حول بعض المشكلات الأساسية في مصر
(١) في مسألة السكان
المشكلة السكانية في مصر تمثل التحدي الأكبر للنمو، والتنمية الشاملة والمستدامة حسب إجماع الآراء من قديم. لقد راع المتخصصين في علوم المصريات من أجانب ومصريين الإنجازات الحضارية المصرية واستمرارية الحضارة على مدار آلاف السنين، أذهلتهم تلك الاستمرارية دون أن يحدث لها اندثار كما حدث لحضارة مجاورة في أرض العراق أو فينيقيا — بل وحتى في اليونان.
والأغلب أن تلك الاستمرارية المصرية قد حدثت نتيجة الاستقرار السياسي والسكاني النسبي دون أن تجتاحه جحافل الغزاة المدمرة مرارًا وتكرارًا كما حدث لغيرها من أراضي الشرق القديم. صحيح تعرضت مصر في بعض أوقات ضعفها لغزوات من الخارج، كما حدث عند غزوة الملوك الرعاة «الهكسوس»، وغزوة الفرس الطويلة، وغزوات أقصر عمرًا كالأشورية والبابلية، وموجات من الهجرات البحرية من اليونان القدماء والقبائل الغربية الليبية. لكن هؤلاء جميعًا إما طوردوا وطردهم المصريون من مصر كالهكسوس والأشوريين والبابليين، وإما تمصروا بعد فترة من الزمن مارسوا فيها عنصريتهم على سواد المصريين كبعض الهكسوس وكل أسرة البطالمة، وإما حكموا مصر على الطريقة المصرية إداريًّا كالفرس أو الليبيين أو الرومان أو العرب قبل أو بعد الإسلام أو العثمانيين. أما الطولونيون والفاطميون والمماليك فقد مدوا جذورهم في مصر وازدهروا فيها وأصبحوا جزءًا من نسيج مصر الاجتماعي والعسكري والإداري معًا قرونًا طوال.
ومن ثم كانت هناك محاولات لمعرفة عدد سكان مصر في زمانها الطويل، وتراوحت التقديرات بين ثمانية ملايين ومليونين حسب فترات الازدهار والركود. وهذه الأعداد تمثل حجمًا غير مسبوق في تلك العصور القديمة حينما كان متوسط العمر المتوقع هو في حدود ٤٠–٤٥ سنة، وباختصار فإن عددًا حرجًا من الناس — ربما مليونين من الأنفس — يشكلون ركيزة البقاء واستمرار أشكال الحضارة والثقافة حتى في أحلك الظروف كفترة الضغط الأشوري البابلي أو فترات الاضطهاد الروماني.
ونتيجة للازدهار الاقتصادي في القرن التاسع عشر فإن عدد سكان مصر بدأ في الانتعاش برغم حروب محمد علي الكثيرة. التغير الاقتصادي باستخدام الأرض للزراعة الصيفية جنبًا إلى جنب مع الزراعة الشتوية التقليدية أدت إلى انتعاش الريف، بإدخال محاصيل صناعية على رأسها القطن الذي يكنى عنه باسم «الذهب الأبيض»، والتحول إلى الصناعات الحديثة ساهم أيضًا في الرخاء الاقتصادي الذي غمر مصر نحو سبعة عقود ثلاثة منها في نهاية القرن ١٩ نتيجة الحرب الأهلية الأمريكية وازدهار سوق القطن المصري طويل التيلة وتثبيت أقدامه عالميًّا، والعقود الأخرى في بداية القرن ٢٠ نتيجة نشأة صناعات الأقطان الحديثة وتجارتها.
ومع الازدهار والتحديث في مصر وزيادة العناية الصحية بدأ المصريون في التزايد عدديًّا بإيقاع سريع حتى وصلنا إلى ما نحن عليه من تضخم عددي. لكن التوازن كان قد اختل بين مصادر الثروة وعدد السكان، ولم نعد نرى توافقًا بين العنصرين سوى أفكار تنظيم النسل حتى يمكن إجراء ما يمكن من أنشطة اقتصادية تستوعب الناس وتنتقل بهم إلى حالة اقتصادية معقولة وإلى عصر العولمة الذي لا يستطيع شعب أن يدخله ويحافظ على كيانه دون أن يكون متقويًّا بمصادر حياتية تكفل له عيشًا بالكرامة. وفيما يأتي محاولة لفهم مشكلة مصر الأولى: السكان.
(١-١) ثلاثي المتاعب المصرية
منذ سبعة عقود كان ثلاثي متاعب مصر يلخصه شعار القضاء على «الفقر والجهل والمرض». وما زالت أجزاء كبيرة من هذا الثالوت قائمة حتى الآن وإن أخذ بعضها في التضخم كالفقر أو التحول والاستشراء بدخول أمراض جديدة، بينما نحو نصف المجتمع — عمليًّا — ما زال أميًّا. أما الثلاثي الجديد: فهو عدد السكان — أو كما يقول المُغالون في الأمر: إنها القنبلة السكانية، ثم البطالة وإشكاليات الاقتصاد، وأخيرًا سلوكيات المجتمع وأساليب التعامل الفردي والجماعي، والصلة ليست منعدمة بين الثلاثي القديم والحديث، بل في الواقع إن الثلاثي الجديد قد تولد جزئيًّا من الثلاثي القديم وتطور وتضخم على عامل الزمن بما أتى به من أشكال جديدة في تكنولوجيا الحياة وأنماط الإنتاج والاستهلاك، والتغير في شرائح المجتمع على ضوء تغير مدلول القيم.
وسوف نقتصر هنا على المسألة السكانية، بينما نفرد للعنصرين الآخرين من عناصر الثلاثي الحالي موضوعًا خاصًّا في فصول أخرى من هذا الكتاب لتبين دلالاته وأثره على تكوين المجتمع المصري المعاصر. هذا مع العلم أن هذه العناصر متداخلة مترابطة مؤثرة ومتأثرة بعضها بالبعض الآخر بصورة يصعب فك اشتباكها كما أسلفنا.
تنبيهات محمد عوض محمد منذ ٧٠ عامًا
إحساسنا بالمشكلة السكانية بمعنى نمو عددي أكبر من نمو الناتج المحلي العام وبالتالي مؤشرات الفقر والمشكلات الاجتماعية، ترجع إلى الثلاثينيات من القرن العشرين حين أشار إليه أستاذنا الراحل الدكتور محمد عوض محمد، أحد رواد المعرفة الحديثة. فقد راعه نسبة النمو السكاني المرتفعة بين تعدادات وتقديرات ١٨٨٢–١٩٢٧، بحيث تضاعف السكان مرتين في تلك الفترة من ٦٫٨ ملايين إلى ١٤٫٢ مليون نسمة. لهذا هو ينبه في كتابه الشهير «سكان هذا الكوكب» (الطبعة الأولى ١٩٣٦) إلى ضرورة أن تتشكل في مصر هيئة رسمية أو غير رسمية تُعنى بدراسة موضوع السكان كله؛ لأن مشكلة السكان في مصر «هي من أعقد المشكلات وأحقها بأن توجه إليها جميع الجهود» (المقدمة). فإذا كان ذلك التحذير الذي أطلقه محمد عوض منذ سبعين عامًا كان يعبر عن حقيقة في ذلك الزمان، فنحن اليوم أولى بالتأكيد عليه وقد زدنا على سبعين مليونًا!
سكان مصر في تعدادات ١٩٤٧–١٩٩٦ وتقدير ٢٠٠٣
ويتابع محمد عوض الحديث عن ضرورة تحديد النسل كوسيلة ناجعة لمواجهة المشكلة، ويشرح كيف كانت هذه الدعوة مثار اعتراض كبير في أوروبا في الربع الأخير من القرن ١٩ ثم قل المعترضون لجدية الموضوع وعلمية نتائجه. ويقول: «ليس في الناس من ينادي بأن وسائل منع الحمل يجب أن تكون حديث المجالس، ولكن تجنب الكلام بتاتًا في موضوع مرتبط أوثق الارتباط بصحة الأم وتربية الأطفال وهناء الأسرة أمر لا يمكن أن ينصح به منصف.» (ص١٨٧)، ويعرف محمد عوض أن الموضوع سيكون مثار اعتراض من قبل رجال الدين فيقول: «أما الدين الإسلامي فليس فيه، فيما يبدو لنا، ما يدل على تحريم تحديد النسل … بل إن ما لدينا من الأدلة يشير صراحة إلى أن الدين يبيح الالتجاء إلى تلك الوسائل …» ويستشهد في ذلك بكتاب «إحياء علوم الدين» للإمام الغزالي، وبخاصة الفصل الخامس منه. وبناء على استمرار مجهوداته نجح محمد عوض في الحصول عام ١٩٣٧ على فتوى من الشيخ عبد المجيد سليم مفتي الديار المصرية آنذاك مؤيدة للدعوة إلى تحديد النسل؛ لأن كثرة النسل الضعيف لا خير فيه.
(٢) جهود وبحوث ولكن المشكلة متفاقمة
ومنذ ذلك التاريخ المبكر فإن الديموجرافيين والجغرافيين المهتمين بالموضوع السكاني كتبوا منبهين إلى أن مشكلة المشاكل في مصر هي النمو السكاني المتسارع، مثل كتابات الدكاترة محمد صبحي عبد الحكيم، ومحمد السيد غلاب، وعبد الفتاح وهيبة وغيرهم كثير. ولا شك في أن كثرة الاقتصاديين والاجتماعيين قد اقتربوا كثيرًا من المشكلة السكانية، وكان قرار استضافة الدولة للمؤتمر السكاني الدولي في القاهرة عام ١٩٩٥ تعبيرًا صادقًا عن أهمية الموضوع وجديته وإدراك الدولة بخطورة موضوع السكان.
منذ كتابات الجغرافيين وبعض الاجتماعيين فإن الجهد العملي الذي أضيف إلى دراسة وفهم المشكلة السكانية كان إنشاء المركز الديموجرافي بتمويل من صندوق السكان بالأمم المتحدة الذي ازدهرت أعماله تحت قيادة أستاذنا الراحل الدكتور سليمان حزين ومن تلاه.
ويركز البرنامج الدراسي في هذا المركز الدولي على الجانب الديموجرافي من الموضوع السكاني (الشق البيولوجي؛ أي حركة الحياة من المولد إلى الوفاة)، مع القليل من المعالجات الاجتماعية كسبب لحركة السكان بين المولد والوفاة. وأيًّا كان الأمر فالحقيقة أن الجانبين الاجتماعي والبيولوجي معًا يشكلان العوامل المؤثرة في الخصوبة والتكاثر والوفيات والأمراض بالارتباط بكل عناصر الحياة من المعتقدات الدينية إلى النمط الاجتماعي السائد، وأشكال النشاط الاقتصادي ومردودات كل ذلك على الإنجاب والتعليم والصحة والعمل.
لكن خريجي المركز نادرًا ما يشتغلون بالموضوع السكاني. فهم إما فئة تضيف شهادات عليا إلى شهاداتها الجامعية وتسعى في دروب الوظيفة التي تشغلها بالترقي إلى درجة إدارية ومالية أعلى. وإما فئة من المتدربين الأكاديميين — المعيدين — في الجامعات تساعدهم على تواصل البحث لنيل درجات الماجستير والدكتوراه. والكثير من هؤلاء تغمرهم فيما بعد واجبات المهنة التدريسية ونادرًا ما يشاركون في العمل السكاني إلا من خلال محاضراتهم النظرية للطلاب أو بحوث تلقى في المؤتمرات. بعض هذه البحوث مبنية على دراسة عملية في أحد أقاليم الدولة أو في واحد من الموضوعات السكانية مثل الاكتظاظ والتزاحم أو الفقر والهجرة المصاحبة من الريف إلى الحضر وغير ذلك من الموضوعات.
(٢-١) مجهودات الدولة مترددة
وإلى جانب هذا الإطار النظري والإعداد الأكاديمي فإن الدولة كانت منذ فترة طويلة نسبيًّا تسعى إلى معالجة المشكلة السكانية على أرض الواقع. ولكن سياسة الدولة ترددت بين عدة مفاهيم أقصاها تحديد أو ضبط النسل وأدناها المساعدة على تنظيم النسل. ومن خلال هذه السياسة أو تلك أنشأت الدولة أجهزتها الإرشادية وأطلقت حملاتها الإعلامية المكتوبة والمسموعة والمرئية، لكن معظم التوجه كان في الريف المصري المعروف بالمحافظة لدرجة الجمود، بينما كان في الإمكان أيضًا تكثيف العمل والإعلان بين الفئات الفقيرة في المدن التي تعج بالمهاجرين من الريف دون أن يكون لديهم تأهيل مهني مناسب لحياة المدينة الاقتصادية، والاجتماعية، والصحية. وفوق هذا كانت هناك قوى مناهضة لأشكال تنظيم النسل من جوانب كثيرة كتنافس شرائح المجتمع في التكاثر واستمرارية الضغط التاريخي نحو فكرة الكثرة، وجماعات إيديولوجية تحارب هذا التنظيم على أنه عمل مناف لطبيعة البشر والمعتقدات الدينية، أو تنظيمات مناهضة للحكومة تعمل على تقويض سياساتها السكانية والتنموية كجزء من هدف الوصول إلى الحكم.
ومع ذلك فإن هناك بشائر انخفاض في نسبة النمو السكاني السنوية وبخاصة في المدن الكبرى، بينما الريف بمدنه الصغرى وقراه ما زال ينمو بمعدلات أعلى من المدينة. فإذا صحت أرقام التعداد العام لسنة ١٩٩٦ فإن نسبة النمو السكاني العام في مصر قد هبطت من ٢٫٢٪ سنويًّا إلى ٢٪ فقط، ولكن نسبة الهبوط اختلفت من مكان لآخر. ففي القاهرة الكبرى على سبيل المثال هبطت نسبة النمو في محافظة القاهرة إلى ١٫٢٪ سنويًّا للفترة ١٩٨٦–١٩٩٦ بينما ظلت شبرا الخيمة تنمو بمعدل ٢٫٢٪ والجيزة بمعدل +٥٫٣٪؛ وذلك لاستمرار الهجرة الريفية وضم كثير من القرى إلى مدينة الجيزة.
ولإحساس الدولة بخطورة المشكلة السكانية في مصر فقد أفردت في جهازها التنفيذي وزارة خاصة بالسكان. لكنها للأسف لم تعمر طويلًا وتحولت إلى هيئة خاصة لها جهاز إداري وإمكانات محدودة. ثم ألغت الدولة هذا التشكيل وألحقت المشكلة السكانية بوزارة الصحة. هذا التردد بين وزارة ثم هيئة ثم ملحقية يوضح لنا حيرة في مواجهة مشكلة تقض البال في مصر، بل ربما هي مشكلة المشاكل وأولى الأسافي في المجتمع، وعليها تنبني سياسات كثيرة في الصحة والتعليم وميادين العمل والتنمية الاجتماعية الاقتصادية على وجهها الشمولي.
إن إلحاق السكان بوزارة الصحة أساسه أن النظرة إلى المشكلة السكانية هي نظرة قاصرة على مجرد التعداد والنمو السنوي — أي نظرة بيولوجية للإنسان من أجل الحد من تكاثره. ولكن كما قلنا سابقًا هي نظرة إلى جانب واحد من الموضوع. فالتكاثر بالإنجاب تتحكم فيه علاقات أخرى إلى جانب العلاقة البيولوجية الزواجية. مرة أخرى يجب أن ننظر للمشكلة من جوانبها الاجتماعية والأطر التي صاغتها من عناصر دينية واقتصادية. على سبيل المثال استمرار قوة النظرة الاجتماعية الاقتصادية التقليدية على أن كثرة العيال عزوة عددية، تشكل دخلًا إضافيًّا للأسر بالعمل كقوة عمل زراعي أجير لدى ملاك الأراضي أو أعمال أخرى لدى أصحاب الأعمال، أو أعمال خدمات شخصية مهمشة — غالبًا إناث — لدى الأسر الكبيرة في القرية أو المدينة. والآن تحولت الأهداف في ظل التعليم المجاني إلى أن يكون الأبناء طاقات عمل إداري ومكتبي يتقاضون رواتب شهرية مؤكدة مما أدى — في أحد جوانبه — إلى مشكلة نقص الأيدي الزراعية، برغم زيادة عدد سكان الريف سواء كانوا يعملون في الفلاحة أو أعمال أخرى في المدينة المجاورة!
(٢-٢) إشكالية السكان تحتاج عمل جماعي متناسق لهيئات عديدة
ربما يجوز لنا الاقتراح بأن تتولى إشكالية السكان هيئة أو مفوضية عليا مستقلة لها موارد كافية بحيث لا تضيع في خضم وزارات الخدمات. وأن تشترك هذه المفوضية المقترحة اشتراكًا فعليًّا في العمل مع وزارات عديدة، منها على وجه خاص وزارات الصحة والشئون الاجتماعية والتعليم والأوقاف والهيئات الدينية الإسلامية والمسيحية والإعلام والبيئة وأجهزة تنمية الريف وتنمية المجتمع وأجهزة العشوائيات في كل المحافظات. فلهذه الأجهزة والوزارات سياسات خاصة في معالجة ناحية أو أخرى من المشكلة السكانية. لكنها، للأسف، تتشكل في صورة أقرب إلى أن تكون «جزائر» منعزلة، نادرًا ما تتكامل معًا في مواجهة كل المشكلة السكانية، بل هي في أحيان تتصادم فيما بينها! هذا ولا يجب أن تكون المفوضية التي نقترحها بمثابة المنسق بين هذه السياسات المنفصلة، بل يجب أن تنبع عنها السياسة السكانية بشمولها وأن توظف بعض ما لدى الوزارات، وبخاصة وزارات التعليم والصحة والأوقاف والإدارة المحلية، من تجهيزات وميزانيات وقوى عاملة داخل إطار السياسة الشاملة للموضوع السكاني بشقيه البيولوجي والاجتماعي الاقتصادي معًا.
قرن من تطور سكان مصر ١٨٩٧–١٩٩٦، والنسبة المئوية لسكان القاهرة إلى مجموع سكان مصر
وربما يكون من التوصيات إنشاء عدة معاهد على مستويات تعليمية متعددة تنتظم فيها برامج سريعة لأسابيع محدودة لتعليم الناس وتوعيتهم بمخاطر المشكلة السكانية — على أن يكون لها ثقل برامجي تطبيقي مختلف في الريف عنها في أحزمة الفقر حول وداخل المدن من أجل تخريج عاملين أو تكوين متفهمين لمحاذير الموضوع السكاني من داخل كل مجتمع، فهم على الأغلب أكثر تأثيرًا في مجتمعهم من موظف أو خبير قادم من القاهرة. كما يجب مراعاة الإكثار من عقد دورات نقاشية يشارك فيها الناس بالرأي من منطلقاتهم، على أن يكون لهذه الآراء مردود إيجابي يوصى به في إقليم أو مجتمع له ظروفه الخاصة. وبهذا تكون تطبيقات تنظيم النسل ذات مرونة وليست مجرد آراء وتعليمات تنبع من القاهرة ومطلوب تنفيذها على مستوى الدولة كلها.
وأخيرًا فالمرجو إنشاء مركز مصري لدراسة موضوع السكان بشقيه على أساس قومي، وظيفته الأساسية الاتصال الدءوب بكل الأجهزة الحكومية والشعبية والأهلية لإحداث التنسيق المطلوب على أرض الواقع من أجل إنجاح دعوة تنظيم النسل بالقدر الممكن في مراحل مختلفة. وربما يلحق هذا المركز فيما بعد بمركز بحوث اجتماعية كجزء هام من تشكيلات المجتمع، وربما يكون من مهام المركز تخريج خبراء على مستوى عال إحصائي ديموجرافي؛ ليصبحوا الكوادر الأساسية في وزارة أو مفوضية عليا للسكان تكون هي المبتدأ لمخططات تنمية المجتمع في كافة جوانبه.
(٣) المسألة السكانية مرة أخرى
هذه هي المرة الثانية في خلال شهر أو نحوه التي أكتب فيها عن المسألة السكانية المصرية كواحدة من ثلاثي المتاعب المصرية المعاصرة. والذي حفزني إلى الكتابة — بشيء من الاستفاضة — عن هذا الموضوع الخطير أنه صار من الاهتمامات الاستراتيجية لرئيس الدولة في خطاباته الأخيرة وأن رد الفعل كان سريعًا في مجلس الوزراء ووزارة الصحة والسكان بحيث ظهرت تحقيقات صحفية تتكلم عن «طوارئ لمواجهة المشكلة السكانية»، كأن الموضوع حادث طارئ كسيل عرم أو زلزلة مفاجئة. لكن كل الناس الذين لديهم بعض إلمام بالشئون المصرية يعرفون أن المسألة السكانية عملية مستمرة لنحو قرن من الزمان، ويعرفون قدر العبء الذي يكونه التزايد السكاني على الحياة العامة المصرية من التعليم والصحة إلى العمل والسكن. لكننا درجنا على أن نضخم الأمور.
