خصوصيات مصر الحضارية
(١) الاسم والصفة: مصر
كيمت: الأرض السوداء والثقوب النجمية السوداء
وهكذا حال مصر، كيمت الأرض السوداء تبتلع كل من يأتيها ويقترب منها عبر دشريت الأرض الحمراء، بعبارة أخرى كل من أتى مصر من مجموعات وشعوب شمال أفريقيا والشرق الأوسط والجنوب وغرب آسيا ووسطها، كل هؤلاء سرعان ما تمتصه الحضارة المصرية فلا يبقى منه سوى بقايا خصوصية طوال فترة سيطرته ثم يفقدها وتتوه وسط خضم الحضارة التي ابتلعته، وإن بقيت بعض ملامحها في النسيج المصري الثقافي كونها إضافة من الإضافات العديدة يتقبلها الناس بسماحة ودون تعصب وعنصرية!
وبعبارة أوجز: مصر كانت الحد الفاصل الجاذب الهاضم العاصر بين شعوب ودول الشرق والغرب والشمال والجنوب حولها فيتحولون إلى مصريين بنكهات مختلفة بعض الوقت. البربر والساميون واليونان والرومان والعرب والأتراك والزنوج والزنجانيون (= شعوب خليط بين سلالات شمالية وزنوج)، كلهم خليط دخلوا مصر وذابوا فيها، ولا نعرف لهم سحن معاصرة سوى ما تركوا من فنون وتصاوير على جدران القبور، أو هياكل أجسادهم إذا لم يعتريها العدم، أو بعض سواد البشرة وخشونة الشعر، أو بياض البشرة ودرجات شقرة الشعر والعين، كل ذلك على خلفية اللون «القمحي» السائد بيننا … هذه هي مصر والمصريون!
إنسان الصحاري والالتجاء إلى وادي النيل
مصر المكان وليدة النيل الذي حولها إلى جزيرة متناهية الخصوبة بفعل أهلها بعد أن التجئوا إليها من جفاف المناخ الصحراوي الذي بدأ يحل على كل شمال أفريقيا وجنوب غرب آسيا منذ نحو عشرة آلاف سنة تدريجيًّا. فقد كانوا منتشرين مبعثرين قبل ذلك في كل ما هو صحراء في يومنا، وآثارهم تملأ أماكن عديدة مثل صناعة الأدوات الحجرية من نواة وشظايا في واحة سيوة وكل المنطقة من المعادي إلى حلوان مرورًا بكوتسكا وعزبة والده باشا وعزبة كركور حيث وجدت آثار إنسان العصر الحجري الحديث، وبدايات عصر المعادن، وآثار من الأسر الفرعونية الأولى، وكذلك الأمر في الواحات المختلفة كالبحرية والداخلة في منطقة بلاط. وفي جبال النوبة وواحات صغيرة غربي أبو سمبل — من أهمها حتى الآن آثار نبطة، وفي أقصى الجنوب الغربي في غرب الجلف الكبير مصورات محفورة على الصخر تحكي حياة الناس منذ عشرات آلاف السنين. هؤلاء جميعًا كانوا يعيشون على الصيد، وجمع الثمار والبذور التي يمكن معالجتها كغذاء.
من هم ناس تلك الفترة الموغلة في القدم؟
وقد حدث منذ التقاء البربر والعرب كثير من الأخلاط بينهما وأيضًا كثير من انسحاب البربر إلى أماكن جبلية حصينة كما هو الحال في الجزائر والمغرب وبعض ليبيا. وبعض الأخلاط استمروا في حياة البداوة وبعضهم سلك طرقًا للعودة إلى الشرق — مثلًا من برقة إلى مصر كأولاد علي بفروعهم وتفريعاتهم الكثيرة (أولاد علي الأبيض والأحمر والسينانا — ربما الكنانة)، والهنادي الذين استوطنوا جانبًا من محافظة البحيرة ثم هُجروا أيام محمد علي إلى محافظة الشرقية منعًا للصراع الدائم مع أولاد علي. ومنهم الهوارة الذين استقدمهم حكام مصر ليصبحوا ولاة على بعض جنوب الوادي، ومنهم كل قبائل الحاجر الغربي من الجوابي في النطرون والبحيرة وقبائل وعشائر الفيوم والمنيا وبني سويف كالفوايد والجوازي والفرجان والحرابي والبراعصة، وعائلات مشهورة مثل لملوم (فوايد) والمصري (جوازي) والباسل (رماح) والجبالي (حرابي) … إلخ، وكلهم على الأغلب ينتسبون إلى بني سليم. هذا فضلًا عن العشائر القديمة التي تعرف في الساحل الشمالي باسم الجمعيات وفروعهم كثيرة يعيشون مع أولاد علي هنا وهناك، وكذلك في الواحات حيث نجد غالب سكان سيوة من البربر وكذلك القبائل والعائلات القديمة في الفرافرة وغيرها أصلًا من البربر المستعربين.
الهجرة إلى الوادي
وحينما حل الجفاف بالتدريج مع تراجع قليل لفترات رطبة ثم جفاف أكثر وأشد قسوة منذ الألف الخامسة قبل الميلاد، أخذ الناس ينسحبون من الصحراء التي زاد جدبها إلى وادي النهر المليء بالمستنقعات وكافة أنواع النباتات المائية من البوص إلى البردي إلى ورد النيل، وعشرات نباتية أخرى من الأشجار والأعشاب … وحيث تهيم حياة حيوانية في هيراركية المستنقع من أنواع الأسماك إلى التماسيح بقايا الزواحف والديناصورات إلى أنواع الحيوانات العاشبة مثل أفراس النهر الضخام والنعام والزراف وأنواع الغزال والوعول، إلى أنواع البرمائيات من الضفادع إلى أنواع الورل والسحالي، وأنواع الحيوانات المفترسة اللاحمة من قطط صغار وكبار وذئاب وكلاب وثعالب وابن آوي، وأنواع كثيرة من الطيور المقيمة والمهاجرة وغير ذلك كثير وكثير.
