها من الناحية القانونية على أي فرد أو أية جماعة، وإن أية دراسة لأي مجتمع قومي ستكشف بين ثناياها لا الأفراد فحسب، ولكن الهيئات التي تندمج جميعًا للنهوض بجميع أهدافهم السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية.
ويمكن أن نطلق على هذا المجتمع اسم «الدولة» عندما تحدد السلطة الإلزامية الطريقة التي تتمشى مع الأفراد والهيئات. نرى مثلًا أن الدولة الفرنسية هي مجتمع إقليمي مقسم إلى حكومة ورعايا، سواء أكانوا أفرادًا أم هيئات من هؤلاء الأفراد، وأن الذي يقوم بتحديد هذه العلاقات هو ممارسة هذه السلطة الإلزامية العليا.
ويُطلق على هذه السلطة اسم «السيادة»، والواقع أن الدولة تتميز عن جميع الأشكال الأخرى من المجتمعات الإنسانية بإحرازها للسيادة، فالمديرية أو المحافظة مجتمع إقليمي ينقسم إلى حكومة ورعايا، وهذا هو الحال أيضًا بالنسبة لنقابة العمال أو الكنيسة، ولكن ما من مجتمع من هذه المجتمعات له سلطة إلزامية عُليا؛ لذلك يخضع كل منها — في الأحوال العادية — بعاداته وتقاليده لتلك العادات والتقاليد التي تعترف بشرعيتها السلطة الإلزامية العليا. ولا يمكن انتهاك إرادة الدولة من الناحية الشكلية؛ وإلا لكانت تصبح إرادة عليا، ولنفس هذا السبب أيضًا لا يمكن أن تنقسم الدولة، أو أن تتعرض لأي تدخل، وقد قال «بودان» في هذا الصدد: «إن الدولة ذات سيادة؛ لأنها تصدر الأوامر للجميع، ولا تقبل تلقي الأوامر من أحد؛ لذلك أصبح لأوامرها قوة القانون، وبالتالي تصبح أوامر الدولة ملزمة لكل مَن يخضع لتشريع الدولة.»
وجدير بنا أن ندرك أن إسناد السيادة إلى الدولة لا يُقصَد به إلا مجرد الإشارة إليه فقط، باعتباره عنصرًا شكليًّا لقيام الدولة، فهذا التحليل يُقصد به وصف بناء الدولة، ولا يُقصد به استنباط ما لإسناد السيادة إلى الدولة من قيمة، ولا يُقصد بالإشارة إلى هذا الأمر التعرض لمقدار الحكمة أو العدالة التي تنطوي عليها إرادة الدولة، ويُقصد بإسناد السيادة إلى الدولة أن الدولة تعلو جميع الهيئات الاجتماعية الأخرى؛ وذلك لأنَّ لها الحق في إجبار هذه الهيئات على طاعتها دون أن تُجبَر هي على شيء.
والواقع أنه قد تعوز الدولةَ الحكمة أو العدل فيما تُصدر من أوامر، غير أن ابتعاد الدولة عن الحكمة أو العدل ليس من شأنه أن يُدخل أي تغيير على حقها الشرعي الرسمي في أن تُفرَض الطاعة لأوامرها.
فالدولة إذن، هي: سبيل من سبل تنظيم الحياة الجماعية في مجتمع معين، والواقع أنه يجب ألا ننظر إلى الدولة على أنها المجتمع نفسه؛ لما بين أفراده من المصالح المتشابكة، بل يجب أن ننظر إليها باعتبارها المظهر الذي تتجمع فيه حياة المجتمع بأسره. وطالما كانت سلطة الدولة الإلزامية هي السلطة العليا؛ فلا يُمكن أن تتوقف الدولة — من الناحية النظرية — عن تقييد أيِّ وجه من أوجه النشاط التي تخضع لتشريعها الداخلي. والواقع أن من يقوم ببحث مدى اختصاصات الدولة الحديثة لن يجد ما يُغريه على أن يقلل من قدر سيادتها، فمن اختصاصها: المسائل المتعلقة بالدفاع والمحافظة على الأمن الداخلي، والإشراف على الصناعة، ووضع التشريعات الاجتماعية بما في ذلك اختصاصات واسعة النطاق؛ مثل: التعليم والتأمين ضد المرض والبطالة، وتشجيع البحث العلمي، وإدارة نظام العملة وما ينطوي عليه هذا الاختصاص من الأهمية المتزايدة، والإشراف على تحصيل الضرائب، وتحديد الشروط التي يتم بمقتضاها اجتماع الأفراد، وصيانة نظام المحاكم التي تقوم بتنفيذ مبادئ الدولة القانونية، بصرف النظر عن الشخص أو مجموعة الأشخاص الذين تُطبَّق عليهم هذه المبادئ القانونية. ومن الواضح أن مجرد إلقاء نظرة عاجلة على اختصاصات الدولة البارزة سيمكننا من أن نتعرف على مدى تدخل الدولة في حياة الأفراد، فالمواطن الحديث — في كل حركة يبديها — يتعرض لاختصاصات الدولة.
ولكن يجب علينا أن نتبين كيف يمكن للمواطن كفرد أن يقف أمام الدولة؛ فالهيئات جميعًا لا بد وأن تعمل عن طريق الأشخاص، ولا يمكن للسلطة التي تمارسها الهيئات أن تكون نافذة إذا لم تصدر عن هذا الطريق؛ لذلك فإن الدولة تحتاج إلى مجموعة من الأشخاص الذين يقومون — نيابة عنها — بتوجيه السلطة الإلزامية العليا التي تتخلى عنها الدولة لهم، ونطلق على هذه المجموعة من الأشخاص «حكومة الدولة». والواقع أن التمييز بين الدولة والحكومة من المبادئ الأساسية في علم السياسة، فالحكومة إن هي إلا وكيل عن الدولة؛ إذ إنها تقوم بتنفيذ أغراضها، وهي ليست في حد ذاتها السلطة الإلزامية العليا، ولكنها تعتبر ببساطةٍ الجهازَ الإداري الذي يقوم بتنفيذ أغراض الدولة، ويقال عنها إنها ليست صاحبة السيادة إذا كان يقصد بذلك السيادة التي تنعم بها الدولة، إذ إن قدرتها تتوقف على مقدار السلطة التي ترى الدولة تخويلها لها (أي للحكومة). وعلى ذلك إذا تخطت الحكومة حدود السلطة الممنوحة لها فإنها قد تُحاسب على ذلك، والواقع أن فكرة تحميل الحكومة مسئولية القيام بأعمال تخرج عن نطاق سلطتها هي الفكرة الرئيسية عند كل دولة يحل فيها الحكم الشرعي محل الحكم الاستبدادي كأساس للأعمال السياسية التي تقوم بها الدولة، فقد كان في إمكان لويس الرابع عشر أن يطابق أغراضه الخاصة بإرادة الدولة، وقد كان هناك ما يبرر له ذلك، ولكن حتى الحاكم القوي مثل رئيس جمهورية الولايات المتحدة لا بد له من أن يتوصل إلى السلطة التي تمكنه من ممارسة إرادته إما بناء على نص في الدستور، أو بناء على تشريع يصدره الكونجرس الأمريكي. بل إن هناك بلادًا — مثل الولايات المتحدة — تحرم فيها الدولة صراحة على الحكومة، بالاستناد إلى الدستور الذي يجب على الحكومة أن تعمل بمقتضاه، أن تمارس سلطات معينة أو انتهاج طرق معينة أثناء ممارستها لسلطات أخرى ممنوحة لها.
ويقال إن الغرض من التمييز بين الدولة والحكومة هو تأكيد حدود سلطة الحكومة ومراعاتها التامة للهدف الذي تعيش من أجله الدولة، والواقع أن هذا الهدف كيفما أمكن تحديده هو خلق الظروف التي يمكن أن يصل فيها أفراد الدولة إلى الحد الأقصى لإشباع رغباتهم. والواقع أن وسائل الحد من سلطة الحكومة مثل الدساتير المكتوبة وقوانين حقوق الأفراد، ومبدأ الفصل بين السلطات وغيرها من الوسائل، ما هي إلا أساليب أوحت بها الخبرة لمنع سوء استخدام الحكومة للسلطة التي تمنحها لها الدولة؛ وذلك لأن كل حكومة تتألف من أشخاص ليسوا معصومين من الخطأ، إذ إنهم قد يتعمدون استغلال سلطتهم في سبيل تحقيق أغراضهم الخاصة، هذا كما أنهم قد يفهمون خطأ المصلحة الخاصة لقليل من الأفراد على أنها في صالح رفاهية المجتمع بأسره، على الرغم من حسن نواياهم، فقد يكون السبب أيضًا هو جهل أعضاء الحكومة بدقائق الموقف الذي يواجهونه، أو عدم كفاءتهم لبحث الموقف، وقد حدثت مثل هذه الظروف في كل مجتمع سياسي في فترة من فترات التاريخ. وإن قيمة الفارق بين الدولة والحكومة هو الإمكانية التي تقدمها لإيجاد النظم المنصوص عليها للهيئات الاجتماعية لتغيير وكلاء الدولة (أي الحكومة) عندما لا تستطيع الأخيرة القيام بحمل تلك المسئوليات.
ولكن يجب القول بأن هذا الفارق بين الدولة والحكومة له مغزاه من الناحية النظرية، وليس من الناحية العملية؛ إذ إن كل عمل تقوم به الدولة هو في الحقيقة عمل حكومي، وتكمن إرادة الدولة في قوانينها، ولكن الحكومة هي التي تقوم بتنفيذ ذلك، فنحن نقول: إن الدولة البريطانية قد دخلت الحرب مع ألمانيا في ٤ أغسطس عام ١٩١٤م، ولكن الحكومة هي التي أتاحت الفرصة للسيادة البريطانية في أن تؤدي عملها في ذلك الوقت. ويمكن القول بأن الدولة البريطانية قد استعادت عصرها الذهبي عام ١٩٢٥م، ولكنها افتقدته عام ١٩٣١م، بيد أنه في كلتا الحالتين كانت الحكومة هي الأداة التي اتخذت هذا القرار.
ويمكن القول بأن الدولة الروسية قد اتخذت صبغتها الشيوعية في نوفمبر عام ١٩١٧م، ونقصد بذلك أن بعض الأفراد الذين يشكلون الحكومة هم الذين استخدموا سيادة الدولة الروسية لتحقيق الأهداف الشيوعية. والدولة بذاتها في الواقع الملموس لا تأتي بتصرف قط، إنما الذين يقومون بذلك هم هؤلاء القادرون على تحديد سياستها.
ولكن يجب أن نعرف ما هي النواحي التي تُولد فيهم هذه القدرة، وتستمد هذه القدرة من القانون، غير أننا إذا نظرنا إلى القانون نجد أنه مجموعة من الألفاظ وُضعت ليقوم الأفراد بتنفيذها، وأن الموافقة التي يبديها هؤلاء المحكومون هي التي تخلق القدرة والسلطة لإلزامهم بإطاعة إرادة الحاكمين.
وما من شك في حقيقة هذه النظرية التي أكدها هيوم عندما أصر على القول بأن جميع الحكومات مهما بلغت من عدم الصلاحية تعتمد على الرأي العام لتستمد منه السلطة، ولكن لا يجب أن ينظر إلى هذا الرأي على أنه الحقيقة بأكملها لا لسبب إلا لوجود بعض الأماكن والأوقات، حيث تحكم الدولة الأفراد بمقتضى السياسات التي لا يبدون موافقتهم عليها. ولا يكاد الإنسان يُصدق العبارة الصحيحة على أن الدولة القيصرية قبل عام ١٩١٧م أو دولة النمسا الفاشستية، ولا ينظر إلى أي منهما على أنها قامت على موافقة المواطنين؛ لأنه في كلتا الحالتين نجد أن هناك بعض الأفراد يسعون إلى تغيير سياسات الدولة عن طريق الثورة ضد الحكومة.
ولذلك ترسي الدولة دعائمها على قدرة الحكومة على ممارستها السلطة الإلزامية العليا بمهارة. والحق يقال: إنه عندما تتلاقى وجهات نظر أعضاء الدولة حول الأهداف التي تتجسم في سياستها تترسب الناحية الإلزامية وتتوارى.
والحقيقة أنه في أية دولة دستورية تتيح الدولة فرصة عادلة للذين ينتقدون الحكومة (المعارضين) للوصول إلى السلطة بعد انتهاء الفترة المحددة، وهنا نجد أنه لا سيطرة للناحية الإلزامية كذلك.
ولكن عندما تمر فترة عصيبة في تاريخ دولة من الدول، تبزغ هذه الحقيقة التي تنادي بأن السلطة تقوم على القوة لقمع معارضي الحكومة، ولتفتيت إرادتهم وإجبارهم على الخضوع والإذعان. تبزغ هذه الحقيقة كعامل رئيسي في طبيعتها، وأن الدولة التي تصادف أهدافها مقاومة يجب عليها أن تتحدى هذه المقاومة، أو تقوم بتغيير أهدافها، وإذا أرادت التمسك بها فيجب استخدام القوة.
وبذلك وجب أن يوجد تحت تصرفها وسائل إلزامية منفصلة عن الجمهور تعتمد عليها لتنفيذ سلطتها؛ فإن أساس سيادة الدولة ما هو إلا السلطة المطلقة لاستخدام القوات المسلحة للدولة لفرض الطاعة لإرادتها.
ويترتب على مقاومة القانون الإخلال بالنظام، وتقوم كل حكومة باستخدام القوات المسلحة للدولة إذا أخل بالنظام، وعندما لا تستطيع استخدام هذه القوات لسبب ما، يجب عليها أن تجري بعض التغييرات في القانون أو تعتزل الحكم.
فعندما تتصارع دولة مع أخرى نجد أنها تفرض إرادتها على منافستها باعتبار ذلك وظيفة للقوة التي تحت تصرفها.
وفي كل مجتمع سواء أكان مجتمعًا قوميًّا أم دوليًّا نجد صراعًا يحتدم أُواره في الجهر أو في الخفاء. أما القوات المسلحة للدولة فهي تقف بالمرصاد حتى تقوم بحماية سيادتها من أي هجوم منتظر. ولذلك فإن هؤلاء الذين يتحكمون في استخدام القوات المسلحة للدولة هم في الحقيقة أصحاب هذه السيادة.
ومن هذه الزاوية يمكن القول بأن الدولة ينظر إليها من الناحية القانونية على أنها وسيلة لتنظيم سلطة الإلزام العامة حتى تسود إرادة الحكومة جميع الإرادات في الظروف العادية، وهي سلطة خارجة عن سلطة الشعب، وهي لا تؤدي عملها طالما لا يقاوم أحد إرادة الحكومة. ولكن عندما تتعرض إرادة الحكومة نجدها تقوم بأداء عملها خير قيام. وإن حيازة هذا الحق القانوني الذي يقضي بالالتجاء إلى الإلزام هو الذي يميز حكومة الدولة عن أية جماعة من الجماعات، ولا يمكن أبدًا أن تكون سلطة أية نقابة أو كنيسة على أعضائها ذات قوة إلزامية، غير أن سلطة النقابة أو الكنيسة يمكن أن تكون ملزمة لو قررت الدولة تأييد هذه السلطة.
والواقع أن الموافقة على هذا معناه إدراك أن سلطة القوات المسلحة الإلزامية التي يُعتمد عليها الحكام بمقتضى القانون، هذه السلطة تقف وراء كل قرار تتخذه الدولة.
وثمة حقيقتان على جانب كبير من الأهمية في تاريخ إنجلترا يجدر ذكرهما باعتبارهما تأييدًا لهذا الافتراض؛ إذ إن شعور البريطانيين بالحقد على جيشهم العامل الذي ظل سائدًا حتى القرن الثامن عشر قد نشأ عن إدراك هؤلاء المواطنين بأن هذا الجيش لا يقوم في الحقيقة إلا بخدمة أولئك السادة الذين كانوا يتحكمون في أرواح وحريات المواطنين. لذلك كان تحديد سريان قانون التمرد بمدة عام واحد إعرابًا من الشعب عن خوفه من أن يجد الحاكم المستقل ما يغريه على اغتصاب اختصاصات الهيئة التشريعية. وكان سبب هذا الخوف هو التجربة القاسية التي عاناها الشعب الإنجليزي من سوء حكم استيوارت، غير أنه لا شك في أن ظهور النظام الديمقراطي الدستوري قد غير سطحيًّا الموقفَ الطبيعي الذي نتخذه إزاء هذه المشاكل. غير أن الحقيقة هي أن الحكومة التي تستطيع التحكم في القوات المسلحة التابعة للملك يمكنها في خلال هذه الفترة أن تجعل سلطتها فعالة، وهذا هو السبب الذي من أجله بذل حزب المحافظين خلال أزمة الأسرة المالكة التي نشبت بين عام ١٩١٣، ١٩١٤م كل جهوده لإضعاف ولاء ضباط الجيش للحكومة التي كان حزب الأحرار يتولَّاها في ذلك الوقت. ولما كانت النزعة الواقعية هي التي تسيطر على كبار رجال الحكومة؛ فإنهم أدركوا على الفور أنه لا يمكن للحكومة أن تتولى زمام الأمور لو عجزت عن الاعتماد على الجيش عند نشوب أزمة من الأزمات؛ لأن فقدان الحكومة للجيش فيه ضياع للسلطة الحكومية الإلزامية التي تفرضها على المعارضة. وهذا السبب أيضًا هو الذي اضطر هتلر في يونيو ١٩٣٤م إلى شراء تأييد «الرايخسفير» طبقًا للشروط التي فرَضَها عليه؛ إذ لولا قدرته على السيطرة على الجيش ما أصبح لسيادته أي معنى.
وعلى ذلك يمكننا أن نقول: إنه لا يمكن أن يُكتب النجاح لأية ثورة في العصر الحديث لو لم يكن ولاء القوات المسلحة أمرًا ثابتًا لا شك فيه؛ لأن القوات المسلحة هي جوهر سيادة الدولة.
والواقع أنه ليس لهذا القول أية علاقة بالرأي الذي سأتناوله بالبحث تفصيليًّا فيما بعد، وهو القائل بأن مصلحة الدولة فوق جميع مصالح الأفراد في المجتمع، وأنها تستخدم سلطتها الإجبارية نيابة عن المصالح الدائمة التي يعيش من أجلها الأفراد مجتمعين. هذا كما أن هذا القول لا يتصل أيضًا بالرأي الذي تؤمن به مدرسة هيجل، والقائل بأن الدولة على الرغم من كل شيء «هي تحقيق لفكرة الفضيلة الأخلاقية».
إن بحثي حتى الآن لم يتعرض للأغراض التي تعلن الدولة أنها تعمل على تحقيقها، ولكنه يتناول الحقيقة التالية، وهي أن الدولة — مهما كانت أغراضها وأهدافها — هي قوة منظمة تستند إلى حقها الشرعي في إلزام الأفراد بتنفيذ إرادتها، وأن القوات المسلحة التابعة للدولة هي الأداة التي تستعين بها الدولة لتنفيذ إرادتها.
والواقع أن بحثي هذا لا ينطوي على أية مبادئ أخلاقية، فهو وصف محايد لحقيقة تستفيد منها أية دولة من الدول التي نشاهدها اليوم. ولكن يجب عليَّ أن أعرب عن موافقتي على أن امتلاك الدولة لهذه السلطة هو شرط لبقائها، كما أنه ضمان لتنفيذ القانون واستتباب الأمن من ناحية أخرى. ويتضح لنا من تاريخ فترة الإقطاع أن أي مجتمع لا تسيطر فيه الحكومة على القوات المسلحة وتكون السلطة الإجبارية فيه غير موحدة؛ فلا يمكن أن تنجح الدولة تمامًا في المحافظة على الأمن في الداخل. ويمكننا أن نبرهن على ما يمكن أن يحدث في أي مجتمع من المجتمعات إذا لم تكن السلطة الملزمة ثابتة موحدة برجوعنا إلى بعض الأحداث التاريخية السابقة مثل الفوضى التي سادت في عهد ستيفن و«حرب الوردتين»، والمأساة التي حدثت نتيجة للمنافسات الدينية في فرنسا، وما قام به كثير من المغامرين الذين استغلوا سقوط دولة روسيا في عام ١٩١٧م ليقوموا بصراع مسلح من أجل رد السيادة للدولة.
ولا يُفهم من كلامي هذا أن الشعور بالخوف هو الذي يدفع للخضوع للدولة، فلا جدال طبعًا في أن الخوف حافز للخضوع لها، ولكن عند شرح العوامل المختلفة التي تدفع إلى الخضوع لا يمكن أن يكون الخوف عاملًا فعَّالًا، فالذين يخضعون لإشارة المرور التي يصدرها رجل البوليس الذي تتمثل فيه قوة القانون يفعلون ذلك اعترافًا من جانبهم عن رضًا بقيمة التوجيهات التي يصدرها لهم الشرطي، وخوفًا من العقاب الذي قد يتعرضون له في حالة مخالفتهم لهذه التوجيهات. فالناس مثلًا لا يخضعون لقانون التعليم الإجباري؛ خوفًا من دفع الغرامة أو من تعرضهم للجيش في حالة إهمالهم الواجب القانوني؛ لذلك قد يكون من المشكوك فيه اعتبار خوف الناس من العقاب سببًا لخضوعهم للقانون إلا في بعض الأزمات العاطفية.