(٣-١) مشكلة — إشكالية — أم مسألة؟
وفي البداية أحب أن أوضح أن استخدام كلمة «مشكلة» قد تعني أن وضعًا متأزمًا قد حدث، وبالتالي يمكن إيجاد بعض الحلول لتقويم الوضع على منسوب معين في المدى القريب، كما لو أنه حدث طارئ. بينما تعني «إشكالية» استمرارًا لمشكلة ما عويصة متشعبة. أما «مسألة» ما فتعني أن هناك موضوعًا مستمرًا لحالة السكان، سواء كانوا أقل أو أعلى من الموارد المتاحة، وبالتالي يستوجب معالجته على مدى طويل الأمد من جميع أطرافه وتداعياته.
وبهذا التوصيف فإن الموضوع السكاني في مصر هو «مسألة» مزمنة متراكمة وليس «مشكلة» طارئة — هو «إشكالية» وليس «مشكلة». قد تنبه لها المفكرون منذ أمد طويل وتنبه لها السياسيون منذ وقت قصير. ولهذا فإن الكلام عن «طوارئ» وزارة الصحة لمواجهة المشكلة ليست في محل صحيح، فالنمو السكاني وليد عمليات بيولوجية اجتماعية اقتصادية متفاعلة معًا يصح إيجازها بأنها «عمليات حياتية» على زمن طويل في أي مجتمع، ولا تعالجه أية إجراءات طارئة بل سياسة طويلة النفس.
(٣-٢) محتوى المسألة السكانية
إن الاهتمام المشدد من جانب الدولة لمشكلة التزايد السكاني قد أعطى لحقيقة واقعة أبعادًا تنفيذية من جانب المسئولين. وهذا في حد ذاته أمر جدير بالاعتبار. فالطرح هنا على أنها جزء لا يتجزأ من مساعي الإصلاح والتنمية الحالية والمستقبلية وبدون التصدي لها كما يجب تتعثر أشكال التنمية ومساعي النهضة. ومن ثم أصبح كلام المسئولين واضحًا وصريحًا عن الحاجة إلى رصد ميزانيات كبيرة على مدى عدة سنوات. على أن هذه الإنفاقات لا يجب أن تخصص فقط للدعوة إلى إنشاء مراكز جديدة لتنظيم الأسرة أو الدعاية التلفازية الناجحة لحث الناس على العقلانية في الإنجاب، بل يجب أن تكون هناك سياسات شاملة لشتى المؤثرات الخدمية والتأسيسية لتنظيم النسل. فدرجة النمو السكاني متعددة الأسباب والجوانب كما نعلم جميعًا.
من أمثلة ذلك كيف تخصص الملايين من أجل نشر التعليم بجدية أكثر ومحاربة التسرب من التعليم مع مزيد من التأكيد على تعليم البنات، في مقابل الكف عن النظر إلى الأطفال من الجنسين على أنهم قوة عمل خفية تجلب الرزق لأسرهم؟
وكيف ننفق ملايين أخرى لنشر وتدعيم فكرة أن الأديان لا تحض على الكثرة العددية فقط بل على النواحي النوعية بالأساس، وأن الكثرة الكمية ما هي إلا نوع من أنواع إلقاء المجتمع إلى التهلكة وهو عكس ما تدعو إليه الأديان.
ونحتاج ملايين أخرى لتغيير منظور المجتمع للمرأة على أن دورها الأساسي يكاد يقتصر على كونها أداة للإنجاب، ومن ثم تكاد العاقر أن تعزل عن المجتمع بينما تتمتع الولود — وبخاصة المنجبة للذكور — بقيمة اجتماعية عالية، وإن ظل دورها الاجتماعي في غير ذلك محكومًا بقوة مجتمع الذكورة الذي نعيشه!
وإنفاقات أخرى لتحسين وتطوير مناهج التعليم لكي نخرج التخصصات المطلوبة لحياة المجتمع بدلًا من تخريج موظفين وكتبة أو حملة شهادات عليا ينضمون إلى فئة العاطلين في ظل ظروف مجتمعنا الحالي. ونحتاج أرصدة أخرى لموضوعات متشعبة لتصحيح موقفنا السكاني.
لقد تأخرنا كثيرًا في مواجهة المسألة السكانية بالقدر المطلوب. وسبق أن ذكرت أن أستاذنا الدكتور محمد عوض قد حذر من تنامي سكان مصر منذ ١٩٣٦ — أي منذ ثلاثة أرباع القرن، وأنه حصل على فتوى من المفتي آنذاك تجيز تنظيم النسل. وهناك مجهودات كثيرة أخرى في هذا المجال لكنها كانت لا تلقى آذانًا صاغية، وإن وجدت الآذان لم توجد الوسائل لتنفيذ تنظيم النسل، ولو كنا اجتهدنا منذ ذلك التاريخ لما كانت عندنا اليوم إشكالية عويصة تستدعي من رئيس الدولة التنبيه والإشارة إلى مخاطرها.
- (أ)
شكل وتنظيم الهيئة الخاصة بإدارة الموضوع السكاني.
- (ب)
أشكال الهجرة الخارجية الدائمة وهجرة العمل المؤقتة.
- (جـ)
الانضباط الذاتي لدى المصريين لخفض نسبة النمو السكاني.
(أ) مفوضية عليا لإدارة الموضوع السكاني
سبق لي أن اقترحت أن على رأس المعالجة الموضوعية صياغة الجانب الهيكلي في إدارة المسألة السكانية في صورة تشكيل «مفوضية عليا للسكان»، فلا يخفى أن مدى النجاح في أي مشروع يرتبط أساسًا بشكل إدارته. والمفوضية العليا للسكان المقترحة هي بالقطع أشمل من تخصيص الموضوع بانتماء إدارته إلى وزارة الصحة فقط. فلا يخفى أن جانب الصحة يعالج الموضوع من جوانبه البيولوجية بالأساس في حين أن الموضوع يحتاج إلى تضافر جهود كبيرة من التخصصات الخدمية — على رأسها التعليم والشئون الاجتماعية، والتخصصات الإنتاجية — الزراعة والصناعة — لتحسين أحوال السواد الأعظم من السكان، وعالم الاتصالات لكي يجلب الناس إلى ما يضطرب به عالم اليوم من مدخلات ومؤثرات في داخل الوطن والعوالم خارجه فيدرك مخاطر المسألة السكانية، مثل هذه المفوضية العليا سوف تجلب التناغم والتفاعل المشترك بين مجهودات الوزارات والمحافظات المختلفة في مسار رئيسي يتجنب التكرار والتضارب وتعدد الإنفاق الإداري وتعدد الوظائف المتكررة … إلخ، مما يحجم الإنفاق الإداري ويوجه الجهود المبذولة مباشرة إلى الهدف.
(ب) الهجرة وحواجز الحدود
في الماضي كانت الدنيا مفتوحة على بعضها بحيث تجد الشعوب متنفسًا للزيادة السكانية بالهجرة إلى أراضٍ جديدة. ولكن مع نشأة الدولة القومية في أوروبا فيما بعد القرن السابع عشر ضاقت الدنيا بالحدود المفتعلة والحروب الاستعمارية لتقسيم العوالم الجديدة. وحتى الأقاليم القديمة الواسعة كالشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا وشبه القارة الهندية وأفريقيا، قسمت هي الأخرى بين البرتغال وإسبانيا وهولندا وانجلترا وفرنسا ولحقتها في أواخر القرن ١٩ إيطاليا وألمانيا والولايات المتحدة. وحين استقلت المستعمرات أخذت بنظام الدولة القومية شكلًا وليس مضمونًا. ومن ثم شهدنا التكالب الشديد على حدود صنعها الاستعمار ليست وليدة التطور السياسي لقومية معينة وهو ما أدى إلى صراعات داخلية بين مجموعات ثقافية مختلفة داخل الوحدة السياسية الجديدة، وبالتالي مساع ناجحة أو مؤجلة للانفصال وتكوين وحدات سياسية جديدة على أسس من السلالة أو اللغة أو الدين. وفي عالمنا العربي نشهد مثل هذه المساعي الانفصالية في السودان بين الجنوب والشمال — بطبيعة الحال بتداخلات ومؤثرات خارجية سعت إلى ذلك التقسيم منذ بداية الحكم الإنجليزي في السودان، كما يتردد مثل ذلك في بعض مخططات أمريكا وإسرائيل بالنسبة لمستقبل العراق.
أسباب ذلك كثيرة منها التهيئة العلمية والمعملية والأنشطة الاقتصادية دائمة التطور في العالم الأورو–أمريكي بالقياس إلى ما هو موجود في أوطان العالم الثالث. وباختصار فإن في عصر العولمة «كارت بلانش» أو باب مفتوح للمؤهلين، وباب مغلق وشبه مغلق — موارب — أمام الملايين الأخر من بلاد العالم الثالت. وربما كانت هجرة مسلمي تركيا وشمال أفريقيا إلى أوروبا شاهد على أن الوقت ليس في صالح التقاء الشعوب كما كان في قرون مضت، رغم احتياجهم البعض للآخر. فالأوروبيون يحتاجون عمالة رخيصة لأعمال لم يعودوا يقتربون منها لارتفاع أجورهم وتأميناتهم، وبالمثل يحتاج المهاجرون المسلمون إلى تلك الأعمال؛ لأنها تدر عليهم أضعاف ما يحصلونه في بلادهم إذا وجدوا عملًا، ومع ذلك يظل نموذج الهجرة إلى العالم الأورو-أمريكي مفيدًا حتى وإن ظلت هناك بقايا عنصرية بغيضة وتنافر بين المهاجرين من سلالات، وثقافات وأديان ومذاهب متباينة.
وفي عالمنا العربي فإن أبواب الهجرة الدائمة أيضًا مغلقة بين العرب بعضهم البعض لأسباب عديدة على رأسها العوامل الآتية:
أولًا: انقسام الدول العربية إلى فئتين
-
(١)
دول عربية غنية — غالبًا الدول النفطية في الخليج وليبيا والعراق — لا تريد مهاجرين وإنما عمالة مشروطة، وربما كان ذلك رغبة في الإبقاء على مستوى عالٍ من الدخل والخدمات الاجتماعية والتعليمية والصحية للسكان الأصليين. ولا شك في أن لذلك مبررات وبخاصة أن معظم هذه الدول قد حدثت فيها تغييرات اقتصادية اجتماعية أدت إلى تركيز متكاثف للسكان المحليين وغيرهم في العواصم ومدن قليلة العدد، وندرة سكانية في المناطق الريفية أو الصحراوية وارتفاع أسعار إمدادات مياه الشرب. وطبيعي أن فتح باب الهجرة سيزيد من مصاعب الحياة في المدن القليلة، وربما يؤدي إلى عشوائيات هي في غنى عنها. ولكنهم في ذات الوقت في حاجة إلى عمالة رخيصة عربية وآسيوية للوفاء بمتطلبات المجتمع الجديد منذ ثلاثة عقود لسببين؛ الأول: قلة أعداد المواطنين، والثاني: تأهيلهم للأعمال الجديدة. السبب الأول ما زال ذو فاعلية بينما تنامى التأهيل بين المواطنين مما يضيق فرص عمل غير المواطنين وبخاصة في الأعمال العليا والإدارة، ومن ثم ما زال الاحتياج إلى عمالة خارجية في المستويات المنخفضة من الأعمال.
-
(٢)
من بين الدول العربية ذات المساحات القابلة للسكن المهاجر السودان والعراق. وهما على طرفي نقيض: السودان شاسع يضم بيئات عديدة من الصحاري إلى غابات وحشائش مدارية، ويتميز بمصادر مائية عديدة وأمطار لا بأس بها، لكنه لأسباب كثيرة ما زال فقيرًا، فالتنمية الحديثة في الزراعة والثروة الحيوانية لم تبدأ بعد بدرجة معقولة إلا في مناطق محدودة على مياه النيل، وما زال الصراع العرقي والقبلي والديني والإقليمي يقلل من توازن السودان سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا مما لا يؤدي إلى جاذبية هجرة دائمة قبل فترة زمنية في المستقبل لسنا بقادرين على التنبؤ بمداها؛ لكثرة المدخلات السودانية الذاتية والتداخلات الخارجية معًا.
ثانيًا: الاحتمالات المسموحة لحركة الناس بين الدول العربية
لهذا فإن هجرة العمل المؤقتة إلى البلاد البترولية هي أكثر أشكال الهجرة نجاحًا؛ لانتظامها في أشكال قانونية سواء من دول منبع العمالة أو الدول المستوردة لها. ولقد أدت هذه الهجرة إلى تأجيل بعض المشاكل الاقتصادية التي تعاني منها دول المنبع، لكنها أدت إلى أنواع من المشكلات الاجتماعية الاقتصادية تعاني منها هذه الدول حيث لم تكن هناك أجهزة وإرشادات لحسن التصرف في المدخرات التي يأتي بها العامل من الخارج، فضلًا عن نهب جوانب من المدخرات بواسطة مغامرين تحت مسمى «توظيف الأموال». كما أن هذا النوع من الهجرة المؤقتة هو آخذ في النقصان لسببين؛ أولهما: ما سبق ذكره من تكوين كوادر محلية تحل محل العمالة الوافدة، وثانيهما: تذبذب الدخل الوطني بتأرجح أسعار البترول، والتزام الدول بتشغيل مواطنيها قبل توظيف الوافدين.
ثالثًا: الحدود العربية بين البراجماتية والجمود
وأخيرًا وليس آخرًا فإن تخفيف قيود الحدود السياسية للدول العربية بشكل أو آخر ضمن إطار جامعة الدول العربية والاتفاقيات الثنائية؛ قد يساعد على إيجاد صيغة «الأواني المستطرقة» بين سكان العالم العربي، كما كان الحال دائمًا في الماضي البعيد وغير البعيد، حين كان السكان ينساحون بدرجات مختلفة على الأراضي العربية. لست أدعو الآن إلى صيغة مماثلة للاتحاد الأوروبي، وإن كان ذلك ممكنًا في وقت ما. ففي مستقبل قريب لن تكون هناك عالميًّا كيانات صغيرة قادرة على العيش المستقل. بل تكتلات كبيرة تضم ثقافات ولغات مختلفة لكنها قادرة على إيجاد إطار متوازن من الأنشطة الاقتصادية المتقدمة يشمل كل المجتمعات داخل التكتل الكبير. ونحن في العالم العربي نملك تجانسًا ثقافيًّا ولغويًّا تحسدنا عليه مجموعة الاتحاد الأوروبي، وليس في تاريخنا حروبًا مميتة وصراعات مزمنة كما كان في أوروبا. كل ما علينا أن نتجاوز بالتدريج التناقضات العربية في الدخل القومي وأشكال الإنتاج وأعداد السكان وتحييد المؤثرات الأجنبية الداعية إلى الإبقاء على الانقسامات، حتى يحدث في النهاية نوع ما من التوازن بين الأقاليم الجغرافية داخل عالم العرب. في هذا الموضوع أقوال وحجج كثيرة مؤيدة ومعارضة معروفة فلا داع لتكرارها. والمطلوب نمو إيديولوجية عربية تجريبية على مهل، بعيدًا عن الطنطنات الخطابية، بحيث تنمو بالارتباط التدريجي للمصالح العملية المشتركة بين الدول العربية. ربما يبدأ ذلك بمشاركة الشعوب في اتخاذ القرارات.
(جـ) الانضباط الذاتي للنمو السكاني
- (١) السكن في المدن باحتياجاته السكنية والمعيشية والتعليمية والوظيفية يساعد على إدراك الناس تدريجيًّا أن تقليل الإنجاب هو من ضرورات حياة المدن. وباستثناء المدن الحضرية الأربعة٢ فقد زادت أعداد المدن في الدلتا من ٥١ مدينة عام ١٩٤٧ إلى ١٠٨ مدينة عام ١٩٩٦، وفي الوادي من ٤٤ إلى ٧٨ مدينة.٣ وفي نفس التاريخ زاد عدد سكان مدن الدلتا والوادي من ١٢٪ إلى ٢٣٪ وهبط سكان الريف من ٧٠٪ إلى ٥٧٪.٤
- (٢) ارتفاع دخل الأسرة والغنى والرفاهية في المجتمع تساعد أيضًا على تقليل الإنجاب.٥
- (٣)
تعليم البنات جنبًا إلى جنب مع الذكور مع التشدد في تأخير سن الزواج لكلا الجنسين؛ هما من العوامل الحاسمة في خفض الخصوبة. فمثلًا تنخفض نسبة الأمية بين الإناث (+١٠ سنين) في محافظة القاهرة إلى ٣١٪ مقابل ٤٤٪ في محافظة الجيزة؛ لأنها تضم قطاعًا ريفيًّا كبيرًا، وكذلك نجد ٣١٪ في الإسكندرية مقابل ٦٦٪ في محافظة قنا وأسيوط، و٤٠٪ في السويس مقابل ٧٠٪ في المنيا … إلخ. وهو ما يوضح تأثر المعيشة في المدن على تخفيض أمية النساء مقابل ارتفاعها في الأرياف.
وفي الحقيقة فإننا لا نخصص سببًا واحدًا في انخفاض نسبة النمو السكاني، بل إن مجموعة الأسباب تتفاعل معًا في حالات كثيرة وبخاصة في الدول النامية. وفي بعض الحالات يكون الغنى والوفرة المجتمعية العامة سببًا فعالًا في استمرار انخفاض الخصوبة إلى درجة خطرة، كما نلاحظه في أوروبا الغربية التي قد تسعى لتعويض التناقص السكاني بتقبل هجرة من شرق أوروبا أو البلقان. أما في بلاد العالم النامية فالأغلب أن سكن المدن وتعليم البنات عنصران متفاعلان في الريف والمدينة لتقليل الخصوبة.
على سبيل المثال فإن النمو السكاني العام في مصر ربما كان اليوم أقل قليلًا من ٢٪، بينما كان نمو سكان محافظة القاهرة في حدود ١٫٢٪–١٫٥٪. ولكن يجب أن نميز بين نمو السكان في أحياء المدينة؛ فهي نسبة نمو عالية في الأحياء الفقيرة ومنخفضة في الأحياء الغنية، وهنا يدخل تفسير الفقر والغنى في ارتفاع أو انخفاض الخصوبة على مستوى أحياء المدينة، وأيضًا بين المدينة الريفية أو الخدمية أو التجارية … إلخ. ففي الريف بصفة عامة نوع من التساند الاجتماعي المعيشي، بحيث لا يجوع لحد الجوع فرد أو أسرة ريفية، فمجال العمل اليدوي مفتوح في خدمة البيوت الغنية كأنه صدقة مغطاة للحفاظ على آدمية الإنسان. أما في المدينة فإن مثل هذا التساند نادر الوجود بطبيعة أن السكان من أخلاط ومهاجر شتى: كل شخص أو أسرة حبيسة تأهيلها في العمل والتعليم.
يمكن أن نستمر في تخصيص الأمثلة التي تدلنا على أن معالجة المسألة السكانية شديدة التشعيب بين المعتقدات الموروثة، واحتياجات الحياة المعاصرة في الريف والمدينة — أيًّا كان حجمها — على حد سواء. وبذلك تحتاج هذه المسألة العويصة إلى تضافر جهود كثيرة من المفكرين والساسة والمنفذين؛ لكي نخطو قدمًا قدمًا وخطوة خطوة على الطريق الصحيح.
ولعله من الأوفق أن تتشارك محليات الأحياء في المدن والقرى في الريف والجمعيات غير الحكومية مع مخطط الدولة العام في تعميم أفكار أن «الأسرة الصغيرة هي الأسرة السعيدة.»
(٤) تأملات في مسائل السكان والإدارة في مصر والقاهرة
على ضوء كراسات التعداد العام للسكان ١٩٩٦ الصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
وبعد قرارات تحليلية متأنية للنتائج العامة وتلك الخاصة بالقاهرة، يعن لي أن أبدي بعض الملاحظات الآتية:
(٤-١) التقسيم التقليدي للمحافظات
لماذا نستمر على تقسيم الجمهورية إلى أربع محافظات حضر و١٧ محافظة ريفية في الدلتا ووجه قبلي وخمس محافظات حدود؟
-
(١)
محافظات الحضر (القاهرة، الإسكندرية، بورسعيد، السويس) علمًا بأن القاهرة والإسكندرية تضم أراضٍ زراعية مهما كان حجمها، وأن السويس تضم نحو ١٧ ألف كم٢ من الأراضي الصحراوية والجبلية وقليل من الزراعات، وكذا بورسعيد التي تضم نحو ١٢٠٠ كم٢ من الرمال والملاحات بينما معمورها الحضري لا يتجاوز مائة كم٢. وماذا عن الكثافة الحضرية العالية في مدن كالمحلة (+٤٠٠ ألفًا) وطنطا والمنصورة والأقصر (+٣٨٠ و٣٧٠ و٣٦٠ ألفًا على التوالي)؟
-
(٢)
محافظات الدلتا وتشمل من الإسماعيلية شرقًا إلى البحيرة غربًا. الإسماعيلية ٥٢٪ سكانها حضر وركنها الاقتصادي مرتبط أساسًا بالملاحة في القناة، وركنها الآخر تمثله المعابر إلى سيناء، وركنها الثالث سياحة وترفيه وركنها الرابع زراعة في شرق وغرب القناة. وبذلك فإن ثلاثة أرباع المحافظة مُدني حضري النشاط الاقتصادي، ومع ذلك يصر تقسيم التعداد وتقسيمات وزارة الداخلية، على أنها محافظة ريفية! وتضم الدلتا أيضًا محافظة القليوبية على أنها ريفية أيضًا مع أن ٤١٪ من سكانها يصنفون حضرًا في التعداد! وكلنا نعرف أن مركزي شبرا الخيمة وقليوب هما بالأساس مناطق حضرية يتركز نشاط سكانهما في أعمال الصناعة والتخزين والنقل. وهي في الأخير جزء متمم للقاهرة الكبرى مرتبطة بها بكل الروابط المهنية والسكنية والثقافية. فكيف تصبح ضمن محافظات الريف؟ وبالمثل فإن مركز كفر الدوار صناعي شديد الارتباط بالإسكندرية سكانًا وخدمات.