التجأ الناس منسحبين من الصحاري الرملية والصحاري الحجرية إلى الوادي المعشوشب محتالين على الحياة بصيد كميات هائلة من الأسماك والحيوانات العاشبة التي استطابوا لحومها كالوعول والغزلان وربما أفراس النهر فضلًا عما لديهم مما يرعونه من الماعز والخراف والأبقار والثيران والحمير. ولكي يعيشوا ويصعدوا إلى قمة هيراركية الحياة كان عليهم أن يصارعوا الحيوانات اللاحمة من أسود ونمور وذئاب وضباع وكلاب برية في منافسة دامية لبقاء الأقوى أو الأصلح. وآثار هذه الأقوام كثيرة نعرفها بأسماء الحالية للأماكن التي عاشوا فيها أزمانًا، وطوروا احتياجاتاهم من الحجر والفخار وبقايا قراهم وجبانات دفن الموتى مثل حضارة الفيوم ودير تاسا والبداري ونقادة ومرمدة بني سلامة والمعادي والعمري … إلخ.
قوة الإنسان وقدراته
والإنسان جسديًّا ليس الأقوى ولكنه بوقوفه على قدمين واستخدام يديه في الرمي والقتال وصناعة أدوات خشبية وحجرية أهلته أن يكون الأقوى وإن لم يكن هو الأسرع، أو الأضخم، أو الأكثر عضلًا … ليس فقط بقدراته على عمل هذه الأدوات ولكن باستخدام سلاح أمضى وأشد هو التجمع العددي في أماكن مختارة للدفاع والهجوم حسب المواقف المختلفة. هذا النوع من الاستراتيجية هو الذي مكن الإنسان من التفوق والسيادة من الماضي السحيق إلى غد البعيد. وقد ساعده على السيادة تقهقر المناخ الرطب وأشكال النباتات، ومن ثم انسحاب الكثير من الحيوان المفترس إلى المناطق المدارية جنوبًا، وبقاء الميدان شبه حر يطلق فيه يد الإنسان الجامع للغذاء النباتي والحيواني والسمكي دون الكثير من منافسة الحيوان المفترس.
التحول من الصيد إلى الزراعة
ثم جاء حين من الدهر في نحو الألف السابعة قبل الميلاد أن عرف إنسان المنطقة الزراعة كإيديولوجية اقتصادية جديدة تؤهل الإنسان لإنتاج الغذاء بدلًا من جمعه وصيده بريًّا. وكان ذلك بمثابة الثورة الاقتصادية الأولى! لكن الانتقال كان تدريجيًّا من حياة الصيد والجمع إلى حياة الفلاحة، ولا شك في أن تأمين غذاء نباتيًّا تحت الحوكمة سنويًّا أو متجدد موسمًا. كان هو الحافز والدافع الحقيقي لأمور عدة على رأسها انتهاء حياة التجوال والاستقرار في تجمعات قروية ثابتة لزراعة ذات قطعة الأرض سنة بعد سنة — وهو ما بدأ به عصر المواطنة والوطن لظهور قيمة المكان والدفاع عنه للبقاء فيه. وهذا الاستقرار لم يستند فقط على المحصول الغذائي النباتي بل أيضًا إبقاء حيوان التربية إلى جواره يرعاه ويستخدمه في كل شئون الغذاء المباشر ومنتجات الألبان، وربما تاجر به كنوع من تبادل المنتجات — وهذه هي بداية العلاقات التجارية بين المجتمعات المحلية.
ومع الزراعة بدأ عهد المناحرة والحرب والحسد بين من لديه ومن ليس لديه من المجتمعات — أي بين البادية والجماعات الجائعة (في حالة الجفاف) من ناحية، وبين الجماعات المستقرة التي تعيش في بحبوحة ووفرة في إنتاج الغذاء (في غالب الأوقات). هذا الصراع شمل مجموعات كثيرة وبخاصة بين سكان الجبال القاسية، وسكان السهول الغنية، وأخذ ذلك طابع موجات من الهجرة والاجتياح في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، شواهده مسجلة تاريخيًّا لدى الشعوب المستقرة الآمنة في حضارات مصر وسومر وبابل … إلخ، وهو ما أحدث اضطرابًا في مجموعة العلاقات الآمنة واستدعى إعادة بناء نظم وبنية مجتمع جديد بمقتضاه نشأت «الدولة» كنظام يرأسه ملك وآلهة ومعابد وكهنة وجيش بتخصيص أفراد من دائرة العمل والإنتاج وتدريبهم على القتال وشئون الحرب. وهذا التنظيم الجديد بما لديه من قوة تكتيكية، وإن كان يحمي المجتمع إلا أنه كان في ظروف معينة حافزًا للبطش بدعوى المحافظة على أمن الوطن والمواطن — ولكن غالبها كان لأمن الحاكم من طبقة الملوك ورجال الدين، بينما الكُتاب يروجون لبقاء الأنظمة في عباءات مختلفة أكثرها شيوعًا نداء الوطن ونداء الآلهة.
وهكذا الصورة حتى الآن مع تغيرات شكل وتطبيق وبقاء المبدأ والمحتوى.
خصوصية الزراعة المصرية
وإذا عدنا مرة أخرى إلى مصر بعد هذا الاستطراد الضروري نجد أن المصريين بعد معرفة الزراعة أخذوا يدرسون أمور المكان بدقة، وهو ما أنتج الفكر الفلكي وأول تقويم للسنة وأمور الهندسة والبناء الحجري الدائم ووسائل النقل المائي للإجابة على تساؤلات حول طبيعة النهر ونمو الزرع: متى يكون الفيضان والجفاف، وإلى أي حد يصبح الفيضان مُرضيًا أو عاليًا أو مدمرًا أو منخفضًا يشيع المجاعة. وكيف يمكن ترويض مياه النهر لتصل إلى الحقول فتمنحها الرطوبة اللازمة لنمو البذور، وكيف نجعل النهر يلقي بحمولته من الغرين لإضافة خصوبة التربة …
كل ذلك من السؤال والتساؤل جال بالأذهان بين من يفكرون في المزيد من الأمان الإنتاجي لمحاصيلهم الغذائية وأعلاف حيواناتهم. ولأن المصريين في مجموعهم شعب تجريبي لا يبحث كثيرًا عن النظريات لحل أطروحات المواقف المختلفة، فإن ما وصل إليه الفكر الزراعي المصري في هندسة الري من نظام نعرفه باسم «ري الحياض» كان في الحقيقة إنجازًا مبهرًا وإبداعًا عبقريًّا بكل المقاييس منذ ستة آلاف عام أو يزيد. ولأنه لم يكن نظرية لشخص معين فإن الواضح أنه كان نتاج التجريب هنا وهناك ثم شاع وأصبح نظامًا شاملًا للري في مصر. وبالمناسبة فإن مصر كانت أيضًا رائدة في نظم التحكم بمياه الأنهار، والأغلب أن القناطر الخيرية كقرار سياسي لمحمد علي باشا الكبير، كانت أولى تجارب العالم في العصر الحديث في إنشاء السدود على الأنهار.