ولعله من الجدير بنا الآن أن نقول كلمة عن العلاقة القائمة بين الدولة والقانون، ولا يمكن أن يختلف القانون عن إرادة الدولة؛ لأنه بمجرد أن تخلع على القانون صفة السيادة؛ لا بد وأن يتخذ القانون شكلًا معينًا وهو الشكل الذي تكون الدولة على استعداد لتنفيذه، ولا يمكن أن تكون الدولة على استعداد لقبول أي قانون ما لم يتمشَّ مع إرادتها. ربما كان الأمر مفتقرًا إلى الحكمة ويشيع فيه الخطأ، ولكنه قانون لأن الدولة هي التي تضعه وتقوم بتنفيذه. والواقع أن المصدر الذي نشأ عنه القانون هو الذي يُكسبه صفة الإلزام، ولولا ذلك لما كانت الدولة هيئة ذات سيادة، ولو ادعت أية إرادة أنها تضمن قدرًا من الطاعة مماثلًا لذلك القدر الذي تنعم به الدولة؛ لأصبحت هذه الإرادة ذات سيادة مثل الدولة تمامًا. وفي مثل هذا المجتمع إما أن تزول السيادة تمامًا، وفي هذه الحال لن يكون للدولة كيان، وإما تنسب السيادة إلى تلك الهيئة — إن كانت هناك أية هيئة — التي لها الحق في الفصل في المنازعات التي تنشب حول مسألة تضارب السيادات، ولكن مثل هذه الهيئة لا بد وأن تصبح دولة؛ لما لها من حق الفصل في المنازعات؛ لأنه في هذه الحال سينطبق عليها تعريفنا للدولة؛ لأنها هيئة لا تفرض عليها أية سلطة ملزمة عليا، وهذه هي — على الأقل — نظرة المشرِّع الكلاسيكي لمشكلة القانون. ويجب علينا ألا نحمِّل هذه النظرة معنى أكبر من المعنى التي توحي به، فهي نظرة مجردة تقوم لأغراض معينة واضحة بفصل القانون عن العدل، وتجعل من القانون الحد النهائي لمجموعة الإرادات التي لا يمكن التعدي عليها. والواقع أن المشرع في هذه الحال يسير في تحليله من الوجهة الرسمية البحثة، فهو يستثني من نطاق بحثه جميعَ الاعتبارات المتعلقة بما هو صحيح من الناحية الأخلاقية وما هو ضروري من الناحية الاجتماعية، ويقصر عبارة القانون على كل ما يصدر من إرادة منبثقة عن مصدر هذه السيادة. وهو — باعتباره مشرعًا — يرى أن المشكلة الوحيدة تتلخص فيما إذا كان صاحب السيادة قد وافق على هذا التصرف الذي لا يُعتبر تصرفًا شرعيًّا أو أنه لم يوافق عليه. ولذلك يرى ميتلاند أن أية مشكلة أخرى عدا ذلك لا تعتبر مشكلة تشريعية، فهي خارجة عن نطاق عمل المشرِّع.
ورب قائل يقول: إن العقل البشري أصبح يمقت الآن التشريع المجرد الذي يتمسك بأهداب الشكلية؛ لأن هذا اللون من التشريع يذكرنا بالجهود التي كانت تُبذل في العصور الوسطى للمطابقة بين القانون وبين الإرادة الإلهية، ويذكرنا بنظرة الرواقيين إلى القانون باعتباره صوت العقل الكامل، وبعبارة أولبيان الشهيرة التي تجعل من القانون العام الذي يختص بالفصل بين ما هو صحيح وما هو خطأ في السلوك الإنساني. ويرفض العقل أيضًا الفكرة التي تذهب إلى أن السلطة ذات السيادة تقف من وراء القانون؛ وذلك لأنه في هذه الحالة يجب النظر إلى كل قانون مهما بلغت حماقته، ومهما خالف المنطق، ومهما كان يستحق الاحتكار على أنه قانون حقيقي، وأن أحدًا ليس له الحق في الجأر بالشكوى من الظلم الذي ينطوي عليه هذا القانون. وهذا ما قاله المشرع الجيزتوي كاترين، ويسود الشعور الآن بأن القانون لا بد لكي يصبح قانونًا من أن يتفق مع شيء أكثر قوة من إرادة إحدى السلطات التي لا تقيم مطالبتها (بمراعاة الأفراد والهيئات الأخرى لها) على السلطة الملزمة التي تحت تصرفها.
وهناك ردَّان على هذا الرأي، فأي نقد في نظرية القانون البحتة يعتبر محاولة لتغيير فروضها القانونية بسبب الكراهية التي ترجع إلى النتائج التي تؤدي إليها هذه الفروض. وطبيعي أن ذلك إجراء منهجي غير كافٍ، وربما يفضل أي فرد أن يعدل عن اتباع نظرية إقليدس، بيد أن هذا التفضيل لا يدخل أي تغيير على أن إقليدس نظام قائم. ونجد أن وجهات نظر كاترين مثلًا تكون نظرية عن حقيقة الدولة بقدر ما هي تعريف للأهداف التي تسعى الدولة إلى تحقيقها. فهي تعتبر مقياسًا لتقدير ما تقوم به الدولة من أعمال، وما من شكٍّ في أننا نجد وراءها تاريخ فكرة القانون الطبيعي والبحث عن إمكانيات العدالة الشاملة، والوصول إلى هذا الهدف هو مقياس ما تقوم به من عمل مُرضٍ، بيد أنها تثير بعض المسائل التي ليست من اختصاص أحد من المحلفين؛ وذلك من الناحية الشكلية المحضة، وأن أي مجهود يُبذل لترجمة القانون في حيز العدالة يخرجه من نطاق نظرية القانون البحتة، ويدخله في ميدان الفلسفة السياسية؛ ولذلك وجب عليه أن ينظر في مسائل القيمة، ولكن الإجابة على ذلك لا يمكن معرفتها من الناحية الشكلية للقانون.
لذلك؛ وبناء على هذه النظرية نجد أن فلسفة الدولة لا تتمشى مع المشاكل التي يهتم بها المحلفون ويُولونها اهتمامهم، بيد أنها تستمد من هذا الميدان، مجموعة من الحقائق يجب عليها أن تستمر لتقويم الفروض القانونية المستمدة من علم الأخلاق لا من القانون، وهناك نجد المستوى الذي نقيس به كل العلاقات الاجتماعية. وطبيعي أن قواعد علم الأخلاق يجب أن تقوم على الخبرة التي نعرفها، أما عن أفكار الحياة الصالحة ومقاييس القيمة فيجب أن يحصل عليها الأفراد عن الطريق الاجتماعي. هؤلاء الأفراد الذين يعيشون في العالم الذي نعرفه، ولا تكاد أسس القيمة التي تؤدي عملها في اليوتوبيا (المدنية الفاضلة)؛ إلا أن تعالج معالجة جدية في عالم اليوم، ولكن لن نستفيد كثيرًا من أن مطابقة إرادتنا مع إرادة الله هي أساس العمل الصحيح في ميدان السياسة، ومعنى ذلك أنه يجب استبعاد مسألة هذا الإله الذي يجب أن تُرد إليه المسائل المتصلة بالقدم للإدارة المعترف له بها.
ولقد انهار الكومنولث المسيحي في العصور الوسطى؛ لأن تطبيق قواعد القيمة أثار عدة تفسيرات مختلفة في حدود ما إذا كان الأفراد على استعداد لقتل بعضهم البعض.
إنني أرى أنه يجب على الدولة أن تهدف إلى تحقيق رغبات مواطنيها على قدر مستطاعها وبأقصى ما يمكنها. واستنادًا إلى هذا الهدف يمكننا أن نستنبط الرغبات المتباينة التي نتبينها في المجتمعات التي نعلم عنها الشيء الكثير. ويمكننا أيضًا أن نتوصل إلى أن سبب عدم تحقيق بعض الرغبات هو أن الدولة تصل إلى غايتها بالنتائج التي يمكن أن تحققها. فلا شك في أن أثينا القديمة مثلًا — كانت غاصَّةً بالعبيد الذين كانوا يؤمنون بأن وضعهم الاجتماعي لا يتفق مع مبادئ العدالة، ولكن يجب أن نفهم في نفس الوقت، بناء على ما بلغنا من المعلومات، أن دولة أثينا القديمة كانت ترى أن اعتمادها على العبيد كأساس لحضارتها هو أفضل سبيل يؤدي إلى الهدف الذي كانت تسعى إليه؛ لذلك أرسلت الدولة اللأثينية أسس سلطتها الإجبارية على قواعد نظام العبيد. وينطبق هذا الكلام أيضًا على ألمانيا في عهد هتلر؛ إذ حرمت الحكومة اليهود من حقوق المواطنة مستندة إلى أنه لا يمكن أن تحقق الدولة أهدافها دون اتخاذ هذا الإجراء. والواقع أن الذين يمارسون سيادة الدولة يقيسون أغراض الدولة دائمًا بمعيار الخير الذين يقبلون على الذود عنه، ولا بد أن يكون دفاعهم عن هذا المعيار قائمًا على أساس المنطق والعقل. فلو قام دفاعهم على الوحي والإلهام أو على القوة لما أصبح له أي معنى في نظر أولئك الذين ينبذون فكرة الوحي والإلهام، ولا نكره أولئك الذين يؤمنون بأن القوة لا يمكن أن تؤدي وحدها إلى الحكم الصحيح.
ولو كان هذا صحيحًا يمكننا طبعًا أن نتوصل إلى أن يجب على الدولة أن تهدف إلى إرضاء رغبات جميع المواطنين على قدم المساواة؛ إلا إذا كان في إمكان الدولة أن تدلل بالحجة والبرهان على أن الخير بالنسبة للبعض هو في عدم معاملتهم معاملة متساوية. وعلى هذا الأساس أقام أرسطو حجته حينما دافع عن نظام العبيد عند الإغريق.
لأنه عمل يثبت أن بعض الناس عبيد بطبيعتهم؛ لأنه يدلل على أن نظام العبيد هو أفضل وسيلة تمكن العبيد من تحقيق رغباتهم في الحياة إلى أقصى حد ممكن. ويمكننا أن نعمم هذا الرأي فنقول: إنه يجب أن تسود المساواة في تحقيق رغبات الأفراد، وأن الاستثناء من قاعدة المساواة لا يمكن تبريره إلا بالدليل والمنطق على أنه عنصر ضروري من عناصر المساواة التي تهدف إليها الدولة.
وإذا لم تعمل الدولة على تبرير استثنائها فسيبدو التحيز ظاهرًا في أعمالها، كما أنها لو لم تفعل ذلك لاتضح أن الدولة لا تهدف إلى تحقيق رغبات جميع المواطنين إلى أقصى حد، وإنها تهدف لإرضاء رغبات أولئك الذين تمارس الدولة سلطتها بما هو في صالحهم. ولا بد أن يدلل أولئك الذين يمارسون إرادة الدولة والذين بأيديهم السلطة الإجبارية العليا باسم الدولة على أن إرضاء رغبات بعض المواطنين أكثر من غيرهم من شأنه تحقيق رغبات أكثر لباقي المواطنين. فحماية الدولة لنظام الملكية الفردية لوسائل الإنتاج القائم يجب أن تسفر عن تحقيق قدرٍ من رغبات الأشخاص الذين يؤثر فيهم هذا الإجراء أكثر من الرغبات التي يمكن أن تتحقق في ظل النظام البديل، مثل النظام الاشتراكي الذي تصبح فيه وسائل الإنتاج ملكًا للدولة. وإذا أمكن حدوث ذلك لأمكن تبرير التفرقة في المعاملة من حيث تحقيق رغبات الأفراد.
ويجدر بنا في هذا المجال أن نلاحظ أنه يجب على الدولة — عند تفرقتها في المعاملة — أن تقنع من شملهم الاستثناء بمزايا هذا الإجراء، فلا يمكن الاكتفاء بآراء أصحاب العبيد بما لهذا النظام من مزايا في دفاعهم عنه، ولا يكفي للدفاع عن نظام الملكية الفردية لوسائل الإنتاج أن نستند إلى اعتقاد مالكي وسائل الإنتاج في أن هذا النظام يحقق أكبر فائدة للذين لا يملكون وسائل الإنتاج، فرأي هتلر فيما يتعلق بالمكان الذي يجب أن يقيم فيه اليهود في ألمانيا لا يرضى عنه اليهود، بل لعله من الصواب أيضًا أن نقول: إن المحامين والأطباء والمدرسين — في ترحيبهم بموقف هتلر — قد يكونون صادقين في حكمهم على سياسة هتلر. ولا نزاع في أنه لم تثبُت قط صحة مبدأ عدم المساواة؛ وذلك لأن مؤيدي هذا المبدأ هم الأشخاص الذين ينتفعون من ورائه؛ لذلك يجب أن ندخل في اعتبارنا أن أحكامنا في جميع الأمور المتصلة بتكوين المجتمع مبنية على اعتبارات شخصية؛ لأننا قبل إصدار هذه الأحكام نتأثر بما نعتقد أنه سينشأ عنها. ويجب أن ندخل في اعتبارنا هذه الحقيقة إذا أردنا أن تكون أحكامنا موضوعية.
ولقد صاغ هويهاوس هذه النظرية صياغة جيدة حين قال: «إنه إغراء ظاهر للتغلب على موضوع الصواب والخطأ عن طريق تنبؤات يمكن الثقة بها، وهي في الحقيقة تعتمد على ما تتكهن به الآراء أكثر من اعتمادها على السبب والمسبب.»
إن التاريخ قد كتب بفُتات من التنبؤات التي رآها الأفراد الذين ضللتهم الاستنتاجات التي استخلصوها من خبرتهم الشخصية في سبيل تقدم الحضارة وازدهارها. ولقد ذكر ماكولي لمجلس العموم أن حق التصويت العام (الانتخاب) سيزعزع دعائم المجتمع، وأصر ناسو الكبير على القول بأن القيود القانونية لساعات العمل لا تتعارض مع رخاء الصناعة البريطانية، وإننا جميعًا أسرى التجارب التي نمر بها، فهي تجبرنا دون وعي على مطابقة ما نتكهن به مع الحقيقة التي لا مفر منها، وأن نصف مآسي التغيير الاجتماعي تنبثق من عدم قدرتنا على إقناع أنفسنا بأننا ربما كنا على خطأ.
وقصارى القول أن من العسير تتبع النظرية العلمية في «السبب والمسبب» في الشئون الإنسانية، كما نتبعها مثلًا في النواحي المادية؛ لأننا عندما نحكم على الشئون الإنسانية ينبغي أن ندخل في الاعتبار العواطف والأهواء. وإننا لا نستطيع أن نحرر أنفسنا منها، فهي تؤثر في اختيارنا للفروض القانونية التي تعتمد عليها استنتاجاتنا، حتى عندما نعتقد أننا كنا نحللها تحليلًا موضوعيًّا، فالحقائق تلونها البيئة التي تعتبر جزءًا منها؛ ولذلك فإن الموضوعية التي نجدها في الطبيعة أو الكيميا لا نجدها مثلًا في هذا العالم. وربما نسعى جميعًا بكل ما أوتينا من قوة للتمسك بالفارق بين الحقائق والأهداف التي نوافق عليها، بيد أن الصورة هنا ليست كاملة، ولكن تتفاوت درجة التحيز أو التحامل، بالرغم من وجودها دائمًا، وتظهر بوضوح؛ لأن هذا العالم ما هو إلا نسيج واحد متصل غير منفصل، وحيث إننا لا نستطيع مطلقًا أن نعزل (كما هي الحال في ميدان الطبيعة) العوامل بمثل هذه الطريقة التي يمكن بها أن نجعل بين السبب والمسبب علاقة مطلقة أو علاقة بحتة. وربما لا يجد المرء أنه من الضروري النظر في الأهداف التي من أجلها تطالب الدولة مواطنيها بطاعتها.
وربما أصر رجل الاقتصاد على أن مشاكل الرخاء بعيدة عن ميدان عمله، فهم يهتم بإيجاد أحسن السبل لرفع الإنتاج، فعندما يتخذ من مبادئ النظام القانوني والاستقرار السياسي والعوامل النفسية عند الأفراد المقادير المعلومة لمعادلاته، والتي يقوم بواسطتها بوضع هندسة ذهنية مهما كانت قيمتها كتنظيم للفكر؛ نجد أن ذلك غريبٌ عن العالم الحقيقي الذي يعيش فيه؛ إذ إنه بالرغم من أن الرجل السياسي يهتم بالإنتاج إلى أقصى درجة فإن الإمكانيات التي تقترن بصنع الأشياء والطريقة التي توزع بها، وهما عنصران من عناصر الرخاء، لا ينفصلان عن مسألة هذا الإنتاج. فليس عالمه بالعالم الجامد حيث تتحدد بعض المقادير تحديدًا دائمًا. ولكننا نجد أن الأفكار والأحكام تعتبر في عالم الإنتاج ناحية لها فاعليتها؛ ولذلك وجب أن تتمشى سياسته مع هذه الأفكار وهذه الأحكام كحقائق ليست بأقل شأنًا من نسبة الإنتاج إذا كُتب له النجاح في عمل هذا التحديد.
ويجدر بنا أن نورد هنا مثالًا يوضح هذا التأكيد، ففي كتاب للبروفسور روبنز ناقش فيه أسباب الركود الذي حدث سنة ١٩٢٩م وما بعدها، والوسائل التي تنقذنا من هذه النتائج الوخيمة. وذكر أن هذا الإنقاذ يتوقف على قدرتنا على توطيد معالم الاستقرار السياسي واستعدادنا للتخلي عن سياسات التدخل والمعونة وما شابه ذلك؛ إذ إنها تعرقل السير الطبيعي للنظام الرأسمالي، وأن ما يستخلص من هذه الدراسة أكثر استلفاتًا للأنظار من العلاج الذي قدمه؛ لأن الاستقرار السياسي، ولو أنه ينشأ إلى حد ما عن أسباب غير اقتصادية؛ إلا أنه لا يمكن الفصل بينه وبين هذه النواحي. والحقيقة هي أن معنى أنك تبغي الاستقرار السياسي، وأنك تريد تحقيق الانتعاش الاقتصادي، ويُعزى كل وضع سياسي إلى الوضع الاقتصادي، وأن نمو الفاشستية وترعرع الشيوعية والفشل الذي مُني به نزع السلاح، وتهديد اليابان في الباسفيك، كل ذلك يرجع إلى الناحية الاقتصادية. وإذا سلمنا بأن القضاء على مثل هذا يعتبر شرطًا للانتعاش معناه أننا ندور في حلقة مفرغة.
ولكن ماذا نقصد بالسير «الطبيعي» للرأسمالية؟ من الواضح أن البروفسور روبنز قد وضَعَ في ذهنه ما أسماه مستر ليمان بطابع الرأسمالية الجامد الذي لا يمتُّ بأية صلة للنظام الموجود، ولكنه وليد نظرية تجريدية حيث نجد مضامينها خاليةً من الواقعية؛ لأن سياسات التدخل لم تكن وليدة رغبة قوية عند رجال السياسة المسئولين في القضاء على النظام الرأسمالي، ولكنها وليدة أهواء وضغوط كافية في النظام ذاته. أما الالتجاء إلى التدخل سواء أكان ذلك أمرًا خاطئًا أم صحيحًا فهو نتيجة محاولات الضغط التي قام بها الرأسماليون الذين يعتبرون في وضع يتيح لهم الأمان من الأعمال التي تقوم بها الدولة إزاءهم، فرغبتهم في الربح وليدة تلك الحاجة كما أن الربح يعتبر الدافع الأساسي للنظام الرأسمالي. ولكن لكي يجعل من المتعذر على رجل السياسة أن يخضع لضغط المصالح التي ترمي إلى التدخل، نجد أنه من واجب البروفسور روبنز تغيير رباط العلاقات في الدولة الحديثة التي بها نجد لهذا الضغط أثره وفاعليته، ولكنه إذ يفترض وجود هذا الرباط كفرض قانوني في دراسته؛ فإنه في الواقع يجرد نفسه من العوامل الأساسية للقضاء على الأخطاء التي يشكو منها.
ولم تكن تلك هي العقبة الوحيدة التي تورط فيها البروفسور روبنز من جراء فروضه القانونية.
والواقع أنه يحاول أن يدفع الجميع إلى الرجوع إلى «نظام الحرية الطبيعي» الذي دافع عنه آدم سميث بقوة. ويقضي هذا النظام بأن تكون وظيفة الدولة الأساسية هي البعد ما أمكن عن التدخل في الصراع الاقتصادي الدائر. ومن البطولة أن تقوم بالوعظ للرجوع إلى نواحي الدولة السلبية، وبذلك تتخلى على هذا الأساس عن مناقشة النواحي العملية، بيد أن الافتراضات التي تقوم عليها هذه النظرية أهم من مسألة ما إذا كانت هذه الافتراضات تنطوي على أية سياسة عملية. وأول هذه الافتراضات هو أن المناقشة الحرة بين المصالح الخاصة التي لا تفرض عليها أية قيود ستولد مجتمعًا منظمًا دقيقًا. وثاني هذه الافتراضات أن هذه المنافسة، وهي ميزة ظاهرة في هذه الحياة من الناحية النظرية، هي التي تبدأ عن هذا الطريق وستستمر كذلك. فالافتراض لا يتمشى مع الخبرة التي تمر بها؛ إذ إننا من الناحية التاريخية نجد أن نمو التدخل الناشئ عن الدولة قد نجم عن الحقيقة التي تتمثل في أن الثمن الاجتماعي الذي تتقاضاه هذه المنافسة المتحررة من أي قيد لا يُطيقه أحد إذا لم يشترك في هذا الثمن. ومن الناحية التاريخية أيضًا نجد أن ما يتمخض عن المنافسة الغير المنظمة هو السير قدمًا إن آجلًا أو عاجلًا نحو الاحتكار، ولا توحي الدلائل التي لدينا بأن الدولة قد دفعت الصناع إلى تكوين الشركات المندمجة التي تمكنهم وحدها من تفادي النتائج التي تتمخض عن هذا النوع من المنافسة. وعلى العكس فالتاريخ يوضح أن الدافع على الاندماج والتكوين (مثله في ذلك مثل الدفاع على المنافسة) قوي جدًّا، وذلك في مرحلة التطور الاقتصادي؛ ولذلك أصبح تدخل الدولة ضرورة لحماية المجتمع من نتائج هذا التكوين.