-
(٣)
محافظات الوجه القبلي وتبدأ تقليدًا من الجيزة في شريط طويل متعرج إلى أسوان. ولا نعرف لماذا يبدأ وجه قبلي بالجيزة التي تمتد حدودها الشمالية إلى قرب الخطاطبة على فرع رشيد؟ وربما كان الأوفق ضم هذه المنطقة الشمالية من الجيزة إلى محافظة المنوفية. ثم كيف تصبح الجيزة محافظة ريفية ونحو ٥٥٪ من سكانها حضر. والجيزة من القناطر إلى البدرشين والحوامدية كثيفة الاتصال بالقاهرة، بل إن أقسام مدينة الجيزة من المناشي والوراق وإمبابة إلى ساقية مكي والمنيب والهرم وبولاق الدكرور والبدرشين، وقرى المحور من إمبابة إلى ٦ أكتوبر هي جزء من منظومة القاهرة الكبرى، وتشكل مناطق سكنية وأماكن عمل متبادلة مع القاهرة عبر النيل. وهي مدينة ٦ أكتوبر، والواحة البحرية من أرياف الوجه القبلي؟ والسؤال المطروح هو لماذا لا يبدأ الوجه القبلي بمحافظة بني سويف، وتترك أواسط الجيزة جزء من إقليم العاصمة التي تسيطر عليها تمامًا؟
-
(٤)
محافظات الحدود وتشمل نحو ٩٥٪ من مساحة الجمهورية. إن هذه التسمية ترجع إلى عصر الإدارة البريطانية في مصر حينما أنشأت لها مصلحة الحدود تهيمن عليها ويُمنع المصريون التنقل فيها إلا بتصريح خاص من تلك المصلحة، كأننا ننتقل إلى أراضٍ أخرى ذات سيادة! واستسهالًا وتقليدًا بيروقراطيًّا نقلت الإدارة المصرية هذا التقسيم التعسفي، وظلت الحركة في هذه المحافظات غير حرة إلى وقت قريب. لهذه المحافظات أسماء معروفة تاريخية أو جغرافية كسيناء، أو البحر الأحمر، أو الصحراء الغربية التي قسمت بعد مشروع تنمية الواحدات إلى مطروح والوادي الجديد في الستينيات. وربما يعاد تقسيم الوادي الجديد إداريًّا إلى الواحات وتوشكى والعوينات تمشيًا مع المشروعات الجارية الآن. وتتفق هذه المحافظات في اتساع المساحة والتراكيب الرملية والصخرية والوديان الجافة الخطرة وقت السيول والسكن البشري المبعثر البدوي أو الواحي، لكنها الآن تشكل جزءًا مرموقًا من الناتج المحلي المصري بما تحتويه من ثروات طبيعية مستغلة — البترول والغاز الطبيعي والحديد والفوسفات والأملاح … إلخ، أو التي يخطط لاستخدامها كطاقة الرياح والطاقة الشمسية أو القرى الصناعية والنقل البحري في شمال خليج السويس وشرق التفريعة أمام بورسعيد، وهي أيضًا مجال التنمية الزراعية في سيوة والفرافرة والداخلة وتوشكى وشرق العوينات وشمال سيناء. وهي أيضًا المجال الرئيسي للسياحة المحلية والعربية والأجنبية في المشاتي والمصايف على طول سواحل سيناء الشمالية وسيناء الجنوبية وعلى طول البحر الأحمر من العين السخنة إلى مرسى علم والشلاتين وحلايب، وعلى طول الساحل الشمالي من الدخيلة إلى مرسى مطروح. فأين هي إذن صفة الحدود؟ أليس شمال الدلتا حدودًا بحرية من بورسعيد إلى الإسكندرية، وبالمثل فإن أسوان هي الأخرى حدودًا جنوبية؟ لقد أصبحت هذه المحافظات كل متفاعل مع بقية المحافظات الأخرى وبالتالي فقدت وظيفتها العازلة المنعزلة، فكيف نستمر على تسمية فقدت الكيان والمضمون؟ وإذا كان ولا بد من تسمية جامعة فلماذا لا تسمى «المحافظات الصحراوية».
مقترحات التقسيمات الجديدة
وبناء على هذا فالمقترح الذي قد يتفق عليه الكثيرون أن تتغير هذه التقسيمات التي بَلِيَ عليها العهد وما زلنا نمارسها تقليدًا دون نظر أو تمحيص وتحليل مستقبلي، فهي ليست تقسيمات أزلية. فلسفة الفصل بين المعمور الزراعي والعمران الحضري والصحراوي ربما كانت لها مبرراتها الماضية، لكن التكاملية واضحة ومطلوبة في القرن القادم لسلامة وسلاسة الأداء الاقتصادي والإداري والسياسي للدولة. المشكلة ليست أي التقسيمات هي الأرجح، وإنما الشيء المهم أن نتفق على مبدأ التغيير. وكإسهام مني أقترح التقسيمات العامة الآتية بدلًا من حضر ووجه بحري وقبلي وحدود — علمًا بأنها قابلة للتأييد أو الرفض أو التعديل حسب الإجماع.
-
(١)
محافظات الشمال: تشمل سيناء الشمالية والجنوبية ومحافظات القناة الثلاث ومحافظات الدلتا والإسكندرية ومطروح، ونستثني من ذلك جنوب القليوبية. ومجموع هذا القسم يشتمل على ثلث مساحة الجمهورية ونصف سكانها.
-
(٢)
محافظات الوسط: تشمل القاهرة الكبرى ومحافظات الجيزة وبني سويف والفيوم والمنيا وأسيوط وواحتي البحرية والفرافرة. ويشتمل هذا القسم على نحو عُشر مساحة مصر و٣٨٪ من سكانها، وهو دليل على التشبع السكاني بما لا يتطلب مزيدًا من مشروعات الإسكان إلا بقدر يسير، أو بالتناقص بالهجرة إلى أماكن أخرى في الجنوب أو الشمال.
-
(٣)
محافظات الجنوب: تشمل محافظات البحر الأحمر وسوهاج وقنا وأسوان والوادي الجديد الحالي وما قد ينقسم إليه من وحدات إدارية جديدة. ويشتمل هذا القسم على نصف مساحة الجمهورية و١٢٪ من السكان. ويعني هذا وجود إمكانات للتنمية إذا توفرت شروطها المادية والتمويلية في مساحات معقولة وعدد من النقاط محدود؛ بسبب ندرة المياه التي تعاني منها مصر والتي هي عنصر طبيعي محدد وملزم.
وعلى أي الحالات نرجو أن تتفق كل الهيئات المعنية وعلى رأسها وزارات الداخلية والتخطيط والمالية والضرائب والإعلام وجهاز التعبئة والإحصاء ومركز دعم اتخاذ القرار، على شكل جديد من التقسيمات؛ لأنه سوف يساعد على سيولة المعلومات والتعامل معها بالصورة الكمبيوترية والمحاسبية والإدارية والتعليمية والصحية … إلخ.
(٤-٢) حول مساحة مصر والمحافظات
-
(١)
ورد في تعداد ٩٦ أن مساحة مصر ٩٩٧٧٣٨ كيلومتر مربع، فهل يشتمل هذا الرقم على مساحة مثلث حلايب البالغة نحو ١٨ ألف كم٢، وفي قول آخر نحو ١٢ ألف كم٢؟ إذا لم يكن الأمر كذلك فإن مساحة مصر تصبح نحو ١٠١٥٧٣٨كم٢. وفي مصادر الأمم المتحدة تظهر مساحة مصر على أنها ١٠١٩٦٠٠كم٢، وأحيانًا ١٠٠١٤٥٠كم٢!
برجاء تحقيق رقم المساحة الكلية والتنويه به في المنشورات الرسمية القادمة، فمن العيب أن تتضارب أرقام المساحة ولو كيلومترًا مربعًا واحدًا!
-
(٢)
ما زال التعداد بحسب المساحات التقليدية للمحافظات، بينما تظهر أرقام مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار لسنة ١٩٩٥ مساحات أخرى أقرب إلى واقع متغيرات الحدود الإدارية لبعض المحافظات. وتتضح فروق المساحة من مجموعة الأرقام الآتية:
-
(٣)
القاهرة ٢١٤كم٢ في التعداد مقابل ٤٥٧كم٢ في أرقام مركز المعلومات. والرقم الأخير أوفق باعتبار التوسع العمراني الملحوظ إذا كان المقصود مساحة الأراضي المبنية. فالمعلوم أن محافظة القاهرة تمتد إلى قرب منتصف طريق السويس، بمعنى أن مساحتها قد تبلغ عدة آلاف من الكيلومترات المربعة. الإسماعيلية ١٤٤١كم٢ في التعداد مقابل ٤٤٨٣ في أرقام مركز المعلومات، وبورسعيد ٧٢كم٢ مقابل ١٣٥١كم٢، وكلتا المحافظتين قد أُضيفت إليهما أراضٍ من سيناء الشمالية شرق القناة. دمياط ٥٨٩ مقابل ١٠٢٩، كفر الشيخ ٣٤٣٧ مقابل ٣٧٤٨، بني سويف ١٣٢١ مقابل ٩٥٧٦، الفيوم ١٨٢٧ مقابل ٤٩٤٩، قنا ١٨٥٠ مقابل ١٢٧٣٤، أسوان ٦٧٨ مقابل ٣٤٦٠٨كم٢. فأي الأرقام صحيح؟ علمًا بأن محافظات الصعيد زادت بضم مساحات كبيرة من الأراضي الصحراوية إليها، سواء على حساب محافظة البحر الأحمر أو محافظة مطروح. فهل كان ضم هذه الأراضي بعد، أو أثناء الدراسات المسحية لأجهزة تعداد ١٩٩٦؟
وعلى أي الحالات هل يجوز للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، وهي الهيئة الرسمية العليا للتدقيق والإحصاء، تجاهل ما حدث من تعديلات في حدود المحافظات والتساهل باعتماد الحدود القديمة كأن شيء لم يكن، خاصة وأن نشر البيانات الأولية وغيرها قد تأخر ما يزيد عن عام كامل ليصل إلى القارئ؟!
(٤-٣) هجرة سكان وسط القاهرة
وسط القاهرة تعني القاهرة الفاطمية المملوكية، وقاهرة الخديو إسماعيل ومن خلفه من الملوك إلى الأربعينيات، وهي ما نسميه الآن وسط البلد. وبذلك فهي تشمل الأقسام من باب الشعرية والجمالية والدرب الأحمر في الشرق إلى بولاق ومصر القديمة في الغرب، شاملة أقسام الموسكي والأزبكية وعابدين والسيدة زينب والخليفة. كان سكان هذه المنطقة من ثلاثة أرباع قرن يشكلون ٧٤٪ من سكان القاهرة، والآن هم يشكلون ١٣٪ فقط. ففي ١٩٢٧ كان عددهم ٧٨٦ ألفًا، زادوا إلى مليون و٢١٠ ألفًا في ١٩٨٦، ثم انخفض العدد إلى ٨٩٧ ألفًا في ١٩٩٦ أي عود على بدء في سبعين عامًا!
هذه الحقيقة الرقمية توضح أن هذه المنطقة المركزية قد تشبعت سكانًا بما فيه الكفاية، وأن الزيادة السكانية وبعض السكان المقيمين يهاجرون إلى خارجها في اتجاه أحياء الشمال والغرب والجنوب والشمال الشرقي من القاهرة الكبرى. ودليل ذلك انخفاض عدد سكان أقسام المنطقة المركزية كما هو واضح من الحالات الآتية في عشر سنوات (٨٦–١٩٩٦): باب الشعرية من ٧٩ إلى ٦٠ ألفًا بانخفاض ربع السكان، الجمالية من ٩٠ إلى ٥٩ ألفًا بانخفاض ثلث السكان، الدرب الأحمر من ١٠٥ إلى ٧٨ ألفًا (−٢٦٪)، السيدة من ١٩٩ إلى ١٥٥ ألفًا (−٢٢٪)، الأزبكية من ٤٥ إلى ٣٠ ألفًا (−٣٣٪)، الموسكي من ٤٣ إلى ٢٩ ألفًا (−٣٣٪)، عابدين من ٦٣ إلى ٤٩ ألفًا (−٢٢٪)، بولاق من ١٢٤ إلى ٧٥ ألفًا (−٤٠٪)، والزمالك وقصر النيل معًا من ٤٠ إلى ٢٩ ألفًا (−٢٧٪).
وفي الخمسينيات إلى الثمانينيات كانت هناك هجرة كثيفة إلى كل أقسام منطقة شبرا بحيث بلغ عددهم مليون وثلث المليون، لكن هجرة مضادة حدثت بين ٨٦ و٩٦ وانخفض العدد بمقدار مائتي ألف نفس، وهو الوقت الذي زاد فيه سكان منطقة شبرا الخيمة بمقدار نحو ١٦٠ ألفًا (٧١٤ إلى ٨٧١ ألفًا = +٢٢٪). وزاد سكان محور القبة-المرج بمقدار نحو ٤٥٠ ألفًا، ومحور البساتين-حلوان بمقدار ٤٠٠ ألف، وكذلك كانت الزيادة أقل قليلًا من ٤٠٠ ألف في مدينة الجيزة بأقسامها المختلفة. وكانت أكبر زيادة هي محور الشمال الشرقي من مصر الجديدة إلى مدينة نصر وما حولهما من الأقسام، فبلغت نحو ثلاثة أرباع المليون للفترة نفسها.
وفي الحقيقة إن هجرة السكان من المنطقة المركزية كانت قد بدأت في الستينيات، ولكن بقدر محدود لم يزد عن خمسة في المائة فقط في أقسام الموسكي والأزبكية وباب الشعرية وقصر النيل فقط. أما هجرة ٨٦–٩٦ فقد تراوحت بين ٢٢ إلى ٢٨٪ في السيدة زينب والدرب الأحمر وباب الشعرية وقصر النيل، وبين ٣٣ إلى ٣٥٪ الجمالية والموسكي والأزبكية، وبلغت أقصاها في بولاق ٤٠٪.
وتعد الهجرة عامة لأسباب عديدة منها قدم المباني وانهيار بعضها أو تهدد بعضها بالانهيار، وعدم الوفاء بمتطلبات الحياة العصرية من البنية التحتية في الحارات والشوارع الضيقة، وتطلع الأسر الجديدة إلى وحدات سكنية حديثة. ولكن إلى جانب ذلك يجب أن نعرف أن احتياج شركات الأعمال إلى مبان كبيرة وتغير شكل الأسواق والمحال التجارية من الدكاكين إلى «سوبر ماركت» ثم إلى اﻟ «مول»، والبنوك الجديدة والفروع الكثيرة للبنوك الأقدم، كلها تأخذ نصيبًا محترمًا من تحويل المناطق السكنية القديمة إلى مناطق عمل وخاصة في أحياء عابدين وقصر النيل وبولاق.
وحبذا لو كانت استمارة التعداد قد أكدت على تسجيل محل مولد الأفراد من أقسام القاهرة وليس المحافظات فقط. حينئذ يمكن دراسة عدد المهاجرين مثلًا من عابدين أو الجمالية ويسكنون وقت التعداد في حلوان أو العجوزة أو مدينة نصر. وبمثل هذه الصورة نتتبع موجات الناس وحركتهم السكنية داخل محافظات القاهرة الكبرى. وينطبق هذا أيضًا على كل أشكال الهجرة في الجمهورية؛ لأنها الشغل الشاغل لمشاكل مصر المعاصرة بدون جدال. وبتتبع بعض استبيانات استمارة التعداد يمكن فعلًا التعرف على أسباب الحركة السكانية: هل هي بسبب تغير مكان العمل، أو ارتفاع الدخل؟ مما يتطلب السكن في حي أحدث، أو تقوض السكن الأصلي لقدم الأبنية … إلخ، ولو كانت الاستمارة تحتوي على هذه البيانات فالحاجة ملحة لنشرها في كراسات منفصلة تفيد المخططين والاجتماعيين والديموجرافيين والجغرافيين، وتساعد على تبين حقيقة الدوافع للهجرة واتجاهاتها، ومن ثم العمل التخطيطي الموازي لها بحيث يقبل عليه الناس؛ لأنه يلبي احتياجاتاهم، وذلك تمامًا عكس الجاري حاليًّا من إنشاء أحياء في أماكن متباعدة باسم إسكان الشباب أو الزلزال أو إيواء العشوائيين، لكن نسبة إشغالها تظل منخفضة؛ لأنها، وإن كانت تلبي احتياج السكن، إلا أنها لا تلبي احتياج السكان من الخدمات الأساسية والاجتماعية فضلًا عن بعدها المكاني عن أماكن العمل المتاحة، مما يستقطع قدرًا كبيرًا من موارد الأسر المالية في الإنفاق على الانتقال والحركة اليومية.
هل نستفيد من مقولة أنه «إذا ترك الناس لحالهم فإنهم سوف يضبطون أحوالهم.» التخطيط هو أن نعرف اتجاهات الناس ونحاول حثهم على التوجه إليها لتجنب تجارب الخطأ والصواب، وليس إجبارهم على مخطط مرسوم أصلًا في مكتب سواء كان المخطط وحدة سكنية أو حي جديد في لا مكان!
إن الإخلاء الاختياري لسكان المنطقة المركزية يعطي الفرصة الذهبية للمخططين لتحديثها بإعادة تخطيط واستخدام الأرض في هذه المنطقة الحيوية، بديل بقدر كبير عن الاتجاه إلى إنشاء مدن وأحياء جديدة في أطراف القاهرة، كالقاهرة الجديدة وبدر والشروق … إلخ، قيمة الأرض في القاهرة المركزية عالية جدًّا وسوف تزداد ارتفاعًا إذا ما نفذ مخطط رئيسي لإعادة تأهيل المنطقة بكافة أشكال البنى التحتية ذات الطاقات المستقبلية، بما فيها شق وتوسيع الطرق التي كانت كافية للحركة منذ نصف قرن، والآن هي مكتظة لدرجة الانفجار الحقيقي.
(٥) بين المحافظة والتجميل والوجه الحضاري
المتصور في مثل هذه الأعمال التحديثية الحفاظ المتشدد على مجموعات الأبنية الأثرية التراثية في القاهرة الفاطمية المملوكية، سواء كان ذلك مساجد وأضرحة وخانقاوات وأسبلة، أو بيوت وأرباع وخانات ووكالات وأسواق وطرق وحارات مسقوفة، وبقايا أسوار المدينة ومشاغل الحرف التقليدية. وفي مقابل ذلك إزالة الأبنية الحديثة التي تمثل نشازًا معماريًّا يؤذي العيون المتأملة المستغرقة في صفحات التاريخ التي ترسمها هذه الأبنية التراثية. ويمكن أن تحل محلها أبنية حديثة يشترط أن تأخذ الطابع المعماري التراثي في واجهتها على الأقل، كما حدث مؤخرًا في ميدان الأزهر-الحسين. أو تحل محلها حدائق ونافورات تعيد ما كانت عليه هذه المدينة التاريخية من بهاء ورفعة.
توسيع الشوارع ليست عملية مستحيلة، وما صنعته محافظة القاهرة في عدد من الشوارع القديمة أمر مشكور يحتذى. والمثال الحي هو تحويل شارع السد عند مسجد السيدة زينب من شارع ضيق فأصبح شريانًا واسعًا يستكمل شارع الخليج إلى فم الخليج. وكذلك تتم عمليات التوسيع المستمرة في قطاعات من شارع الخليج من السياح إلى غمرة وميدان باب الشعرية الذي يحتاج إلى تحسين وتجميل وتشجير كثير.
(٦) مسلمون وأقباط
مصر خلال آلاف السنين لم تعرف من التعصب سوى للمواطنة يلخصه نشيد الفنان الخالد سيد درويش «أنا المصري سليل …» فكل الذين يعيشون على أرضها مواطنون بغض النظر عن السلالة واللون والدين. ومصر اليوم هي نتاج ذلك التاريخ الطويل. ومكوناتها متعددة نتيجة نمط الحياة بين الفلاحين والبدو على أطراف الصحاري وفي أغوارها، ومنها الفلاحون في الدلتا مقابل أهل الصعيد في الوادي، ومنها غالبية المستقرين في مقابل سكان الواحات وفي مقابل سكان النوبة، وأخيرًا منها وربما على رأسها اختلاف الناس بين الإسلام والمسيحية القبطية التي هي قلبًا وقالبًا مسيحية مصرية أولًا وأخيرًا بحكم الآباء القدامى للكنيسة المرقصية، والتاريخ الطويل تحت ظل اضطهاد مسيحي من كنائس أخرى وتحت ظل الحكم الإسلامي أربعة عشر قرنًا من الزمان.