محدودية علاقة الشعب والدوائر العليا
ومهما آلت إليه الأمور من صراعات بين ملوك وأمراء وكهنة وكتاب ووزراء وقواد في الدوائر العليا الحاكمة في مصر فإن مردوده على الإنتاج الزراعي كان قليلًا ومحسوسًا بقدر. فعلاقة الشعب بدوائر القصر والمعبد جد محدودة، لا تظهر سوى من خلال الضرائب العينية على الأغلب أو النذور والوفاء بالمتطلبات الدينية من أجل الحياة الأخرى، أو حمل السلاح للدفاع عن الوطن.
وعلى هذا فسواء كان الحكم المركزي للملوك والكهنة قويًّا أو ضعيفًا فإن العلاقة مع الشعب كانت دائمًا مباشرة مع الحكام المحليين، سواء كانوا معينين من قبل الدوائر العليا أو عينوا أنفسهم كأمراء حرب ونفوذ إقليمي. ولهذا فالاستقرار بصورة أو أخرى كان الميزة الأساسية في مصر بالمقارنة بسهول غنية مماثلة في ميزوبوتاميا — العراق حاليًّا. والشيء الوحيد الذي يقض الاستقرار كان دائمًا من جانب النيل: فيضان منخفض أو كبير مدمر يؤذن بمجاعة أو ما يقرب منها — وهي حالات لحسن الحظ ليست متكررة عدة سنوات متلاحقة إلا في ظروف متغيرات مناخية طارئة وسرعان ما يعود الحال إلى الاستقرار.
وإذا كانت الأمور قد استقرت هكذا آلاف السنين فإن معنى ذلك دوام واستمرار المبادئ في الفكر والتطبيق والفولكلور والفن ومعظم نظم حياة المجتمع آلاف السنين هو الآخر. صحيح أن الزمن وأن العلاقات بين الحضارات تؤدي إلى تغييرات ما، لكن التغيير يحدث سريعًا في ممارسة المنتجات المادية كسلاح الحرب أو آلات الزراعة ورفع المياه إلى الحقول أو زراعة أنواع جديدة من المحاصيل كالتبغ أو القطن أو البطاطس، بينما التغيير بطيء جدًّا في القيم والخلقيات والسلوك والاعتيادات والعقائد وغير ذلك كثير، بل إننا نجد بعض التغيير في معتقدات معينة حين تدخل عقيدة فوق أو محل أخرى، فإن العقيدة القديمة تغزو الجديدة من أسفل وتتداخل في بعض طقوسها؛ أي إننا نجد استمرارية تشبه بصورة أو أخرى الممارسات السابقة لمعتقد مع تغير اسم صاحب الممارسة الطقسية من واحد من آلهة وإلاهات قديمة إلى قديس أو قديسة أو ولي أو شيخة. فالمزار والموسم والدعوات وطلب الشفاعات من صاحب المكان والالتجاء إليه حسب الطلب والنذور وغيرها من الطقوس كلها واحدة أو متغيرة قليلًا، ولكنها في النهاية تهدف إلى طلب الوساطة مع الضراعة وتوقع نجاح المسعى الذي من أجله جاء من بعيد وعليه أنفق الكثير …
وفيما يأتي بعض هذه الاستمرارية في التواصل الحضاري المصري على مر الزمن في صورة شديدة الاختصار لكنها تنقل إلينا هذا الصمود المصري طويل الأجل …
(٢) تواصل التراث الحضاري في مصر آلاف السنين
نموذج المعبد والكنيسة والجامع
الغرض الأساسي من الموضوع هو تأكيد أن بعضًا من عناصر ثقافات الماضي لها استمرارية طقسية وضمنية في الحاضر، وإن اختلفت المسميات والعقائد. ولا شك أن الموضوع مفتوح للبحث والتقصي في الشكل والمضمون في الحاضر كما كان في الماضي وكما سيكون في المستقبل.
انظر ملحق الصور.
-
الديانة المصرية القديمة ليست عقيدة وكتاب مقدس، إنما هي ممارسات طقسية لكل إله على حدة، على رأس الطقوس الهبات والأضاحي والنذور مع تلاوات وأدعية. يقوم الكاهن بالمساعدة خلال الطقوس بينما تودع الهبات — لحوم، أوز، طيور، أسماك، عجول، أو أراض وأطيان … إلخ — مخازن المعبد وتضاف في قائمة إلى كاهن المعبد الرئيسي لهذا الإله.
-
لهذا كانت هناك أعداد كبيرة من الآلهة المحلية (حسب البعض ٢٠٠٠ إله) + آلهة خاصة للبيت، بينما كان هناك نحو ٨٠ إلهًا وإلهة كبارًا لكثير منهم معابد متعددة في مدن وأقاليم رئيسية، ومعظم الآلهة لهم صفات مشتركة عامة ومهام تميز كل منهم مثل إله الشمس أو القمر أو الخصب أو الموتى أو المحارب أو العدل أو الحب أو الخمر أو أبو السرور والبهجة.
-
وأغلب ما نعرفه عن الآلهة الكبار أنهم شديدو الارتباط بالأحداث السياسية، ومن ثم يمكن أن يكون رع إله الشمس في هليوبوليس ثم تنتقل بعض صفاته إلى إله العاصمة الجديدة في طيبة فيصبح آمون رع، أو حورس الإله المحارب القديم ليصبح جزء من ثالوث إيزيس وأوزير لينتقم من عمه ست مغتصب الملك من أوزير وقاتله، وتنشأ بذلك قضية الثأر كعنصر مجتمعي دائم، أو يصبح حورس حوراختي في فترة لاحقة في طيبة الأقصر … إلخ.