وربما يجادل المفكرون الذين يشاطرون البروفسور روبنز وجهةَ نظره في أن هذا التاريخ ما هو إلا نتيجة سوء استغلال الرأسمالية، ولكنه ليس كامنًا في طبيعة الرأسمالية ذاتها. وطبيعي أن الرد الصائب على هذا هو أنه لم تتح لنا السبل للتمييز بين سوء الاستغلال والطبيعة، وبدون هذه السبل نجد أننا مضطرون إلى افتراض تتابع سببي. وحتى إذا وجدت وجب علينا الرجوع إلى الدولة للتدخل عندما يحول اندماج رءُوس الأموال دون المنافسة الغير المنظمة. ويعتبر ذلك جوهر مبدأ «قانون شيرمان» في الولايات المتحدة. وإني أجسر على التشكك فيما إذا كان ذلك باعثًا لنا على الإعجاب به.
بيد أن هناك ردًّا أكثر تعميمًا، وأن مغزاه هو السبب في أنني قمت بدراسة وجهة النظر هذه التي قام البروفسور روبنز بتوضيحها، وأن هذا الرد هو الحاجة في كل مرحلة من مراحل البحث الاجتماعي، إلى أن نكون واثقين من ماهية المشكلة التي نستجيب لها، ولا سيما إذا ما كانت المشكلة تقوم على الناحية الواقعية أو الناحية المثالية، وأن الاستجابة إلى أي حل له قيمته بالنسبة للناحية المثالية يمكن ترجمتها إلى الناحية العملية بواسطة صيغة تقوم على الإدراك التام للافتراضات الأُولَى التي تُبنى عليها. ولم نخول الحق — لأن ندفع أية نظرية مثالية إلى أن تؤدي عملها — في أن نناقش أنه مهما عُورضت هذه الافتراضات فذلك يعتبر أمرًا غير طبيعي؛ ولذلك وجب أن ينظر إليها على أنها أقل واقعية من الصور التي يطلبونها. فإذا وجدنا — في مجال التنافس الذي نمر به وفي مرحلة من مراحل تطور مثل هذه الخبرة — أنه دائمًا ما تتبع بذلك الإدماج أو التكوين، وإذا اتبع التكوين — وهو في ناحية جوهرية من النواحي الصناعية — بعمل تقوم به الدولة بأية صورة من الصور، نجد أنه من الواضح أن تنظر إلى هذا التكوين والعمل الذي تقوم به الدولة على أنهما متصلان اتصالًا وثيقًا بالمنافسة. وأما عن الفروض المبدئية التي لا ينظر إليها من هذه الزاوية، فإننا نجد من الضروري استمرارها عن طريق تحويل عالم الحقائق الذي نتناوله بالبحث، وأن «المذهب الطبيعي» الذي نقرنه بعمل دون آخر ليس — بالتحديد — من الحقائق ذاتها، وأنه نتيجة لهذه الفروض التي اخترناها لتكون بداية البحث. ولكن هذه الفروض ذاتها هي في الواقع بيان لمجموعة من القيم التي أخذنا على عاتقنا حمايتها. وهي وسيلة للوصول إلى نتيجة في مجال السلوك الاجتماعي المرغوب فيه، سواء أكان متسمًا بالحكمة أم لم يتسم بها.
والواقع أننا نجد أن مقررات أية نظرية اجتماعية هي أحكام منصبَّة على القيم التي تُستمد من خبرة أي مفكر والتي تصدر عنه. ولقد بُني صرح نظرية هوبز على أساس الاعتقاد المزدوج بأن الطبيعة البشرية شريرة في طبيعتها، وبأنه لا مناص من وجود ملك يستطيع أن يحتفظ بالأمان من هذه الطبيعة الكامنة والميل إلى الجنوح نحو الشر. ولكن لوك كان يؤمن بوجود نوازع الخير في الطبيعة البشرية، وكذلك بالخطر الذي تتعرض له أية حكومة تقوم بالعمل دون النظر إلى رغبات رعاياها.
ولقد حاول روسو وضع نظرية للدولة، هذه النظرية التي ستتيح لجميع المواطنين فرصة متساوية في مختلف النواحي الاجتماعية. ومنذ أفلاطون نجد أننا كلما عرفنا التاريخ الشخصي لأي مفكر استطعنا تفسير الأسباب التي أدت إلى هذه الافتراضات التي بُنيت عليها أعماله، وأن هذه الافتراضات دائمًا ما تكون نتيجة وجهة النظر التي يتخذها فيما يجب أن تكون علي الدولة.
ولكن ليس معنى ذلك أن هذه الافتراضات خاطئة، ولكن ذلك يعني وجود تحيز في المعادلة الشخصية في هذه الافتراضات، هذا التحيز الذي لا يوجد مثلًا في قانون مندلييف أو نظرية بقاء الطاقة في الطبيعة.
وأن أية نظرية اقتصادية تستبعد فكرة الرخاء من الميدان الذي تعمل فيه يحرمها من الاعتراف بها كنظرية من النظريات؛ تمامًا، كما تفتقر الحمى القرمزية إلى أعراضها، إذ عندما نعرف السبب تكون لدينا الوسائل التي بها نستطيع أن نتحكم فيها. وذلك بطريقة تختلف كل الاختلاف عن الطريقة التي بها نتحكم في ركود الرأسمالية، عندما نعرف الأسباب التي أدت إلى ذلك. وفي مثال الحمى القرمزية نلاحظ أن نشاط الجرثومة التي تسببها يتبع إجراء خاصًّا لا يمت إلى الإرادة البشرية بصلة. ولكن في حالة ركود الرأسمالية فإن إرادة الأفراد ومؤسساتهم الاجتماعية التي تنشأ عن هذه الإرادات تعتبر ناحية أساسية بالنسبة للقرارات التي تتخذها. أما في الأمراض الجسمانية فنجد أن علاج المريض يعتبر عملية موضوعية تصدر عن طبيعة المرض ولا تعتمد على الطبيب أو المريض. أما في الأمراض الاجتماعية فنجد أن إرادة الطبيب وإرادة المريض — أي الدولة والمواطنين — تعتبران العاملين الحاسمين في عمليتي التشخيص والعلاج.
وأن التطبيق الناجح لهذا العلاج هو وظيفة موافقتهما على كل مرحلة من مراحل العلاج، وأن موافقتهما تعتمد على وجهة النظر التي يتخذانها عما يجب أن تسعى الدولة في سبيله، وأن وجهة النظر هذه تحدد تفسيرهم لأسباب المرض الاجتماعي وأعراضه.
٣
ويجب أن تُوضع الفكرة الأساسية للدولة في هذا الإطار. فمن الناحية التاريخية نجد أن ما فعله الفيلسوف السياسي هو اتخاذه نظرية المشروع في الدولة، ومحاولة اكتشاف مبرر خارج نطاق مرافعات المحامين، وهي في الوقت ذاته يمكن تطبيقها في نظرة على أعمال الدول القائمة، وعندئذ تصبح النظرية الفلسفية وسيلة لتبرير تلك الدول التي نعرفها، وإن استحقاق تلك الدول للطاعة قد قام على أساس علاقتها بالنسبة للدولة المثالية والأهداف التي يعزوها الفيلسوف إليها.
وأيسر السبل لتوضيح هذه القضية هي دراسة النظرية المثالية — هذه النظرية التي ما زالت تسود في وقتنا الراهن — دراستها في إطارها القديم. فهي كنظرية تعرف الدولة على أنها منظمة الجماعة التي تعتبر وظيفتها الاحتفاظ بالإمكانيات الخارجية الضرورية لحياة أفضل يمكن للإنسان أن يحياها، ونحن مدينون لها بالولاء على أساس أنه عندما نطيع أوامرها فنحن في الواقع نطيع هيئة من الهيئات وظيفتها نشر الرخاء الذي ينطوي عليه رخاؤنا الشخصي.
ومن الواضح أن توجيه هذا التعريف إلى ناحية وجود الدول الحقيقي سيثير مشاكل عدة، مثل: هل لنا أن نقول مثلًا عن الدولة الهتلرية: إن لها وظيفة الاحتفاظ بالإمكانيات الخارجية الضرورية لحياة أفضل؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما هي الأسباب التي يقوم عليها هذا الزعيم؟ وهل هذا لأنها تتظاهر بهذا المظهر؟ وفي هذه الحالة، هل نأخذ التصريحات التي يدلي بها الرسميون المختصون عن أغراض الدولة على أنها المقياس المعتمد الموثوق به للحكم على هذه الأهداف؟ أم أن ذلك لأن هذه التصريحات يقبلها هؤلاء الذين توجه إليهم ويعتبرونها معتمدة موثوقًا بها؟ وإذا كان الأمر كذلك؛ فما معنى «يقبلها»؟ هل تعني انعدام المقاومة الفعالة لمثل هذا التصريح والإعلان؟ والمؤكد أنها لا تعني أكثر من هذا.
فاليهود والاشتراكيون والشيوعيون والأحرار يصرون جميعًا على أن الدولة الهتلرية تحرمهم من هذه الإمكانيات الخارجية التي يعتبرونها أمرًا ضروريًّا بالنسبة «لحياة أفضل»، والواقع أن هذا يعتبر إنكارًا لأبسط مبادئ الإدراك السليم.
والحقيقة هي أننا إذا اتخذنا النظرية المثالية مقياسًا للحكم على الدول الكائنة فعلًا فإنها ستدفعنا إلى الجدل في أن الدولة تكون هي الدولة عندما «تحافظ على الإمكانيات الضرورية لحياة أفضل»، ولكنها لا تعتبر كذلك عندما لا تحتفظ بهذه الإمكانيات، ولا يحتاج إبهام هذا الرأي وغموضه إلى أي تأكيد؛ لأنه يترك الباب مفتوحًا للتساؤل عمن هم القضاة الذين يفصلون بين هذين النوعين من النشاط، وما هي الحقوق التي بيدهم عندما يقررون باعتبارهم قضاة أن أولئك الذين يزعمون أنهم يعملون باسم الدولة — بسبب ما تنطوي عليه أنماط سلوكهم — لا يمثلون الدولة بالمرة. ومن الواضح — على ما أعتقد — أنه إما أن يكون تعريف وظيفة الدولة عاملًا يمكننا دائمَا من الربط بين ما تقوم به من الأعمال وبين أفعال تلك الهيئة من الرجال المختصين بمقتضى القانون بممارسة سلطتها؛ وإلا اضطررنا إلى الرجوع إلى تعريف تراسيما خوس للعدالة بأنها هي حكم الأقوى، وعلى أساس هذا الرأي تكون دعوى الدولة في حق الطاعة لها، ما هي إلا لأن في يديها السلطة العليا، ولكن في الحقيقة لا يوجد شخص مثالي يقيم حقها في الطاعة على هذا الأساس.
وينطبق هذا النقد على تعريف آخر هو تعريف الدكتور بوزانكيه الذي يقول: «إن الدولة هي الهيئة المعترف — عادة — بأنها وحدة ذات حق قانوني في استخدام القوة.» ومن الواضح أن صحة هذا التعريف تتناقض مع ذلك المعنى الذي يقترن بكلمة «قانونًا». فإذا لم تكن أكثر من مجرد نسبة اختصاص رسمي إلى الدولة؛ فإنها حينئذ تكون وصفًا دقيقًا لطبيعة الدولة، كما نعرفها من أعمال الدول الكائنة فعلًا، ولكن إذا لم يقف الأمر عند هذا الحد، نجد أنها إما تعتمد على وجهة النظر التي تقول بأن الواقع هو المثل الأعلى، أو على نظرية أهداف القانون التي يجب أن تكرس الدولة نفسها لتحقيقها. أما في الحالة الأخيرة فإننا نجد أن «ممارسة السلطة قانونًا» تعني أن ممارسة السلطة من أجل أهداف معينة تعتبر أمرًا حيويًّا من أجل أسباب لا تدخل في النطاق الشكلي للقانون، وعندئذ تصبح المشكلة مشكلة ذات وجهين: الأول بشأن ما هي هذه الأهداف؟ والثاني بشأن من الذي يحكم على ما إذا كانت هذه الأهداف قد نفذت أو لم تنفذ.
أما الطريقة المثالية للهروب من هذه الورطة؛ فتكمن في المعنى الخاص الذي تضفيه على فكرة الحرية.
فمن الناحية التاريخية، وقد كان المقصود من الحرية حتى وقت روسو — ولدى أغلب المفكرين — هي أنها انعدام الضغط والإكراه، وأن الفرد يتمتع بحريته عندما يستطيع أن يحدد نمط السلوك الذي يتخذه دون أن يُجبَر على اتخاذ نمط معين، وما دامت الدولة منظمة إلزامية، فبالتالي تتضمن أعمالها بعض الافتئات على الحرية الفردية. ولقد كان من المسلَّم به ضرورة وجود هذا الافتئات، ونحن نعرف أن القانون ضد الجريمة، ولكن بعض القوانين تعتبر قيودًا على الحرية الفردية، بيد أن هذا الافتئات له ما يبرره عندما نشاهد النتائج، ولقد نُظر إلى بعض الحريات كحرية الكلام أو الكتابة دون أن يقع أي قصاص على الفرد على أنها من التجارب التي تمر بها الحكومة، وأن الدولة التي تَحْرِم الناس من هذه الحريات تكون مدفوعة بالتجرد من الأهداف.
ومن اليسير إدراك الخبرة التي تنطوي عليها هذه النظرة وإدراك أن الأفراد الذين يكافحون في سبيل تخويلهم الحق تحديد الديانة التي يعتنقونها أو تشكيل التشريع المدني الذي يعيشون في ظله، ولا ينددون بالدولة بطريقة غير طبيعية على أنها سلطة طاغية تحول بالقوة بينهم وبين نيل مثل هذه الحقوق. فبالنسبة إليهم ليس من المهم أن تكون الأساس الذي تستند إليه الدولة لكي تحمي ما تقوم به من الأعمال هو سعيها إلى الخير العام، أو حماية العقيدة الدينية، أو حفظ النظام، فلقد وجدوا — أو اعتقدوا أنهم وجدوا — أنه عندما تقوم الدولة بحرمانهم من هذه الحريات، فمعنى ذلك أنها تحول بينهم وبين تحقيقهم السعادة. وقد نظروا إلى الدولة (ولا سيما بعد الثورة الدينية وثورة العلوم في القرنين السادس عشر والسابع عشر) على أنها منظمة وُجدت بصفة أساسية لتحقيق سعادة الأفراد، وليس صحيحًا على ما أعتقد أنهم وضعوا الفرد فوق الدولة، وكانوا يرون الدولة على أنها ملتزمة بأغراض معينة يجب أن تتطابق طريقة معيشتها كدولة مع تيسير تحقيق هذه الأغراض.
وإن مثل هذا الإدراك لمدلول نظرية الدولة يمكن توضيحه عندما نقول: إن الأفراد يُنظر إليهم على أساس حيازتهم حقوقًا أساسية معينة، أو بعض الحقوق الطبيعية ليس في سلطة الدولة انتهاكها أو الاعتداء عليها قانونًا، ونعني بهذه الحقوق أنماط السلوك التي بدونها لا يمكن تحقيق السعادة.
وهذه تتغير طبقًا للزمان والمكان ولمدارس الفكر المختلفة، فنحن نجد في بعض الأحيان أن الحرية الدينية هي التي حُرموا منها، وعندئذ يقوم أي مفكر مثل أكونتيوس أو كاستيلون أو لوك بتوضيح السبب وهو أن الحق في الحرية الدينية يعتبر جزءًا لا يتجزأ من الخير الاجتماعي، كما نجد في أحيان أخرى أن الشر الذي يشكو منه هو الحكومة.
ولكننا نجد أن مفكرًا مثل كلود جولي، والذي عاش في فرنسا في القرن السابع عشر، أو ليفلرز، الذي عاش في إنجلترا في القرن السابع عشر، سيدافع عن حق الأفراد في رسم سياسات الحكومة التي تحدد سبل الحياة.
ولا يهمنا كثيرًا الدخول في تفصيلات هذا الجدل، ولكن الذي يهمنا هو تفاصيل الاتجاه العام. ويعتمد هذا الاتجاه على مبدأين أساسيين، أما الأول فهو أن السلطة التي لاحول لها تعتبر سلطة تفتك بالذين يمارسونها والذين يقعون تحت طائلة هذه الممارسة. أما المبدأ الثاني فهو أن القيود التي تُفرض على السلطة ستتحدد تحديدًا تامًّا، حتى إن نواحي النشاط المعينة على الأقل في ظل الأحوال العادية — سنحرم منها السلطة ذات السيادة في أية جماعة، وأن المحاولة — وهي محاولة مستحيلة — لإيجاد أساس قانوني للحق في الثورة كما حدث في سني ١٦٤٢م و١٦٨٩م و١٧٧٦م و١٧٨٩م لم تصدر عن شيء مثلما صدرت عن ذلك المجهود الذي بُذِل لإكراه الدول على اتباع أنماط السلوك التي يعتبرها الأفراد في وقتٍ ما أمرًا له أهميته، وأن النظريات التي يدافعون بها عن وجهات نظرهم ما هي إلا جهود تُبذَل لتحويل الشعور بالاحتياجات الخاصة إلى شعور بالاحتياجات العامة تُطبق على كل زمان ومكان.
ويتميز تاريخ الفلسفة السياسية من فترة الإصلاح حتى الثورة الفرنسية بصفات خاصة هي أن الدولة تنظر إليها على أنها منظمة ترمي إلى تحقيق سعادة الأفراد، وأن سلطتها كقوة تنطوي تحت لواء هذا الهدف، وأن الحرية هي انعدام وجود القيود، وهي شرط أساسي لتحقيق السعادة، وأن الدولة لم تخوِّل الحق في انتهاك تلك الحقوق التي تعتبر المعالم التي تحدد لنا أنماط السلوك. ويقدر ما لاقته هذه التقاليد التي تمثلها هذه الصفات من إنكار، بقدر ما لاقته من تأكيد، كما أن قبول التقاليد بأية طريقة يكاد يكون قبولًا تامًّا حتى منتصف القرن التاسع عشر.
والشيء الجدير بالتحقيق هو أن الدولة بحكم وجودها لن تكون غاية في حد ذاتها، ولكنها دائمًا وسيلة إلى غاية. ولأن الفرد له كيانه الخاص المحدود؛ نجد أنه يُنظر إليه على أنه موجود في الإطار الخاص به، وليس مجرد وحدة تقوم بخدمة الدولة التي ينتمي إليها، وتعتبر سعادة الفرد لا سلامة الدولة هي المقياس الذي به تصدر الأحكام على المسلك الذي تنهجه، وإن مصالحه — لا صولجانها — هي التي تحدد السلطة المخوَّلة لها لممارستها.
وإن التقاليد — التي تُطلق عليها تقاليد الدولة المتحررة حتى يكون المعنى أعم وأشمل — لم تسِرْ بالطبع دون مقاومة، فلقد هاجمها هوبز بلباقة في القرن السابع عشر على أساس أنه من الضروري أن تؤدي محاولتها تقييد مطالب السلطة إلى الفوضى. ولقد ردد دي ميستر في نهاية القرن الثامن عشر وجهة النظر هذه، وإن اختلف التأكيد اختلافًا كبيرًا، والتفسير الوحيد لمولد التقاليد الحرة هو التغيير في السلطة الاقتصادية التي اصطحبتها. وهي تعتبر طريقة لتبرير تحويل السلطة السياسية من الأرستقراطية المالكة إلى الطبقة الوسطى التي تشتغل بالتجارة.
ولقد ذكرت مبادئها — مثلها في ذلك مثل جميع الفلسفات التي تسعى إلى تبرير مثل هذا التحوُّل، في صيغة لها مدلولها الأوسع في النواحي النظرية وفي المنطق من مدلولها في النواحي العملية. ولقد أعلن هؤلاء الأفراد الذين قاموا بالثورات الإنجليزية والفرنسية أنهم هم أبطال حقوق الإنسان، وبالرغم من ذلك فإن أي تحليل للمقاييس التي بها استطاعوا التأثير في مبادئهم أو أن أي تحليل للمطالب التي نظروا إليها على أنها أمور غير مقبولة سيوضح لنا أن «حقوق الإنسان» قد قُصد منها في الحقيقة حقوق تلك الطبقة المحدودة من الرجال الذين في أيديهم أدوات الإنتاج في المجتمع، وأن التقاليد الحرة إذا نُظر إليها من الناحية التاريخية لهي ثورة فكرية كانت تهدف إلى تحقيق مصالح الملَّاك في الميدان الصناعي الجديد.
وما من شك في أنها تمثل نفسها أكثر من ذلك؛ لأنها من الناحية الأخرى — لم يكن في مقدورها أن تنال — كما نالت — تأييد الأفراد بحماسة، هؤلاء الأفراد الذين يُعتبرون في فقر مدقع، حتى إنهم لا يستطيعون أن يمتلكوا شروى نقير.