ولكن الفروق بين مسلم وقبطي نالتها تقلبات بين التصعيد والتوتر، أو المهادنة والإخاء في فترات معينة، وهو ما يحتاج الكثير من التقصي للتعرف على أسباب التوتر الذي يشوب من حين لآخر علاقات الحياة المتآلفة معظم الوقت. فهم يعيشون جنبًا لجنب في القرية والمدينة وفي الوظائف وفي شتى الأعمال. والتفريق بينهم صعب في أي من ملامح الثقافة والسلالة والملبس والغذاء، والاهتمام بالدين والحياة الأخرى، وكثير من طقوس الحياة الاجتماعية باستثناء التفرقة بين صلوات الجمعة والأحد. والعلاقات عادة حميمة بينهم بغض النظر عن فرقة الجمعة والآحاد — الأصول واحدة بغض النظر عن دعوى أن الأقباط سلالة الفراعين، فقد امتزجوا باليونان والرومان أزمانًا، وأيضًا عدم صحة أن المسلمين سلالة العرب أو غيرهم من الوافدين والمستقرين في مصر، فهم في غالبيتهم الساحقة من ذات الأصول التي نشأ عنها الأقباط. وهو ما ينفي ادعاءات نقاء جنس وسلالة؛ لأن الناس تعيش في محيط وليس في جزر منعزلة!الحقيقة المؤكدة أنهم أقباط ومسلمون ينحدرون في أكثر من ثلاثة أرباع أصولهم من قدمائنا الأمجاد الذين اختلطوا بغيرهم بنسب محدودة طوال آلاف السنين.
ومثل بعض النوبيين الذين ينفتحون لدعاوى خارجية فإن بعضنا مسلمين وأقباطًا منفتحون على دعاوى أخرى يستمدونها من سلف كانت لهم ظروفهم ولا يمكن بحال انطباقها على أحوال اليوم. ليس معنى هذا أن تغييرًا قد حدث في مبادئ الديانات والعقائد، لكن ما شرعه وفسره الناس في الماضي كان استجابة لظروفهم التي اختلفت عن أسلافهم، وما نأخذه منهم يجب أن يكون ملائمًا للعصر وما فيه من مستجدات. وأكبر المستجدات أن العالم الآن يتفاعل مع أحداث في أماكن قصية في ذات الوقت للأحداث، بينما كانت علاقات الناس في الماضي تقتضي شهورًا لكي ينتقل خبر من مكان لآخر مضاف إليه تفسيرات وروايات تجعل الخبر صغيرًا وتضخم الرؤية تمامًا، كما كانت الحواشي تطغى على المتون وتسلبها ما أراد مؤلفها من إبلاغ معرفة أو عظة …
ولحسن الحظ أن الإسلام والمسيحية فيهما من التقارب والأصول المشتركة الشيء الكثير — على عكس الفروق الكبيرة بين ديانات أخرى كالهندوسية أو البوذية — وهو ما جعل التعاطف سياسة أصيلة. فالإسلام حض على ذلك التفاهم والتعاطف وفي القرآن الكريم من الآيات ما يبين ذلك.
فما الذي حدث أو يحدث ليقض مضاجع المواطنة المصرية وسلام الجيرة، ويثير ما أثير ويثار من تنافس قد يصل إلى البغضاء؟
وأول التساؤلات: «كم عدد الأقباط؟» ويليها «هل أعداد الكنائس متناسبة مع عدد الأقباط؟» وما هي المراسم واللوائح لكي تصدر الموافقة على بناء كنيسة وما هو الخط الهمايوني؟ وهل يمكن الفكاك منه؟
واستطرادًا يلي ذلك «كم هي نسبة الوظائف العليا التي يتولاها أقباط — هل هي متناسبة مع العدد أم أقل أو أكثر؟» وغير ذلك قضايا عديدة …
عدد الأقباط مشكلة فعلًا. في التعدادات القديمة كانت هناك أرقام للأقباط في التعداد ولكن التعدادات الأخيرة حدث تجنب لها — لماذا؟ هل وراء ذلك فلسفة المواطن بغض النظر عن الدين، أم هو تجنب لحساسية ما من جانب الأقباط إذا كان الرقم صغيرًا، أو من جانب المسلمين إذا كان رقم الأقباط كبيرًا؟ وحتى لو ذكرت أرقام ففي الغالب سوف يسود نقد من نوع آخر مفاده أن هذه أو تلك هي أرقام «مسيسة» بمعنى تدخل السياسة لسبب أو أمر ما. والخلاصة أننا في متاهة من لا يعجبه العجب.
ولا شك في أن الحل الأقرب إلى التعقل وحسم الأمور هو إظهار الأرقام الفعلية والنظر إلى واقع الأمور بعين مجردة، فلا يحدث ما يحدث الآن من تضارب رقمي وبلبلة يؤججها المضاربون، بينما نحن في غنى عنها ويكفينا أن الكل سواسية أمام الوطن سواء كانت النسبة ١٠٪ أو ١٢٪ أو ١٥٪. ليس هذا هو المهم فالمهم أن ننشر رقمًا رسميًّا وكفى. ففي الدول المتقدمة تذكر أعداد المؤمنين بعقائد أو بغير عقائد وأتباع المذاهب والفرق الدينية، فهو ليس بالسر الخطير الذي يهدد استراتيجية دولة. بينما في العالم النامي نجد الفقر وعوامل أخرى داخلية وخارجية تتكالب لتسييس أعداد أتباع دين أو آخر.
ونحن في الماضي القريب لم يكن لدينا هذا الهاجس الديني الذي يستشري أحيانًا في عقودنا الأخيرة. وأخطر ما فيه هو المطالبة بنسبة في الوظائف العليا والعامة تتناسب مع عدد الأقباط أو المسلمين. ذلك أن هذا المطلب سيؤدي بكل تأكيد إلى فُرقة أبناء الشعب الواحد إلى أكثرية وأقلية وهو وضع غير مبرر علميًّا وحضاريًّا. فللأقليات أوضاع وأسس غير واردة في مصر بين عنصري الأمة، حيث لا توجد ثقافات ولا لغات ولا سلالات ولا عرقيات مختلفة، الاختلاف الديني هو الفارق الوحيد، وحتى هذا هو اختلاف أديان وحدانية الإلوهية. هذا فضلًا عن تشابه بعض الطقوس والممارسات الشعبية لكونها مستندة إلى تراث قديم كما أسلفنا.
إن المزيد من الفرقة حول الوظائف وقيمة هذه أو تلك من الوظائف تقود إلى ثغرات في نسيج الشعب تتسع شيئًا فشيئًا لتمزيق الوحدة الوطنية التي نباهي بها سائر الأمم: أننا أول وأصلب وطن لكل الثقافات والأديان في العالم. فإذا حدث ذلك التمييز والتمزيق فإننا الخاسرون جميعًا مسلمين وأقباطًا، وكأننا «نلعب في الوقت الضائع» — بلغة كرة القدم.
ولا شك في أن نمو النظم الديموقراطية المأمولة حاليًّا في مصر ستسد الكثير من جوانب التمييز الطائفي وتعالج قضايا كثيرة بالمشاركة الإيجابية من الجانبين في ميادين الحياة السياسية فتصبح كما هو الحال في ميادين أخرى حاليًّا في العلوم والاقتصاد والتجارة والاستثمار … إلخ، حيث يتعايش الناس ويتعاملون جنبًا إلى جنب بدون حساسيات اختلاف الديانة في شتى مناحي الحياة.
(٧) ثلاثون عامًا من دعوات المؤلف إلى تغيير أقاليم مصر الإدارية
تقديم لموضوعات الأقاليم الإدارية والحكم المحلي
-
في ١٩٧٢ كتبت مقالًا مطولا نشر في مجلة «الطليعة» الشهرية التي كانت تصدر عن الأهرام (عدد ٧ السنة الثامنة يوليو ١٩٧٢) عن مشكلات القاهرة وضرورة نقل العاصمة السياسية إلى مكان آخر هو بالتقريب مكان مدينة السادات الحالية. ومن خلال مناقشة الأوضاع تطرقت إلى أن نقل العاصمة يتضمن تقليل المركزية، وتنمية الحكم المحلي في أقاليم سبعة أسماها حكومات محلية، وهي:
- حكومة مصر العليا: «وتشمل محافظات أسوان وقنا وسوهاج وأسيوط والوادي الجديد والقسم الجنوبي من البحر الأحمر».
- حكومة مصر الوسطى: «المنيا وبني سويف والفيوم وجنوب الجيزة وواحة البحرية».
- حكومة القاهرة: «القاهرة ووسط وشمال الجيزة وجنوب القليوبية حتى القناطر».
- حكومة القناة: «بورسعيد والإسماعيلية والسويس وسيناء وشمال البحر الأحمر».
- حكومة شرق الدلتا: «الشرقية والدقهلية ودمياط ووسط وشمال القليوبية».
- حكومة وسط الدلتا: «المنوفية والغربية وكفر الشيخ».
- حكومة غرب الدلتا: «الإسكندرية والبحيرة والصحراء الغربية».
-
وفي ١٩٩٠ نشر المؤلف بحثًا بعنوان «الجغرافيا وتخطيط الأقاليم الإدارية في مصر» ضمن كتاب عن قسم الجغرافيا بكلية الآداب جامعة الإسكندرية (نشر دار المعارف، الإسكندرية). وفي هذا البحث استمر المؤلف على المطالبة بتغيير الأقاليم الإدارية؛ لأنها ليست شيئًا خالدًا بل يعتريها التغيير من حين لآخر حسب مقتضيات الأحوال التي تمر بها مصر. وقد غير المؤلف بعض المفاهيم والتسميات التي وردت في بحثه عام ١٩٧٢، فتراجع عن تسمية «حكومة» إقليمية لما لها من حساسية لدى الحكومة المركزية، ولم يستبعد تسمية «الإقليم» باسم «محافظة» وإن كان له اعتراض على مفهومها — المحافظة قد تعني بالأساس الشئون الأمنية وتبعية أساسية لوزارة الداخلية وإن أضيف إليها أعباء كثيرة أخرى في شئون المجتمع والخدمات. ثم زاد إقليمًا ثامنًا حول منطقة النطرون في حال إنشاء عاصمة سياسية جديدة لمصر. والأقاليم التي ذكرها أصبحت كالتالي:
- (١) إقليم السويس: «شاملًا محافظات القناة الثلاث ومحافظتي سيناء وشمال البحر الأحمر».
- (٢) إقليم الشرقية أو الشرق: «الشرقية والدقهلية ودمياط والقليوبية».
- (٣) إقليم الدلتا: «المنوفية والغربية وكفر الشيخ».
- (٤) إقليم مريوط أو الغرب: «البحيرة والإسكندرية ومطروح».
- (٥) إقليم القاهرة: «ويشمل القاهرة الكبرى في محافظات القاهرة والجيزة والقليوبية».
- (٦) إقليم مصر الوسطى: «الفيوم وبني سويف والمنيا والبحرية والفرافرة».
- (٧) إقليم الصعيد: «أسيوط وسوهاج وقنا والوادي الجديد ووسط البحر الأحمر».
- (٨) إقليم أسوان: «يمتد من البحر الأحمر الجنوبي حتى العوينات والجلف الكبير».
وهو يؤسس التشكيل الإداري المقترح على مجموعة من العناصر أهمها تقليل التباين والفروق في المساحة وأعداد السكان التي تتصف بها المحافظات الحالية، مع إيجاد نوع من التكامل الاقتصادي الذي تؤهله مقومات الأرض وعلاقات المكان. ويعطي مثالًا تفصيليًّا عن التكامل الذي يمكن أن يصوغ إقليم السويس من حيث مصادر البترول والعلاقات البحرية الدولية والمقومات السياحية ومناطق الصناعة والتجارة الحرة وشبكة طرق جيدة في سيناء والقناة. بينما تتميز الشرقية أو الدلتا بالتركيز على الإنتاج الزراعي وصناعات الأغذية … إلخ. أما أسوان فهو يفرد لها إقليمًا خاصًّا؛ لما تتصف به من مجموعات قبلية متعددة ووجود بحيرة ناصر والسياحة الفريدة والمشروعات التنموية.
- (١)
-
وفي ١٩٩٩ واصلت الاهتمام في بحث باسم «تقسيم إداري جديد لمصر»، نشر في أعمال «ندوة الأقسام الإدارية في مصر» التي نظمتها لجنة الجغرافيا في المجلس الأعلى للثقافة. وفي هذا البحث أسميت الأقاليم بنفس الأسماء التي ذكرتها في ١٩٩٠ مع تغيير اسم السويس إلى إقليم سيناء-السويس، مع جداول توضح حجم المساحة وعدد السكان في الأقاليم المقترحة بالقياس إلى المحافظات الحالية. فأكبر الأقاليم ستكون مصر العليا نحو ٣٠٠ ألف كيلومتر مربع مع عدد من السكان يبلغ نحو عشرة ملايين فرد، بينما في التقسيم الحالي تبلغ مساحة محافظة الوادي الجديد نحو ٣٧٦ ألف كم مربع يقطنها قرابة مائة ألف فرد فقط. وبالمثل مساحة إقليم الغرب سيكون ٢٢٥ ألف كم يسكنه نحو تسعة ملايين مقابل محافظة مطروح الحالية ومساحتها ٢١٢ ألف كم ويسكنها أقل من ربع مليون شخص.
وأيًّا كانت الأقسام الجديدة فإن أسباب التغيير الإداري ترجع إلى الرغبة في إيجاد مسطح من الأرض، وعدد من الناس يكفي للتشغيل الاقتصادي والمعاش الأكثر تلاؤمًا مع احتياجات العصر، ويعطي فرصًا للعمل داخل الأقاليم ويسهم في تكوين رأي عام محلي وقيادات فكرية مجتمعية داخل إطار من الحكم المحلي المرتبط مباشرة بالأرض والناس، وهو ما يساهم في النهاية على تحجيم تيار الهجرة إلى القاهرة والمدن الكبرى ويوقف نمو العشوائيات التي هي مرقد التطرف في كل الاتجاهات: السياسية والخلقية والقانونية وأشكال الجريمة.
وفي الختام «إن أي تغيير في شكل الأقسام الإدارية ليس هو الحل السحري لتحسين الأحوال، ولكن تشكيل أقاليم كبيرة ذات كيانات مفوضة في اتخاذ القرار هو الحل التدريجي في تنمية الإدارة وتنمية الديموقراطية ببرلمانات إقليمية ممثلة بصورة أكثر فعالية للناس من أجل محاولة إيجاد الصيغ الملائمة للدخول إلى القرن القادم.»
-
وأخيرًا في سنة ٢٠٠١ يعود المؤلف مجددًا إلى تأكيد أهمية موضوع إعادة صياغة التقسيم الإداري في كتابه المعنون «القاهرة: نسيج الناس في المكان والزمان ومشكلاتها في الحاضر والمستقبل» (نشر دار الشروق) فيؤكد من جديد أن القاهرة لا تعيش في فراغ بل بالارتباط الوثيق بمشكلات مصرية عديدة على رأسها إعادة تقسيم مصر الإداري وتدعيم الحكم المحلي وتخفيض مركزية القاهرة.
وهكذا نجد خطًّا بحثيًّا لا يمل ولا يكل حول مفهوم محدد للإصلاح — كواحد من مفاهيم إصلاحية أخرى — من خلال الدعوة إلى إعادة صياغة أقسام مصر الإدارية وتدعيم الحكم المحلي بشكل عملي، على طول ثلاثين عامًا من الكتابة العلمية الجادة.
(٨) الجغرافيا وتخطيط الأقاليم الإدارية
(٨-١) علاقة الجغرافيا والتخطيط
اهتمامات الجغرافيا هي بدرجة أساسية دراسة العلاقات المجالية والمكانية على سطح الأرض في محاولة لفهم تكامل الأشياء: المكان والناس وأعمالهم في المجال الحيوي الذي يهيئه لهم منسوبهم التكنولوجي — كل ذلك في تشابك واصطراع مع المحيط البيئي، سواء كان ذلك سلبًا أو إيجابًا.
وبالمثل يهتم التخطيط بمثل هذا التكامل. ولكنه حتى وقت قريب كان يقع تحت سيطرة منطلقات محددة نابعة عن تفاقم مشكلة تظهر على سطح المجتمع بإلحاح، كالمشكلة الاقتصادية وإيجاد فرص عمل للعاطلين، أو المشكلة السكانية ومشكلات الإسكان والنمو العشوائي للمدن؛ لهذا كان يسيطر على أجهزة التخطيط إما اقتصاديون أو مهندسون أو هما معًا باعتبار أن المشاكل الملحة هي في انتقال النمو والتنمية في جانبيها الفيزيقي والاقتصادي.
ودخول الجغرافيا إلى مجالات التخطيط في العالم هو أمر حديث، قد لا يعود إلى الأربعينيات في العالم المتقدم، وبشائره لم تظهر إلا بتواضع في الدول النامية — وذلك لغلبة مشكلات السطح في المجتمعات النامية، وبخاصة التلاحق بين النمو السكاني ومشكلة النمو المدني واستمرار القصور في مجالات الاقتصاد التقليدي نتيجة لقلة التمويل في حركة التحديث، ونتيجة للتبعية الواضحة لدوائر التجارة والتكنولوجيا الدولية.
ولكي لا يكون هناك تحيز لرأي أو جهة يجب التأكد بأن لكل جانب شرعيته ودوره الضروري، لكن الأمر الواقع أن الدراسات المؤهلة لإنتاج خريطة تخطيطية لم يعد ملكًا لعلوم الهندسة كما لم تعد موجودة في الحوش الخلفي للتحليل الاقتصادي فقط. بل هي شركة لعلوم كثيرة وبخاصة في المجالات الاجتماعية كعلوم الحضارة والاجتماع والجغرافيا والعلوم الإدارية المختلفة.
الشيء الثاني الهام في قضية التخطيط: هو أن خلاصة أي دراسة تخطيطية يجب أن تطرح على المستفيدين — أو في أحيان المتضررين. ذلك أن تبادل الرأي والحوار بين الدراسة العلمية والناس بخبراتهم العملية هو محك حقيقي لفاعلية التخطيط. كما أنه يمكن طرح مشروع مخطط رائد استكشافي أي على نطاق استطلاعي محدود لتبين صحة أو فشل بعض أركانه من خلال التجربة على أرض الواقع. صحيح أن هناك مخططات منطلقها قومي مثل ضرورة استراتيجية في الاقتصاد كالسد العالي، أو الأمور العسكرية كتخصيص منطقة تجارب حربية. وتنفيذ مثل هذه المشروعات من الضرورة بحيث إن تأخيرها قد يؤدي إلى أضرار قومية. لكن حتى هذه يجب أن تخضع لعمليات جس نبض قبل البدء. وكذلك يجب أن يتضمن المخطط عرض افتراضي لوجهات نظر أخرى تطرح على المخطط الجديد كمدخلات اعتراضية لضمان مرونة التطبيق ومرونة التعديل على مدى زمني طويل، بل ومرونة البديل المستقبلي باعتبار أن أي خطة ليس لها صفة الديمومة. فلا يجب أن يكتسب أي مشروع أسطورة بقاء غير مشروعة أصلًا حتى لا يصبح الكلام عن البدائل محرمًا — وفي أحيان يعد خيانة، فإن وظائف الأرض تتغير في المكان بتغير الزمن.
- (أ)
الجغرافي بتدريبه الميداني وبطبيعة الجغرافيا كعلم متعدد الاتصال مع علوم أخرى في الجوانب الفيزيقية والاجتماعية، واتصاله بأساليب البحث الكمي وإنتاج خرائط التوزيع العادية والرقمية لهو أكثر قابلية للعمل مع غيره من المتخصصين في فروع أخرى كفريق عمل متفاهم، وعلى الأغلب ناجح.
- (ب) إن اهتمامات الجغرافيا الحديثة مرتبطة بمجموعة من نقاط البحث على مشكلات تواجه الدول المتطورة والنامية بدرجات متعددة. منها:
-
الضغط السكاني على الأماكن المعمورة حاليًّا، والعزوف عن تنمية أماكن أخرى لحاجتها لاستثمار عالٍ في البنية التحتية المكلفة.
-
النمو المتسارع للمدن وبخاصة النمو الجامع للمدن المليونية بصورة تخرج عن إمكانات الإشراف والتحكم وتحيلها إلى مدن متسلطة تفرض قوانينها على المشرعين والمخططين، وفي هذا المجال يجب أن نذكر أن الجغرافيا هي العلم الذي أسهم أكثر من غيره في دراسة المدن بصورة متكاملة.
-
تأثير المدن على أقاليمها بصور شتى بدأ من التغلغل العمراني خارج حزام المدينة إلى استقطاب السكان وتحويل إقليم المدينة إلى فناء خلفي يختلط فيه بنية سكنية ضعيفة مع إهمال في أشكال الإنتاج الأصلية لهذا الإقليم.
-
دراسة التوازن بين أقاليم النمو والركود والتعرف على دور وتأثير وسائل النقل، وبخاصة السيارة، على التصرفات التي واكبت متغيرات الاقتصاد ومشتملات الحضرية في أقاليم الدولة. عصر السكة الحديدية كان مسببًا لنمو معين وثبت أشكالًا من التنمية حتى النصف الأول من هذا القرن. ولكن السيارة غيرتها بسرعة؛ لتداخل الطريق البري من الباب للباب داخل المدن والقرى كما سنوضح فيما بعد.