-
لهذا كان سهلًا أن تقبل الديانة المصرية إضافات إلهية حتى لو كانت من الخارج، فالمصريون لم يكونوا متشددين قليلي التسامح بل نظرتهم عقلانية مرتبطة بالواقع المادي ومتقبلة للجديد في صوغ متناغم متناسب مع النسيج العام. لهذا أيضًا تقبل المصريون بسهولة الفكر المسيحي القائم على الثالوث المقدس؛ لأن له صدى متناسق مع الديانة الشعبية دائمة الفعالية بين المصريين والمتمثلة في ثالوث إيزيس – أوزير – حور، وعشرات غيره من ثالوث إلهي لمدن وأقاليم عديدة مثل ثالوث آمون – موت – خنسو في الأقصر. ومن ثم تقبل الشعب بيسر وسهولة الثالوث المقدس المسيحي بغض النظر عن الاختلاف الفكري الفلسفي بين آباء الكنيسة.
-
استطرادًا ربما نقول: إن لآل البيت النبوي صفة متماثلة في مثلث علي وفاطمة والحسين، ولهذا نجد بين المصريين حتى اليوم تعاطفًا واحترامًا زائدًا لآل البيت لدرجة قبلت التشيع بسهولة في العصر الفاطمي، وما زالت أكبر الموالد في مصر هي لأفراد من آل البيت: الحسين والسيدة زينب وزين العابدين والسيدة نفيسة بغض النظر عن الوجود المادي للرفات من عدمه، وربما يجد المتخصصون صورًا مشابهة في المناسبات الدينية القبطية في الأماكن التي زارتها العائلات المقدسة مثل المطرية والدير المحرق … إلخ.
-
وفي عصر ما قبل التاريخ هناك شواهد أدلة في آثار حضارة جرزه ومرمدة بني سلامة والمعادي ونقادة … إلخ. على الاعتقاد في الخلود والحياة في عالم آخر ومن ثم كانت المدافن تحت الأرض. واستمرارًا لهذا المعتقد وتحسينه في صورة أدق وأرقى كان الركن الهام من مكونات ثالوث إيزيس أن هناك يوم الحساب والقيامة يشرف عليه أوزير إله الغرب والموتى. وسواء كان مقياس الحياة الأخرى هو وزن القلب فمن خفت موازينه نعم بالحياة الأخرى ومن ثقل قلبه ألقي في بركة من نار، أو من أوتي كتابه بيمينه دليل الإيمان والصدق … فالأمر متشابه بصورة مجازية وهو ما ساعد على سرعة تقبل المصريين للمسيحية أو الإسلام باعتبار تشابه العقيدة في التأكيد على الحياة الأخرى كوازع للعمل الصالح في الحياة الدنيا.
-
شيء آخر مهم في ثالوث إيزيس هو أن الناس كلهم سواسية في الحياة الأخرى لا سطوة أو سلطان على أحد، وبعبارة أخرى ديمقراطية حياة الآخرة وعدالتها. وهذا الموقف الخلقي هو ما يحبذ على حسن التعامل واتِّباع صالح السلوك في الحياة الدنيا.
-
كل هذه تمثل فعلًا سلاسة الانتقالات الفكرية والدينية بين المصريين آلاف السنين دون تحزب أو إكراه إلا في حالة واحدة هي مرحلة فرض عبادة آتون أو آتُن بواسطة العقيدة الجديدة للملك اخناتن. وربما يرمز لعدم التعصب والتشدد أن نفس البناء يستخدم لطقوس دينية مختلفة في عصور مختلفة، وعلى رأسها معبد الأقصر الذي حلت كنيسة في جزء منه فترة وحل جامع أبو الحجاج على جزء منه منذ فترة. ومثل هذا في دير سانت كاترين الذي يضم ضمن أسواره مسجد إسلامي، وكذلك حلت كنائس وأديرة محل معابد قديمة مع تحويل الرسوم داخلها إلى الصور المسيحية المعهودة.
-
حالة عدم تقبل اليهودية بصورة واضحة نتيجة لعدد من العوامل نذكر منها:
- (١)
التعصب السلالي لليهود نتيجة نص في العقد الإلهي مع بني إسرائيل يميزهم على سائر البشر.
- (٢)
أن اليهودية جاءت بإله واحد كآتون إله الشمس عند إخناتُن، وبالتالي كانت هذه أو تلك نقيض الثقافة الدينية التعددية المتسامحة والثقافة المجتمعية المصرية بإطلاق، فلم يقبلوها.
- (٣)
ومن ثم كان الخروج الإسرائيلي بمثابة هروب أو خروج جماعة خارجة على الإجماع والقانون والعرف العام؛ ولهذا لم يرحب غالب المصريين باتباع اليهودية وهي ديانة متشددة وأتباعها شديدو العنصرية.
- (١)
-
والمسألة ليست فقط مادية لبناء تتحول وظيفته جزئيًّا إلى ديانات أخرى، بل إن بعض الطقوس القديمة تظل تمارس كطقوس لمقام آخر. ففي الأقصر كانت رحلة آمون السنوية من الكرنك إلى معبد الأقصر لها مراسم وطقوس كهنوتية وشعبية حين ينتقل للزيارة بقارب حقيقي، ما زالت الطقوس تمارس للآن مع بعض التغيير في مولد أبو الحجاج الأقصري حيث يحتفل الناس بنقل قارب فوق عربة «كاروو» كجزء هام من طقوس المولد، والشاطر في النهاية من يحصل على قطعة من حبال الجر للبركة.
إله الشمس هو الإله الدائم المسيطر وربما أبو الآلهة وخالقهم جميعًا سواء كان اسمه رع أو آمون أو أتون — فالشمس — النور هي عنصر مسيطر على أشكال الحياة عكس الظلام؛ ومن ثم الشمس تنير في رحلتها النهارية في قاربها الذهبي، وتتعرض لمخاطر في رحلتها الليلية لتعود منتصرة مشرقة صباح كل يوم على الدوام. وعند المصريين كان الذهب — وما زال — هو رمز الشمس، أي الحياة، وإن كان للبعض أفكار قيمية أخرى باعتباره رصيد مادي يقي صاحب الذهب شر الفاقة، وفكر آخر مقتضاه أن ملامسة الجسد لأساور الذهب ومجوهراته يعطي حامله قوى السحر والخلود.
-
فكر المصريون عن الخلق مشابه بصورة ما للنصوص الدينية التالية: فمن العدم أو البحر المائج المظلم ظهر النور ورفع الله الأرض فوق الماء — أحيانًا يرمز لبهو الأعمدة الشاهق في الكرنك على أن الأرض ارتفعت فوق الخضم المظلم، وفي بعض التفاسير أن الإله الأكبر خلق نفسه بنفسه على مبدأ التوليد الذاتي Self or auto generate مثل فيضان النيل يحيي الأرض، ثم بعد ذلك خلق الآلهة ثم البشر.