وبالرغم من ذلك فإن ما يسترعي الانتباه في كل مرحلة ثورية من مراحل التقاليد الحرة سواء أكان ذلك رد فعل يحمل طابع كرمويل في إنجلترا أو تيرميدور في فرنسا — هو خيبة الأمل التي ولدته عندما أصبح من المعروف أن التأثير في بسط الامتياز الخاص أقل بكثير مما هو في الأساس الشكلي الذي تكوَّن منه. وبالتالي نجد مثلًا للبيرن وونستانلي في عهد كروميل وبايبف وأتباعه في عهد حكم المديرين. وقصارى القول أن التقاليد الحرة التي انبثقت عن أغراض الأفراد الحقيقية الذين قاموا باستغلالها لتقف دائمًا في وجه الدولة، وطالما أحس هؤلاء الذين حُرموا من مزاياها بأنهم قد حُرموا منها، وطالما دُفعوا إلى القيام بعمل ما استجابةً لهذا الإحساس، فإن التقاليد الحرة تتيح لهم عاملًا قويًّا للقيام بمثل ذلك؛ ولذلك فإن نظرية الطاعة نظرية قاصرة إلى الحد الذي تؤكد فيه هذه النظرية الطبيعية العرضية لسلطة الدولة.
وقد ظهرت النظرية المثالية في الدولة لعلاج هذا العيب، والرأي الذي سعت إلى إثباته مبنيٌّ على أربعة أسس متصلة بعضها ببعض، فقد أنكرت أولًا أن الحرية معناها انعدام الضوابط، وهي تعتبر هذا الرأي سلبيًّا مبالغًا في السلبية، وقد يكون انتفاء الضوابط من ظروف الحرية، ولكنه ليس روح الحرية بذاتها.
وهي تؤكد أن هذا الروح هو الحق في تقرير المصير، فالواجب هو أن أحكم نفسي بنفسي، وإذا أنا لم أُطِع الغير لكي أنجو من العبودية؛ فلا بد لي من طاعة نفسي لكي تكون حريتي ذات هدف إبداعي.
ولكن تقرير المصير ليس معناه طاعة أية رغبات عارضة تطرأ على ذهني، فإن عبودية الشخص للحوافز المفاجئة هو أسوأ صور الرق. ويجب أن يكون معنى الحرية حسب مدلول تقرير المصير وهو أن يسيطر على ذلك النظام الثابت المستمر من الرغبات التي تتمثل فيه ذاتيتي الحقيقية. فهناك أهتدي حقيقة إلى ذاتيتي، وهناك أجد أعظم فرصة ممكنة لتحقيق ذاتيتي على أفضل وجه، وأنا أكون حرًّا حقًّا عندما أطيع القواعد التي وضعتها لنفسي في حدود الغرض الأسمى الذي أسعى إلى إدراكه. فهذا الغرض هو الخير الحقيقي لي وفي طاعتي لمقتضياته أجد حريتي؛ لأنه بغير هذا الهدف الذي أرمي إليه أكون كالسباح الذي تتقاذفه أمواج بحر لم يرتَدْه أحد، وأتحرك بدون اتجاه، وأكون عبدًا لعوامل لا تمكنني السيطرة عليها.
ويجب ألا أفعل ما يمليه الحافز الأعمى، بل أفعل ما تفرضه ذاتي الحقيقية، ولكن ماذا يجب عليَّ أن أفعل؟ إن رد الرجل المثالي هو الرد الحيوي في هذا الصدد، وتتمشى إرادتي الحقة مع أغراض تقاليد المجتمع العامة التي أنتمي إليها، وإن هدفي في الحياة ليس من صنع يدي، لقد شكلته مجموعة الأغراض والأهداف الموجودة في المجتمع الذي وجدت نفسي فيه، فإذا أصبح هذا الهدف في عزلة، فسأكون عاجزًا عن تحقيق أهداف سامية، ولكني أستطيع ذلك عن طريق العلاقات الاجتماعية التي تعطي لحياتي معنى وتقوم بتوجيهها، وإن إرادتي التي لو لم تكن، والتي لن تسعى إلى أكثر من إشباع لا يتمشى مع المنطق للدافع المباشر الذي إن كان في عزلة فسيكون خاليًا من أهداف دائمة.
إن إرادتي سيحولها الإطار الاجتماعي الذي وُضعت فيه، ونجد كما جاء في تعبير بوزانكيه «أشياء لها من القوة على أن تجعل من الحياة حياة تستحق الشخصية أن تعيش فيها هذه الشخصية التي تتحكم في هذه الأشياء.»
إننا كمخلوقات عاقلة لا نستطيع الهروب من الالتزامات الموجودة في ذلك الإطار الذي أشرنا إليه، إذ إنها تمثل شطرًا كبيرًا من وجودنا، وهي تكون — سواء اعترفنا بذلك أم لم نعترف — الأهداف الدائمة لذلك السعي لتيسير تحقيقها، هذا السعي الذي يزيد من حياتنا جمالًا ويكسبها معنى ولونًا. وطالما لا تتسنى الحياة للمجتمع إلا عندما تنفذ هذه الالتزامات بطريقة جبرية عندما نضع ذلك الهدف نصب أعينها، فإن المؤسسات التي تطوي هذه الالتزامات بين ثناياها لها دعوى واضحة بالنسبة لولائنا؛ إذ إننا عندما نطيعها نتمتع بالحرية كاملة، وعندما نطيعها فإننا نحقق هذه الإرادة الحقة التي تمكننا من تنظيم أنفسنا لتحقيق أعلى مراتب الرضا التي نبتغيها، وإننا لنسلم بأن العبودية للحوافز الطافرة مما لا يليق بالمخلوقات العاقلة، وبدلًا منها نلتزم بطاعة قواعد السلوك التي يعتبر الولاء لها هو الشرط اللازم للحياة السامية المهيأة للإنسان وتكمن حريتنا في طاعة فضائل المجتمع.
ولكن ما هي النواحي التي تحدد مضمونها؟ فوسط ذلك الخضم من المطالب المتصارعة لولاء الفرد. هذا الولاء الذي يواجهه في معيشته، كيف له أن يعرف ذلك الذي يجسم إرادته الحقة؟ فهو عضو في هيئات لا حصر لها ولا عدد، كالأسرة والقرية والنقابة والكنيسة — كل ذلك يسير في اتجاهات متناقضة. فما هو الأساس الذي يمكن للفرد الاعتماد عليه حتى يدرك تمام الإدراك أنه بذلك قد اختار حريته؟ أما الرد المثالي فهو الرد الذي لا مناص منه، وهو أن حرية الفرد الحقة تتمشى مع حرية الدولة، فعندما يطيعها فهو يقدم فروض الولاء للسلطة التي تحمي مصالح المجتمع الدائمة من المصالح الذاتية الممثلة في الهيئات الأخرى التي تدخل في نطاق سلطة الدولة؛ إذ إن الدولة هي الهيئة العليا التي بين طياتها تجد الهيئات الأخرى معنى وجودها، هي «المنظم الوحيد للحقوق، وحامي حمى القيم الأخلاقية، فكلما تمشت إرادتنا مع إرادتها أمكننا أن نحقق تلك الحقوق، وتلك القيم الأخلاقية في حياتنا، وفضلًا عن ذلك فإن هذا التحقيق هو الهدف الحقيقي للحرية المعقولة».
وإن الإنصاف لوجهة النظر هذه يقتضي الإشارة إلى إحدى النقط التي تؤكدها قبل المضي في دراستها، ولا ينادي الرجل المثالي بأن الدولة هي المهيمنة على ضمير الفرد، فإذا اعتقدت بوجوب عصيان أوامرها فلدي من شعور بتقدير الواجب ما يؤهلني للقيام بذلك، وفي الحقيقة يجب أن يدفعني عامل أكثر من الرغبة الشخصية إلى التمرد والعصيان «ويجب علي أن أتذكر أنه كلما» دنوت من ذاتيتي، تمشيت مع «العقل الجماعي». وطالما كان هذا العقل الجماعي هو الدولة، فإن لي الحق في أن أثور وأن أتمرد على أساس الاعتقاد العام الذي ينادي بأني أمثل مصالح الدولة الدائمة خيرًا من ممثليها الشرعيين. ويجب عليَّ أن أتذكر المدى الذي ربما أتورط فيه من خطأ التقدير في هذه النظرة، وثانيًا المخاطر التي أتعرض لها في التضحية بالقيم الدائمة للمنظمة الاجتماعية قربانًا لكسب عملي سريع. وعلى العموم، فمن عادة الثائر أن ينسب إلى الدولة أخطاء ترجع إلى ما تقوم به الحكومة من أعمال، فعندما يسعى إلى الإطاحة بالحكومة فهو يعرض الخير الدائم للخطر.
وجدير بالملاحظة أن هذا التأكيد يهدم النظرية المثالية؛ إذ إنه من المعترف به وجود حق وواجب في التمرد والثورة، بالرغم من ممارسة هذا الحق في النادر، وبالتالي فإن ولائي ليس لمؤسسة من المؤسسات، ولكن لأهداف هذه المؤسسة التي تسعى إلى تحقيقها، ولقد طُلب إليَّ أن أطيعها طالما هي تقوم حقيقة بتحقيق هذه الأهداف، وإني لا أعرف ما إذا كانت تقوم بذلك إلا عن طريق دراسة ما تؤديه من عمل، فإذا تيقنت بعد دراستي لها أنها لا تقوم بتحقيقها، فموقفي واضح كل الوضوح. وتتمشى حريتي الحقة مع إرادة الدولة عندما تكون إرادة الدولة «حامية حمى القيم الأخلاقية». فإما أن ينادي الرجل المثالي بأن جميع الدول تقوم بهذا الدور تلقائيًّا، وإما أن هؤلاء الذين يستأثرون بالسلطة ولا يقومون بأي عمل لا يمثلون الدولة.
بيد أنه في الحالة الأولى، لا نجد أي أساس يقوم عليه الحق في الثورة والتمرد، ونجد في الحالة الثانية أنه طالما لم تكن الثورة موجهة ضد الدولة فإنها لا تتيح الفرصة أمام النقد الذي يؤكده الرجل المثالي.
ومجمل القول أن الحقيقة تكمن في أن نظرية الدولة المثالية لم تتوصل — حتى في صيغتها الحديثة — إلى حل مشكلة العلاقة الأساسية بين المثل الأعلى والحقيقة؛ إذ إن الدولة التي تكلم عنها تكمن (كما أصر بوازنكيه على القول) في مجال المدركات، وهي بذلك لم تكن دولة من الدول الحقيقية، ولكنها طريقة للقياس نقيس بها ما تقوم به الدول الأخرى من أعمال، وهي في هذا الوضع لا تقوم بحل مشكلة الالتزام السياسي في العالم الواقعي. فهي تحكي لنا مقومات الدولة التي نقدم فروض الولاء لها. بيد أننا نواجه مشكلة ما إذا كانت الدولة في العالم الواقعي تقوم بتحقيق تلك الشروط التي يترتب عليها استحقاقها.
ولكن إذا وافقنا هيجل على ما يقوله، وأكدنا أن الفرد الحقيقي هو الفرد العاقل، ومهما يكن يجب أن يكون كذلك، فإننا نحرم وجوه الخير الواضحة للجنس البشري؛ إذ إن ذلك الذي يتسم بالشجاعة هو الذي يثبت ويؤكد مثلًا أن الدولة الفرنسية قبل عام ١٧٨٩م، أو أن دولة روسيا القيصرية تستحق الولاء الذي قدمه لها مواطنوها. كما أن أي رأي عن الدولة يؤدي إلى استنتاجات ملتوية — تبدو لأول وهلة على الأقل — أنها متناقضة كل التناقض، فهو لذلك لا يستحق أن نثق به. فهو إما أن يكون مجرد تفسير بُني على ذلك التأكيد الذي يقول: إن كل شيء موجود يعتبر شيئًا صحيحًا، ولا يعتقد في ذلك أحد، وإما أن يكون دراسة تقضي بأن طريقة التغيير يجب أن تسلك طريق الإقناع لا طريق القوة، وتعتبر هذه دعوى مؤداها أن وسيلة الثورة باعتبارها أداة لإجراء التغيير الاجتماعي تعتبر طريقًا غالي الثمن إذا قورن بقيمة نتائجه.
ولكن إذا تغاضينا عن كل ذلك، فإن النظرية المثالية لا تبعث على الرضا، فهي قاصرة من الناحية السيكولوجية ولا سيَّما في تحليل طبيعة الإرادة، وتصبح الحقيقة التي تنادي بها هي أن ما وقع عليه اختياري لأعمله، ولقد أسفت على هذا الاختيار تصبح أساسًا للنظر إلى ما يجد من أسف على أنه شرط أساسي بالنسبة لذاتيتي أكثر من النظر في الاختيار الأول، على أنه أكثر واقعية وأكثر حقيقة، فأنا أكون إرادتي بكل ما فيها من قصور، وإنها تكون تلك الشخصية التي تميزني عن غيري من بقية أفرد الجنس البشري، وإن إرجاع تلك الحقيقة إلى ذلك الجزء من إرادتي وهي متحررة من ذلك القصور الذي يميز جزءًا آخر لتعتبر مجرد ألفاظ بليغة؛ لأنني يجب أن أمثل ذاتيتي. وتوحي — كما يوحي المثاليون — بأني أستطيع أن أقوم بما تفصح عنه شخصيتي عندما أحدد ما يحدده المجتمع الذي أنتمي إليه، ومعنى ذلك أنني أخطئ في تقدير طبيعة الشخصية.
وما من شك في أن وجهة النظر المثالية قد اعتراها الضعف والوهن حتى إنها عجزت عن إدراك طبيعة الشخصية.
ولا تكمن أهميتها في عزلة نهائية نمر بها كل يوم، ولكن في المساهمة التي تهبها هذه العزلة لحياة الكل حيث يشاطر فيها الفرد. وعلى ذلك يمكن القول بأن عزلتي غير حقيقية، أي إنها تكون وحدة مع عزلة الجميع الذين يمرون بتجربة مشتركة أمر أنا أيضًا بها، بيد أن النقطة التي أهملناها هنا هي النقطة الحيوية التي تقول: إن الخبرة المشتركة لن تمثل نفسها في شخص ما كما تتمثل في شخص آخر، فكارل ماركس ومستر جلادستون لم يستخلصا نفس النتائج من الحياة الاجتماعية التي عاشا فيها. فلا يصدر الاتحاد عن المشاركة في عالم مشترك، بل هو يصدر عن وجهة نظر واحدة حول الأعمال التي يهيئها ذلك العالم المشترك. ولا يصبح للتاريخ أي معنًى ما لم نعتقد أن الأفراد يجوز اختلافهم حول الأفكار الموجودة في ذلك العالم. فليس الاتحاد وليد شيء يُمنح، لقد خرج إلى حيز الوجود؛ لأن الأفراد أدركوه عن طريق بحثهم عن أهداف متشابهة، وهي ناحية خاصة بي، بمعنى أنه لا يدرك معناها أحد عدا ما أكتبه هنا.
وتكمن أهمية هذه النظرة في أنها تمكننا من نبذ الفكرة المثالية عن الحرية؛ إذ إنه عندما يُنظر إلى الشخصية على أنها ليست واقعية في انعزالها، ولكن على أنها تشترك مع شخصيات أخرى، نجد أن الإكراه هنا لا يُقصد منه استخدام الدولة للقوة ضد الفرد، ولكن فرض الإكراه على الإرادة التي تتوق إليها ذاتيته الحقيقية، ومن هذه الزاوية لا نجد أية مشكلة عن الحرية؛ إذ عندما يكره الفرد بهذه الطريقة، فهو في الحقيقة قد أبدى استعداده لقبول ما تتوق إليه ذاتيته الحقة، ولكن نجد كثيرًا منا ينادون بأن الرجل الثوري لا يدرك مطلقًا أن الحكومة التي تسجنه هي في الواقع تمنح الحرية لذاتيته الحقة. فإن ما يمر به من تجارب هو الإكراه، وهو ينظر إلى ذلك على أنه حرمان من الحرية، فإذا أخبرناه أنه قد تمتع بالحرية عندما حيل بينه وبين تحقيق الغرض الذي ينظر إليه على أنه «علة وجوده» فمعنى هذا أنك تسلب الألفاظ معناها.
وليس هناك من رد على هذه النظرة يبعث على الرضا عندما نجاري بوزانكيه فيما قاله من أن نبذ المثالية يجعل من المتعذر تفسير تناقض الحكم الخاص. وإني أشعر بالحرية في مجتمع يمارس سلطة الإجبار على نفسي للحد الذي أتقبل فيه الأهداف التي من أجلها يقوم المجتمع بممارسة هذه السلطة، بل وربما أتنازل عن حقي في مقاومة هذه السلطة بكل سرور في بعض الأحيان؛ لأني — لكي أعادل كفتي الميزان — أتخذ وجهة النظر التي تقول: إن خير النواحي العامة التي يسعى المجتمع لتحقيقها تفوق نواحي الشر التي ينطوي عليها ذلك الهدف الذي أمقته وأبغضه. ولكن ليس معنى ذلك أني أرحب بالإجبار والإكراه؛ لأني أجد فيه (إذا قمنا بتحليله) الأغراض الحقيقية التي أسعى إلى تحقيقها، أما ذلك الننكنفورمست (المنشق عن الكاثوليكية) الذي قام بدفع ضريبة تعليمه طبقًا لقانون عام ١٩٠٢م؛ فهو لم يقم بذلك لأن حريته الحقة قد وافقت على هذا القانون. فهو قد قام بذلك لأنه اتبع وجهة النظر التي تقول: خير لك أن تصبر على قانون عقيم من أن تتحدى السلطة التي تستمد منها جميع القوانين. بيد أن ذلك القرار لم يجعله يشعر بحريته إلا أن ما يتركه من أثر هو إقناعه بضرورة تغيير هؤلاء الذين يمارسون سلطة الدولة لسن قوانين عقيمة.
هناك ناحية أخرى من نواحي النظرية المثالية تحتاج إلى شيء من الدراسة، فهي تبني دفاعها على الالتزام السياسي على فكرة الصالح العام الذي يشاطر فيه جميع أعضاء المجتمع ويمكن تحقيقه عن طريق الدولة. ففي الدولة يتمثل التضامن المتجسم في الهيئات الاجتماعية وهو تضامن الإرادات الحقيقية لجميع الأفراد، ولكن من الواضح: (١) أن وجهة النظر هذه تتوقف على نظرية الإرادة الحقة التي نبذناها من قبل. وإن الصالح العام فضلًا عن ذلك (٢) هو عبارة تشمل عددًا من الأفكار المختلفة، وكل فكرة متميزة عن غيرها، وربما تعني (أ) النفع أو الخير الذي حققه التعريف في الدولة المثالية. وذلك يعني عدم الوصول إلى حل بالنسبة للصالح العام، في الدول الحقيقية. وربما تعني (ب) مبدأ الرخاء الذي يجب أن تهدف إليه الدول، ولكن ذلك بطبيعة الحال لا يحدد مسألة ما إذا حاولت دولة بالفعل أن تحقق عملًا ما. ويقصد من العبارة أيضًا (ﺟ) تلك العادات والتقاليد والأغراض التي يهدف أي مجتمع إلى الاحتفاظ بها. وإننا نقرن فكرة إنجلترا بأفكار من هذا النوع، وإننا نشعر بأننا كإنجليز تشترك في صفتها حتى ولو كنا غير متيقنين من تعريفها. وإننا نتوقع أن الدولة ستستخدم سلطاتها للاحتفاظ بتلك الروح التي تتسم بصفة خاصة هي الصفة الإنجليزية. كما أننا نحس أيضًا بأن انتهاكها سيضعف على الأقل، أو فيما يمكن أن يقضي على الولاء لفكرتنا عما تسعى الدولة الإنجليزية إلى أن تكون عليه. أما إجراء التغييرات الضرورية، فذلك أمر حقيقي بالنسبة للدول الأخرى التي تساهم في تراث قومي يتشبث به الجميع.
أما ما عجزت النظرية المثالية عن تحقيقه، فهو الحقيقة الهامة التي تنادي بأن كل فكرة من هذه الأفكار عن الصالح العام هي العمل على ما يعتبر الأفراد أنهم يواجهونه في الحياة اليومية. وهم لا يقدرون الدولة على أساس النوايا التي تفصح عنها بالرغم من أن ذلك يدخل في حكمهم وتقديرهم. أما في كل الحالات العرضية — وهي الحالات الهامة في هذا الصدد — فهم يصدرون أحكامهم من وجهة نظرهم فيما تكشفه من سلوك حقيقي، وإن ما يطلبونه من الدولة هو أن يكون الصالح العام الذي تحققه شيئًا يشعر كل مواطن بأنه يساهم فيه بوسيلة ما؛ حتى يبعث ما تقوم به من عمل على رضاه. وليس مما يدعو إلى الاستكفاء أن نقول له: إن المثل الأعلى هو الناحية الواقعية، أما في الحالة العرضية فيجب عليه أن يعتقد في ذلك، وليس هناك من نظرية عن الدولة يجوز أن تدعي الكفاية أو الوفرة ما لم تشبع هذه الحاجة لتقنع الفرد — إذا كان في عزلة عن الآخرين — أن صالحه يكمن في الصالح العام الذي تشيده دولته وتحققه له.