-
(٨-٢) فلسفة التقسيم والتعديل الإداري
يتردد في دوائر كثيرة أن المشكلة الأساسية في مصر ليست في نقص الموارد البشرية المدربة والموارد المالية المتاحة، وإنما المشكلة تكمن في أسلوب إدارة هذه الموارد لتوظيفها في الاتجاهات الملائمة، وقد يكون في هذه المقولة بعض مبالغة ولكنها تنطبق حقًّا على واقع كثير في مصر.
(٨-٣) آلية إنشاء التقسيمات الإدارية
-
العامل الأول هو تطور أو تغيير سريع في شكل الاقتصاد والعمران وسوق العمل.
-
العامل الثاني هو قدر وقدرة خطوط الحركة والاتصال — الطرق على تعددها ووسائل انتقال المعلومات — على استيعاب عملية النمو أو التنمية، بل وسبقها بتكوين بنى تحتية تهيئ لمزيد من النمو.
وفيما يختص بالعامل الأول نجد أن المراحل الأولى من تغير أشكال الإنتاج — مثلًا التغير إلى محاصيل السوق أو بدايات صناعة ما — تتأثر بقرار يتخذه المتنفذون في الإقليم من كبار ملاك أو تجار أو صناع. مثال ذلك كفر الزيات التي بدأت بجسر السكة الحديد وكمركز إقليمي لبورصة قطن في غرب الغربية والمنوفية وجنوب البحيرة، ومن ثم جاء التوجه إلى صناعات أولية للقطن — كبس وحلج — ثم زيوت البذرة. ومنذ ذلك أخذ سوق العمل طابعًا جديدًا يبدأ في مزيد من التغيرات التنظيمية لقطاعات الإنتاج والعمالة والملكية والنقل والإدارة. وبتأصيل هذه الجذور تتهيأ الأرض لصناعات موازية أو مكملة أو تابعة، وكلها في إطار إيديولوجية الإنتاج الجديد.
وحتى لو حدث اضطراب عمراني جذري بسبب حرب وهجرة السكان فإن الطابع الذي نشأ يعود بطريقة تلقائية إلى الإقليم بعد انتهاء حالة الاضطراب. فقوة التقاليد في سوق العمل تساوي قوة استمراره برغم تعثره مؤقتًا. مثال طيب على ذلك منطقة القناة. فتوجهات سوق العمل في السويس (صناعة)، وبورسعيد (تجارة ترانزيت)، والإسماعيلية (إدارة وياقات بيضاء) عادت إلى ما كانت عليه بعد انقطاع نحو عشر سنوات (٦٧–١٩٧٦) من الحرب والهجرة. ولو كان هناك تخطيط شامل لمنطقة القناة واقتناص فرصة إعادة البناء بعد دمار الحرب لكانت الوظيفة الصناعية بمواصفات وشروط ميسرة للاستثمار القومي وغير القومي قد أضيفت إلى بورسعيد بدلًا من التجارة الحرة أو جنبًا إلى جنب معها، مع استغلال تسهيلات النقل البحري لتصبح بورسعيد مركز التسويق للسلع المصنعة وشبه المصنعة والمجمعة بترخيصات عالمية إلى إقليم شرق المتوسط والبحر الأحمر فضلًا عن السوق المصرية الكبيرة.
الثورة الاقتصادية الأولى في مصر الحديثة، والتي أدت إلى التشكيل الإداري الذي نحتفظ بجزء كبير منه للآن، بدأت في النصف الثاني من ق١٩ بمنشآت الري الدائم التي دشنها محمد علي بالقناطر الخيرية، والتي توجها في بداية القرن سد أسوان وعمليات تعليته مرتين. هذه الأعمال الهندسية كانت تعبيرًا عن سياستي التوسع الرأسي للمساحة المحصولية والتغير إلى إيديولوجية محاصيل السوق — القطن بصفة مميزة، وقد شابه أثره في مصر أثر البترول على دول الأوبك، وإن كان القطن قد استمر فترة أطول ومهد لصناعات عديدة حوله.
والنقلة الاقتصادية الثانية في مصر بدأت بالدعوة للتصنيع في الثلاثينيات من هذا القرن. لكن الدفعة الحاسمة في رفع مساهمة الصناعة من الناتج المحلي العام إلى نحو مرة ونصف قدر مساهمة الزراعة الآن، بدأت في الستينيات مع سياسة التصنيع الشاملة. وبرغم أن مقدمات السد العالي كانت استكمالًا واستمرارًا لفكرة التخزين القرني لمياه النيل — التي سادت حتى الخمسينيات — إلا أن السد العالي كان يتوجه بصفة أولى إلى تدبير الطاقة الكهربائية كمحرك أساسي لكهربة المدينة والقرية ومفهوم أساسي للصناعة — تطبيق لفكر كهربة الاتحاد السوفيتي في الثلاثينيات. وفعلًا أدى شيوع الطاقة الكهربائية إلى تكوين البنية الأساسية للتحولات الحضارية والمهنية في القرية المصرية.
لكن عصر الهدف الواحد من مشروع ما كان قد ولى. ولهذا كان للسد العالي هدف ثانٍ يدعم التوسع الأفقي للمساحة المزروعة كبديل لفكر التوسع الرأسي. والحقيقة أن أحد مكونات السد كان التوسع بالري الدائم في أقاصي الصعيد، إلا أن التوسع الرأسي كان قد بلغ منتهاه في مصر وبدرجة قياسية على المستوى العالمي. ومن ثم كان العود إلى أفكار الاستصلاح والامتداد الأفقي في حواجر الصعيد وهوامش الدلتا.
أما العامل الثاني وهو دور النقل، وبخاصة النقل البري، في التنمية الحديثة فإننا نجد في العلاقة بين المدينة والريف وهجرة الريف للمدن وسقوط عزلة الريف مجالات جيدة في التعرف على دور السيارة بأنواعها.
لقد مهد نمو السكك الحديدية المصرية والسكك الحديدية الضيقة بنية تحتية للنمو الاقتصادي والحضاري المصري منذ منتصف القرن الماضي — مواكبًا ومساعدًا للتغيير مع نمو نظام الري الدائم. ومع قدر التغيرات الاقتصادية والصناعية منذ نحو منتصف هذا القرن سقط دور السكك الحديدية الضيقة في الريف — الدلتا والفيوم، كما انتهت عقود شركات النقل البري الأجنبية؛ لقصورها عن تلبية احتياجات الانتقال المتزايدة بين الريف والمدينة. ومع توجهات واعية بتقليل الفوارق بين الريف والمدينة، وبتأثير المزيد من احتياجات النقل، مدت شبكة الطرق البرية الأساسية والفرعية الأسفلتية والممهدة، مما أدى إلى تيسيرات هامة في استخدام أعداد متزايدة من سيارات النقل العام والسلعي والسيارات الخاصة. وما زال هناك ضغط لمزيد من الطرق بين الريف والمراكز الحضرية والعواصم الإدارية والمدن المهيمنة.
وقد أشاع هذا التسهيل في حركة الأفراد والسلع — مع غيره من عوامل التغيير المجتمعي (صحي – تعليمي – ثقافي – مهني) قدرًا من التوازن بين الريف والمدينة قضى على خصوصية الريف الرومانسية التي كرسها من قبل النقل الحديدي المتباعد الخطوط والمحطات. وقد ساعد هذا على الاستجابة لمتطلبات المدن من الأيدي العاملة الريفية مدربة أو غير ماهرة. ولكن بالرغم من أن الوظائف في المدن والصناعة أو في أعمال الخدمات لها سقف احتياج واستيعاب من الأيدي العاملة، فقد استمرت حركة الريفيين إلى المدينة. فتيار الهجرة متى بدأ لا يتوقف اتجاهه حتى لو صيغت دونه قوانين وتشريعات، وهو يبطئ أو يتوقف فقط إذا ظهرت مناطق أخرى جاذبة للحركة أو تحسن الأداء الاقتصادي في الريف — مثلًا بإقامة تعاونيات زراعية متكاملة من اختيار المحصول إلى تسويقه بحيث يضمن للمارسين عوائد أعلى مما هي عليه الآن.
حرية الحركة للأفراد مكفولة ويجب أن تبقى كذلك. ولكن استمرار تيار الهجرة إلى المدن الكبرى قد أدى إلى أزمة النمو المتسارع للمدن المصرية، ليس فقط في إيجاد وظائف مناسبة بل أيضًا إلى مشكلة إسكان هؤلاء المهاجرين، فضلًا عن إسكان أولئك الذين فاقت بيوتهم أعمارها الافتراضية نتيجة خامة البناء غير المؤهل لاستخدامات المياه الجارية وبالوعات الصرف الصحي. وقد استجابت إدارات لمشروعات الإسكان الشعبي. وأيًّا كانت الدوافع في إقامة المساكن الشعبية فقد كانت من الناحية الموضوعية فخًّا نصبته الإدارة الحكومية والبلديات لنفسها. فهي أقل قدرة مالية وتنفيذية عن الوفاء باحتياجات سكان المدن، وأبطأ بكثير من سرعة الهجرة والاحتياج السكني الجديد، فضلًا عن تحميل الدولة ميزانيات تشغيل وإدارة هي في غنى عنها لو كانت تركت المبادأة في الإسكان للأفراد والمقاولات الخاصة على أن تكون في إطار شروط بناء ملزمة.
لكن الأهم من ذلك هو أن سوق العمل المتاح قد توقف عن النمو المقابل لنمو السكان والهجرة الريفية. ولم يكن — لأسباب سياسية ودولية — بإمكان القطاع الخاص والعام خلق الوظيفة بالقدر العددي الملائم. هذا فضلًا عن تحدد أشكال الخبرة المطلوبة للوظيفة الجديدة نتيجة للاستثمار الرأسمالي الكثيف في أعمال إنتاج وخدمات ذات طبيعة حديثة تستخدم الآلية والأوتوماتية أكثر من استخدام الأيدي العاملة. ومن الصعب على المجتمع أن يغير بنيته إلى مهارات العمل الحديث بنفس سرعة التغير في أساليب وإدارة وبرمجة وتنظيم وآلية الأعمال الجديدة. ومن ثم سقطت أعداد كبيرة من قوة العمل في هوة الفئات الدنيا غير المصنفة — على أحسن الفروض غير المدربة، وهي الخطوة الحاسمة التي تنتهي بالبطالة المقنعة كما هي ممارسة ومحسوسة في مصر والبلاد النامية بصفة أساسية.
بطبيعة شكل الدلتا المروحية الامتدادات بين مراكز عمرانية كبرى في أطرافها وداخلها تشكلت خطوط الحركة الحديدية والبرية في صورة شبكة تربط المراكز والنواحي في شتى الاتجاهات. بينما كان لامتداد الصعيد الشريطي أثره في بقاء المجال الحركي فيه خطى تتوازى فيه الطرق الحديدية والبرية والنهر دون تكوين شبكة متعددة الاتجاهات. وترتب على ذلك أن فرص الحركة في الصعيد كانت دائمًا ذات توجه خطي إلى الشمال إلى القاهرة والإسكندرية والقناة. ومن ثم أدى ذلك التباعد والعزلة النسبية لريف الصعيد عن مدنه، بل التباعد النسبي بين مدن الصعيد، وبخاصة كلما أوغلنا جنوبًا.
وأخيرًا فإن هناك فقدان آخر للتوازن السكاني والحضاري والاقتصادي بين المعمور واللامعمور المصري، وظلت أقاليم الصحاري مجالات يصعب العمل فيها، بل تصعب زياراتها؛ لوقوعها طويلًا ضمن سيطرة مصلحة الحدود التي لم تكن تسمح بالحركة إلا لحاملي تراخيص مرور تصدرها كل مرة. وبالرغم من انتهاء هذا الخطر فما زالت أقاليم الصحراء بعيدة المنال في التحولات المرغوبة والمعلنة باستثناء السياحة والاصطياف والتعدين. وهناك بداية ضعيفة لدخول سوق الإنتاج في مناطق محدودة جدًّا كالمشروعات الزراعية وبخاصة مريوط وشمال سيناء. ولكن العامل الحاسم في استمرارية مساحات كبيرة لا معمورة هو ندرة المياه — وهو أمر لا حيلة لنا فيه. صحيح يمكن الحصول على الماء من النيل في هوامش الصحاري بأقدار محدودة، أو المياه الجوفية المحدودة أيضًا في الصحاري، ولكن هذه وتلك تبقى مساحات صغيرة قدرتها على استيعاب الهجرة الريفية محدودة؛ لصغر مساحتها؛ ولأن الزراعة فيها يجب أن تتبع أساليب الري بالرش والتنقيط؛ لندرة المياه وتجنبًا لهدرها بالتبخر، وبالتالي فهي زراعة غير تقليدية ولا تستطيع أن تتحمل نفس الكثافات السكانية التي نجدها في ريف مصر.
ملخص ما سبق أن تراكمات كثيرة قد حدثت مما أدى إلى فقدان توازن سكاني وعمالة بين المعمور التقليدي في الوادي والدلتا وبين الصحاري من ناحية أولى، وبين الريف والمدينة من ناحية ثانية. وقد دعت هذه الأوضاع المخططين إلى مشروعات عديدة محلية، أو قومية منها حلقات المدن التوابع حول القاهرة — وهي مشكلة المشاكل حاليًّا، أو أحياء سكنية جديدة في مدن كمنطقة القناة، أو مشروعات عمرانية في أقاليم واسعة كالصحراء الغربية أو سيناء، مع إعادة في شكل المحافظات وتعديل حدودها أو توسيعها أو تقسيمها؛ لتمكين الإشراف على المخططات الجديدة. ومع ذلك فإن الأمر في حاجة إلى أكثر من مثل هذه التعديلات لأسباب سنعاود شرحها فيما بعد.
(٩) تقسيم إداري جديد لمصر
أوضاع وخيارات مصرية للقرن القادم
- (١)
استمرار الشعور بالحاجة إلى تطبيق إشراف مركزي لتخطيط وتنفيذ سياسات التنمية القومية. وهذه المركزية تناهض وتتنافس مع الحاجة إلى دفع الأقاليم المحلية إلى تحمل المسئولية والمساعدة على نشأة الروح الخلاقة بالتخطيط الاقتصادي والبيئي على مستوى الإقليم، وشرعية المبادأة في طرح مشروعات تنمية المجتمع بدأ من أشكال التعليم والتأهيل البشري والمهني والإرشاد، ومنتهيًا بالرعاية والتكافل الاجتماعي لمن يحتاجونه.
- (٢)
تفترض السلطات المركزية أن بقاءها يتطلب استمرارها في الهيمنة على مجريات الأمور واستمرار رقابتها عليها، وذلك على الرغم من اعترافها الصريح بالقوى الاقتصادية الاجتماعية الجديدة التي تشكل جماعات ضغط من أجل ثنائية أكبر تمكنها من تنفيذ أهدافها البنائية في مجالات الحياة الاقتصادية.
وفي هذا المجال هناك صراع فكري وإيديولوجي حول الاختيار بين بقاء بعض أشكال القطاع العام كالمواصلات الحديدية والاتصالات السلكية واللاسلكية والنقل الجوي بين المدن وهيئة قناة السويس، وغيرها من المؤسسات الكبيرة، وبين التقدم في عمليات الخصخصة بصورة أكبر وأشمل. جانبا هذا الصراع يتخذ من شعار رعاية المصالح الوطنية مظلة له ولكن من منطلقين مختلفين أكثرهما اندفاعًا وقوة في الوقت الحاضر التأكيد بأن القطاع الخاص أقدر على الإدارة الرابحة من القطاع العام مما يفيد المستهلك، بينما يرى مؤيدو بقاء أنواع من القطاع العام، ومشاركته بنسبة ما في مشروعات القطاع الخاص أنه أقدر على حماية المستهلك من القدرات الاحتكارية للقطاع الخاص.
والذي يهم في هذا المجال أن النمو الذي نشهده الآن للقطاع الخاص إنما هو تعبير اقتصادي عن ضرورة تراجع المركزية المصرية واقتصارها على التخطيط ورسم الأهداف وإشراف بقدر، وخاصة في المشروعات القومية الكبرى.
ولأن الموضوع الاقتصادي مرتبط بقوة بنظام الإدارة فإن تكوين وحدات إدارية في مصر أكبر من الأقسام الإدارية الحالية من أجل متسع إقليمي وسكاني للمبادآت الاقتصادية للقطاع الخاص غالبًا من سيكون المطلب التالي الذي يضغط عليه القطاع الخاص لتحقيقه. وقد بدأت بعض الخطوات في هذا الاتجاه بتوسيع مساحات بعض المحافظات. وإن كانت حدود تلك التعديلات لا تزال غامضة وتلبي مطالب جيدة لكنها أعمال فرادى لا تشكل منظومة واضحة، إلا أنه مع ذلك بداية للتعديلات في أعداد وأحجام المحافظات في مستقبل قريب.
- (٣)
نتيجة لعدم وضوح الحدود الفاصلة بين الوزارات الحالية بعضها البعض من ناحية، وعدم التفويض اللازم للسلطات المحلية من ناحية ثانية، وبخاصة المجالس المحلية المنتخبة؛ فإن الرؤية بين الأجهزة المختلفة أصبحت غير واضحة. بل تؤدي هذه الأوضاع إلى تضارب وسلبيات ساعدت على نشأة فراغات يستخدمها الأصوليون بأنواعهم في الدعوة إلى حماية الموروثات التقليدية في مواجهة التحديث والعلمانية.
الخلاصة أن المركزية تقليد مستمر في مصر لفترات ليست بالقصيرة. ولكن في بعض الفترات كان هناك حكم شبه محلي في بعض أقاليم مصر. ولا نقصد بذلك فترات تفكك الدولة في جزء من التاريخ الفرعوني، لكن القصد أن التغاير الإقليمي في الناس والإنتاج واستراتيجية المواقع وبطء الاتصالات قد جعل الفرعون يعطي تفويضًا حقيقيًّا لبعض حكام الأقاليم ليعالجوا المواقف وهم على أرض الواقع. وقد كان هذا هو الحال بصفة شبه مستمرة في أقاليم الحدود كحكام أسوان وسيناء وغرب مصر.
ومثل هذه الأوضاع ربما تتضح للمدققين والمحللين في تاريخ الإدارة المصرية خلال كافة العهود من الفرعوني إلى المسيحي والإسلامي. لكن البحث والتقصي في هذا الموضوع يحجبه عن الرؤية قوة المقولة التي تؤكد أن المركزية المصرية وراثة ناجمة عن ظرف بيئي هو أن تنظيم مياه النيل يقتضي حكومة مركزية. هذا صحيح في جانب واحد هو تقدير الضرائب التي تذهب للخزينة المركزية، وخزائن المعابد والأبروشيات، والحكام المحليين في كل عصر من عصور مصر الطويلة. ومن هنا كان مقياس النيل ضرورة لا غنى عنها حتى الآن. وليس معنى هذا أن الأحوال تتردى خلال فترات تراخي المركزية؛ فالنيل يجري عاليًا، أو منخفضًا أيًّا كان شكل الحكم.
والحقيقة أن المركزية هي إحدي الإيديولوجيات الإدارية من أجل التنظيم الإقليمي وليست ضرورة حتمية لمكان بيئي محدد كمصر. وهي بذلك نظام قابل للتغيير حسب الظروف التي تمر بها مصر. المشكلة هي في قدر الاستجابة للتخفيف من المركزية. فإذا أمكن «فض الاشتباك» بين التخوف من فقدان السيطرة على الأمور من جانب أصحاب الفكر المركزي، وبين تطبيق أوفق لأشكال من الحكم المحلي الحالي فإن الأمور تأخذ مجرى سلس لديموقراطية أشمل على مستويات متعددة من القاعدة إلى العاصمة.
(١٠) لماذا نحتاج إلى تغيير الوحدات الإدارية؟
بناء على الأوضاع المصرية الحالية سابقة الذكر فإن الحاجة تدعو إلى إعادة تنظيم أقسام مصر الإدارية؛ لكي تتواكب مع معطيات الأمور الآنية والقادمة. ولا شك في أن إعادة تخطيط الحدود الإدارية الحالية إنما يعبر عن ضغوط مقتضيات الأمور ومستجداتها. هناك أمثلة كثيرة لذلك نذكر منها التفكير في إنشاء محافظة جديدة شمال شرقي القاهرة تتمركز حول العاشر من رمضان، وإنشاء كيان خاص للأقصر، وامتداد لسان المنوفية عبر النهر إلى مدينة السادات، واللسان الطويل للجيزة إلى الواحة البحرية، وتقسيم سيناء إلى شمالية وجنوبية، وامتداد محافظات الصعيد مسافة ما شرقًا وغربًا فوق حافات الوادي إلى الهضاب الصحراوية، والمستقبل الإداري لمنطقة توشكى والنوبة وشرق العوينات، والمستقبل الإداري لمنطقة القاهرة: هل تبقى محافظة القاهرة شرق النيل لامتدادت إلى الشرق والشمال لا نعلم مداها، أم هي القاهرة الكبرى على جانبي النيل من القطامية إلى السادس من أكتوبر، أم تنقل الوظيفة السياسية من القاهرة إلى عاصمة جديدة في مكان آخر من مصر يخصص لها إقليم إداري منفصل؟ وغير ذلك أشياء أخرى كثيرة في إقليم الإسكندرية وامتداده غربًا إلى برج العرب، وتعديلات الحدود في محافظتي البحر الأحمر والوادي الجديد.