-
بدون أشكال الديانة المصرية لما وجدنا الآثار الباقية للحضارة المصرية — معابد ومقابر وتحنيط وكتابات وتماثيل وصور. وهو أمر ينطبق أيضًا على الديانات الأخرى حيث الكنائس والأديرة والجوامع والأضرحة هي شواهد الحضارة أيًّا كانت ديانتها.
-
واحدة من أسس الحياة الدينية الفرعونية هي وجود الإلهة «ماعت Ma’at» التي هي العدل والحق وبالتالي هي دستور تعاملات الحياة — والمبدأ نفسه هو أساس المسيحية والإسلام تحت عنوان «الدين المعاملة».
-
من الأشياء التي تمثل امتداد واستمرارية سلوكيات المصريين في كل العصور الاعتقاد في العين: عين حورس وعين رع والعين التي ترى من وراء القبر، والعين الشريرة وعين الحسود والسحر والسحرة واللعنة المكتوبة كلها أشياء ممارسة، وربما بأسماء وطقوس مختلفة كالسحر والزار والحسد والأحجبة على سبيل المثال.
-
في كل الأديان شيع ومدارس فلسفية وعقائدية. والكثير من هذه المدارس لها مقيميها فيما يشبه الأديرة والصوامع ولهم أدعية وتراتيل خاصة وطقوس اختبارية للانضمام إلى الجماعة … إلخ، وهو أمر وارد في المسيحية الأرثوذكسية والكاثوليكية ومدارس الصوفية في الإسلام كما كان وما زال قائمًا في البوذية والهندوسية.
-
وفي مصر كانت نشأة الرهبنة في أقدم أشكالها في دير الأنبا أنطون والأنبا بول — جبل الجلالة القبلية على البحر الأحمر — في القرن الرابع الميلادي، منها انتشرت الرهبنة إلى بقية العالم. وأديرة مصر كثيرة أكبر تجمع لها في وادي النطرون وفي كثير من جهات الصعيد.
-
ومثيل الأديرة حركات الفكر الصوفي في الإسلام. وكانت مصر تمتلئ بالخانقاوات التي تشبه الأديرة كأماكن للعبادة وترتيل أفكار صاحب المدرسة الصوفية وطقوس أخرى. وأمثال ذلك كثرة تأسيس الطرق الصوفية في القرن ١٣ (بين ١٢٠٠ إلى ١٣٠٠م.) معظمها من المغرب، وعلى رأسها الشاذلية وأبو العباس المرسي وتلميذه أحمد البدوي، وعبد الرحيم القناوي وإبراهيم الدسوقي ثم انتشرت في أرجاء مصر. وبدأ من ق١٦ انتشرت طرق أخرى تركمانية وتركية الأصل كالبكتاشية والمولوية والرفاعية والنقشبدنية … إلخ.
-
ولهؤلاء من أقطاب الصوفية وشهداء المسيحية وقديسها موالد ضخمة ذات طقوس يشترك فيها عشرات آلاف الناس، كأنها استمرارية مؤكدة لمواسم آلهة المعابد القديمة في بوتو وأبيدوس والكرنك وهليوبوليس من حيث الزفة والهبات والأوقاف والنذور، وذلك باعتبار أن الأولياء والقديسين هم خير وسطاء لقضاء حاجات الناس.
-
والأديرة والخانقاوات والتكايا هي أيضًا مدارس لتطور الفكر الديني ونشره في صورة رسائل عديدة وبالتالي قامت في أحد وظائفها على التعليم والتثقيف وإحداث ما يلزم في المذاهب لتلبية أشكال التغير في الحضارة والثقافة، وإن كان عمادها الأولى هو الفائدة الروحية للممارسين مثل رهبان الدير وشيوخ الصوفية.
-
في آراء أن الصوفية نشأت في مصر بواسطة ذو النون المصري (٨٦٠م)؛ إذ يعتبر المنبع الرئيسي الروحي للصوفية وأنه صاغ كثيرًا من أفكاره في الحب الإلهي من معرفته باللغة المصرية القديمة وكتاباته في الطب والكيمياء والسحر.
-
وبالرغم من أن مصطلح الصوفية له رنين عربي مستمد من لبس الصوف كنوع من التقشف والزهد، إلا أن الأصل — عند الباحث مصطفى جاد الله — مصري مستمد من seph/soph كمقطع من اسم مصري متداول من معانيه الحكمة والنقاء. ولكن إذا كان لذي النون معرفة باللغة المصرية المعروفة في عهده فالأغلب أن أصول الكلمة يونانية بمعنى الحكمة التي تداخلت مع المصرية القديمة قرونًا طويلة، كما أن العرب في تلك الفترة ترجموا ونقلوا علومًا يونانية كثيرة، فهل هذا هو الأصل؟
-
وفي آراء أخرى أن الصوفية مستمدة من خليط فكري أفلاطوني أفلوطيني مسيحي شاماني،٢ وإنها لا تهدف إلى تنظيم مجتمع بل تنصب حول الفرد لتطهير الروح. وكلمة الحب هي الأكثر ورودًا ولا تستعمل مبادئ التجمع لإحداث ثورة أو تغيير فقهي. لهذا لا يتقبلهم رجال الدين أو المتشددين منهم. ولكننا نستثني بعض الاتجاهات الإصلاحية الدينية لأقطاب من المجتهدين — لكنهم ليسوا صوفيين — تنتهي باستخدام السياسيين بغرض إشاعة المذهب والتنظيم السياسي عنوة كالوهابية والسنوسية، والمهدية، أو تنظيم القاعدة الحالية، أو حركات المتشددين والسلفيين المعاصرة.
وأخيرًا فإن في ممارساتنا العادية وأمثالنا الشعبية كثير من الاستمرارية الثقافية القديمة، وكمثال واحد نرى أن الرقم ٧ سبعة رقم سحري هو ومضاعفاته، فهو عند القدماء رمز الكمال وإتمام العمل على أحسن صورة، وكانت هناك ٧ عقارب تحمي إيزيس في بحثها عن أوزير الذي قطعه الإله ست ١٤ قطعة رمى ٧ منها في الدلتا و٧ في الصعيد. وكذلك أن كبير الآلهة «رع» أمر الآلهة بالاحتيال على الإلهة سخمت — هاتور في أحيان — لتوقف تدمير البشر وقتلهم واستغرق ذلك ٧٠٠ برميل من الخمر لكي تسكر وتتوقف عن القتل، على ظن أنها أبادت الناس جميعًا باعتبار اللون الأحمر للخمر. وعندنا ٧ سنوات عجاف وسبع سواقي وسبع نخلات … إلخ.