ومما هو جدير بالإشارة أن روسو كان يسير على هذا المنوال، ويتفق في هذا أيضًا ت. ﻫ. جرين ولكن بدرجة أقل. فبالرغم من أن نظرية روسو في الإرادة العامة قد جعلت منه المؤسس الجديد للمدرسة المثالية في ميدان السياسة، وقد بنى تطبيقها — في أعماق دراسته — على مبادئ أُعدت بدقة للحيلولة دون انحراف أغراضها. أما الفكرة التي تنطوي عليها نظريته فهي قائمة على فكرة المساواة. ولأجل حماية دعائم المساواة في كيان المجتمع المدني يجب أن يتخلى جميع الأفراد عن ذاتيتهم للدولة، ولحماية أركان المساواة يجب أن يكون القانون — لكي يصير قانونًا — عامًّا، وأن يكون له أثره على الأفراد بقدر متساوٍ، ولحماية دعائم المساواة يجب أن يتناسب حجم الدولة دائمًا بحيث يحدد أعضاء المجتمع الإرادة العامة ثم يشكلونها. وأخيرًا، فإنه لحماية دعائم المساواة يجب وضع ديانة مدنية، وأن يدرب الأفراد بغيرة بالغة على الاحتفاظ بروح الدستور. ويمكن للملك عند روسو أن يطلب طاعة أعضاء المجتمع؛ لأنها هي المجتمع ذاته. أما الفكرة التي تقول بأن السلطة الملكية يمكن ممارستها على مصلحة المجتمع، وذلك عن طريق هيئة كالحكومة تزيل فكرة روسو عن الدولة الشرعية من أساسها.
وينطوي موقف ت. ﻫ. جرين على مثل هذه النظرة؛ ولذلك أذكر «أن مطالبة الفرد أو حقه في أن يكون لديه من السلطات المعينة التي يكفلها له المجتمع بأن يمارس بدوره بعض السلطات على الفرد — يعتمد على الحقيقة التي تقول بأن هذه السلطات ضرورية لإشباع احتياجات الفرد في مهنته باعتباره كائنًا فاضلًا، وكذلك لكي يكرس نفسه للعمل على تطوير نواحي الشخصية التي تبلغ حد الكمال في نفسه وفي الآخرين»، وهذا هو مضمون تعريفه الشهير عن الدولة التي يعتبرها «هيئة من الأشخاص يسلم كل فرد منهم بما له من حقوق، وما له من مؤسسات معينة تكفل له الاحتفاظ بتلك الحقوق»، ومن الواضح أن حقوقي كفرد من الأفراد ليست منفصلة عن الدولة، وأن الدولة التي تفشل في إدراك مثل هذه الحقوق، ستفشل حتمًا من وجهة نظر جرين في أن تكون دولة طالما ستكون خالية من الصفة الأخلاقية التي تجعل لها الحق في أن يدين لها المواطنون بالولاء. وذلك هو السبب في أن جرين قد أصر على أن الإرادة لا القوة هي الأساس الذي تقوم عليه الدولة. فاستخدام القوة له ما يبرره ما دام يتسنى عن طريقه تحقيق إمكانيات حياة رغدة. ولقد أكد أن المجتمع السياسي الذي يقوي من دعائمه عن طريق الإجبار والإلزام لا يستحوذ على السلطة الأخلاقية على المواطنين، وذكر في كتابه «إننا نعتبر روسيا دولة مجاملة على أساس أن سلطة القيصر بالرغم من عدم خضوعها لأية سيطرة دستورية لم تحدث ممارستها طبقًا لتقاليد معترف بها يتطلبها الصالح العام ويعتبرها سندًا لحقوقه.» ولقد داخله الشك في حق الدولة الروسية في أن تُطاع؛ نظرًا لما يبدو له من أن ما تقوم به من عمل لا يمت إلى الأهداف التي يجب على المجتمع السياسي أن يحققها. وليس هناك أي مجهود في نظرية جرين للمطابقة بين الواقع والمثاليات.
ومما هو جدير بالملاحظة معرفة التأكيدات المختلفة في وجهات النظر هذه من عرض هيجل للنظرية المثالية؛ إذ إننا نجد أن حق الفرد في أن يتمتع بحقوقه (وذلك بالنسبة لجرين روسو) يعتبر تفاعلًا لوضعه باعتباره كائنًا فاضلًا. وهذه الحقوق متساوية بين كل فرد وغيره، وليس من حق الدولة أن تختار بعض هذه الحقوق وتغدقها على بعض الأفراد بينما تحرمها على آخرين؛ ولذلك فإن ما يجب عليها أن تعمله هو إتاحة المساواة لأفراد المجتمع، فهم باعتبارهم كائناتٍ فاضلة لهم مصلحة مشتركة فيما تقوم به من حماية لذلك الرخاء؛ ولذلك فلهم الحق في أن يصدروا أي حكم على ما تقوم به من أعمال. وأما عن سيادتها فتعتبر في نظر كل فرد منهم محاولة في وجود المزاج المشترط، وتصبح ممارسة صحيحة للسلطة عند تحقيق إمكانيات حياة رغدة حيث يمكن «إشباع احتياجات الفرد في مهنته».
ولا نجد مثل ذلك المعنى عند هيجل، فهو لا يزيد عن مجرد إنكار إمكان تطبيق القواعد الأخلاقية على ما تقوم به الدولة من الأعمال، «فالدولة تعتبر العقل المطلق الذي لا يعترف بأية سلطة غير سلطتها التي لا تعترف بقواعد مجردة غير ملموسة عن الخير والشر … إلخ.» ويبدو اتجاهه في أن يقرن الدولة الحقيقية بتلك النواحي السامية التي تصدر عن تجسيمها واعتبارها من الكائنات البشرية الذين لديهم مثل أعلى عمل في حدوده الضيقة، يتحدد بما يقومون به من عمل. وإن كسب المال واحترام الجماعة التي ينتمون إليها هما المقياس الذي يقيسون به الأماني التي يهدفون إليها، فهم لا يمكنهم إدراك مزاج الجندي. لقد شغلهم جمع المال، فلم يهتموا بالوطنية، أما بالنسبة للعلاج فإن هيجل ينظر إليه نظرة عالية؛ إذ إنه قادر على الولاء وعلى الإخلاص، ويعتبر ذلك موجهًا لشخص ما لا موجهًا نحو فكرة بعينها. فالفلاح ماهر في عمله إلا أنه يفتقر إلى الذكاء الذي يمكنه من النهوض إلى مستوى أعلى من المصالح المعينة التي يعتبر فيها ذا كيان فردي.
ولذلك فإن الدولة التي تتكون من أمة واحدة نستطيع أن ندرك أنها تتكون من ثلاثة مظاهر؛ إذ نجد أنه ربما أوتي بعض العمال الصناعيين شيئًا من الذكاء، لا أنهم قد غرقوا في محيط ضيق الحدود تسوده الأنانية. إلا أننا ربما نجد الفلاح الذي يتصف بالولاء للمجموع، ولكننا نتبين أنه بسبب افتقارها إلى هذا الذكاء يتخذ ولاؤه للمجموع صفة الثقة السلبية العمياء. وهكذا يكون عنصرًا سليمًا في الدولة، لا أنه يظهر عدم كفاءته لممارسة تلك الصفات التي تتطلبها الحكومة. أما طبقة النبلاء فهي التي في إمكانها أن تسمو على المصالح الذاتية لوضعها في المستوى الذي يتمشى فيه الواجب الخاص مع الواجب العام، والهيئة التي تتسم ببعد نظرها هي وحدها التي تصلح لإصدار الأوامر باسم الدولة. وهي لإمكانها أن تسمو على المصالح الشخصية تستطيع أن تمثل أسمى أشكال الفضائل الاجتماعية، وهي أيضًا الهيئة الوحيدة التي تستطيع إخراج المثل الأعلى إلى حيز الوجود؛ هذا المثل الذي يناضل في الدولة القومية لكي يخرج إلى حيز الوجود.
وليس من العسير معرفة مصادر هذا الاتجاه، فهو يصدر عن الحماسة لتلك النظرة الإغريقية التي تحرم صفة الرعوية من هؤلاء الذين يعتمدون على أنفسهم للحصول على القوت، وهذه النظرة تجاري أيضًا نظرية بيرك في أن الأفراد الذين تحرروا من الحاجة إلى التفكير في المستقبل قد تحرَّروا — نتيجة لذلك — من الخضوع للمصالح الشخصية الضيقة. فهي تمثل تفاعل هيجل المتحمس مع التجارب والتطورات المرتبكة التي حدثت في العهد الثوري الذي كان يعيش فيه، وبناء على ما جاء في مؤلفات هيجل السياسية، نجد أنها تتسم بالإدراك التام لنواحي الضعف التي تتميز بها هذه الطبقات التي يمقتها ولا يحبُّها، إلا أنها تتميز أيضًا بنفس الغموض الذي كشف بيرك اللثام عنه.
وإن النتيجة التي تمخضت عنها طريقة عرض هيجل هي سلب فاعلية الرعوية من الجميع عدا أقلية في الدولة. فلقد استبعدوا من إرادة السيادة؛ لأن طبيعة المهنة كانت تندد دائمًا بتلك النظرة المحدودة الأفق التي تقدم الصالح العام قربانًا لمصالحهم الذاتية. فهم جديرون بتحقيق الخير العام، مضحِّين بأنفسهم في سبيل الأرستقراطية التي قال عنها هيجل: إنها تتلقى المساعدة منهم في مقابل المساهمة في الاتجاه السياسي للمجتمع. ومن الواضح هنا توافر تلك الافتراضات التي يقوم عليها هذا الاتجاه، بيد أن ذلك لا يظهر أي حرص، هذا الحرص الذي أبداه كل من روسو وجرين؛ لأنها تبدأ أول ما تبدأ باستبعاد جزء كبير من الجنس البشري من القدرة على اعتبار أنهم كائنات فاضلة. ثم إنها تستمر عن طريق الاعتقاد بأن الطبقة الأرستقراطية تستطيع معرفة الصالح العام دون أن تتعرض للوقوع في أي خطأ. وهي تقوم بعمل كل هذه الأشياء بالرغم من جميع شواهد التاريخ التي تدل على أنه لا دخل للمهنة في نشأة الكفاءة السياسية. كما أن كل الطبقات الأرستقراطية مهما بلغ سمو المثل الأعلى الذي تبدأ به تعجز دائمًا في النهاية عندما تتخذ وجهة نظر ضيقة جدًّا بشأن أهداف السياسة العامة. وإن وجهة النظر هذه لتعتبر نتيجة للحقيقة التي تنادي بأن الطبقة الأرستقراطية — مثل طبقة التجار أو العمال أو الفلاحين — تعتبر أسيرة للتجارب التي لا يستطيعون الإفصاح عنها. ولقد قرأ هيجل بتمعن كتاب بيرك «خواطر عن الثورة الفرنسية». ومما يدعو إلى الشفقة أنه لم يدرك أن كتاب «أفكار حول أسباب التذمر الحاضر» يعتبر آخر تعقيب على ما يتضمنه من المبادئ، وأن ما يقوم به حزب العمال لهو الجواب الأوفى على المثل الأعلى لحزب العمال.
ونجد وجهة نظر هيجل، وكذلك في الواقع جميع أركان النظرية المثالية، تعتمد على افتراض يدور حول التنظيم الاجتماعي، ومضمون هذا الافتراض من الأهمية بمكان. ومحوره هو أن الكل أهم من الجزء، وعلى ذلك فإن مصلحة الدولة القومية يجب أن يُنظر إليها على أنها أعظم أهمية من مصلحة أي فرد أو أية هيئة؛ ولذلك فإن هؤلاء الذين يسيطرون على سيادة الدولة — وذلك بسبب المصلحة العليا التي يُعتبرون مسئولين عن رعايتها — تكون دعواهم في المطالبة بالطاعة أجدر من دعوى أي كائن ممن يتولون رعاية أية مصلحة أخرى أقل شأنًا من مصلحة الدولة.
إلا أن مثل ذلك الافتراض تكتنفه مشاكل عديدة، فهو لا يوصلنا إلى حل لها. فإذا لم تتطابق الدولة مع المجتمع — وذلك ما تؤكد النظرية المثالية دون أي دليل — فإن مصالح الأمة لن تتطابق مع مصالح الدولة. فالدولة كما يقول بوزانكيه «هي مجتمع قد جرى العرف على الاعتراف به على أنه وحدة لها حق قانوني في استخدام القوة.» وهي باعتبارها الهيئة صاحبة السيادة نجد أن أية هيئة أخرى تخضع لقوانينها، وذلك في النطاق الذي حدد لها، ولكن ليس معنى ذلك أنها جزء منها، فالكنيسة الكاثوليكية في روسيا لا تعترف بأنها جزء من الدولة السوفيتية، وإننا لا نستطيع — عندما ندرك الحقائق — أن ننظر إلى الدولة على أنها تطوي بين جنباتها كل الأغراض الاجتماعية، وأنها تقوم بتحديد مشروعيتها، ولكنها تحدد النواحي القانونية فقط، وهي تستطيع أن تسعى إلى أن تلزمهم قانونًا بالخضوع لمطالبها، ولكن إذا افترضنا أن ذلك الخضوع للقانون يعتبر أكثر من نتيجة شكلية مجردة تمخضت عن طبيعة السيادة، فمعنى ذلك أننا قد أخطأنا معرفة طبيعتها، فالنواحي الشرعية تعتبر أمرًا منسوبًا إلى عالم مختلف تمام الاختلاف، هو عالم الجدل.
ونحن إذا قلنا: إن الدولة في ذاتها أعظم من مجموع مكوناتها؛ فإن هذا قول لا طائل تحته؛ لأنه أولًا ينطبق على جميع الهيئات كالكنائس والنقابات والأحزاب السياسية. وثانيًا: أن هذا القول لا يحل مسألة الاستنتاجات الممكن استخلاصها منه. ومن الواضح أننا نكون على يقين إذا قلنا: إن خير الدولة (حيث يتضمن ذلك خير الأفراد) أعظم شأنًا من خير الفرد الواحد. ولكن ذلك أيضًا لن يحل المسألة الكبرى الخاصة بما إذا كان ما تقوم به الدولة من عمل يحقق الخير لجميع الأفراد. والأكثر من ذلك هو أنه يجب علينا أن نتذكر أن «العمل الذي تقترحه الدولة» يعني العمل الذي تقترحه الحكومة التي تصدره باسمها. ولا يوحي أي فرد بأن ما تتخذه الحكومة يعتبر أمرًا شرعيًّا؛ لأن ذلك هو العمل الذي تقوم به الدولة، وليس ذلك أكثر من محاولة تقوم بها هيئة من الأفراد تسعى إلى تحقيق بعض الأغراض التي تعتبر مرضية بالنسبة لهم، وتنطوي على نوايا طيبة. ولكن لا يعتبر ذلك غرضًا حقًّا؛ لأنهم يعدونه كذلك. ولا يعتبر كذلك غرضًا حقًّا؛ لأنه ينطوي على تلك النوايا. ولقد ارتُكِبت أسوأ الأخطاء في التاريخ بأيدي بعض الأفراد في سبيل إحقاق الحق.
وإذا نحن تغاضينا عن الصعوبات التي تتعلق بنواحي ما وراء الطبيعة، فإن مغالطة وجهة النظر المثالية تعتمد على الخلط المتواصل بين أغراض الدولة المثالية، وسياسة الحكومة الواقعية. فالدولة تُعتبر منظمة تمارس السلطة الإلزامية لتحقيق الخير الاجتماعي. وتستطيع أن تؤدي ما تقوم به من أعمال عن طريق أفراد يتكلمون باسمها، ومن المفروض أنهم يقومون بذلك العمل من أجل الأغراض التي تكونت الدولة لتحقيقها، وإن أفعالهم هذه هي صاحبة الفضل في هالة الإجلال التي تحيط بالفكرة الفلسفية للدولة. ولكن لن يعزو أي شخص من أتباع ماركس، أو أي يهودي أو أي فرد من أتباع حزب الأحرار، هذا الفضل إلى هتلر عندما يقوم بعمل ما باسم الدولة الألمانية. كما أنه لا يوجد أي فرد يعارض الشيوعية قد ينسب هذا الفضل إلى ستالين إذا قام بعمل ما باسم الدولة السوفيتية. ففي كل حالة يمكن القول بأنه يجب إصدار حكم ما على العمل عن طريق ما نعتبره متمشيًا مع السياسة التي نعتبرها صحيحة في أي موقف من المواقف، كما أننا لا ننظر إلى حكم الدولة نفسها، وهو حكم هؤلاء الذين يمارسون سيادتها، على أنه جدير بأن يتبوأ المكان الذي نشغله لا لشيء إلا لأنه الحكم الذي أصدرته الدولة.
وعندما نقول: إن الدولة تعتبر اتحادًا يشمل كل شيء يجب أن نتذكر أن هذا الاتحاد ما هو إلا مثل أعلى مجرد لا حقيقة واقعة؛ إذ إن الذي نفخ فيه هذه الصورة هو التعريف المجرد، ويمكن تحقيقه عندما يهدف الأفراد إلى إيجاده، ثم إننا نستطيع أن نؤكد الشروط التي نُرسي عليها الدعائم لإيجاده، ولا يتسنى ذلك إلا عن طريق الإمعان في عِظات التاريخ ودروسه. ولكن يجب ألا يغيب عن البال أن ذلك لن يتحقق طالما أن مجموعة يعتد بها من المواطنين قد استُبعدت من المشاركة في الخير الذي يمكن للدولة أن تحققه. وسنجد أن الحرمان من السلطة السياسية في أي مجتمع سياسي يعني أيضًا الحرمان من الفائدة التي تعود من ممارستها. وهي كذلك لن تكون حقيقة عندما لا يتاح للمواطن أن يعبر عن رأيه بصراحة في شئون الدولة، فإن السياسة التي تتسم بالحكمة تكون دائمًا نتيجة الصورة المنعكسة عن التجربة. فعندما يُحال دون الإفصاح عن التجارب، لا نجد المواد المكوِّنة لهذه السياسة التي تتسم بالحكمة، وفي ذلك يكمن السبب في أن الدكتاتوريين لا يستطيعون تأسيس أسرة حاكمة مستقرة، وهم بسبب قصرهم للتجارب على القدر الذي يسمحون بالإفصاح عنه، والذي يعرب عن الرضا عما بذلوه من مجهود، فإنهم يحرمون أنفسهم من الاتصال بعقول رعاياهم. ونجد أنه في الدولة التي تتاح فيها الفرصة لتوجيه النقد: أن استخدام القوة له ما يبرره في أي مجتمع من المجتمعات.
وليس ذلك هو كل شيء، فإن اتحاد أية دولة دائمًا لا يعد دليلًا على قدرتها في إشباع احتياجات مواطنيها وتحقيق أهدافهم. ولا تستثنى هذه القاعدة في أي شيء في مجال التعاون، فعندما تقوم بحرمان شعب من حريته السياسية — كما حدث في ألمانيا الهتلرية — فمعنى ذلك أنك حرمته من الاستقرار؛ إذ إن الأفراد الذين لا يعرفون ما يتوقعون حدوثه في الغد، سيصبحون نهبًا للخوف والقلق اللذَيْن لا يتمشيان مع الولاء الذي يمنحونه عن طيب خاطر. وفضلًا عن ذلك نجد أن هناك عددًا قليلًا من الدول لا تستطيع أن تتحمل انخفاضًا شديدًا في مستوى المعيشة إلا إذا وقفت على الدلائل التي تثبت: (١) هذا الانخفاض ضرورة يتطلبها الموقف الراهن، وأن (٢) جميع طبقات المجتمع في ذلك سواء. ولكن عندما يدرك أفراد الدولة أن ذلك العمل قد شابه التحيز، فإنهم لا ينظرون إلى التزامهم السابق أمام السلطة على أنه التزام له شرعيته. وقد كانت هذه اللحظة دائمًا بداية فترات يوجه فيها النقد، هذه الفترات التي تسبق عهدًا ثوريًّا.
وإن القدرة على إشباع تلك الأماني المصطلح عليها لا تتطلب أي شكل معين من الدستور، ففي الماضي حقق كل نوع من أنواع الدولة — سواء أكان ذلك في النظام الدكتاتوري أم النظام الديمقراطي — حقق الاتحاد الذي تمخض عن هذا الإشباع بطريقة ناجحة، والشيء الجدير بالملاحظة في تاريخ أشكال الدولة وأنواعها هو عدم الاستقرار النسبي لجميع تلك الأشكال. وكان من عيوب النظريات الفلسفية السياسية أنها عجزت عن تفسير تلك الظاهرة تفسيرًا يبعث على الرضا، ونرى مثلًا أن النظام البرلماني الذي حاز منذ زمن بعيد ولاءً تامًّا من رعاياه، ونُظر إليه على أنه مثال يقتدي به العالم أجمع، يُنظر إليه اليوم بعين ملؤها الريبة أو الشك أو الكراهية، ونرى في ميدان آخر أنه مما يسترعي الانتباه أن نجد أن استخدام سلطة الدولة لتعزيز الأسس القانونية للرأسمالية (التي لم تقاوم عام ١٩١٤م في أي بلد إلا من شرذمة من المتحمسين) تكون اليوم — أكثر مما كانت في أية فترة من تاريخ سعيها لتحقيق هذا الهدف — مثار جدال شديد على نطاق واسع.