كل هذه إرهاصات تفكير جدي في إعادة التركيب الإداري في مصر بدلًا من التعديلات العديدة الفردية التي تظهر من حين لآخر لمواجهة مواقف جديدة. فما هو الشكل الجديد لأقسام مصر الإدارية؟
يتردد الفكر الإنساني بين نوعين من الأقسام أو الوحدات الإدارية والسياسية، بل ووحدات العمل والإنتاج. فهناك الفكر الذي يرى أن الصغير أجمل وأوفق، ويمكن تدبير أموره ومعرفة دقائقه، وهناك الفكر المضاد أن الكبير أكثر حيوية لما يتمتع به من تنوع موارد واتساع مجالي يسمح بحركة تعدل وتطور من كينونته خلال الزمن، بينما الصغير له سقف حركة محدود، مثال ذلك سويسرا مقابل الولايات المتحدة، أو الشركات القومية مقابل الشركات متعددة الجنسيات، أو المصانع الكبرى مقابل الصغيرة، وكذلك المزرعة الصغيرة مقابل الكبيرة.
(١١) الأقاليم الإدارية المقترحة
- (١) إقليم القاهرة: يشمل محافظة القاهرة، ووسط محافظة الجيزة: مركزي الجيزة وإمبابة، وجنوب القليوبية: مراكز قليوب والقناطر وشبرا الخيمة.
- (٢) إقليم الغرب: يشمل محافظات الإسكندرية والبحيرة ومطروح ومركزي فوة ومطوبس.
- (٣) إقليم الدلتا: يشمل محافظات المنوفية والغربية وكفر الشيخ ومركز كوم حمادة.
- (٤) إقليم الشرق: يشمل محافظات دمياط والدقهلية والشرقية والقليوبية الوسطى والشمالية.
- (٥) إقليم سيناء-السويس: يشمل محافظات سيناء الشمالية والجنوبية وبورسعيد والإسماعيلية والسويس، والقسم الشمالي من محافظة البحر الأحمر حتى مدخل خليج السويس.
- (٦) إقليم مصر الوسطى: يشمل محافظات بني سويف والمنيا والفيوم والجزء الجنوبي من الجيزة، ويمتد غربًا ليشمل واحات البحرية والفرافرة إلى الحدود الليبية.
- (٧) إقليم مصر العليا: يشمل محافظات أسيوط وسوهاج وقنا والجزء الأوسط من البحر الأحمر من مدخل خليج السويس إلى مرسى علم والقسم الأكبر من محافظة الوادي الجديد.
- (٨) إقليم أسوان: يشمل محافظة أسوان ويمتد شرقًا إلى البحر الأحمر من مرسى علم إلى حلايب وغربًا إلى شرق العوينات والجلف الكبير إلى التقاء الحدود المصرية الليبية.
- أولًا: إن أسماء بعض الأقاليم يمكن تغييرها حسب جمهرة الرأي. مثلًا إقليم الشرق يمكن أن يصبح الشرقية، ومصر العليا يمكن أن يصبح الصعيد، وأسوان يمكن أن تصبح الجنوب، وذلك حفاظًا على بعض أسماء ومفاهيم جغرافية تقليدية.
- ثانيًا: إن التسمية «إقليم» يمكن أن تعدل إلى «محافظة» باعتبار أنها أكثر شيوعًا، لكن مفهوم المحافظة لا يؤدي إلى المعنى المقصود من إقليم له متطلبات الحكم المحلي.
- ثالثًا: أرقام المساحة والسكان الواردة في جدول الملحق بالشكل (٢) هي تقريبية وتعتمد على تخطيط حدود الأقاليم التي يمكن أن تعدل نتيجة لوجود علاقات قائمة لسهولة الانتقال. مثال ذلك أن منطقة كوم حمادة أقرب اتصالًا بكفر الزيات منها بدمنهور، وكذلك منطقة دسوق أكثر روابط مع دمنهور والإسكندرية من طنطا وكفر الشيخ.
- (أ)
هناك تناسب سلبي بين أعداد السكان والمساحة في التقسيم الإداري الحالي. ففي محافظات الدلتا والوادي ضغط سكاني على مساحات صغيرة، وفي المحافظات الصحراوية مساحات كبيرة وندرة سكانية.
- (ب)
الصورة السابقة موجودة بصورة معدلة في مقترح إقليمي الدلتا والشرق بحكم الموقع الجغرافي، وموجودة بكثير من التعديل في إقليمي السويس-سيناء وأسوان.
- (جـ)
في أي حالة هناك عدم تناسب بين السكان والمساحة في إقليم القاهرة شأن المدن الكبرى.
- (د)
هناك إيجابية واضحة في تكوين التناسب بين سكان ومساحة أقاليم الغرب ومصر العليا ومصر الوسطى على التوالي.
جفرافيًّا يعبر عن التناسب بين الأرض والسكان بالكثافة السكانية. لكن لكون مصر حالة خاصة بين المعمور التقليدي والصحراء، فإن التعبير بأرقام الكثافة غالبًا لا يعطي الانطباع المقصود. وما نقصده هنا هو توضيح درجة التشبع المساحي بحيث لا يعطي متنفسًا لاستيطان أرضي داخل الإقليم الواحد، أو أن هناك متسعًا من الأرض لأشكال من التعمير الصناعي أو الزراعي أو السياحي أو الخدمي. وفي هذا المجال تصبح أقاليم الدلتا والشرق والقاهرة مصادر لفائض سكاني إلى أقاليم سيناء-السويس أو أسوان أو مصر العليا، بينما يكتفي إقليم الغرب بمتسعه المساحي. أما مصر الوسطى فقد تكتفي هي الأخرى بمواردها المساحية في مرحلة لاحقة من التنمية والاستثمار. وعلى أي الحالات فإن مناطق التنمية سوف تجتذب السكان النشطين من أي إقليم داخل الجمهورية.
(١٢) المكونات العامة للأقاليم المقترحة
(١٢-١) من حيث المساحة
-
(١)
لا توجد مساحات صغيرة كتلك التي نشهدها حاليًّا. أصغر الأقاليم مساحة هو إقليم الدلتا (نحو ٧٥٠٠كم مربع) بحكم موقعه بين فرعي النيل، وذلك مقابل معظم مساحات محافظات الدلتا والوادي الحالية التي لا تزيد عن ألفي كم٢ باستثناء البحيرة والشرقية والدقهلية وكفر الشيخ.
-
(٢)
تتعدد المحافظات كبيرة المساحة في الأقاليم المقترحة. أكبرها مصر العليا التي تمتد من ساحل البحر الأحمر إلى الحدود الليبية (نحو ٣٠٠ ألف كم)، يليها إقليم الغرب ثم أسوان والسويس-سيناء ثم مصر الوسطى، وكلها أكبر من مائة ألف كم. وهي بذلك تعطي أفقًا رحبًا للحركة الاقتصادية السكانية.
-
(٣)
يتسع إقليم القاهرة، أو الإقليم المركزي إلى أكثر من عشرة آلاف كم مقابل المساحات المجهرية الحالية للقاهرة ومركزي الجيزة وإمبابة.
(١٢-٢) من حيث أعداد السكان
-
(١)
هناك تناسب ملحوظ في أعداد السكان في غالب الأقاليم التي تضم مساحات صحراوية فسكان إقليم سيناء-السويس يضم نحو مليونين وربع المليون من الأشخاص مقابل أعداد في حدود نصف المليون أو أقل في بورسعيد والسويس، ونحو مائة ألف في سيناء. وعلى أية حال فإن هذا الإقليم مؤهل لتلقي هجرة سكانية ربما تكون الأكبر في شكل الهجرة الداخلية المصرية لما يحتويه من مقدرات اقتصادية تقليدية وغير تقليدية. ومثل هذا إقليمي الغرب وأسوان، وبصورة ما إقليم مصر العليا ذو الطاقة البشرية الكبيرة (نحو عشرة ملايين شخص). وباختصار لم تعد هناك أقاليم إدارية نادرة السكان كما هو الحال في المحافظات الصحراوية الحالية — مجموع سكان محافظات مطروح والوادي الجديد والبحر الأحمر وسيناء الشمالية والجنوبية معًا لا يزيد عن ثلاثة أرباع المليون في مساحة قدرها ٨٥٣ ألف كم.
-
(٢)
سوف يقتصر عدم التناسب بين المساحة والسكان على ثلاثة أقاليم هي القاهرة والشرق والدلتا بديلًا عن عدم التناسب المستمر في كل محافظات الدلتا والوادي الحالية. ولا شك أن إقليم القاهرة بحكم كمية المتداخلات التاريخية والسياسية والاقتصادية سيظل إقليمًا ضخم السكان. لكن المأمول أنه مع تعدد مشروعات التنمية في بقية الأقاليم أن يخف ضغط الهجرة على القاهرة ويصبح النمو الطبيعي هو العامل الأساسي في نموها. ومثل هذا يمكن أن يحدث في إقليمي الدلتا والشرق — أي أنْ تكون أشكال التنمية داخل كل إقليم عاملًا في خلق فرص عمل تقلل الهجرة الخارجة إلى حدود متطلبات مناطق التنمية في أقاليم الغرب وسيناء — والسويس وأسوان.
(١٢-٣) من حيث مكونات الموارد الاقتصادية
-
(١)
تتوزع موارد الثروة الاقتصادية المصرية الحالية إلى موارد تعدينية في المحافظات الصحراوية وموارد زراعية صناعية في محافظات الدلتا والوادي، وموارد خدمية وثلاثية مركزة في عدد قليل من المدن الكبيرة وأشرطة ساحلية. هذا الانفصال بين أشكال الموارد غالبًا ما سينتهي في صورة الأقاليم المقترحة.
-
(٢)
فإقليم كالسويس-سيناء سوف يضم مصادر الطاقة — حقول البترول وفحم المغارة، وأشكال من الطاقة غير التقليدية الشمسية والرياح — إلى جانب الإنتاج الزراعي في منطقة محافظة الإسماعيلية الحالية غرب وشرق القناة، والمستهدف الزراعي على مياه ترعة السلام، والإنتاج الزراعي المطري في شمال سيناء وبعض استثمارات ري في أودية جنوب سيناء وفي وادي العريش الأوسط، وزراعة بستنه على آبار سيناء وعيونها مثل منطقة وادي جديرات قرب الحدود مع إسرائيل. السياحة عنصر هام في سيناء: في الشمال سياحة مصرية عربية، وفي الجنوب سياحة دولية ودينية وسياحة ساحلية بحرية لشواطئ المرجان وصيد البحر وألعاب الماء وفي الوقت نفسه مصايد لأسماك ذات القيمة في البردويل وقشريات البحر الأحمر.
-
(٣)
وبالنظر إلى تذبذب أسعار البترول الخام عالميًّا فإن المرجح التعامل مع خليج السويس — الذي هو خليج البترول المصري — على أنه منطقة تصنيع لمنتجات البترول ومشتقاته، وبالتالي إقامة عدة معامل للتكرير وصناعات البتروكيمائيات. مثل هذه الصناعات تحتاج إلى عمالة ماهرة من مهندسين إلى فنيين إلى إداريين، وإلى نشأة مدن تستقطب هؤلاء وتستقطب خدمات المدينة من الأيدي العاملة. وباختصار سوف يكون إقليم سيناء-السويس قطب جاذب لأشكال متعددة من المهاجرين ابتداء من أصحاب المقاهي البلدية إلى دور التسلية الأرقى إلى الفنيين والخبراء ومعاهد التعليم المتخصصة ومراكز التدريب … إلخ.
-
(٤)
وعلى هذا النسق يمكن أن نرى في إقليم الغرب تنوع الموارد الزراعية في البحيرة والنوبارية ومريوط والنطرون وموارد الطاقة الغازية والبترولية على هوامش منخفض القطارة، والسياحة الاصطيافية على طول الساحل إلى مرسى مطروح، فضلًا عن الصناعات الثقيلة والخفيفة في برج العرب والعامرية وعلى طول منخفض مريوط، وأعمال ميناء الإسكندرية التجارية والصناعية، ونقل الطاقة في سيدي كرير، ومشروعات زراعية وتربية أنواع من الحيوانات على طول الساحل الشمالي الغربي. ويمكن أن تجدد إدارة هذا الإقليم دراسة جدوى لمشروع منخفض القطارة لتوليد الطاقة، وتحسين النخيل في واحة سيوة والواحات المجاورة.
-
(٥)
وفي إقليمي الدلتا والشرق يمكن استثمار أراضي البراري الشمالية في زراعة أنواع من الخضروات التي يمكن أن تنمو على مياه ذات ملوحة أعلى من المعدل، وخاصة الطماطم التي نجحت على مثل هذه المياه في أمريكا. ويمكن لهذين الإقليمين أن يقيما صناعات زراعية ناجحة من أجل السوقين الداخلي والخارجي — خاصة السوق العربية، مع الاهتمام بصناعة التغليف والإعداد. هذا فضلًا عن الصناعات القائمة للغزل والنسيج والأصواف والسجاد ومضارب الأرز والزيوت والصابون وكيميائيات أخرى وفواكه متعددة على رأسها المانجو والموالح.
-
(٦)
في إقليم مصر الوسطى موارد زراعية غنية في الوادي وغرب البحر اليوسفي ومنخفض الريان وواحتي البحرية والفرافرة، وخاصة الفرافرة المبشرة بمياه جوفية وفيرة وتحتاج إلى تنظيم وإدارة جيدة لاستقبال المستثمرين وتوزيع الأرض على الأفراد أو جمعيات زراعية خاصة — أي غير حكومية، والتصرف في الأراضي المخصصة للخريجين الذين لا يستثمرون أراضيهم وسكنهم. وفي مصر الوسطى نجد من المعادن المستغلة حاليًّا مناجم الحديد في الواحة البحرية. وربما أدت بحوث إدارة الإقليم إلى مصادر أخرى معدنية أو مصادر للطاقة في بحر الرمال غربي عين دله، أو مياه جوفية في القسم الغربي من الإقليم أو قرب مصبات الأودية الشرقية القادمة من جبال البحر الأحمر. والواحات بصفة عامة من مقاصد السياحة الأجنبية يجدون فيها البيئة كاملة الغربة بالنسبة لهم.
-
(٧)
الكلام نفسه ينطبق على مصر العليا وأسوان فيما عدا أن في مصر العليا ثروة معدنية كبيرة متمثلة في فوسفات السباعية وهضبة أبو طرطور — بين واحتي الخارجة والداخلة، والذي يمكن أن يعالج صناعيًّا في نفس المكان من أجل الحصول على مشتقات كيميائية ذات قيمة عالية في الصناعات. أما ساحل البحر الأحمر في إقليم مصر العليا فهو منتجع سياحي عالمي في الغردقة وسفاجا. ومثلهما في مرسى علم ورأس بناس والشلاتين وحلايب بالنسبة لإقليم أسوان الذي يتمتع الآن بمشروعات زراعية كبيرة في توشكى وشرق العوينات، وربما في الواحات الصغيرة الممتدة على طريق درب الأربعين.
(١٣) لماذا التغيير الإداري؟
سبق أن ذكرنا أن تجربتنا خلال نحو قرن من التقسيم الإداري الحالي — مع بعض التعديلات كاقتسام أراضي الغربية بإنشاء محافظة كفر الشيخ، وضم أراضٍ إلى محافظتي الدقهلية ودمياط، وضم بعض أراضي المنوفية إلى القليوبية في منطقة كفر الجزار المواجهة لمدينة بنها، وكذلك منطقة كفر شكر من الدقهلية إلى القليوبية … إلخ، في محافظات الصعيد أيضًا — قد أدت إلى نشأة ٢٦ محافظة غير متوازنة مساحة وسكانًا.
- أولًا: إيجاد مجالات مساحية وسكانية بالحجم والقدر الذي يُمكن من تخطيط إقليمي متلائم مع
الظروف البيئية والتاريخية والموارد الاقتصادية للإقليم الواحد. ومثل هذا الوضع يشحذ
عملية الاستثمار الداخلي في الإقليم بمساحته وطاقاته البشرية المعقولة في مجالي الإنتاج
والتسويق. ويساعد بذلك على افتتاح أعمال في أشكال متعددة من الأنشطة الاقتصادية تخلق
فرص عمل جديدة تُنمي الدخل الفردي، ومن ثم زيادة القوة الشرائية وتوسيع الأسواق، وهو
ما
يؤدي في النهاية إلى تغذية مرتدة لمزيد من النمو الإقليمي وتقليل فرص الهجرة خارج
الإقليم.
والمحافظات الحالية بأحجامها المساحية والسكانية الصغيرة غير جاذبة بالقدر الكافي للاستثمار، ومن ثم تخرج رءوس الأموال الاستثمارية في داخل المحافظة تبحث عن موقع لها في سوق العمل للمدن الكبرى. لهذا تنمو أشكال كثيرة من الأعمال، وبخاصة التجارية والخدمية في القاهرة الكبرى والإسكندرية الكبرى ومدن القناة، بينما تبقى الأعمال في مدن المحافظات على ما هي عليه أو تنمو بإضافات بطيئة.
لو أخذنا مجال الإعلام كنموذج سنرى كيف تترابط موضوعات التنمية في سلسلة من التأثير والتأثر، بحيث يؤدي إنشاء مشروع إلى فتح أبواب تنشط معها وظائف جديدة، وهذه تعود بتغذية راجعة على المشروع فتنميه، وهكذا دواليك. صحيح أن الدولة لم تقصر في مجال التلفاز والإذاعة فأنشأت الكثير من المحطات الإقليمية — هي بمحض الصدفة ثمانية محطات، لكن القاهرة تحتكر ثلاثًا منها — فضلًا عن المحطات الفضائية. وتجتهد المحطات الإقليمية ألا تكون صورة باهتة لمحطات القاهرة، ولكنها في حالة حسن تمويلها من داخل الإقليم سوف تخلق فرصًا للعمل والإجادة، وتشكل أقطابًا جيدة للمبدعين من داخل الإقليم في مجالات عديدة نذكر منها التأليف والكتابة الدرامية ومقدمي البرامج الذين يفتحون ندوات مرئية عن الإقليم في كافة النواحي الثقافية والحياة الاقتصادية، وهموم البيروقراطية ومشروعات التنمية البشرية والصناعية والحسن من أشكال الأنشطة والعمل. وهذا هو ما يساعد على تكوين الرأي العام في الإقليم، وظهور قيادات مجتمعية وفكرية. هذا فضلًا عن نمو وظائف فنية عديدة في التصوير والإنتاج والإخراج واكتشاف الممثلين … إلخ.
ومثل هذا تمامًا في مجال الإرسال الإذاعي الذي يتغلغل أكثر من التلفاز بين الناس. أما الصحف الإقليمية التي تفتقر إليها كثيرًا لصغر حجم القراء في المحافظات الحالية، فسوف تنفتح على جمهور أكبر في الإقليم الواحد. وإذا ما ابتعدت جزئيًّا عن أخبار الرسميات داخل الإقليم فإنها ستكون مجالًا طبيًّا للأخبار المحلية والأنشطة الاقتصادية والتسويقية، وتوعية المنتجين بأنواعهم وتوجيه الاهتمام إلى المشكلات الكثيرة في الإقليم من أول خدمات النقل إلى موضوعات حيوية كتنظيم الأسرة ومواجهة التطرف … إلخ. والصحافة بهذا الشكل تخلق وظائف جديدة من عامل الطباعة إلى المحرر وصاحب العمود، فضلًا عن انتشار مكاتب توزيع الصحف والجرائد في أماكن لم تعرفها إلا لماما.
هذه الأجهزة الإعلامية الثلاثة سترتبط مع بعضها في علاقة تنافس وتكامل معًا مما يفتح أبوابًا كثيرة مغلقة في تكوين فكر ورأي عام واسع يساعد مجالس الإدارة في الإقليم من المحافظ إلى أجهزته التي يدير من خلالها على حسن التوجه إلى مشكلات الإقليم الصغيرة قبل الكبيرة. وهكذا نرى تفاعل عنصر واحد يعود بتغذية مرتدة على واجهات عديدة من حياة المجتمع.
- ثانيًا: ليس الغرض من تقليل عدد الأقسام الإدارية من ٢٦ إلى ٨ وحدات هو تخفيض عدد العاملين
المكتبيين فقط، وإن كان ذلك وارد كواحد من عوامل دفع العمالة إلى مجالات نافعة. ولكن
الغرض الجوهري هو ما أشرنا إليه سابقًا، وهو إيجاد أقسام إدارية ذات قاعدة عريضة سكانًا
ومساحة من أجل فتح المجال التنموي لذوي الدخول العالية في كل إقليم، وحفز المستثمرين
من
خارج الإقليم على استكشاف آفاق جديدة في الأقاليم بدلًا من التركيز على الاستثمار داخل
نطاق العاصمة والمدن الكبرى. وقد ظهرت بوادر ذلك في دعوة الدولة إلى تنمية جنوب الوادي،
ولو أنها كلمة ذات مفهوم غامض: هل يقصد بها مشروعات توشكى وشرق العوينات أم كل
الصعيد؟
وفي هذا المجال يمكن لإدارات الأقاليم بحث وتخطيط مشاريع التنمية ودعوة المستثمرين إلى عمل دراسات الجدوى اللازمة قبل الإعلان عن مناقصات أو مزايدات تنفيذها. وواحدة من أهم أسس التنمية هو مد الأشكال المناسبة من البنية الأساسية إلى المناطق المرجو تنميتها: طرق ومياه وكهرباء وصرف صحي واتصالات هاتفية بأنواعها السلكية واللاسلكية الحديثة.