-
وأحدث أشكال الاستمرار الحضاري المصري ديانة جديدة في أمريكا تسمى كيمتك ويكان KEMETIC WICCAN، والكلمة الأولى مستمدة من كيمت kemet وهو اسم مصر باللغة المصرية القديمة وربما تعني «الشعلة أو الذبالة المصرية»٣ وهي ديانة أو عقيدة تدور حول ثالوث أوزير – إيزيس – حورس، وقد أصبحت منذ ١٩٨٠ ديانة معترف بها في الولايات المتحدة لكن البعض يرونها ديانة سحر قديمة.
انظر ملحق الصور.
(٣) استمرارية أسماء الأماكن ومعاني بعض الأسماء الفرعونية
والآتي نماذج لبعض هذه الظاهرة ابتداء من الجنوب على ما درج عليه القدماء باعتبار أن النيل يأتي من الجنوب. ويلاحظ أن الحرف (م) = لغة مصرية، والحرف (غ) إغريقي، والحرف (ر) روماني، والحرف (ق) قبطي، وأخيرًا الحرف (ع) عربي — والغالب أنه الاسم الحالي ما لم يذكر غيره في مرحلة ما طوال العصر العربي حتى الآن.
- بلاد النوبة: تاسيتي (م) بمعنى أرض الرمي بالقوس.
- أسوان: سونو (م) بمعنى السوق، وسوينت (م)، وسوان (ق).
- جزيرة أسوان: آبو (م) بمعنى العاج، ومن المعنى اشتق اسم الفنتين (غ) بمعنى جزيرة الفيل.
- كوم أميو: «أومبوس» (م).
- إدفو: تِبوت (م)، أتبو (ق).
- إسنا: سيني (م)، سينيت (غ)، وأحيانًا تسمى لاتوبوليس (غ) اسم شهرة لنوع من الأسماك الكبيرة.
- الأقصر: واست (م) الصولجان أو نيوت (م) بمعنى «المدينة»، طيبة (غ) اكسرون (ر) بمعنى الحصن ومنها اشتق اسم الأقصر (ع) الحالي.
- قوص: نتر وي (م) بمعنى مدينة الإلهين (حور-ست).
- الدلتا: من الفضاء.
- دندرة: تانترت (م) هي مدينة الإلهة حتحور أو هاتور أو أفروديت في الإغريقية.
- المقاطعة الثامنة حول سوهاج: «تا-ور» بمعنى الأرض العظيمة وعاصمتها طينة.
- التينة: طينة (م) ثينيسا (غ) تن (ق) — هل هي جرجا أم أبيدوس؟ أهميتها أنها منشأ الأسرة الأولى (والثانية؟) نحو ٣٢٠٠ق.م.
- العرابة المدفونة: إبدجو أو أبودو (م) أبيدوس (غ) معابد وربما أول جبانة ملكية كبيرة.
- أخميم: خنت مين أو خنت خم (م) بمعنى بيت الإله مين (ربما يساوي آمون)، شيمين (ق).
- جرجا: جرج (م) منطقتها كانت تسمى وازت بمعنى الباب إلى الشمال.
- أبو تيج: تبو (م) أبوتكي (غ) تابوخي (ق).
- أسيوط: ساوت أو سيوت (م) بمعنى الحارس، ليكوبوليس (غ) بمعنى الذئب؛ لأن رمزها هو ابن آوى. منطقة أسيوط كانت تعرف أيضًا تب شمع بمعنى بداية الجنوب.
- أبنوب: بر حور نب (م) بمعنى بيت الإله حورس.
- البهنسا: بر مسا (م) بمعنى مكان عصر العنب، أوكسيرنخوس (غ) بمسا (ق).
- القيس: كاسا (م) سينوبولس (غ) بمعنى بلد الكلب أو ابن آوى.
- الشيخ عبادة: تونة (ق) تاناييس (غ) تونة الجبل (ع) وكذا الأشمونين (ع).
- تل العمارنة: نسبة إلى بني عمران هي مكان أخيتاتون عاصمة إخناتن.
- بني سويف: بوفيسة (م؟) منفسوية (ع).
- إهناسية: حنن نوت (م) هناس (ق).
- أبو صير: بر أوزير (م) بوصيرص (؟).
- سدمنت: ست منت (م).
- الفيوم: شيدت (م) بمعنى الجزيرة باعتبار أنها كانت بحيرة، بر سوبك (م) مكان التمساح، وكروكوديلوبليس (غ) و«بي يوم» (ق) بمعنى مكان اليم أو البحر — أيضًا باعتبار البحيرة.
- هوارة: هات ورت (م).
- اللاهون: راحنو (م) بمعنى فم التمساح، وهي مدخل بحر يوسف إلى منخفض الفيوم.
- قارون: تاحنو مرور (م) موريس (غ).
- حلوان: حر أون (م) بمعنى أون العليا — أي عين شمس الجنوبية.
- طرة: دارون (م) طروخون (ق).
- عين شمس: بر رع (م) بمعنى بيت الإله رع، يونو أو أون (م)، هليوبوليس (غ) بمعنى مدينة (إله) الشمس الذي هو «رع».
- منف: إنيب هيدج (م) بمعنى السور الأبيض، وهي عاصمة مصر لفترات طويلة، وكذلك أطلق عليها اسم «مين نفرو مير» في عهد بيبي الأول واختصر إلى مينف (م) وإلى ممفيس (غ) ومنف.
- سقارة: مكان الإله سوكر (م) وهي جبانة كبرى لمعظم العصور القديمة.
- بولاق: بي لاك (م) بمعنى مرسى السفن.
- أبو قير: كانوب (م).
- راقودة: محلة سكنية قريبة من الإسكندرية وأصبحت جزء منها بعد توسع الإسكندرية، وربما راقودة في مكان ما بين شيديا والإبراهيمية.