ولكن قبل دراسة أسباب هذه الظاهرة يجدر بنا أن نبدأ بالعموميات، فأفراد الدولة لا يهتمون بالمحافظة على هذا الاتحاد في حد ذاته، بل هم يسعون للمحافظة عليه لما يرونه من نتائج هذا الاتحاد. وتقوم فكرة تخويل الحق في ممارسة سلطة الدولة على رأيهم فيما تتمخض عنه هذه الممارسة، ولقد سقطت الدولة القيصيرية؛ لأن حكامها لم يستطيعوا إشباع احتياجات الجماهير، وذلك من جراء السياسة التي انتهجوها. ولقد سقطت جمهورية فيمار الألمانية؛ لأن جماعة من المواطنين فيها لهم وزن يمكنهم من نزع سيادتها، قد اقتنعوا بعجزها عن أن تكفل لهم ظروف الحياة الخيرة.
ففي كل من هاتين الحالتين نجد أن الأسس التي قامت عليها هذه النظرة ليست بالأمر الهامِّ نسبيًّا. وما من شك في أن المثال الألماني يبدو وهميًّا لأي مراقب محايد، غير أن الأمر الهام في المثالين هو أن اتحاد الدولة قد قضى عليه، وأن اتحادًا جديدًا قد خرج إلى حيز الوجود، على أنه في ظروف جديدة سيكرس لتحقيق أغراض أفضل من سابقتها، وكان فريق من رعايا الدولة التي قُضي عليها لهم من القوة ما يمكنهم من نزع سيادتها يعتبرون أنها عجزت عن تحقيق أمانيهم المشروعة.
إن النظريات القديمة التي وُضعت عن الدولة، ولا سيما النظرية المثالية، لا تفسر تفسيرًا وافيًا تلك المواقف التي ذكرناها من قبل. ويناقش أرسطو في الجزء الخامس من كتاب «علم السياسة» فيشرح علم السياسة لا فن الحكم، وكثيرًا ما يتكرر مثل هذا الموقف، حتى إن بعض المراقبين المحنكين أمثال ميكافيلي أصروا على وجهة النظر عن دورات التاريخ إذ يأخذ طابع الدولة في التدهور؛ وذلك نتيجة حتمية لأنها تأخذ طابعًا آخر. واتحاد الدولة في التاريخ يتدهور دائمًا عندما يكون بعيدًا كل البعد عن مفهوم كلمة الاتحاد. وتفتر حرارة الولاء الذي يفرضه لتحقيق أهدافه على أساس أن هذه الأهداف لم تتحق بعد، وأن وجه الشبه بين الدولة النظرية والدولة العملية يكاد يكون وقتيًّا، حتى إن أولئك الذين يتأثرون بما تؤديه من أعمال لا يستطيعون الاعتراف بصحتها.
ولا تعتبر هذه الناحية الوقتية عما توجهه الدولة من نقد، ولكنها هاتف ضروري ينادي بأن حكومات بعض الدول لا تؤدي عملها على خير وجه، إلا أن المواطن يستطيع التغلغل في أعماق دولته عن طريق الحكومة. وهو يصر في الأوقات العصيبة على أن هناك تشابهًا بينهما؛ إذ طالما تقوم الحكومة بأداء عملها باسم الدولة؛ فالأهداف تصبح أهدافها وتقوم سلطة السيادة بتحقيقها. ويشير إلى طبيعة الدولة من واقع أعمالها الحكومية دون سواها، وهنا يكمن السبب في قصور أية نظرية عن الدولة، ولا يرجع ما تقوم به الحكومة من عمل إلى التفسير الذي تقدمه، فالدولة هي ما تقوم به الحكومة من أعمال، وإن أية نظرية تطلب من الحكومة تحقيق الأغراض المثالية للدولة تعتبر بمثابة أساس للحكم عليها، وليست مجرد إشارة إلى نواحيها الهامة.
وسأحاول شرح ما يبدو لي أنه تفسير للظاهرة التاريخية التي ذكرتها هنا فيما بعد. أما هنا فسأكتفي بمناقشة علاقة هذه الحقيقة بالنظرية الفلسفية، ولقد أُقيمت دعائم هذه العلاقة على الاتجاه المستمر للحافز الإنساني الذي أخذ يشق طريقه ليكون صفة كبرى تظهر في المجتمع، ويعتبر هذا التأكيد قديمًا قدم الفلسفة السياسية ذاتها، وذلك ما استرعى انتباه أرسطو، ومن الأهمية بمكان أن نعرف العنصر الرئيسي الذي يكمن في معالجة بعض الأفراد لهذا الموضوع — وهم أفراد يختلفون عن روسو وتوكيفيل — وهم يوافقون على وجهة النظر القائلة بأن الاختلافات في الدولة تتطلب ما يبررها، فحرمان بعض الأفراد من بعض الامتيازات الخاصة يؤدي إلى مناوراتهم بإلغائها أو منحهم إياها، وعندئذ سيسود عدم المساواة، غير أنه بمجرد اعتقادهم في وجود حد فاصل بين ما يستحوذون عليه، وبين ما يتوقعونه، نجد أن عدم المساواة راجع إلى أن سلطة سيادة الدولة تسانده، وذلك هو تاريخ التسامح الديني، وتاريخ تدخل الدولة في النواحي الاقتصادية، وتاريخ حق الانتخاب، ويجب أن ندرك: «أنه كلما اتسع أساس حق الانتخاب، تغلغل التدخل وتعمق، وإننا لا نبالغ في القول أن منح حق الانتخاب لطبقة العمال قد جعل من الدولة منظمة قادرة على إشباع احتياجات مواطنيها بالقدر الذي يمكنها أيضًا من تصحيح المقارنات التي يعقدها أي مجتمع اقتصادي لا يقوم على المساواة، ولا تكاد تكون هناك أية ناحية من نواحي نشاط الخدمات الاجتماعية التي تزاولها الحكومات اليوم يعتبر مجهودًا يُبذل لمنح الفقراء بعض الحصانات التي يستطيع الأغنياء الحصول عليها لأنفسهم.»
وتحاول الدولة أن تقنع مواطنيها بأن ما تقوم به من عمل معصوم من الخطأ لا تحيز فيه ولا تحامل، وهي تقوم بذلك عن طريق تنظيم النواحي المادية لهم من أجل حياة خيرة، لا سيما بالنسبة لهؤلاء العاجزين عن الحصول على هذه النواحي لأنفسهم، ولقد جذب نطاق هذا التنظيم الأنظار منذ عام ١٩١٩م، والأمثلة عديدة لهذا النطاق نضرب منها نواحي التعليم والصحة والضمان الاجتماعي، وتحديد ساعات العمل والأجور في ميدان الصناعة، وكذلك تزويد المدارس الفقيرة بالطعام، ونقوم بتفسير ذلك التغيير الذي قد يطرأ على أسس مختلفة، فيمكن إرجاعه إلى أنه نتيجة للضمان الاجتماعي، وندلل على ذلك بقولنا إن ذلك هو الثمن الذي يجب على الأغنياء دفعه للفقراء في نظير أمنهم، وربما نعتقد أن ذلك يعتبر برهانًا لنظرية هيجل التي تقول إن التاريخ هو الكشف عن معالم الحرية التي يتسع نطاقها دائمًا. ومهما كانت وجهة نظرنا في هذا المجال، فإن الحقيقة التي لا مراء فيها منذ الانقلاب الصناعي على الأقل هو: أن اتجاه التشريع الجديد يرمي — وذلك عن طريق ما تقوم به الحكومة من عمل — إلى تخفيف حدة الموازنة التي بدونها ستعقد حياة الأغنياء وحياة الفقراء. أما عن قدرة الدولة في كسب ولاء مواطنيها، فيعتمد على سلطتها التي تخفف من حدة هذه الموازنة باستمرار، إذ إن تحقيق هدف في مجال ما يستتبعه نشوء حاجة في مجال آخر.
وتظهر أهمية هذه الخبرة بالنسبة للنظرية الفلسفية للدولة. ويجب أن نبدأ بالحقيقة التي تؤمن بوجوب قيام الدولة بعمل ما دون التحيز لفريق أو لآخر وذلك لمصلحة مواطنيها، وهي لا تستطيع أن تحقق هدفها كدولة إذا حاولت التمييز بينهم، ما لم تجز حقًّا يبيح التمييز بينهم على أساس يثبت أن هؤلاء المغبونين سيستفيدون نتيجة لذلك. وليس لدينا أي دليل من التاريخ يثبت لك، اللهم إلا التباين بين الكافر والمسيحي، والغني والفقير، والأبيض والأسود، ولكن ذلك كله يعتبر دليلًا على السعي وراء الخير الذاتي، وليس لتحقيق الخير العام، كما أن استطاعة الناس دائمًا إقناع أنفسهم أن ذلك التمييز له ما يبرره، وليس هناك أي خطأ في العلوم الطبيعية أو العلوم الاجتماعية، هذا الخطأ الذي لم يستطع الناس أن يحملوا أنفسهم على أنه حقيقة؛ إذ كان من مصلحتهم القيام بذلك.
ولذلك وجب على الدولة أن توزع ما تجنيه من فوائد من ممارسة السلطة على المواطنين بالتساوي، ولكن إذا أرادت أن تحقق هذا الهدف فيجب عليها — تمشيًا مع المنطق — أن تتحكم في الإمكانيات التي يتوقف عليها تحقيقه. كما يجب على النظرية الفلسفية أن تصدر حكمها على ما تنتهجه الدول الراهنة من سلوك في نطاق هذه الإمكانيات. ولقد حاولت في الماضي القيام بذلك بطرق مختلفة، وغالبًا ما كانت تستنبط أن هناك حاجة إلى وضع مجموعة من الحقوق يُنظر إليها على أنها مطالب ضرورية لتحقيق حياة خيرة لمواطنيها، كما أنها قد أصدرت حكمها على السلوك الحقيقي لهذه الدول في صيغة علاقتها بتلك الحقوق التي يجب الاعتراف بها، ولكن هناك استثناء لهذا الاتجاه العام، وهناك أدلة كثيرة من تاريخ الفلسفة السياسية عن المحاولات الكثيرة التي تثبت أن بعض الجماعات التي تتكون من أفراد معينين لا تصلح أن تمنح امتيازات الرعوية؛ ولذلك نجد أن استبعادها له ما يبرره، ولكن إذا قمنا بدراسة ما استبعدناه دراسة وافية، نجد أنها تعتمد على رغبة المفكر، وهي رغبة مشوبة بعاطفته، للدفاع عن توازن السلطة الوقتي الذي يريد له البقاء دائمًا، وأن دفاع أرسطو عن العبودية، ودفاع لوك عن إقصاء الكاثوليك، ودفاع هتلر عن إقصاء اليهود وحرمانهم من الرعوية إن هي إلا محاولات لإدخال الحزازات الشخصية في مبادئ عامة تخضع للعقل.
وإذا قمنا بتحليل أية مجموعة من الحقوق وضعها أي مفكر، سنجد، عندما نقوم بدراستها، أن هذا التحليل قد كيَّف وعدل من الناحية التاريخية. وإذا سلمنا بالبيئة التي يعيش فيها، كان مما سيلفت الأنظار عدم قيام أرسطو بتبرير العبودية، وكذلك إذا سلمنا بالبيئة التي عاش فيها لوك، تجد أنه من السهل تفسير حرمان الكاثوليك من الرعوية، وأن أفكار الناس عما يتوقعونه لتصدر عن الخبرة التي يواجهونها والاحتياجات التي يستخلصونها من هذه الخبرة. ونجد أن نظرية السلطة البابوية غير المباشرة لهي نتيجة طبيعية لتفكير يقبل النتائج السياسية لعهد الإصلاح ولكنه في الوقت ذاته يسعى بهذا القول جاهدًا إلى أن ينقذ ما يمكن إنقاذه لروما. ولقد اعترف لوك بأن ما يرمي إليه في «البحثين»: «هو الدفاع عن استحقاق وليم الثالث للعرش، والفارق بين شيوعية مابلي ومورلي وشيوعية لاماركس وإنجلز قد حدده تدخل الانقلاب الصناعي بين النواحي الفكرية، ويتمشى العنصر البرجماسي «العملي» دائمًا في الأفكار الفلسفية في ميدان السياسة مع مقدار فهمها.»
وإن أهمية هذه العلاقة بين البيئة النظرية والبيئة التاريخية ذات جوانب عدة، غير أنه يجب في هذا المجال أن نلفت الأنظار إلى عنصر واحد من العناصر الموجودة في هذه العلاقة التي تنطبع على موقف الأفراد بالنسبة للسلوك الذي تنتهجه الدول، وإن حالتهم تؤدي بهم إلى توقع إشباع بعض النواحي نتيجة لما يؤدي من عمل، ويقومون بإصدار أحكامهم على الدولة عن طريق الاستجابة لما يتوقعونه، ومن العبث أن نقول اليوم لعامل إنجليزي: إن مستوى دخله الحقيقي هو أربعة إضعاف دخل العامل الإنجليزي أثناء «الفترة النابليونية»، وذلك إذا قصد منه أن يستخلص الواجب الذي يتمشى مع حالته؛ لأن الافتراض الحيوي الذي يضعه في تقديره لحالته لا يقوم على المقارنة من هذا النوع، ولكن على الحكم الذي يستحقه الآن، ويكاد يوجد العنصر المادي في هذه الحياة التي نحياها، والتي لا تظهر أي تحسين كبير، وذلك على أسس مستويات قرن مضى، ومن الأهمية أن ندرك أن ما نتوقعه من منفعة ذات فائدة جمة، وإن كل تقدم لا نقوم به في الميدان الفني يزيد من إحساسنا بما يجب علينا أن نفعله، والدافع على ذلك هو إنجازه وتحقيقه ولم تثر الأزقة الكئيبة ولا الأحياء القذرة التي كانت موجودة منذ قرن أي اشمئناط أو اشمئزاز بين الأفراد الذين قاموا ببنائها، كما تثيره بيننا الآن. أما الحرمان من فرصة التعليم في العهد الذي عاش فيه بنتام، فكان بمثابة حرمان — ولكن على نطاق أوسع — من حق من الحقوق في الوقت الحاضر.
ولذلك فلن ترضى الفلسفة السياسية بالأخذ بنظرية جامدة، إذ وجب عليها معرفة كيفية تفاعل أسسها وقيامها بالعمل، إذا ما تاقت إلى الحصول على أية سلطة لا تخاف لها وطأة؛ ولذلك فعندما نذهب إلى أن الدولة يجب عليها ضمان تلك الإمكانيات التي في ظلها يستطيع كل مواطن أن يحقق ذاتيته ككائن أخلاقي يجب علينا أن ندرك أن هذه الإمكانيات ليست على حال واحدة، ولكنها نسبية للبيئة التي يطرأ عليها التغيير دائمًا، وأن المستوى الذي تُصان فيه هذه الإمكانيات لوظيفة ثابتة لهذه البيئة. ولا يمكننا أن نقف على أية فترة من الفترات ونجعل من إمكانياتها مقياسًا نقيس به أماني معقولة، فالخبرة الوثابة المتطورة تجتاح مستوياتها التي نحقق بها ما نبتغيه.
ويجب وضع مجموعة من الحقوق للتأكيدات الجديدة التي تخرج إلى حيز الوجود في كل فترة نقوم بتطبيقها عليها. ففي عهد بت الصغير كاد قانون التشهير يسبب بلبلة للرأي العام، غير أن العهد الفيكتوري بما عُرف عنه من أمن وتسامح ألبس مقاييس التعبير الحر ثوبًا جديدًا، وأثار قانون بت موجة من السخط لم تكن لتحدث في عهده أو يقوم بإثارتها معاصروه، وربما أدخل ضمان البطالة بعض الصعوبات التي لا تلين في نظام الأجور الذي يتعارض مع المرونة التي يتطلبها ما يؤديه نظام الأسعار من عمل حر، ولكن عندما يذوق العمال في أية دولة حلاوة المنفعة التي يهبها هذا النظام، فإن رجل السياسة الذي يقترح إلغاءه، يجازف بقيامه بذلك. ولقد اعتقد معظم رجال الاقتصاد منذ نصف قرن أن ذلك النظام يعتبر جزءًا من الحياة الخيرة التي لا يمكن تغييرها، أما اليوم فالدفاع عن عاداتها على هذا الأساس هو استثناء نادر الحدوث لا قاعدة عامة.
ويوضح ما نستخلصه من كل هذا أن الفكرة الفلسفية للدولة تمدنا بمقياس نستطيع أن نقيس به ما تفضح عنه الدول من سلوك، أما صلاحية هذا السلوك فنجعله أمرًا علينا أن نقرره بالرغم من قصوره، وإذا تغاضينا عن الميدان الشكلي المحض فإننا لا نجد هناك أي التزام يقضي بطاعة الدولة الحقيقية. إن الطاعة تعتبر بمثابة حكم تصدره على ما تقوم به من عمل، وعلاوة على ذلك، فإن هذا الحكم لا يعتبر حكمًا يستطيع كل مواطن أن يصدره على نفس الفروض سواء منها المبنية على أساس عقلي أم الفروض المبنية على أساس عاطفي. إن ما يقرره سيكون نتيجة للمكان الذي يشغله في الدولة وعلاقة هذا المكان بالنسبة لنظرته فيما يجب عليه أن يحققه، وربما أخطأ الصواب في اتخاذه هذه النظرة، ولكن ليس هناك بديل لما يتخذه من عمل على أساس يتمشى مع العقل والمنطق على ضوء ما لديه من يقين.
٤
تقوم على هذا الموقف نظرة في القانون تعتبر مضامينها ذات أهمية؛ إذ إنها تنظر إلى صحة القانون على أنه لا يمت إلى مصدره بصلة. إن القانون يصبح قانونًا عندما يدخل في نطاق التطبيق والتنفيذ، فهو يتخذ صفة القانون عندما يُوافَق عليه، ولكن ليس معنى ذلك أن كل قانون مقبول يعتبر قانونًا صحيحًا؛ إذ يمكن قبول القانون عن طريق القوة التي تسانده وتقف دائمًا وراءه. وينبغي لنا أن نميز بين ثلاثة معانٍ مختلفة حيث تستخدم فكرة القانون، فهناك المعنى الشرعي، وهو معنى شكلي، لا أكثر من أنه إعلان عن الإرادة لتنفيذ بعض القرارات المعينة. ويعتمد اعتمادًا كليًّا على السلطة ذات السيادة، وهناك المعنى السياسي حيث تثبت صحة هذا الإعلان، وذلك عن طريق قبول هؤلاء الذين سيطبق عليهم. وأخيرًا، فهناك المعنى الأخلاقي حيث يوجب طاعة ذلك القرار؛ لأن وجوب تنفيذ ما يقدمه من اقتراح صحيح من الناحية الأخلاقية.
ومن الواضح أنه في المعنيين الأول والثاني لا يكمن أي واجب للطاعة في أعماق المواطن، وستطالب فئة قليلة من الناس بحماسة أن المعنى الشرعي يجب أن يتعادل مع المعنى الأخلاقي. وترى مثلًا أنه لا يستطيع أي فرد من أتباع الكويكراز (وهي طائفة الأصحاب التي أسسها جورج فوكس ١٦٤٨—١٩٥٠م، وهي تكرس نفسها لمبادئ السلام والبساطة في الملبس والحديث …) أن يسلم بأن الدولة التي أمرت حكومتها المواطنين أن يشنوا حربًا، تستحق لهذا الغرض أن يطيعها المواطنون، كما لا يمكن القول إن الجانبين السياسي والأخلاقي متطابقان، فإن الأوامر التي ألقتها الدولة الهتلرية في ٣٠ يونيو ١٩٣٤م كانت تعتبر بمثابة قانون بمعنى أنها أدخلت في حيز التنفيذ، وقبلت من الشعب الذي حكمته الدولة الهتلرية، بيد أن أغلب الناس الذين يكونون في وضع يسمح لهم بإصدار حكم محايد سينظرون إليها على أنها منافية للنواحي الأخلاقية. إن القوة مهما كانت شديدة لا تخلق الحق، وإن ما يؤديه القانون من عمل له فاعليته لا يزال يترك مسألة الكفاية الأخلاقية دون قرار.
ولا يمكن للمقدرة الرسمية أو السلطة السياسية أن تخولا حقًّا عادلًا للطاعة، ولكن ما هي النواحي التي بقيت لنا؟ إنه الإصرار على القول بأن القانون لكي يثبت صحته من الناحية الأخلاقية يجب أن يطابق ما تتطلبه مجموعة الحقوق التي تقوم الدولة بتحقيق أهدافها. وطالما كان القانون بمثابة أمر يسعى إلى التحكم فيما أفصح عنه من سلوك، ينبغي أن أصدر حكمي على هذا التطابق على أنه مقياس للكفاية الأخلاقية. إن جذور القانون الصحيح تتأصل في أعماق الفرد، وأستطيع أن أضفي على القانون فاعليته القانونية بما يبديه ضميري من موافقة ما يؤديه من عمل.