- ثالثًا: إذا كان هذا هو المطلوب من الإدارة الجديدة للأقاليم، فكيف يمكن لهم عمل ذلك
بإيجابية؟
يكمن الحل ببساطة في تطبيق التفويض الذي نص عليه الدستور منذ ١٩٧١ (مواد ١٦٠–٦٣)، والذي ينقل اختصاصات الوزارات تدريجيًّا إلى المحليات. وبدون نقل السلطة يفقد الحكم المحلي جوهره. فهو أولًا ينهي الازدواجية الحالية بين المحافظ ووكلاء الوزارات الذين يأخذون تعليماتهم من القاهرة، وما يترتب على ذلك من إبطاء العمل أو إيقافه. والتفويض يعطي استقلالية في اتخاذ القرار المناسب لظروف المحافظة — أشكال المجالس المحلية المتعددة الحالية ليست بمبشر قوي للإصلاح والتنمية. يقول بعض المحافظين: إن الوجاهة الاجتماعية وتحقيق المصالح الخاصة هي دوافع الغالبية العظمى من الذين يتقدمون للترشيح في انتخابات المجالس المحلية. وبغض النظر عن بعض إيجابيات مثل هذه المجالس فإن غياب الرأي العام والفكر الحزبي مسئول عن الأداء الحالي لهذه المجالس، بينما المفروض أن تكون الانتخابات والمجالس المحلية هي مدرسة الديموقراطية الأولى في مصر.
وربما يوضح المثال الآتي مدى تضارب السلطة في المحافظات الحالية. الطرق شريان حيوي في أي مكان. ولكن الطرق تتبع عدة جهات لكلٍّ أولوياتها: فالطرق الإقليمية تتبع الهيئة العامة للطرق والكباري، والطرق التي تسير فوق الجسور تتبع مديرية الري، والطرق المحلية تتبع مديرية الطرق بالمحافظة، والطرق خارج الكتل السكنية تابعة للجمعيات الزراعية، والطرق داخل الكتلة السكنية تتبع الوحدات المحلية. وفي غياب السلطة المفوضة للمحافطة فإن حالة الطرق تظل رهنًا بأحد الجهات سالفة الذكر. فهل هذه الأوضاع جاذبة لمشروعات تنموية بأي مقياس؟
ويتضح من تاريخ مصر الطويل كيف تغيرت الأقسام الإدارية مرات ومرات وعدلت بما يظاهر متغيرات الأمور في مصر ما بين تقوقعها على الوادي والدلتا، وبين توسعها الإمبراطوري إلى السودان وبلاد الشام والغرب الليبي في مختلف العصور الفرعونية والهلينيستية والعربية والعثمانية، واستقلالها منذ عصر محمد علي واستقلالها النهائي منذ انتهاء الحماية الإنجليزية.
ونحن الآن نمر بفترة تغيير في موضوعات شتى من شئوننا الداخلية وعلاقاتنا الدولية. أهمها الشئون الآتية: (أ) التدرج في التغيير من نظام مركزية الدولة في شئون الاقتصاد إلى نظام الخصخصة. (ب) التغير في التوجهات العربية وخاصة قضية إسرائيل-فلسطين. (ج) التغير في التوجهات العالمية في ظل ظروف العالم الانفتاحية. (د) التغير في التوجهات من مدرسة الري التقليدية العظيمة التي كانت تدور حول قناطر النيل والترع والري الدائم والسدة الشتوية إلى مدارس التكنولوجيا الحديثة في استزراع أنواع جديدة من التربات والأراضي على حافات الدلتا والوادي، أو أغوار المياه الجوفية في الصحاري. (ﻫ) التوجه نحو استخدام بيئات السواحل المصرية في أنشطة السياحة الدولية والاصطياف المصري. (و) التوجه الصناعي من القلاع الصناعية الكبيرة كالمحلة وحلوان وكفر الدوار إلى المصانع صغيرة الأحجام عالية التقنية ونمو صناعات التجميع والصناعات الإلكترونية ومتغيرات أخرى في الاستثمار الصناعي الخاص.
الغرض من التغيير ليس التغيير في حد ذاته، لكن لكي تتطابق أقاليم مصر الإدارية مع الظروف والنشاطات الاقتصادية المتغيرة التي نعايشها الآن ومستقبلًا، فالأقسام الإدارية الحالية ليست كيانات خالدة الوجود، وقد نبعت عن تقسيم أرضي أساسه الاقتصاد الزراعي بصورة عامة مع بعض التراث التاريخي للتقسيمات، بينما الحاجة الآن هي إلى كيانات إدارية واسعة المجال في المساحة والموارد والسكان والتشغيل الأوفق لهذه العناصر الثلاثة معًا في ظل التحديث الإداري والاقتصادي العالمي.
والسؤال الأكبر هو لماذا الاحتفاظ بمحافظتي القاهرة والجيزة وهما مكونان لنسيج واحد منذ أكثر من نصف قرن؟ لماذا لا يصبحان إقليمًا واحدًا له خصائصه التي لا ينكرها أحد؟ ومثل هذا بقاء شبرا الخيمة والمدن الجديدة على محور أوتوستراد الإسماعيلية تابعة لمحافظة القليوبية بينما هم للقاهرة أكثر ارتباطًا عمرانًا وحركة واقتصادًا.
سؤال آخر هو إلى أي حد يمكن استقلال سيناء عن منطقة القناة، أو البحر الأحمر والوادي الجديد عن محافظات الصعيد وأسوان، أو مطروح عن الإسكندرية؟ هذه المحافظات الصحراوية كبيرة المساحة شحيحة السكان ليست سوى وراثة لتقسيم من مخلفات الإدارة الإنجليزية عفى عليه الزمن بمقتضاه كانت هذه الأقاليم حدود لا يمكن لمصري التجول فيها بدون إذن كتابي من مصلحة الحدود.
أخيرًا: إن أي تغيير في شكل الأقسام الإدارية في مصر ليس هو الحل السحري لتحسين الأحوال. ولكن تشكيل أقاليم كثيرة ذات كيانات مفوضة في اتخاذ القرار هو الحل التدريجي في تنمية الإدارة وتنمية الديمقراطية ببرلمانات إقليمية ممثلة بصورة أكثر فعالية للناس؛ من أجل محاولة إيجاد الصيغ الملائمة للدخول في القرن القادم.
تقدير أعداد السكان حسب النوع بالمحافظات ونسبتهم المئوية في ١ / ١ / ٢٠٠٥.
المحافظات | النسبة المئوية | جملة السكان | إناث | ذكور |
---|---|---|---|---|
الجملة | ١٠٠ | ٦٩٩٩٧ | ٣٤١٨٠ | ٣٥٨١٧ |
القاهرة | ١١٠٫٩ | ٧٧٦٥ | ٣٧٨٧ | ٣٩٨٧ |
الإسكندرية | ٥٤٫٦ | ٣٨٢١ | ١٨٦٦ | ١٩٥٥ |
بورسعيد | ٠٫٧٧ | ٥٣٨ | ٢٦١ | ٢٧٧ |
السويس | ٠٫٧٠ | ٤٨٩ | ٢٣٩ | ٢٥٠ |
دمياط | ١٫٥٤ | ١٠٧٨ | ٥٢٨ | ٥٥٠ |
الدقهلية | ٧٫٠٥ | ٤٩٣٢ | ٢٤١٨ | ٢٥١٤ |
الشرقية | ٧٫٣١ | ٥١٥٥ | ٢٤٩ | ٢٦٢٦ |
القليوبية | ٥٫٥٤ | ٣٨٧٥ | ١٨٧٤ | ٢٠٠١ |
كفر الشيخ | ٣٫٧ | ٢٥٩٠ | ١٢٨٦ | ١٣٠٤ |
الغربية | ٥٫٦١ | ٣٩٢٩ | ١٩٣٨ | ١٩٩١ |
المنوفية | ٤٫٦٢ | ٣٢٣١ | ١٥٦٦ | ١٦٦٥ |
البحيرة | ٦٫٧ | ٤٦٩٣ | ٢٣٠١ | ٢٣٩٢ |
الإسماعيلية | ١٫٢٣ | ٨٦٣ | ٤٢٣ | ٤٤٠ |
الجيزة | ٨٫٠٦ | ٥٦٤٤ | ٢٧٣٠ | ٢٩١٤ |
بني سويف | ٣٫٢٢ | ٢٢٥٥ | ١١٠٥ | ١١٥٠ |
الفيوم | ٣٫٤٦ | ٢٤٢٢ | ١١٦٧ | ١٢٥٥ |
المنيا | ٥٫٧٨ | ٤٠٤٩ | ١٩٨٣ | ٢٠٦٦ |
أسيوط | ٤٫٨٩ | ٣٤٢٢ | ١٦٦٨ | ١٧٥٤ |
سوهاج | ٥٫٤٤ | ٣٨٠٨ | ١٨٦١ | ١٩٤٧ |
قنا | ٤٫١٩ | ٢٩٣٥ | ١٤٥٩ | ١٤٧٦ |
أسوان | ١٫٦ | ١١٢٠ | ٥٥٩ | ٥٦١ |
الأقصر | ٠٫٦٠ | ٤٢٢ | ٢٠٥ | ٢١٧ |
البحر الأحمر | ٠٫٢٧ | ١٨٦ | ٨١ | ١٠٥ |
الوادي الجديد | ٠٫٢٤ | ١٧٠ | ٨٢ | ٨٨ |
مطروح | ٠٫٣٩ | ٢٧٠ | ١٢٩ | ١٤١ |
شمال سيناء | ٠٫٤٤ | ٣١٠ | ١٤٩ | ١٦١ |
جنوب سيناء | ٠٫٠٩ | ٦٥ | ٢٦ | ٣٩ |
- إقليم سيناء والقناة: محافظتي سيناء ومحافظات القناة الثلاث، البحر الأحمر، إقليم الشرق: محافظة دمياط والدقهلية والشرقية ووسط القليوبية، إقليم الدلتا: محافظات كفر الشيخ والغربية والمنوفية مع امتداد عبر فرع رشيد من كفر الزيات، وجنوبًا إقليم الغرب: محافظات الإسكندرية والبحيرة ومطروح، الإقليم المركزي أو القاهرة: محافظة القاهرة وشمال ووسط الجيزة حتى البدرشين وجنوب القليوبية، إقليم مصر الوسطى: جنوب محافظة الجيزة ومحافظة بني سويف والفيوم والمنيا وواحتي البحرية والفرافرة، إقليم مصر العليا: محافظة أسيوط وسوهاج وشمال ووسط الوادي الجديد ووسط البحر الأحمر، إقليم الجنوب أو أسوان وجنوب البحر الأحمر وجنوب الوادي الجديد حتى حدود ليبيا.
الإقليم | المساحة (ألف كم٢) | السكان (مليون فرد) | الكثافة السكانية (فرد/كم٢) |
---|---|---|---|
سينا-السويس | ١٥٠ | ٢٫٤ | ١٦ |
الشرق (شرق الدلتا) | ٨٫٥ | ١٣٫٤ | ١٥٨٠ |
الدلتا (وسط الدلتا) | ٨٫٥ | ١٠٫٠ | ١١٧٨ |
الغرب (غرب الدلتا) | ٢٢٥ | ٨٫٨ | ٣٩ |
القاهرة (الإقليم المركزي) | ١١ | ١٣٫٥ | ١٫٣ |
مصر الوسطى | ١٣٠ | ١٠٫٢ | ٧٨ |
مصر العليا (الصعيد) | ٣٠٠ | ١٠٫٨ | ٣٦ |
أسوان (الجنوب) | ١٧٠ | ١٫٤ | ٨ |
مساحة الأقاليم الإدارية المقترحة وتقدير السكان عام ٢٠٠٥ (أرقام المساحة والسكان تقريبة)
(١٤) الحكم المحلي والإقليمي
إن أحسن تأصيل للتفاعل الضروري بين النظرية والتطبيق هو قول أحد فلاسفة الآسيويين: «اذهب إلى الرجال العمليين وتعلم منهم طرائقهم، ثم ضع تجاربهم وخبراتهم في مبادئ ونظريات، ثم عد مرة أخرى للعاملين واطلب منهم وضع النظرية موضع التطبيق لحل المشاكل التي يواجهونها، والحصول بذلك على السعادة.»
عن مدرسة الديموقراطية: أحسن مدرسة للديموقراطية هي الممارسة من القاعدة — أي من الرجال والنساء العاملين، حيث نجد الواقع ومشكلاته بدون زيادة أو نقصان. وبعبارة تطبيقية نقول: إنه يجب الاهتمام بالمجالس المحلية للقرى أو لأحياء المدن بحيث تكون أحد أهم ساحات الأحزاب في المعارك الانتخابية؛ لأنها أولى حلقات السلسلة المتصاعدة إلى بلديات المدن والمجلس النيابي الإقليمي، وأخيرًا مجلس النواب القومي.
عن الحجم: لقد تربينا طوال القرنين ١٩ و٢٠ على أن الأكبر أحسن، وأن تطور الأمور هو من الأصغر للأكبر، وهذا حق في قوانين البيولوجيا. واستعار علماء المجتمع هذه المقولة على أن الحركة هي من الفرد إلى تجمع العصبة والقبيلة ثم الأمة والدولة. وإذا استمرت هذه الآلية الفوقانية فالأحسن هي الدولة ذات المستعمرات ومن ثم دولة القطب تحكم العالم. ومثل هذه الدولة بطبيعة الحال ستزهق حقوق الصغار أمام مقولة: الأكبر أحسن. ولكن ذلك هو مكمن الخطر ومن ثم ظهرت آراء ملخصها: أن «الصغير هو الأجمل» — وهذا صحيح بيولوجيًّا أيضًا وربما كان سياسيًّا هو الأفضل. والعالم الآن ينقسم تحت سمعنا بين دولة صغيرة كالدانمرك ودولة متعملقة كالولايات المتحدة.
القصد من هذا الاستطراد تأكيد أن المجالس التمثيلية — سواء تلك في مرحلتها الأولية القروية أو المجلس النيابي القومي — هي متكافئة من حيث الأهمية ومختلفة من حيث الوظيفة ودائرة الاهتمام. فهناك مشكلات الواقع المباشر لمساحة محدودة وعدد محدود من الناس داخل الحدود المجالية لمجالس القاعدة، بينما المشكلات القومية هي مجال الاهتمام الأساسي للمجلس النيابي القومي الأعلى. ولا يمكن تصور عمل كامل العطاء للمجلس النيابي الأعلى بدون أن يدعمه عطاء المجالس المحلية.
(١٤-١) تكوين مجالس الحكم المحلي والإقليمي
-
(١)
في المناطق الريفية مجالس قروية. ومن الأمور الواجبة تحديد القرية وتوابعها من عزب وكفور حتى عدد معين من السكان، أو مساحة معينة متفق عليه في كل إقليم على حدة — مثلًا دوائر الدلتا مساحة وسكانًا غير تلك في سيناء — على ألا يقتطع التحديد وحدة قبلية أو علاقات قروية تاريخية ومجالية.
-
(٢)
ثم مجلس محلي للمركز كوحدة إدارية، تراعي في تحديده أيضًا المواصفات سابقة الذكر.
-
(٣)
في المناطق الحضرية تنتخب مجالس بلديات في المدن الصغرى، ومجالس أحياء، ثم مجلس بلدي في المدن الكبيرة.
-
(٤)
مجلس نيابي إقليمي: وهو واحد من مجالس النواب في الأقاليم الثمانية الكبرى المقترحة لتقسيم مصر إداريًّا بديلًا عن المحافظات الحالية.
-
(٥)
مجلس تنفيذي يقترب من شكل حكومة لكل إقليم على حدة، منتخب هو ورئيس المجلس الذي قد يساوي وظيفة المحافظ الحالية.
وناحية أخرى إن حدود المحافظات تتغير من حين لآخر. وهذه التغيرات هي عبارة عن زحزحة الحد لتكبر محافظة على حساب أخرى — أي كأنه غزو واستيلاء له ما يساق من مبررات كثيرة بعضها تعبير عن واقع محسوس يراد تصحيحه فعلًا. لكن هذه الزحزحات لم تتناول جوهر قضية التغيير من أجل تصحيح واقع راكد غير متفق مع مقتضى تحولات المجتمع والاقتصاد والسياسة. فالمحافظات الحالية كان لها مبررها حين كانت السياسة المصرية تنظر إلى الداخل فقط — أي المعمور من الوادي والدلتا، بينما الأقاليم الصحراوية هي محافظات الحدود التي تحكمها مصلحة الحدود التابعة لوزارة الحربية. أما السياسة المعلنة الراهنة فتنظر إلى مصر كلها على أنها الداخل، لا فرق بين معمور وغير معمور. ومن ثم برزت أفكار تصالحية بين التفتيت الذي تمثلة محافظات الوادي والدلتا وبين المحافظات الشاسعة خارج الوادي والدلتا. ولعل ظهور فكرة الأقاليم التخطيطية الثمانية هي من هذا النوع التصالحي فهي تحتفظ بهياكل المحافظات كما هي في كل نواحيها، وتحاول إيجاد مخططات تنموية لمجموعة محافظات متجاورة تعاملها كأنها إقليم موحد. وكان يمكن أن يقدر النجاح لهذا الفكر التوفيقي لولا عدم وجود قوة تنفيذية لدى هياكل الأقاليم التخطيطية فضلًا عن أن تنفيذ أي مخطط يعتمد على الرغبة الحسنة لدى المحافظين داخل الإقليم التخطيطي. وحيث إن المسألة تتعدى المحافظ الواحد إلى عدة محافظين، فإن الكثير من المخططات ظلت أوراقًا في أدراج!
إن الأمور الآن في حاجة إلى تغيير هيكلي حقيقي متناسب مع خروج حدود المحافظات إلى الصحاري المجاورة، وبعض هذا الخروج غريب وشاذ مثل لسان الجيزة الممتد بشكل غير واقعي على الإطلاق إلى واحة البحرية بدعوى وجود خط حديد مناجم الحديد، أو لسان المنوفية غريب الشأن الممتد إلى مدينة السادات، وتحول الطريق الصحراوي إلى اختصاصات أربع محافظات هي الجيزة والمنوفية والبحيرة والإسكندرية! لهذا فالمقترح التخلي عن المحافظات التقليدية وإنشاء هياكل إقليمية جديدة هي أقرب ما تكون إلى الأقاليم التخطيطية، مع التعديلات اللازمة لمراعاة شروط جغرافية: مساحة وناس ومعمور وصحراوي، في صورة ثمانية أقاليم حكم محلية بدلًا من ٢٦ محافظة غير متناسبة مساحة وسكانًا وموارد.
(١٤-٢) مهام وظائف المجالس المحلية والإقليمية
ليس المفترض أن تكون هناك علاقة سلبية بين المحليات والحكومة المركزية.
-
عقد اجتماعات شهرية، تزيد عند مقتضى الحال لجميع المجالس المحلية، ودورات انعقاد لبرلمان الإقليم.
-
تشكل المجالس لجان متخصصة في شئون محددة كالري أو الصرف على سبيل المثال، على ألا تكون العلاقة مع الجهات التنفيذية الإقليمية والمركزية سلبية إلا في حالات عدم موضوعية التنفيذ.
-
علاقة المجالس بالأحزاب هي علاقة مستمرة؛ لأن الأعضاء يمثلون أحزابًا مختلفة لهذا نجد تنفيذًا لسياسات حزب ما إذا تشكل أعضاء مجلس ما من أغلبية لهذا الحزب. لكن حيث إن هناك مواجهة مستمرة بين الناخبين والأعضاء في المجلس المحلي، وحيث إن كل أعضاء المجلس لديهم مشكلات كل القرى والتجمعات العمرانية التي يمثلونها، فالمتوقع أن تكون قرارات المجلس المحلي متسمة بدرجة كبيرة من الموضوعية بحكم اقترابها من الواقع. بل المتوقع أن يغذي أعضاء المجلس أحزابهم بآراء من الواقع كي يتبناها الحزب لتصبح ضمن إطار إيديولوجية الحزب. وهكذا نرى تصعيدًا مستمرًا من القاعدة إلى أعلى، وهو الأمر الذي نفتقده كثيرًا.
-
ولو افترضنا أن ما سبق ذكره قد حدث فربما رأينا سياسات تعليمية مختلفة في الأقاليم مثلًا ربما اتجه التعليم الإعدادي إلى الحرفية الماهرة في الصناعات البتروكيمائية وصناعة استخراج البترول والمنصات البترولية في إقليم سيناء والقناة؛ لأن خليج السويس هو محور هام في اقتصاديات الإقليم. وربما اتجه التعليم في الصعيد إلى المهن المرتبطة بنسيج الكتان والكليم والسجاد ومنسوجات الأقطان متوسطة التيلة، وصناعات غذائية مثل إعداد البقوليات والبصل … إلخ، والأغلب أننا بمثل هذه الطريقة نحل المشكلة العويصة وهي: التزام الدولة بتعيين الخريجين في وظائف لا وجود لها في عالم الإنتاج والخدمات الحالية.