- مريوط: «بر مرت» (م) بمعنى مكان الماء، وهو كذلك اسم مصري لمدينة بائدة على ساحل بحيرة مريوط التي كانت بحيرة عذبة؛ لتلقيها المياه من الفرع الكانوبي القديم للدلتا، وقد كان لها دور هام في حياة الكتلة السكنية في منطقة الإسكندرية من حيث الإنتاج الزراعي والحماية الدفاعية من الجنوب في كل حياة الإسكندرية، وتملحت مياه البحيرة بواسطة الجيش الإنجليزي مرتين؛ الأولى: في المعركة ضد الحملة الفرنسية، والثانية: أثناء حملة فريزر كنوع من فرض الحصار على المقاومة السكندرية بقطع القناة المائية التي تورد المياه العذبة إلى الإسكندرية. واليوم حال البحيرة إيكولوجيًّا في سوء ما بعده سوء؛ نتيجة صرف مخلفات المصانع التي تحتوي على سموم كيماوية بالغة الضرر إلى البحيرة المسكينة.
-
الإسكندرية: نشأتها إغريقية كما نعرف لكنها اتسعت وضمت راقودة شرقًا والكثير من الأحياء غربًا
التي نشأت بعد تضخم أعمال الميناء. وفي الحقيقة كانت منطقة الإسكندرية آهلة بعمران متفرق
منذ زمن بعيد يتمثل في وجود جبانات والمقابر المحفورة في الصخور في الشاطبي، ومصطفي كامل،
والأنفوشي، وكوم الشقافة.
فأهمية أي مكان وبلوغه الذروة لا تنشأ من أعمال الإنسان فقط — كنشأة المدينة بعمل الإسكندر والبطالمة، ولكن يرفد النجاح البشري عوامل وعناصر طبيعة منها الموقع الجغرافي المساعد على علاقات اقتصادية، وتبادلات تجارية، وتراكيب حضارية. وفي حالة هذه المنطقة كانت العلاقات عبر البحر إلى بلاد اليونان عامل نشط في ازدواجية مع التراث الحضاري القديم أدى إلى نمو الإسكندرية إلى قمة العالم في الحرية الثقافية والمعرفية والمالية …
- مرسى مطروح: الاسم القديم «باراتيونيون» هو وغيره من أسماء على الساحل الشمالي أصوله إغريقية من قديم وتحول إلى باراتنيوم (ر) ثم إلى البرطون (ع).
- مراقيا: اسم عربي على تنويعات إغريقية لاسم يصف المنطقة الساحلية باسم «مرمريكا».
- دمنهور: «دمان حور» (م) نسبة إلى الإله حور، «تمحور» (ق) ومنها الاسم الحالي.
- نقراش: «نوكراتيس» (غ).
- منوف: «بانوف ريز» (م).
- أشمون: «أشموم» (ق) ومنها الاسم الحالي.
- تلا: «تا لا ناو» (؟).
- الباتنون: «با تنون» (؟).
- صا الحجر: «سايس» اسم مصري ربما هو «ساو» ثم أضيف إليه اللاحقة الإغريقية «يس» وهي مدينة قديمة صارت عاصمة لمملكة غرب الدلتا في العصور الفرعونية المتأخرة.
- سمنود: «سب نترت» (م) بمعنى الأرض المقدسة، «بينيوس» (غ)، «سمنوت» (ق) وكانت لها أهمية سياسية في العصور الفرعونية المتأخرة.
- طنطا: «طنطنت» (؟) طندتا (ع) ثم خففت إلى الاسم الحالي.
- المحلة: دي دو سيا (؟) «دقلا» (ق)، محلة دقلا (ع) ثم أصبحت المحلة الكبرى تميزًا لها عن قرى ومدن باسم الملة أو محلة؟
- زفتا: «زيته» (؟) منية زفته.
- كفر الشيخ: «دمين قون»، «دميلا قونه» (ق،ع؟) ثم في العصر العثماني نسبت إلى الشيخ طلحة.
- سخا: «خاسوت» (م)، زوس (غ)، سخوى (ق).
- بيلا: «بيولا» (؟).
- تل الفراعين: «بو تو» (م)، «إبطو» وهي مدينة هامة في الحياة الروحية لمصر منذ ما قبل الأسرات.
- شباس: «كباسيا» كباسيون (غ أور).
- فوه: «بويي» (؟).
- البرلس: «بارالوس» (غ).
- المنزله: «زندوكسي» (غ) «بي متر والي» (ق) بمعنى دار الضيافة، ثم الاسم الحالي.
- طلخا: «طرخا» (؟).
- دميره: «تميره» (ق).
- تل بسطه: «بر باست» (م).
- بلبيس: «بال ست» (م) «بلبس» (ق).
- واحة: «راح» اسم مصري قديم ومنه اشتق المصطلح العربي «واحة» والإفرنجي «أوازس».
- الخارجة: «هيبس» (م) بمعنى المحراث.
- باريس: «تيخو نميرس» (ر)، ثم أخذ المقطع «ميرس» وتحور إلى ياريس ثم باريس الحالية.
- موط: موط: موط (م) نسبة للإلهة «موط Mut» زوجة آمون وأم خنسو إله القمر، وكانت موط تطلق على كل واحة الداخلة في العصر الفرعوني، ثم خصصت كاسم للعاصمة الحالية للواحة بعد القصر.
- القلمون: «قلعة آمون» (؟).
- سيوه: «شاءُو» هو اسم بربري — من البربر — قديم حُرِّف الآن إلى «شالي» ويطلق على البقايا للمدينة القديمة المسورة المحصنة ضد غارات البدو — كما هي العادة في كل الواحات المصرية. وقد أسماها العرب «سنتريه» وغالبًا حُرِّف هو واسم شاءُو إلى سيوه، وفي هذه الواحة تجمعين: شالي وأغورمي وللأخيرة شهرة واسعة؛ لوجود معبد آمون جوارها والذي كان كهنته يشتهرون بإطلاق النبوءات. وكانت كل الشعوب في الشرق الأوسط وأوروبا وبخاصة اليونانيون القدامى يؤمنون بالنبوءات في بلادهم وأشهرها نبوءات «دلفي» Delphi Oracle، وهو الاعتقاد الذي حدا بالإسكندر إلى رحلته التاريخية إلى سيوه حيث حصل على نبوءته بالانتصار. ولهذا اشتهرت واحة سيوه بين الكتاب الأوروبيين باسم واحة آمون. وبقايا المعبد ما زالت قائمة في حالة متوسطة من الحفظ.