فإذا قيل: إن مثل هذه النظرة عندما تبرر الرفض على الطاعة تفتح الباب للفوضى؛ فإن الرد على ذلك هو أن الاتهام صحيح، إلا أن هذا الاتهام ليس خطيرًا. ونجد الطريق المؤدي إلى الفوضى في الدول أمامنا دائمًا؛ لأن الأفراد لا يبدو استعدادهم للاعتراف بفرض سلطة غير مشروطة، ولكن إذا قيل إن ضمير الفرد ربما تعرض لمواطن الزلل كضمائر هؤلاء الذين يحكمون الدولة؛ فإن الإجابة هي أنه بينما يكون هذا صحيحًا نجد أن المواطن الذي يركز اعتقاده على أساس أنه ربما يقع في الخطأ سيتخلى عن أن يكون مواطنًا بالمرة. وليست هناك طريقة تجعل الدولة تسعى إلى تحقيق أهداف العمل المناط إليها إلا الإدراك من أن الأفراد سيرفضون طاعة أوامرها حيث ينظرون إليها على أنها انتهاك لهذا العمل. ها هي الحقيقة التي رآها بيركليس عندما أخبر المواطنين في أثينا أن سر الحرية يكمن في الشجاعة، فإذا لم تدفعهم فراستهم إلى العمل — حتى عندما تحيد هذه الفراسة عن الصواب — فسيصبحون لا أكثر من مجرد أفراد سلبيين يقومون بتلقي الأوامر التي لا يكترثون بصفتها الأخلاقية. وعندما يتخذون هذا الموقف يقومون بهدم الأسس التي تقوم عليها الدولة، والسبب في ذلك هو تخليهم عن كونهم كائنات أخلاقية، وهم يقرنون الحقيقة والعدالة والحق، يقرنونها آليًّا بالقوة المادية، ومثل هؤلاء الأفراد لا يستطيعون بمرور الأيام الإبداع في شيء، وعندما يقوم أي فرد بالتخلي عن حكم أخلاقي معناه أنه يزج بنفسه في طبقة العبيد.
لقد قيل: إن الفرد لا حول ولا قوة، وأن تأثيره على حكمه يبدد طاقته ويفت من عضده، إلا أن هناك ردين على وجهة النظر هذه. فالالتزام الأخلاقي ليس بأقل من أمر اضطراري؛ لأنه ربما انتهى أمره إلى الفشل. ومعنى أنك تتخذ قانون الجهد أنك توافق على النظرة التي تذهب إلى أن العدالة هي إرادة الأقوى، وهي مذهب يعارضه تاريخ البشرية بأجمعه، ويعتبر الدخول في مناقشة عجز الفرد لا أساس له من الصحة، إنه عاجز عندما تهمل إحساساته ويفشل في إثارة استجابة أي من المواطنين، ويجب عليه أن يتذكر دائمًا أن التغيير الذي يطرأ على الأحداث ربما يجعل من السهل في فترة أخرى ان تتجاوب إحساساته مع إحساسات الآخرين. ولقد بدا العقم على وجه المسيحيين الأوائل بالنسبة لجيلهم عندما تحدوا عظمة روما وجلالها، إلا أن صلابتهم وثباتهم قهرا العالم الغربي.
ولقد بدت معارضة لوثر ومقاومته ضربًا من ضروب الجنون، في نظر الكنيسة التي تذكرت انبثاقها وما اقترن به من نجاح، من شدائد الثورة الكنيسية، ولكن شجاعته غيرت وجه العالم، تاريخ العالم.
والتاريخ يضرب لنا كثيرًا من هذه الأمثلة، وإن الفرد الذي يحتج على القانون الذي يعتبره لا يتمشى مع العدل أو القسطاس ولا يقف وحده، وهناك من يؤيده أكثر مما يتصور وهو يعمل في نطاق عقلي حيث تجد الخبرة قد وجدت صداها عند الآخرين، كما أن الإيماءة التي يقوم بها ربما أيقظت الآخرين وجعلتهم يتفهمون التزاماتهم، ولن يتطرق الشك إل عقل أي فرد ينظر إلى التاريخ من أن المطالبات بحق الانتخاب اللائي قاومن القانون لمدة ثماني سنوات قد أيقظن الحكومة البريطانية لأن تدرك أن دعواهن جد خطيرة، حتى إنها غيرت نظرتها تجاه هذه الدعاوى، كما أنه لن يتطرق الشك إلى أي فرد في أن إرادة لينين التي لا تلين كانت محور نجاح الثورة البلشفية عام ١٩١٧م.
وإن ما يبدو لي من تضمين لا مفر منه في هذا المضمار، وهو أنه يجب علينا أن نكافح من أجل الفلسفة التي نؤمن بها.
ومقابل هذه النظرة نجد اعتبارين في كل منهما عامل يعتد به من القوة، فلقد قيل إن مقاومة الحكومة وتحديها معناه إضعاف سلطة القانون، ومعنى أنك تقوم بذلك أنك فتحت الأبواب للفوضى لكي تسود وتعم.
إن ذلك الشعور بالخطر هو الذي جعل ت. ﻫ جرين الذي أباح الحق في الثورة، كما لجأ أخيرًا أن يصر على أنه يجب علينا أن ندنو من الدولة في وجل وخوف. ومن الأهمية أن ندرك أن احترام القانون يجب أن يعني دائمًا الاحترام لما يقوم به القانون من عمل. وإذا أصدر الفرد — سواء أكان بمفرده أم مع آخرين — حكمه على ما يؤديه القانون على أنه غير محتمل حدوثه من الناحية الأخلاقية يجب عليه أن يؤثر في أساس حكمه. ولكن إذا قررت غير ذلك فمعناه أن الواجب الأسمى الملقى على كاهل الفرد هو حفظ النظام دون النظر إلى صفة النظام المراد حفظه. وإني لا أجد أن هذا الدليل يتمشى مع فكرة الفرد ككائن أخلاقي.
ولقد قيل: إن هذه النظرة تبيح الحق لأية مذاهب أن تساند نفسها عن طريق القوة إذا استطاعت، وأن على الأفراد التصريح بأن هناك اعتقادًا راسخًا قد دفعهم إلى ذلك حتى يجدوا المبرر لاستخدام العنف؛ لكي يحققوا أهدافهم. ويعتبر مثل هذا الموقف بمثابة ناحية هدامة للأسس التي تقوم عليها الرفاهية الاجتماعية.
غير أن الرد على ذلك هو عدم وجود أي مذهب مهما كان هدامًا؛ لكي يحض على استخدام القوة ما لم يكن متأصِّلًا في خضم من الضيم، ولا يجد وسيلة أخرى للعلاج، فربما آمنا أن الثورة البلشفية كانت ثورة اتسمت بنوازع الشر، بيد أنه من الواضح أن الأحوال السابقة للدولة الروسية هي التي تبين لنا أسسها والطرق التي اتبعتها. وربما نذهب مع الشيوعيين إلى أن هتلر لم يكن أكثر من مجرد عميل للرأسمالية في ألمانيا، ولكن من الواضح أيضًا أن النصر الذي أحرزه قد بُني على أشلاء الملايين من الألمان الذين لم يجدوا في عادات جمهورية فيمار الألمانية إنصافًا كافيًا. وتنطوي الحقيقة على أن الأفراد بوجه عام قد تعودوا على التسليم بأن خروجهم على قواعد السلوك السياسي العادي يعتبر دائمًا دليلًا على مرض عضال ينخر في عظام الدولة، وكما قال بيرك: إنهم لا يبدون أي اهتمام في اختلال النظام واضطرابه.
وعندما يحيدون عن الصواب يعتبرون هذا خطأ منهم، لا جريمة لهم، ولا داعي إلى أن نناقش أن المذهب الذي يحصن نفسه يتسم بالحكمة أو الصواب لمجرد قيامه بذلك، ولكن يجب أن نناقش على أساس الحقائق أنه لا يوجد أي مذهب استطاع أن يحصن نفسه جيدًا ما لم يقم بمهاجمة الحكومة، وأنها قد مُنيت بالفشل في معالجتها للشدائد التي تعبر عنها بطريقة معقولة.
وهذا واضح كل الوضوح في تاريخ أغلب الثورات. وما من شك في أن الطالب الذي يدرس الحروب الأهلية الإنجليزية والثورات التي قامت بها فرنسا وروسيا سيرى تلك الجهود التي اتسمت بالصبر، والتي قام بها الأفراد العاديون لانتظار الإصلاح قبل اتجاههم إلى نواحي العنف.
ونجد أنه ليس من المحتمل في أي مجتمع من المجتمعات حدوث أي عنف إذا انتشر الاعتقاد على نطاق واسع أن الدولة تحاول أن تقوم بتنفيذ التزاماتها.
ويسود العنف عندما تدفع الحقائق الأفراد إلى الاعتقاد بأن ما يقوله الحكام لا يوثق به، وربما وقعوا فريسة الخطأ حينذاك، وهناك من مناسبات عدة في التاريخ عندما أطيح بحكومات كان أفرادها يكافحون كفاحًا مريرًا للتغلب على الصعاب التي لم يستطيعوا التغلب عليها، كما أن هناك مناسبات أخرى عندما تكون الأهداف التي سعى إليها الأفراد الذين قاوموا الدولة لا يمكن تحقيقها في داخل نطاق المؤسسات الراهنة، وأن الإطاحة بالدكتور براتنج لمثل للنوع الأول، أما تاريخ الثورة الفرنسية فهو واضح للنوع الثاني.
أما استخدام العنف — وليس ذلك نادرًا — للتغلب على القانون فهو نتيجة لتصارع القيم التي لا يمكن تلاقيها في نقطة واحدة، ولكن ماذا هو الموقف الذي سيكون عليها عندما تثار هذه المسألة؟ لن يدعي أحد بساطة هذه المشكلة، ونرى مثلًا أن القول الذي يذهب إلى أن الواجب المُلقى على عاتق الأقلية التي حرمت من قيمها هو أن يصبحوا أغلبية ليس ردًّا على ذلك؛ ولذلك يقومون باستخدام النواحي الدستورية لنيل السلطة عن طريق الإغراء، ولكننا نجد أنه ربما لا توجد هذه النواحي الدستورية.
وليس هناك فائدة ترجى من قولنا لأي مواطن في الدكتاتوريات الأوربية: إنه يجب استخدام طرق الإغراء السلمية للحصول على وجهات نظر قد قُبلت من قبل؛ لأننا نجد بداهة أن الحق في استخدام تلك الطرق من الناحية القانونية قد خلى عنها، وليس هناك من بديل سوى القيام بالثورة إذا رأى أنه عن ذلك الطريق يمكن تحقيق أهدافه، بيد أن الرجل الاشتراكي في ألمانيا لا يمكن أن نطلب منه أن يرنو إلى تغيير ألمانيا الهتلرية بالطرق السلمية.
ولقد قيل: إن الموقف يختلف في دولة تتخذ طابع الديمقراطية الدستورية. وعلى أية حال فإن الحرية لتوجيه النقد مكفولة، وإن القرار قد يتخذ عن عمد بالنسبة لهؤلاء الذين يختلفون عن حكومات اليوم، لأن يحلوا محلها إذا استطاعوا استمالة أغلبية المواطنين حتى يصوتوا في جانبهم، وتمكين الحقيقة في مثل هذه النظرة.
وعلى العموم فمن المستحيل الصفح عن استخدام العنف في الميدان السياسي إلا إذا اعتبر سلاحًا نلجأ إليه أخيرًا. ويجب أن تستنفد جميع التصرفات التي يمكن القيام بها قبل اللجوء إلى العنف، ومن الأهمية أن ندرك أنه في الدول الديمقراطية الدستورية نجد أن الاعتماد على الإغراء بوسائل معقولة يعتبر وظيفة لبعض النواحي على أساس أن الأقلية المسئولة بتنفيذ كل شيء. على أن ذلك يجب أن يدخل في الاعتبار، وأول هذه النواحي هو تخويل الحق في توقع ما تؤديه مؤسسات الدولة من أعمال، فتلك المؤسسات ينبغي أن يتعادل وزنها ووقعها على جميع الأطراف التي تتكون منها المعادلة السياسية.
وهذا التعادل نفسه حتى في الدولة التي تبلغ من الحرية مبلغ بريطانيا لا يمكن أن يحقق نفعًا ما. فمجلس اللوردات يعد آلة صماء في يد حزب واحد في الدولة، وأنه يمارس سلطته عن قصد؛ ليسخر من إرادة معارضيه حتى عندما تكون لهم أغلبية في المنتخبين، ولكن إذا قيل: إن مجلس اللوردات سيرضخ دائمًا عندما تعرف إرادة المنتخبين (وذلك بعد انتخاب عام مثلًا تميز بالصراع حول مسألة خاصة) فإن الرد سيكون بالتأكيد، حتى ولو كانت ذلك هي الحال فهو يخضع حزبًا واحدًا في الدولة لنقائص كثيرة لا يتصف بها الحزب المنافس له.
وإن النتيجة التي ستنجم من جراء هذه النقائص هي فشل المجهود الذي يبذله الحزب الذي نال أغلبية في الانتخابات؛ وذلك بسبب الإمكانيات الفنية التي يضحِّي في ظلها بأن تكون أغراضه لها فاعليتها.
وليس ذلك هو كل شيء، فمن المهم أن عمل مؤسسات الدولة لا ينبغي أن يدخله أي تحيز، ومن المهم أيضًا أن يكون هؤلاء الذين يقومون بإدارتها قادرين على معرفة افتراض أن المبادئ التي تقوم عليها الديمقراطية الدستورية ستسترعى انتباه معارضيهم. ومن اليسير التدليل على أن هذا الافتراض له ما يبرره على أنه يعتبر قاعدة ثابتة لا تتغير تقريبًا. ونستطيع أن نقول: إنه في أي مجتمع من المجتمعات التي تعودت على هذه المبادئ نجد أن التخلي عن هذه المبادئ، ويحق لنا أن نقول بشيء من التأكيد: إن الخروج على هذه المبادئ في مجتمع طال العهد على تعوده إياها سوف يكون أقل احتمالًا مما يتيسر في مجتمع آخر هو حديث عهد بهذه المبادئ، ولكن ذلك يعتبر تعميمًا معقولًا، حتى إنها ستلفت الأنظار عندما تكون المصالح التي تعتبرها نخبة من الأقلية، سواء أكان ذلك خطأ أم صوابًا، أساسية لا تتعرض للخطر. وهذا هو ما تضمنته أزمة الستر في بريطانيا في ربيع عام ١٩١٤م، وهو ما تضمنه موقف المستخدمين الأمريكيين مثل مستر فورد وما تضمنه موقف رجال صناعة الصلب بالنسبة لذلك النص في قانون الإنعاش الصناعي القومي الذي يضمن للعامل الحق في اختياره بحرية تامة الهيئات التي عن طريقها سيتمثل في استقرار النواحي الاقتصادية، فإذا لم تتأكد أي حكومة في الديمقراطية الدستورية من أن القرارات التي ستتخذها ستلقى الاحترام الخليق بها؛ فإن الفرد سيكون على يقين من أن الافتراضات التي بُني عليها هذا النظام لن تلبث طويلًا.
ونستخلص من هذا أن ذلك يؤدي إلى الالتزام وهو واجب على حكومات مثل هذه الدول، والذي لا يستشيط غضب الإحساسات الأساسية للأقلية الهامة، وهناك قيود مفروضة على حقوق الأغلبية التي يمارس ممثلوها السلطة ذات السيادة، وأن هذا من البديهات المسلم بها، ولكنها ليست ذات معنى عميق؛ إذ يستطيع كل شخص أن يرى أنه إذا قام أي ملك في البرلمان وحال دون ممارسة اعتناق الديانة الكاثوليكية، فعندئذ سيقوم هؤلاء الذين اعتنقوه بانتهاك القانون بدلًا من طاعته، وإذا أعلن الملك أن النقابات تعتبر بمثابة هيئات غير شرعية؛ فإنها ستقوم بالمقاومة بدلًا من الرضوخ. وما من شك في أنه لا يوجد أي فرد يرى أن الحق القانوني في ممارسة سلطات السيادة يخوِّل للحق الأخلاقي أن يقوم بعمل ما يشاء.
ولكن ليس معنى وجود قيود مفروضة على حقوق الأغلبية أننا قمنا بتعريف هذه القيود، وهذا هو جوهر المشكلة ولبُّها، ولا نستطيع الدخول في مناقشة حامية نذهب فيها إلى أنه لا توجد أية حكومة يخول لها الحق في اتخاذ أي قرار ربما يدفع الأقلية التي لها أهميتها إلى الهياج، ولقد استشاطت أقلية الرأي الأمريكي غضبًا من القرار الذي اتخذ لإلغاء العبودية.
ولقد اعتقدت أقلية لها أهميتها أن قانون الإصلاح الصادر عام ١٨٣٢م كان مدعاة للهياج والغضب، ولكن يجب ألا نحاول أن نجد المبرر لاتخاذ قرار يبطله على هذا الأساس، وأن الأقلية الهامة في بريطانيا تعتقد أن «وسائل الاختبار» فيما يتعلق بالتأمين على البطالة تعتبر بمثابة هجوم، غير أن هذا الهجوم لا يبرر إبطالها، ويكاد يوجد عمل اجتماعي واحد نافع له ضخامته، وله أثر مضاد لمصلحة هامة لا تعتبرها الأقلية التي تأثرت بها في وقت أو آخر مدعاة للغضب والهجوم، وحامت الشبهات على مراسم الوفاة التي فرضها سير وليم هاركورت وندد بالضرائب المفروضة على الأرض والتي فرضها مستر لويد جورج.
فهل لنا أن نقول: إن النقطة التي تتضح فيها قيود حكم الأغلبية قد حددت معالمها عندما تكافح الأقلية، وتناضل بدلًا من أن تذعن وترضخ؟ إلا أن هذا يثير مشكلات عدة، وهل يعني الكفاح صدامًا حقيقيًّا في الشوارع، أو أنه يكفي أن نقوم ببعض المحاولات كإضراب عام حيث يمكن العنف في النفوس؟ ولكن من المستحيل إدارة الحكومة القائمة على النظام على أساس أن الأغلبية يجب ألا تستخدم سلطتها عندما تهدد الأقلية بالمقاومة، ونرى مثلًا أنه في موقف أيرلندا عام ١٩١٤م كانت إدارة الحكومة مهددة بالتوقف؛ إذ هدد المتطرفون في الستر بالكفاح إذا دخل قانون الحكم الذاتي حيز التنفيذ، وهدد الوطنيون الأيرلنديون بالوقوف في وجه الحكومة إذا سحبت هذا القانون.
وإن الحل الذي توصل إليه سكويث، والذي يقضي بتنفيذ هذا القانون ولكن أُوقف عمله، تمخض عنه نجاح المتطرفين في الستر نجاحًا تامًّا.
وما من شك في وجود ملابسات عندما يكون من الحكمة أن تقوم الحكومة بالتراضي والوصول إلى نقطة البناء بدلًا من محاولتها الإبقاء على هيبتها دون النظر إلى الثمن الذي يدفع نظير ذلك. ويعتبر اتخاذ لينين للسياسة الاقتصادية الجديدة عام ١٩٢١م مثلًا قديمًا لإذعان مبدأ يتسم بالحكمة في وقت عصيب، ولكنه ليس مثلًا يتخذ قاعدة عامة؛ لأنه سيستحيل على الحكومة الحصول على أغلبية ثابتة، إذ إن الحكومة التي تقاوم تجدها مضطرة طالما تشعر — وكلها ثقة — أن الرأي العام يساندها أن تقابل هذه المقاومة؛ إذ إن النظرية الأولى للديمقراطية الدستورية يمكن أن تطيحها بعض الطرق التي يجيزها القانون؛ ولذلك فإن قيود حكم الأغلبية لا يمكن تحديدها بالدقة، إلا أنها تقوم على الفراسة والتبصر وبُعد النظر، لا على المقاييس الصحيحة عما تكون عليه بعض المواقف المعينة، ونجد بالتأكيد أن الحكومة التي تقدر أهميتها يجب أن تتذكر دائمًا أن أي رضوخ لما يتمخض عن المصلحة من ضجيج سيحول بينها وبين قدرتها على الوقوف على مقاييس جد هامة.
وإن ما يصدر عن الخبرة التاريخية التي مررنا بها لدرس يستشف منه أن الحكومة تستطيع أن تفرض إرادتها على المواطنين في الديمقراطية الدستورية لمدة طويلة، طالما أن هؤلاء المواطنين متفقون على أهداف الدولة الأساسية، ولكن عندما يحدث أي انشقاق في الرأي يظهر الضعف والوهَن جليًا في الهيئات الدستورية، وفي هذه الملابسات ما ييسر الاندفاع سريعًا نحو النظام الدكتاتوري.
وعلاوة على هذا نجد أن ذلك يسترعى الانتباه في أوقات الضيق الاقتصادي، كما أن هؤلاء الذين يفقدون الكثير من جراء التغييرات التي تطرأ على الحكومة في إجراء مثل هذه التغييرات، وسيقومون بتعميم الفكرة التي تقول: إن مصالحهم الخاصة تتعرض للخطر؛ إذ إن رفاهية المجتمع يتهددها الخطر، وسيندفعون إلى القيام بأعمال تعتبر في نظرهم خير دفاع عن مصالحهم، حتى ولو كان هذا العمل هو الإطاحة بالقانون والنظام.
وسيقومون بذلك بكل إخلاص وتفانٍ، ولن يتطرق الشك إلى إخلاص اللورد كارسون وأتباعه عام ١٩١٤م.
وربما نعتقد أن أعمالهم تتصف بالخطأ من الناحية الأخلاقية، أو أنها لا تتسم بالحكمة من الناحية السياسية، غير أننا لا نصدر دائمًا هذا الحكم على ما يقومون به من أعمال. ويذهب نفر قليل إلى أن مقاومة البرلمان لشارل الأول لا مبرر لها، كما ينكر نفر أقل أن هؤلاء الذين قاوموا جيمس الثاني عام ١٦٨٨م لديهم ما يبرر هذا العمل. كما أن أغلب الفرنسيين يدافعون عن أحداث الثورة الفرنسية، ويستطيع جيلنا أن يتذكر موجبات الرضا الشاملة التي امتدحت الثورة الروسية في مارس عام ١٩١٧م.