(١٤-٣) الخدمات التي تقدمها المجالس المحلية
الخدمات التالية مسئولية وزارات في حكومة الإقليم، تنفق عليها في الإنشاء والصيانة والرواتب والمعاشات … إلخ.
-
خدمات التعليم الابتدائي والإعدادي: تقترح وزارة التعليم الإقليمية على المجلس الإقليمي نوعيات تعليمية جيدة في المنهج والتخصصات دون الجامعية، وأيضًا تقترح إنشاء المدارس ورواتب المدرسين من ميزانية وزارة التعليم الإقليمية وبقرار منها.
-
خدمات الأمن المحلي، وخدمات شرطة المرور وإسعاف السيارات، وخدمات الإطفاء والإنقاذ المائي.
-
خدمات الصحة العامة بما فيها الوقاية والعلاج والإسعاف وإقامة المستشفيات العامة والمتخصصة.
-
خدمات المدينة والقرية في البنية الأساسية وإمدادات المياه والصرف الصحي والكهرباء والغاز والاتصالات.
-
الخدمات الاجتماعية والدينية ورعاية كبار السن والأيتام والفقراء … إلخ.
(١٤-٤) بعض مهام المجالس المحلية والإقليمية
-
رسم حدود العمران — كردون القرية والمدينة — لمنع الزحف غير المنظم أو تآكل الأرض الزراعية، ومراعاة قوانين البناء، وإنشاء أبنية الخدمات العامة وصيانة الطرق والجسور.
-
تنظيم التجارة الداخلية من حيث أماكن الأسواق الأسبوعية وتطويرها وتركيزها في حيز محدد بدلًا من انتشارها على جوانب ملتقى الطرق الرئيسية في القرية أو المدينة الصغيرة، مما يتسبب في اختناق المرور ساعات طوال. وكذلك الإشراف عليها من حيث شروط الصحة العامة وصلاحية الأغذية والكشف البيطري على الحيوانات المتداولة في الأسواق حتى لا تتسبب في انتشار أمراض معينة بين الحيوانات … إلخ.
-
قرارات إقليمية حول الترفيه والمسارح ودور العرض بما يتفق مع الضوابط والأذواق المحلية، وما يرقى بالذوق إلى الاستمتاع بالجمال كالمتنزهات والورود وكذلك إقرار إنشاء محطات إذاعة «وتلفزيون» وصحافة محلية على الأغلب بواسطة القطاع الخاص.
-
الإرشاد الزراعي والإشراف على الجمعيات الزراعية والتعاون مع الجمعيات التعاونية التي تنشأ لمنتجي محصول أو سلعة معينة من أجل حماية مصالحهم في الإنتاج والنقل والتسويق.
(١٤-٥) تمويل المجالس المحلية
من البديهيات أن مثل هذه الهياكل المنتخبة تصبح مجرد واجهات عرض إذا لم يكن لديها الاستقلال المالي عن الحكومة المركزية بدرجة كبيرة. ويأتي التمويل مصادر عديدة على رأسها حصة كبيرة من الضرائب العامة التي تفرضها الحكومة المركزية، إلى جانب الرسوم المختلفة على أشكال الخدمات وتصاريح البناء والمؤسسات التجارية والصناعية … إلخ. وفوق هذا يمكن أن تكون هناك حصص دائمة من الخزانة المركزية لكل إقليم، فضلًا عن إمكان الحصول على قروض ائتمانية من البنوك وبيوت المال التي يمكن أن تنشأ في الأقاليم مستقلة عن التكدس المالي في العاصمة، ربما تقام بورصة إقليمية تتميز باهتمامات في صناعات أو تجارة معينة كالنسيج أو صناعات زراعية، هذا فضلًا عن حصيلة الحكومة المحلية من الإعلانات التجارية والفنادق وغير ذلك كثير. على أن الشرط الأساسي هو عدم إرهاق الناس برسوم وضرائب جديدة فوق ما يدفع للحكومة المركزية.
(١٤-٦) المتوقع
-
تخفيف ضغط تيار الهجرة على القاهرة والمدن الكبرى بإفساح المجال للتنمية المحلية داخل كل إقليم بصورة تمتص نسبة من البطالة الإقليمية لكثرة المعروض في سوق عمل متعدد الوجهات، وتنقذ الكثير من الأموال التي تستثمر في شراء مساكن لا ضرورة كبيرة لها في العاصمة الإقليمية أو مدن مكدسة، فتحولها إلى استثمار إنتاجي وسكني داخل الأقاليم.
-
إعطاء فرصة للتحول من البيروقراطية المركزية إلى البيروقراطية المحلية، وهي أقل خطرًا؛ لأنها تخضع بصورة أو أخرى لرقابة قريبة منها صادرة أولًا عن السكان واحتياجاتهم، وثانيًا عن برلمان الإقليم ومجالسه المحلية متعددة المستويات في القوة والقدرة على التقويم الرشيد.
والخلاصة: أن انشغالنا الدائم بحبكة القوانين لا يفيد: أولًا: لأن وجهة النظر المركزية هي الطاغية في الفكر العام، وثانيًا: لأن القوانين ليست أبدية، بل تعدل أو تتغير بناء على ظهور ما تحتاجه متغيرات اجتماعية سياسية اقتصادية. وقوة المجالس المحلية أو الإقليمية قد تخيف المتمرسين في الحكم المركزي في دولة مثل مصر. لكن المجالس المحلية في الواقع سوف تضيف قوة إلى شكل الحكم القومي باقترابه من الأرض وواقع الأمور أكثر من أشكال المركزية.
وأخيرًا فإن الإصلاح الإداري في مصر يجب أن يكون في منظومة واحدة تسعى، ليس فقط للإدارة المحلية، بل الإصلاح الإداري العام محلي ومركزي معًا.
(١٥) خصخصة الإدارة المحلية
بالرغم من جو الخصخصة الذي أحاط بنا خلال بضع السنوات الماضية فإن ما أدعو إليه في هذا الموضوع ليس إهداء الإدارة المحلية إلى شركات تبيع وتشتري حسب رائدها من الربح والخسارة. إنما المقصود هو خلخلة قبضة المركزية المصرية العامة على الإدارة المحلية، تمامًا كما تفك الخصخصة الشركات الراكدة إلى شركات متخصصة قادرة على اتخاذ القرار دون الصعود والهبوط لمكاتبات ورقية للرأي والقرار، والموضوع الذي نحن بصدده يطرق أبوابًا معروفة سبق لي وللكثيرين غيري الحديث والكتابة عنها بصور مختلفة وفي مناسبات متعددة وبأساليب تتراوح بين الموضوعية الهادئة والعواطف الفوارة.
الركيزة الفلسفية للموضوع تنطلق من محورين أساسين، أولهما: هو المفاضلة بين المركزية بأشكالها المتشددة والمخففة، وبين تفويض الأمور للمحليات أيضًا بصور متعددة. وثانيهما: أن ثبات الأمور على حال واحدة ليس من موجبات الحياة، فلا شيء يحيا إذا جمد على شكل واحد دون تغير وتطور من ذاته ناجم عن التفاعل مع غيره من مكونات المجتمع، أو تغيير وتطوير بفعل السياسات المختلفة لكل زمان.
(١٥-١) المركزية والمحلية
إذا بدأنا بهذا المنطلق فعلينا من البداية أن نحذر من المقولة الشائعة: إن مصر دولة مركزية الحكم منذ بضعة آلاف السنين. فهذه المقولة في مجملها لا تحكي الحقيقة؛ لأننا في دراسة التاريخ درجنا على أن ننسب الزمان لأشخاص الحكام وليس إلى حركات الناس. صحيح أن بعض الحكام الأقوياء كان لهم صولة وضجيج أو ينسب إليهم أمور هي بالفعل حاسمة في التاريخ العسكري والسياسي: مثلًا «مينا» (نارمر) موحد القطرين، وإن كانت هناك حركات توحيد سابقة أو على الأقل إرهاصات توحيد استمرت عقودًا ومئاتٍ من السنين وحان قطافها عندما تولى مينا حكم الجنوب. وتحتمس والرعامسة وصلاح الدين وبيبرس ومحمد علي كانوا من الملوك والحكام المحاربين، وغالبيتهم بطبيعة الحال كانت تحكم بمركزية مطلقة.
ولكن أين جمهور الشعب في هذا التاريخ الطويل؟ لا شك في أن الشعب هو الباني الأعظم لكل لبنات الحضارة والثقافة المصرية سواء كان الشعب مصري أو مضاف إليه ومنصهر فيه مهاجرين من الشعوب المجاورة بأعداد مختلفة في أزمان مختلفة. هذا الشعب هو الذي يحرك السياسات والاتجاهات على المدى الطويل ويقبل شكلًا من التنظيم الحاكم فيثبته أو يرفضه بالمقاومة السلبية التي تظهر في روح الفكاهة والنكتة، كما تظهر في قلة الإقبال على الأعمال الإنتاجية فيفقر النظام وتهتز أركان الحكم بعد فترة، مثل فرار الفلاحين من الحقول كوسيلة من مقاومة ظلم الجبايات والضرائب. أو أن يتخذ الشعب سبيل القوة ليقاوم قدر إمكاناته لتغيير مثل هذا النظام. وفي العصر الحديث كان مثل ذلك ثورة ١٩١٩ التي استندت إلى مراجل غضب شعبي ودعوة للاستقلال على طول ثلاثة عقود، وجدت رمزها في سعد زغلول والوفد ونجحت بحشود المقاومة الشعبية في كل مكان. ومثل ذلك أيضًا «ثورة» ١٩٥٢ التي استندت أيضًا إلى إفرازات الحياة الحزبية المصرية — إيجابية وسلبية. فعلى مدى ثلاثة عقود — الثلاثينيات إلى الخمسينيات — من الصراعات بين الليبرالية والمحافظة والتنظيمات اليمينية واليسارية وشبه اليسارية أصبحت الدعوة إلى تغيير شكل الحكم أمرًا متداولًا ومقبولًا، وبذلك بنيت الأسس الإيديولوجية للتغيير التي وجدت طريقها التنفيذي في صورة تنظيم الثورة العسكري، فتقبلها الناس بشيء من الحذر خاصة في سنتيها الأول.
(١٥-٢) التقسيمات الإدارية لمصر
في غالبية الفترات التاريخية كانت السلطة مقسمة — بنسب مختلفة في كل فترة زمنية — بين مركزية حكومة الحاكم وقوى السلطة الدينية من جانب، وبين أقاليم الدولة بأشكال من تسيير الأمور تختلف قدرًا من إقليم لآخر. صحيح أن هناك سياسات عامة تخضع للمركز كالضرائب العامة أو تجييش الجيوش، لكن فيما عدا ذلك كانت الأمور في الأقاليم هي من شأنها؛ بل إن بعض الأقاليم كانت من القوة بحيث تصبح أقوى من المركز، كما حدث في فترات عديدة من التاريخ الفرعوني أو قوة حكام الصعيد وولاته في العهد العثماني.
- الملاحظة الأولى: أننا نجد أن مسمى حضري وريفي وصحراوي آخذ في فقدان قيمته اللفظية ومحتواه الفعلي؛ نتيجة التطورات العمرانية الآخذة بالاتجاه إلى الصيغة الحضرية في قلب الريف وفي أماكن التركز السكاني السياحي والاصطيافي في غالبية المحافظات الصحراوية، فأي مدينة صغيرة أو كبيرة تعاني من تضخم عددي بمن يزحفون عليها من القرى المجاورة. أين المنيا منذ الخمسينيات من المنيا اليوم التي تمتلئ بالعشوائيات واحتاجت إلى إنشاء منيا جديدة؟ وبني سويف التي كانت ناعسة على النيل استفحل حالها أيضًا مما دعا إلى بناء مدينة جديدة، وكفر الزيات كسرت الطوق وزحفت على القرى المجاورة في كتلة عمرانية تلتحم قريبًا مع الدلجمون المتضخمة وتواجه المسئولين بمشكلات كثافة الحركة والانتقال كأي مدينة متوسطة الحجم. ومثل ذلك كثير ومتكرر بدرجات مختلفة في الدلتا والوادي. والشيء نفسه عن قرى الاصطياف ومراكز السياح في مطروح وسيناء والبحر الأحمر التي تنمي ما حولها من تجمعات صحراوية أصلًا إلى مدن صغيرة تتشكل كمراكز حرف وتجارة وخدمات ومدارس ومراكز صحية وإدارية كالحمام والطور ونويبع والغردقة.
- الملاحظة الثانية الهامة: أن التغيرات التي حدثت في الأقاليم الإدارية عبر التاريخ لم تكن بدون سبب. فهناك أسباب اقتصادية عقارية ومالية — الضرائب بوجه خاص، وأسباب أمنية تدعو إلى تحسين الإدارة وتسهيل أعمال الناس وضبط الأمور سياسيًّا. فعلى سبيل المثال فإن تغيير محمد علي الأقسام الإدارية السابقة إلى مأموريات ثم مديريات كان سبب إنشاء نظام الري الدائم في الدلتا، وما تلى ذلك من تغيرات اقتصادية في المركب المحصولي الزراعي، وإنشاء الصناعات ونشرها في أماكن متعددة من مصر. ومن ثم كان إجراء التغيير في الوحدات الإدارية هو استجابة إلى متطلبات حقيقية للناس والحكم معًا. وبالمثل فإن التغيرات التي حدثت في عهد إسماعيل من تقسيمات داخلية في المديريات كانت أيضًا بسبب تطور طبقات المجتمع الاقتصادية، ودخول رأس المال الأجنبي في الكثير من الأعمال وخاصة بورصة القطن ومصانع الزيوت والنسيج … إلخ.
واليوم فإننا نمر أيضًا بتغيرات جسام في اقتصاديات مصر الزراعية والصناعية والخدمية والتعدينية والمالية تعيد تشكيل المجتمع على أسس جديدة من الإيديولوجيات والسلوكيات بالتناسب مع متغيرات العالم حولنا. وأكبر تغيير هو أن عدد الممارسين للزراعة يكاد أن يجمد عند حد معين يتناسب مع متطلبات الأرض، بينما يتوجه بقية سكان القرية إلى العمل في المدينة القريبة والبعيدة مع بقائهم في بيوتهم في القرية. هؤلاء سكان ريف لكنهم اقتصاديًّا حضريون يتعايشون مع كل أشكال حياة المدينة، ويجلبون معهم إلى القرية بعض أشكال الحضرية. وعلى أية حال فإن هذا الشكل من التغيير وغيره قد أدى إلى أن تزيد معه أعباء الخدمات التعليمية والصحية والضمانات الاجتماعية والأعمال البنكية والاستثمارات في جميع المحافظات بمدنها وقراها … إلخ. مما يؤدي إلى تشابك تراكيب جديدة ومنطلقات حديثة.
والخلاصة متغيرات كثيرة تفور بها مصر بغض النظر عن بعض التهاون والتسيب وجرائم المال والبيروقراطية التي غالبًا ما تظهر على السطح خلال أوقات التغيير والفوران الاجتماعي الاقتصادي، وتنتهي باستقرار الأوضاع على التشكيل المناسب. وبالمثل هناك متغيرات أقوى نتيجة متغيرات العلاقات الاقتصادية والثقافية مع العالم الخارجي تظهر في مصر في عالم الصناعة والشركات المندمجة وعالم الخدمات والصحة والتعليم، كإدخال الكمبيوتر في المدارس والأقوال الكثيرة عن الحكومة الإلكترونية، وكلها مما يساوي إرهاصات تغيير حاد جاد.
وفي مقابل هذه المتغيرات تقف الإدارة المصرية جامدة أمام ضرورة تشكيل إداري جديد مناسب للحياة الجديدة. ما زلنا متمسكين بالمحافظات الحالية، بل ربما تزيد بإنشاء محافظات أخرى، كمطلب البعض إنشاء محافظة بين القاهرة والشرقية تتمحور حول مدينة العاشر من رمضان — أو كما قد يعن قريبًا من فكر لإنشاء محافظة جنوب الوادي الجديد تضم توشكى وشرق العوينات وهضبة الجلف الكبير!
هذا التفتيت إلى كيانات إدارية صغيرة ليس له في الوقت الحاضر ما يبرره. الكيانات الأكبر مساحة وسكانًا هي بالقطع أكثر تلاؤمًا مع متطلبات التنمية، وأكثر اقتصادًا وتوفيرًا في عدد الوظائف والتراكيب الإدارية البيروقراطية. في العقود الأخيرة من القرن الماضي قسمت مصر إلى سبعة أقاليم تخطيطية، كل إقليم يضم عدة محافظات، والغرض منه تنسيق العمل والاقتصاد في رقعة أوسع من المحافظات. لكن هذه الأقاليم لم تجد لها تفعيلًا حتى الآن؛ لعدم تحديد أين تبدأ وتنتهي حدود إدارة الإقليم وحدود إدارة المحافظة بالإضافة إلى نوع ما من التنافس البيروقراطي بين الكوادر والهيئات.
وقد كان هذا متوقعًا؛ لأننا بهذه الأقاليم التخطيطية خلقنا ثنائية إدارية (أمر غير عملي) لتحسين الأداء المجتمعي مع إبقاء الشكل الإداري الراسخ للمحافظات منذ عقود وتتمثل فيه مصالح كثيرة أغلبها بيروقراطية المكاتب. فكأننا أردنا — ربما دون قصد — إيجاد منافسة إدارية بين تنظيمين أحدهما: (الأقاليم) أعلى من الآخر (المحافظة)، أو نتساءل: هل كان المقصود من الأقاليم التخطيطية أن تنجح؟ وربما كان التساؤل أين يذهب التركيب الإداري القائم في ٢٦ محافظة إذا انتهى الأمر بتقليص الوحدات إلى سبعة أو ثمانية أقاليم.
(١٥-٣) الأقاليم الإدارية الكبرى
الأقاليم التخطيطية كانت: القاهرة، الإسكندرية، القنال، الدلتا، شمال الصعيد، أسيوط، جنوب الصعيد، ولكن هناك أوجه سالبة في هذا التقسيم منها ضخامة الدلتا سكانًا واقتصادًا وعمرانًا، وعدم ظهور المناطق الصحراوية في هذه الأقاليم، وتخصيص أسيوط كوحدة دون مبرر. وفي بعض كتاباتي السابقة رجحت أن تكون الأقاليم إدارية وليست تخطيطية فقط — أي إزالة اللبس بين الإقليم والمحافظة، وأن تكون مكونات هذه الأقاليم هي: (١) القاهرة الكبرى: (محافظة القاهرة وشبرا الخيمة ووسط محافظة الجيزة). (٢) إقليم الغرب: (البحيرة بتعديلات، الإسكندرية، مطروح). (٣) إقليم الدلتا: (المنوفية والغربية وكفر الشيخ). (٤) إقليم شرق الدلتا: (الشرقية والدقهلية ودمياط ووسط وشمال القليوبية). (٥) إقليم سينا-السويس: (بورسعيد والإسماعيلية والسويس وسيناء الشمالية والجنوبية وشمال البحر الأحمر حتى قرب الغردقة). (٦) مصر الوسطى: (جنوب الجيزة وبني سويف والفيوم والمنيا وواحتي البحرية والفرافرة وامتداد إلى البحر الأحمر حول الغردقة). (٧) إقليم الصعيد: (أسيوط وسوهاج وقنا وواحتي الخارجة والداخلة وامتداد إلى وسط البحر الأحمر نحوًا من سفاجا والقصير إلى مرسى علم). (٨) إقليم أسوان-الجنوب: (أسوان وجنوب البحر الأحمر من مرسى علم إلى حلايب وشرق العوينات والجلف الكبير).
وسواء خافت المركزية من فقدان سلطاتها فأبقت على تنظيم المحافظات الحالي، أو أخذت خطوة شجاعة بتغير كيانات المحافظات الحالية إلى أقاليم أرحب مساحة وسكانًا وموارد وطاقات تنموية، فإن الأمر في النهاية يوجب على السلطة المركزية تفويض جوانب كثيرة من سلطاتها إلى الأقاليم أو المحافظات من أجل خلق روح عمل ومبادرات محلية تبدأ من الواقع في كل الجهات وعلى كل الأصعدة. فلقد درجنا على أنه لا يبت أمر بدون الوزير، ولما لم يكن في استطاعة أي وزير استطلاع العمل في كل إداراته ووكالات وزارته في ٢٦ محافظة إلا إذا قام برحلات مكوكية دائمة غير معلنة؛ ولهذا ففي الواقع تظل أجزاء كثيرة من العمل في الأقاليم عليها ظلال وحجب تظهر من حين لآخر حين يقوم الوزير بزيارة قد لا تكون مفاجئة — كزيارة وزير التربية الأخيرة لبورسعيد. كما أننا نطالع باستمرار في الصحف القومية مشكلات غالبيتها حيوية في كثير من المحافظات مما يؤكد قصور المركزية عن متابعة كل شيء، إلا إذا تحولت بعض الوظائف إلى عيون ترصد وتبلغ، وهو أمر ممجوج حقًّا إذا تحولنا إلى دولة بوليسية، وإذا استشرى ذلك فإنه سوف يحجم روح المبادأة عند الكثير من المجتهدين الغيورين على الصالح العام فيتوقف عطاء كان يمكن أن يكون مفيدًا للناس أو محقًّا للحق قدر الإمكان.