(٤) دينامية العمران ودورته
-
في البداية كان السكان ينتشرون على مسطح مصر بصورة أكثر تعادلًا من تركيزهم الآن، أعدادهم قليلة؛ لأن اقتصادياتهم تعتمد على الصيد وجمع بعض الغذاء من عالم النباتات.
-
مع الجفاف اتجه الناس إلى أمان المياه على مقربة من الوادي، حيث هم قريبون من النهر يتعايشون عليه بالصيد وبعض الحيوان والنبات، لكنهم بعيدون عن غائلة الفيضان وإيكولوجية البيئات الرطبة والمستنقعات. لهذا فالمحلات السكنية في تلك الفترة هي على أطراف الوادي والدلتا.
-
مع معارف الزراعة أخذ الناس يتقدمون إلى داخل الوادي والدلتا، ومع سيادة نظم ري الحياض اختار الناس الأماكن المرتفعة نسبيًّا داخل السهل لإقامة المدن والقرى، أو يحيطون المدن بأسوار والقرى بكميات كثيفة من التربة والطمي للحماية من المياه خلال فترة إطلاق المياه في الحقول. ونظرًا لاستمرار زراعة نفس الأحواض مئات السنين كانت القرى تعلو رويدًا بإعادة بناء المساكن فوق أكوام البيوت القديمة المتهدمة. وعلى هذا ثبتت القرى في مواقعها آلافًا مؤلفة من السنين؛ لأن الوفرة صارت عاملًا في نمو أعداد السكان من القلة إلى الكثرة، ومن البعثرة إلى التركز.
-
وحين اتبعت مصر نظام الري الدائم منذ نحو قرن ونصف لم تعد مياه الفيضان تغرق الأرض، وتحيل القرى إلى جزر يتحرك الناس فيما بينها بقوارب خفيفة أو فوق مسارات الفواصل الطينية بين الحوض والآخر. وبرغم الفائدة الاقتصادية من التراكم الرأسي للثروة من نفس الحقل بزراعته مرتين على الأقل في السنة، برغم ذلك فقد كانت له ردة تعتبر ضارة من وجهة نظر انكماش مساحة الأرض المزروعة لصالح امتداد العمران القروي والحضري داخل الزمام الزراعي؛ ذلك لأن القرى والعزب والمدن بدأت في الانتشار على السهل الزراعي خارج نطاق الأكمات القروية العالية القديمة.
-
ونتيجة الإغارة على الحقول يعلو الآن صوت الإعلام محذرًا من تآكل المساحة الزراعية، وداعيًا إلى بناء القرى على الحواجز — أي أطراف الوادي والدلتا مع الدعوة إلى «غزو» الصحراء! وسواء صح هذا أو كان غير ذلك فما يعنينا في هذه المداخلة أن الإنسان لا يخترع جديدًا بل يحاول أن يستعيد من أشكال الدينامية القديمة. ولو لخصنا هذه الدينامية السكنية في جملة متتالية بين الشكل والسبب سنجدها كالآتي:
- (١)
انتشار عريض لمجموعات بشرية صغيرة متناثرة قبل أن تصبح الصحراء صحراء جدباء مع ممارسة مهنة الصيد والجمع، وبالتالي قلة أعداد الناس.
- (٢)
التجاء الناس إلى أطراف الوادي مع حلول الجفاف واستمرار الصيد وقلة الناس.
- (٣)
الدخول إلى قلب الوادي والدلتا باكتشاف الزراعة بنظام ري الحياض، وزيادة عدد الناس، وتركزهم السكني في محلات محدودة.
- (٤)
تغير نظم الري من الحوضي للري الدائم، وانتشار القرى خارج كوردوناتها مؤديًا إلى تناقص مساحة الأرض المنتجة زراعيًّا.
- (٥)
طلب العودة إلى الأطراف الصحراوية حفاظًا على ما بقي من الحقول الزراعية.
- (٦)
العودة مرة أخرى إلى الصحراء بمشروعات استزراع مكلفة، وغالبًا أعداد سكانية متزايدة حتى لو كانت نسبة الزيادة ١٪ سنويًّا.
- (٧)
المحصلة النهائية غالبًا أن التعمير الزراعي في الصحراء لا يعيش طويلًا؛ لأن المياه متناقصة سواء تلك هي المياه الباطنية التي لا تتجدد، أو هي من مياه النيل محدود الكمية المنقولة في رياحات وترع وقنوات وأنابيب …
- (١)
-
الاستمرار الجاد في الدعوة إلى ضبط النسل، وهي عملية تحتاج جيلًا كاملًا على الأقل لكي تظهر نتائجه الناجحة.
-
إذا كنا قد استنفدنا طاقة الأرض الزراعية بالإنتاج السنوي الدائم، فلا شك أن إقامة منشآت اقتصادية أخرى غير زراعية خارج الأرض الزراعية أو داخلها وعليها سوف تستوعب جانبًا بطالة العمالة الكثيفة التي كانت صفة للزراعة لكنها انتفت الآن بإدخال ميكنة كثيرة في العمل الزراعي.
-
أول المنشآت الاقتصادية المطلوبة صناعات تبدأ من التصنيع الغذائي والنباتي وتنتهي بالتكنولوجيا العالية. ومع تحسين شكل الحياة نتيجة ارتفاع الدخل من مصادر متعددة سيرتب أشياء من بينها تقليل الإنجاب، وتحسين السكن، ونمو وعي أكبر في تسييس المجتمع المحلي والوطني.
-
نتيجة شمولية لكل ذلك انتشار العمل في قطاع الخدمات وهو شديد التنوع كثيف العمالة. والنتيجة النهائية بقاء الناس حيث هم دون الهجرة للمدن الكبرى فمجالات العمل أمامهم عديدة.
-
وأخيرًا فإن هذا يكفينا مغارم اللجوء إلى مشروعات شديدة التكلفة في الصحراء هي مؤكدة العمر القصير — فالإنسان إلى الآن وباكر لا يستطيع قهر عناصر طبيعية كالمناخ، ولا يستحسن أن يتصادم معها فهو ليس لها ندًّا …
Baedeker, K., Egypte et Soudan, Leipzig-Paris 1914.
Baedeker, K., Ägypten, Allianz Reiseführer, Verlag Karl Baedeker 2005.
Andrew Humphreys & Siona Jenkins, “Egypt” Lonely Planet, London Paris Melbourne, 2002.