ولكن ذلك مدعاة للقول بأن المقاومة كان لها ما يبررها، وطالما لا توجد محكمة نرجع إليها لاتخاذ قرار حاسم حول بعض المشاكل، نجد بالتالي أن القرار لبدء المقاومة قد أصبح في أيدي بعض الأفراد. وكل ما نطلبه منهم هو أن يصدروا حكمهم على أفعالهم بنفس المقاييس الصارمة التي يطبقونها على الحكومة التي يعارضونها.
إن الأثر الذي ينجم عن إصدار بعض الأفراد الحكم على أفعالهم بنفس المقاييس الصارمة التي يطبقونها على الحكومة التي يعارضونها، هذا الأثر على فلسفة القانون أثر مباشر؛ إذ إنه يجعل قيود الأعمال القانونية التي لها فاعليتها تتوقف على موافقة المواطنين، وطبيعي أن هذه الموافقة يحددها عدم المبالاة بالإلزام. ومن الواضح أن هناك ملايين غفيرة من المواطنين في ألمانيا الهتلرية قد طُلب منهم بالقوة تقديم فروض الطاعة، غير أن فلسفة القانون التي لا ندرس المبادئ التي يقوم عليها، وذلك عن طريق الإشارة الدائمة إلى جذورها المتأصلة في عقول هؤلاء الذين طبعتهم نتيجة تطبيقها، لا يمكن أن تتمخض عن نظرية عن الدولة تؤدي عملها، وينبغي أن نؤكد أن القانون الصحيح هو القانون الذي يقدره الأفراد تقديرًا كافيًا لكي ينال موافقتهم، وليس هناك رأي قاطع بشأن الموافقة عليه؛ لأنه يصدر من السلطة ذات السيادة، وليس هناك رأي قاطع يشير إلى أنه يحقق دعائم الحق، كما أن دعواه في الطاعة تستند إلى القرار الذي يتخذه الأفراد حول مشروعية دعوى القانون، والقانون يصبح قانونًا صحيحًا عندما تتمكن السلطة التي خولت له من أن تشبع الاحتياجات التي تصدر عن المؤسسات التي يمثل إرادتها.
وجدير بنا أن نشير إلى ملاحظة أخرى في هذا المجال، فلقد قامت هذه الدراسة على إنكار فرضين: الأول: هو أن النظرية الإيجابية البحتة عن القانون يمكن أن تمدنا بفلسفة وافية عن الالتزام السياسي، إذ لا يمدنا إطار الحقيقة في حد ذاته بقانونٍ عادل. ومن جهة أخرى أنكرت وجهة النظر المثالية التي تذهب إلى أن القانون الواقعي يجب أن يتمشى في أي وقت من الأوقات مع القانون كما ينبغي له أن تكون المطابقة التي عقدها هيجل بين النواحي الحقيقية والنواحي المعقولة في ميدان السياسة لا تؤدي إلى فلسفة في صدد التاريخ تبعث على الرضا، كما أن جميع نظريات الالتزام السياسي تسير على هذا المنوال.
وليس هناك اتصال بديهي بين القانون والعدالة، أو بين القانون كما هو والقانون كما ينبغي أن يكون؛ ولهذا السبب دللت على أن الحكم الذي يصدره المواطن هو الأساس الذي يجب أن يخول القانون الحق في الموافقة، فإذا قيل: إن تعرض الفرد للوقوع في الخطأ يضعف من هذا الأساس، ويجعله يئن من وطأة ما يُلقى عليه من أعباء، نجد أن هناك ناحيتين من الإنصاف ذكرهما، فإن كل ما لدينا هو حكم الفرد (أي رأيه)، وإذا نحن نبذنا حقه في اتخاذ القرارات نكون قد أكدنا ناحية من نواحٍ ثلاث، ويجب أن نقرر أن النظام هو الخير الأسمى، ومن ثم فمن الخطأ أن ننتهك حرمة القانون كما أنه من المستحيل أن يتخذ أي فرد مثل هذا الموقف، أو أنه من الواجب أن نذهب إلى أن القانون الإيجابي يجب أن يطاع دائمًا بسبب الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها. ولقد نبذت هذا التدليل على أساس عدم وجود أي سبب كامن للافتراض بأن القوانين الإيجابية ترمي في الحقيقة إلى تحقيق هذه الأهداف طالما كانت هذه المسألة يجب تقريرها عن طريق دراسة العلاقة بين هذه الأهداف وما يجب أن تكون عليه هذه الأهداف، أو أنه يجب أن نقول إن القانون الذي يعبر عن إرادة الدولة ذات السيادة يعتبر قانونًا عادلًا؛ لأنه إرادة هذه الهيئة، وتلك هي وجهة النظر المثالية. ولقد أوضحت الأسباب التي جعلتني أعتقد أنه لا يمكن التمسك بها والدفاع عنها.
ولكن إذا قيل: إن الدور الذي يقوم به أي فرد يتسم بالحكمة يجب أن يكون دورًا يخيم عليه الشك، فيكفي أن نجيب على ذلك بأننا لا نستطيع الهروب من تحديد ما هو الصواب وما هو الخطأ في ميدان السياسة، وسيؤدي بنا المطاف إلى نبذ موقف التشكك لأسباب عدة. وسنجد أن وجهات النظر المختلفة والدعاوى التي لا تقوم على قدم المساواة في المجتمع، وكلما نجد بعض العلاقات التي تحمي في ظلها هذه الاختلافات، نجد أن في الإمكان اعتبار القانون قانونًا عادلًا لهؤلاء الذين يرون فيه شيئًا إجباريًّا وإلزاميًّا. ومن الأهمية أن ندرك أن فترات التاريخ، التي يكون فيها القانون باعثًا على الرضا، هي فترات التوسع عندما تهيئ الفرص لتحقيق الأهداف وإشباع احتياجات شخصية الفرد. ومثل هذا التوسع يمهد الطريق للأمن، وفي الفترات التي يخيم الأمن على ربوعها نجد أنه قد أتيحت للعقل فرصة ثمينة لبسط هالته على تفكير الأفراد. ومن هذه الزاوية يبدو أن القانون يكون أكثر احتمالًا وأوسع نطاقًا لأن يبدو قانونًا عادلًا عندما يسهل استخدام أدوات الإنتاج في المجتمع، وحيثما وجد التناقض الذي تتمسك به المؤسسات الاجتماعية بين القوى الإنتاجية المتطورة والواقعية يكون من المحتمل أن هؤلاء الذين يعانون من جراء نتائج هذا التناقض أنهم ينظرون إلى ما تؤديه هذه المؤسسات الاجتماعية من أعمال على أنها تنطوي على نواحٍ غير عادلة.
هذا والفرد كائن عاقل؛ وهذا هو السبب في أن أولئك الذين يسنون القانون في شغف دائم بالدفاع عنه، على أساس أنه في الواقع شيء متكافئ مع العدالة. فهم يجادلون محاولين إثبات أن القانون الراهن ربما يُنظر إليه على أنه القانون كما ينبغي له أن يكون. ومن الواضح أننا عندما ندرك وجود مثل هذا القانون — في موقف من المواقف — فإننا في الواقع ندرك وجود قانون طبيعي. وإني أجاري وجهة النظر التي تقول: إنه بالرغم من جميع العقبات التي تقف في طريق هذا القانون الطبيعي نجد أنه لا يمكن التغاضي عن ضرورة النظر إليه على أنه جزء هام لفلسفة الالتزام السياسي. ولم تنجح تلك المناقشات التي حاول بها النقاد القضاء عليه؛ إذ إن الهجوم التاريخي الذي شن على هذا القانون الطبيعي قد فترت حدته؛ لأن المشكلة التي تكمن في الميدان الطبيعي لا يمكن تحديدها على أساس مشكلة الحقيقة وحدها، فلقد خفَّت حدة هجوم رجال القانون الإيجابيين؛ لأنه أصبح من الواضح أن القانون الإيجابي لا يتضمن نصوصًا لجميع القضايا الممكنة، فإنه عند حدوث أية قضية على حين غرة؛ فعلى القاضي أو المشرع أن يحاول مقابلة ذلك عن طريق إدخال بعض الأفكار التي تعتبر معقولة أو عادلة في مثل هذه القضية. وقد وضع سير فريدريك يولوك هذا في صيغة دقيقة، فكتب يقول: «إن محاكمنا يجب عليها الاستمرار في سن القانون الذي يعتبر في الواقع قانونًا طبيعيًّا، سواء أعرفوا ذلك أم لم يعرفوه؛ لأنه ينبغي عليهم أن يجدوا الحل لكل مشكلة تواجههم، كما أن عدم وجود السلطة الإيجابية يعتمد على اعتبارات العدالة.»
ومما هو جدير بالذكر أن أغلب هؤلاء الذين يميلون إلى معارضة فكرة القانون الطبيعي مثل ديجويت يبنون على عناصرها آراءهم في الالتزام السياسي.
وليس الهجوم الميتافيزيقي (ما وراء الطبيعة) ذا صفة أفضل، فلقد دل على أن جميع المسائل المتعلقة بالعدالة تعتبر مسائل نسبية، والزمان والمكان وحدهما يجعلان لها كيانًا ذا معنى، أما في العالم حيث يبدو الاتجاه الوارد في الوصية أمرًا طبيعيًّا للرجل الإنجليزي، بينما يعتقد الرجل الفرنسي (وهو على بُعد عشرين ميلًا) أن من الطبيعي أن يقوم القانون الذي وضعه نابليون بتحديد اتجاه الوصية وتنظيمها، وقد قيل: إنه لا جدوى بالمرة من محاولة وضع علم للعدالة يسعى إلى أن يسري على الجميع، وربما يتخذ الهجوم الميتافيزيقي قالبًا له شعبيته على نطاق واسع في فترة تخضع لتقلبات المقاييس الأخلاقية، هذا القالب الذي يصر على أن العدالة هي مسألة تتعلق برأي فردي؛ ولذلك لا يمكن السماح لأي مقياس موضوعي بالوجود قبل هذا الرأي.
ولا تبعث هذه النظرة على الرضا كما بدت لأول وهلة؛ إذ إنها كما أشار البروفسور كوهين أقيمت على سوء فهم بسيط لمنطق العلم، فقد كتب يقول: «إن الاعتراض يهمل الاختلاف بين قانون له كيانه وعلم المبادئ، وهذه ميزة يجب أن تتضح لنا من اتجاهات المهندس في علم الميكانيكا.» والآراء المتباينة التي نصادفها حول موضوع العدالة لا تجعل من المستحيل وجود علم للعدل، شأنها في ذلك شأن التباين في طرق الفلاحة عندما لا يجعل من المستحيل وجود علم للزراعة.
ويجب علينا ألا نبالغ في ذلك التنوع الذي نواجهه، فمن الواضح أننا نستطيع أن نغالي في الاختلافات الموجودة بين العادات الفرنسية والعادات الإنجليزية في ميدان القانون، كما نجد في حالة «اتجاه الوصية» مثلًا؛ لأن إرادة الوصي (هو الشخص الذي يكتب الوصية التي يرغب في تنفيذها بعد وفاته) سينظر إليها أغلب الأفراد على أنها إرادة واضحة ولكنها غير عادلة. وإذا تغاضينا عن الأسباب التاريخية نجد أن السبب في الإبقاء على اتجاه الوصية في إنجلترا يكمن في كون أغلب تاركي الوصية يتركون كل ممتلكاتهم لذويهم، وبالرغم من وضوح الاختلافات في أحكامنا عن القيمة، إلا أن يتضح كذلك ما نتفق عليه. فنجد أن الجميع تقريبًا يوافقون على أن القتل والبطالة والجوع وتعاطي المخدرات أمور سيئة للغاية، كما أن أغلب الاختلافات في أحكامنا عن القيمة ناتجة عن الأحوال الاجتماعية المختلفة التي نواجهها، ولن يتوقع أحد اليوم من أرسطو أن يقوم بالدفاع عن مقومات العبودية. وجدير بالذكر أن نواحي السياسة قد أُقيمت دعائمها على افتراض أن المناقشة التي يتحكم فيها العقل والمنطق ستكفل لنا موافقة لها فاعليتها حول ما يوجد من العدالة في أي اقتراح يُقدم، ولكن إذا كان الأمر عكس ذلك، فيستحيل خلق حياة اجتماعية مشتركة.
ولكن ليس معنى ذلك أننا اليوم قد اقتربنا من وضع علم وافٍ للقانون الطبيعي، فالصعاب التي تقابلنا في الطريق جسيمة، ولا يعني كذلك أن كل شيء عادل من حيث طبيعته من الواجب حدوثه من الناحية الاجتماعية فحسب. كما أنه لا يعني أيضًا أن اختيار الفروض القانونية في هذا المجال مغامرة أكثر تعقيدًا مما في ميادين الطبيعة والكيمياء؛ إذ إننا نجد دائمًا أن هناك شروطًا «واستثناءات» تعتمد على حقائق الموقف الملموس، كما أن هناك عقبة كئُودًا تنشأ عن جهلنا المطبق فيما يتعلق دائمًا بما نقدمه من اقتراحات، كما أن الذين قاموا بإجراء تجربة «التحريم» في الولايات المتحدة لم يتنبئُوا بأن حكم رجال العصابات كانت له دلائله في تلك المحاولة. وهناك عقبة تقف في الطريق، وهي أن تلك المقترحات غالبًا ما كانت تتقمص شخصية المصلحة بين الجماعة التي تسن القوانين والجماعة التي تتلقى هذه القوانين. وهناك عقبة أخرى وهي أن القانون — كقانون تعويض العمال عام ١٨٩٦م مثلًا — يجب أن يسنه بعض الأفراد الذين يضعون نصب أعينهم مجموعةً من الأهداف؛ لكي يقوم بتحقيق تلك الأهداف أفراد آخرون، وهناك مشكلة أخرى تنشأ عن كون القانون في الدولة القومية لا تسنه الجماهير، ولكن تسنه جماعة أخرى تميل إلى افتراض أن جميع أفراد المجتمع يحسون بحاجتهم إليه، وتكرار مثل هذا الخطأ تكرار للوقائع المخزية في تاريخ التشريع. ونحن نرى مثلًا أنه منذ مدة طويلة أي منذ وقت سبينوزا، كان في الإمكان الإصرار على أن قوانين النفقة تعجز دائمًا عن تحقيق أهدافها، ولكن ذلك لا يحول بيننا وبين تحقيقها مرة أخرى في كل عصر يجيء، ولقد حاول الحكم الهتلري أن يحدد ما سيتناوله الأفراد في طعام غذائهم.
وثمة صعوبة أخرى تتأصل في مغالطات كثيرة في العلوم الاجتماعية، وينبغي أن نضع مبادئ القانون الطبيعي بطريقة مجردة، وفي صيغة شاملة، بيد أن ذلك يثير مشكلات عدة عند تطبيق هذه المبادئ. فنقول مثلًا: إن هناك مبدأ مسلَّمًا به هو أنه يجب على الجميع أن يكونوا أمام القانون سواء، ولكن لا نستطيع أن نفرض بأي رأي شخصي عند تطبيق هذا المبدأ، ما لم تسمح الأحوال الاجتماعية بتحقيقه، وتسود التفرقة مثلًا بين الزنجي والرجل الأبيض أمام القانون في ولاية جورجيتا الأمريكية. وإن مشكلة الثمن تجعل المثل الأعلى للمساواة من الصعوبة حلها بين الأغنياء والفقراء في إنجلترا في جميع القضايا المدنية والجنائية. ففي العام الأول من حكم هتلر تلقَّى الجنود «ذوو الملابس البنية اللون» معاملة خاصة من المحاكم، وعلاوة على ذلك فإن مبادئ القانون الطبيعي قد أقيمت دعائمها على وحدة مجردة، ومن ثم فهي ذات صبغة غير طبيعية تحتاج إلى وضعها في صيغة معادلة، وذلك إذا أريد لها ألا تبث المظالم. غير أن فكرة المعادلة الكامنة هي التكيف مع قضية الفرد، وذلك إذا تغاضينا عن الحكم الشكلي؛ وعلى ذلك فهي تَعتبر الهجوم على القانون الطبيعي لا يقوم على أساس قانوني، وهي تحول دون معرفة اليقين الذي يعتبر غاية من غايات القانون المرغوب فيها. وهي تنكر المساواة الرسمية في المعاملة على أساس المبدأ الذي يتحتم على القانون الطبيعي أن يضمنه دون اكتراث بالنسبة للأشخاص. ومجمل القول أننا نعرف أن تطبيق القانون تطبيقًا صارمًا غالبًا ما يشدد النكير على أهداف العدالة. ويجب أن تكون مبادئنا مرنة عندما تطبق إذا ما أُريد لها أن تكسب الاحترام. ويبدو أننا نقع في مأزق إذا قمنا بتطبيق القاعدة باستمرار ودون تغيير، إذ إن ذلك يكون مدعاة للظلم، ولكن إذا لم نطبق هذه القاعدة؛ فإننا نلتزم الحصافة التي تروغ منها أنواع القانون.
وإنني أعتقد أن العراقيل التي تعترض سبيل هذا النظام تجعلنا نشعر بالمذلة أمام تلك الاحتياجات التي يجب على فكرة القانون الطبيعي أن تقهرها قبل أن تصبح تلك الفكرة صالحة لأن تعتبر مقاييس التصرف السياسي، وإن ما كسبناه من معرفة ولا سيما في القرن الماضي كان كبيرًا. كما أن الفارق بين المواد القانونية التي كانت تحت تصرف لورد الدون والمواد التي استخدمها مستر هولمز تمثل تقدمًا كبيرًا مثله في ذلك مثل الفارق الكبير في ميدان الطبيعة في العصور الوسطى والقرن السابع عشر، ويمكن تطبيق ذلك على ميدان الأنثربولوجي (علم الأجناس) والجغرافيا التاريخية، وقد خول لنا الحق في الاعتقاد بأن المعرفة المتزايدة في إمكانها، إذا شئنا، أن تتجه نحو الحكمة المتزايدة في نواحي الشئون الإنسانية التي يتحكم فيها العقل والمنطق.
وإذا أردنا لها ذلك، فإن الشرط المقيد هو أهم شيء؛ إذ إن كل معالجة تتجه نحو محاولات موضوعية لتحقيق الخير الاجتماعي، وهي تعتبر بمثابة أساس الالتزام السياسي، وتعتبر واسطة لتحقيق المساواة في المجتمع؛ إذ لا يمكن القول دائمًا (لا سيما عندما يكون الأساس المادي هو الذي يعتبر العامل الحاسم في تحديد العلاقات الاجتماعية) بأن الأفراد يفكرون تفكيرًا مختلفًا؛ لأنهم يعيشون عيشة مختلفة، هذا وإن أركان الاتحاد التي توطد من دعائم المجتمع لا يمكن تحقيقها في الأمكنة التي يعيشون فيها عيشة مختلفة حتى تجعلهم لا يتطلعون إلى رؤية الحياة بنفس منظار الآخرين، إن سموم عدم المساواة أخذت تقصم ظهر الإمبراطوريات العظيمة في الأزمنة الغابرة، إذ إن ما تفعله في الواقع هو أن تحد من فروض ولاء الجماهير للحياة العادية، وهي في هذا الطريق، فستميلهم إلى أن القضاء عليها هو وحده الكفيل بأن يمهد الطريق لإيجاد أفكار عادلة عن الدولة. غير أنه على مر الأيام نجد أن ممارسة السلطة من أجل أهداف لا يتمتع الجميع بها على قدم المساواة خليق بأن يولد الحقد والضغينة والانشقاق في المجتمع، ولن تستطيع أية قوة أن تبقى على الأخضر واليابس طالما كانت هذه الشرور تأتي على كل شيء.
كما أن الضعف الذي يعتري الأفكار القديمة حول الفلسفة السياسية قد نجم عن عجز الأفكار عن النظر إلى هذه الحقيقة نظرة جدية، أو أنها إذا أوليت الاهتمام جعلها ذلك تظهر بمظهر السطحية وعدم التكامل، ويجب ألا نعتقد أن فلسفة كفلسفة هيجل يليق بها أن تنزلق إلى تقديس الملكية البروسية باعتبارها أسمى ما أنجزته حصافة البشر. ويجب أن تكون لنا نعم النذير بمدى استيعاب البيئة التي نعيش فها للأيديولوجية (المذهب) التي نؤمن بها، والتي تجعل من تفكيرنا تفكيرًا متعمقًا كتفكير بوزانكيه إلى جانب كونها دليلًا على إهمال الأسس الاقتصادية للسياسة، بل إنه حتى يومنا هذا بينما تعتبر الأحداث في روسيا بمثابة نذير لا يقل وضوحًا لجيلنا هذا عن الثورة الفرنسية التي كانت تعتبر بمثابة نذير للأفراد الذين كانوا يعيشون في بداية القرن التاسع عشر، فما زال في استطاعة المفكرين البارزين أن يدمجوا أنظمتهم في قالب «نظام الحرية الطبيعي» الذي فشل فشلًا ذريعًا في تفهم مدى خلو فكرة الحرية عندما تنتزع من إطار المساواة. حتى ماركس نفسه يحق لنا أن نقول: إن معظم تكهناته السياسية قاصرة لأنها عجزت عن تفهم أثر علاقة العقار السائدة في تحديد أهداف الدولة، فإنه بين ثنايا هذا الأثر وحده يمكن إيجاد نظرية واقية عن الالتزام السياسي.