السياحة كصناعة
(١) السياحة والينابيع الدافئة
في البداية أحب أن أؤكد على أن استخدام كلمة «سياح» لا تعني فقط الأجانب، بل يجب أن يفهم منها أنها تعني أهل البلد والأجانب معًا في تجوالهم. والمعروف أن السياحة الأجنبية تتذبذب لظروف دولية سياسية أو اقتصادية، بينما السياحة الداخلية لا تخضع لمثل هذه المؤثرات بنفس الصورة. اهتمامنا بالسياحة الأجنبية مرده الاهتمام بتحصيل عملات أجنبية وهو ربما مما يقوي اقتصاد بلد ما. لكنه قد ينقطع سنوات ويربك الدولة المعتمدة عليه. أما السياحة الداخلية فهي أكثر استمرارية ودوامًا، وبذلك فهي تولد — جزئيًّا — استمرارية دورة رأس المال داخل الوطن الواحد، وهو شيء هام بالنسبة للاقتصاد الأساسي المحلي. وينطبق هذا المفهوم على مصر وبلاد أوروبية لها شهرتها السياحية العالمية.
في بلاد السياحة الأوروبية يعرف الناس قبل الحكومة ماذا يفعلون. كل فرد أو عائلة أو مؤسسة سياحية تعرف كيف تجتذب السياح — ليس لمرة واحدة تعتصر فيها نقود السائح — بل برفق ونعومة وقليل من السماحة والكياسة لكي يصبح السائح هو نفسه وسيلة الدعاية لمدينة أو فندق أو مطعم، وعلى البلديات المختلفة تأهيل المنطقة السياحية من حيث الطرق ووسيلة الانتقال وتنظيف وتزيين الأماكن، وتسهيل بلوغها والاستمتاع بما فيها من مناظر طبيعية حتى لو كانت صغيرة. وهناك أيضًا ابتكار لمواسم معينة كعيد المدينة أو القرية بموسيقاها وأغانيها المحلية وأشكال الرقص والطرب بالملابس التقليدية وغير ذلك كثير. ماذا تستفيد البلديات من وراء ذلك؟ وضع الأماكن على خريطة السياحة بنشر الكتيبات والخرائط التفصيلية والصور الفنية تبرز جمال نهر أو شلال أو بحيرة أو قمة تل أو جبل. والغرض النهائي أن تتكسب البلدية من ضرائب المبيعات، وأن يتكسب السكان من بيع الهواء والماء وثلاجات الجبال العالية أو شواطئ الرمال النظيفة أو البحيرات المتلألئة وسط الطبيعة الخلابة؛ بإقامة الكثير من أماكن المبيت سواء فنادق أو بنسيونات أو غرف للإيجار مع الأسر والكثير من المطاعم ومشارب الشاي والقهوة ومشروبات أخرى محلية.
الشيء الهام أن الفنادق ليست بالضرورة من ذوات النجوم فكلها نظيفة مريحة للنوم، وبوفيه الإفطار بدون رقيب يحسب كم من الأطعمة والخبز وفناجين الشاي أو القهوة تناولها هذا أو ذاك. كما أن أصحاب سيارات الرحلات يتكسبون من نقل السياح بين الأماكن، أو إذا كانت هناك بحيرة ففيها زوارق تسير بالكهرباء لمنع تلوث المياه بالزيوت ومنع التلوث السمعي وإضفاء لمحات من السكينة وسط بهجة البحيرة وجمال ما يحيط بها. والسياح كل في حاله سواء كبار السن أو الشباب فلا مشاجرات ولا إزعاج بعالي الأصوات. وفي المحصلة النهائية فإن الكل يكسب ويرتفع دخلهم خلال المواسم السياحية ومعه ترتفع ميزانية البلدية مما تحصله من ضرائب مبيعات وضرائب على دخل الأفراد. جانب كبير من الضرائب للبلديات والدولة يذهب لتحسين وتنمية المنطقة وتجديد بنيتها الأساسية وخدماتها الصحية والترفيهية لرفع المستوى لكي يجذب المزيد من الحركة، وهكذا تتنامى دورة رأس المال بين المكان والناس والإدارة والسياح؛ لهذا فالدخول تختلف بين قرية وأخرى حسب الجهد المبذول في الإعلان والدعاية والخدمات الفردية والخدمات العامة. هذه هي حال السياحة في البلاد التي تجتذب ملايين السياح كالنمسا وإيطاليا وسويسرا وإسبانيا. باختصار السياح ليسوا لقمة موسم يحلفون بعده ألا رجعة لهذا المكان أو البلد، بل جذب برقة المعاملة وحسن الخدمات وسرعة الإسعاف، فالسائح إنسان معرض لحوادث المغامرة في بيئة المصيف والمشتى.
وسأختار هنا نموذج من عنصر واحد من عناصر الطبيعة لنرى كيف تنبني فوق هذا العنصر إبداعات فن الإعلان وفنون الخدمات التي تتراص فوق بعضها مما يعطي أكبر فائدة ممكنة لهذا العنصر الطبيعي الواحد — فما بالك إذا ساندته عدة عناصر أخرى من الطبيعة ومن طبيعة البشر الحلوة. هذا العنصر هو مياه الينابيع ذات الشهرة العلاجية.
فإعلانات السياحة في النمسا أو سلوفاكيا — على سبيل المثال — تروج — من بين أشياء أخرى — للمياه التي تحتوي على مواد أو غازات يقولون: إنها شافية لأمراض معينة. وعلى الفور تنشأ معها حمامات الساونا والعلاج الطبيعي اليدوي والآلي، ويكثر معها ذوي الملابس البيضاء سواء كانوا أطباء أو ممارسين للعلاج، ومعها تكثر المطاعم التي تقدم أطعمة صحية يوصى بها الأطباء، وخاصة الخضروات المزروعة بالطرق البيولوجية — بدون أسمدة كيمائية، وأخيرًا يستفيد من كل ذلك إشغالات عالية للفنادق وازدهار عام لأنواع المقاهي والأشربة ورحلات المشي الحثيث إلى الصمت الذي يلف غابات الشربين والصنوبر إلا من النسيم الذي يغني بين الأغصان. هذا عنصر واحد ينبني عليه هرم مقلوب أو مظلة ساقها هذا العنصر الطبيعي الواحد يتفرع عليه كل هذه الأغصان من الوظائف والخدمات وأنشطة الناس ويرتاح إليه السياح؛ لأنهم يحسون إجازة حقيقية بعيدة عن روتين الحياة ووقعها العادي، ويشعرون بنوع من الشفاء ليس لأن هناك سحر؛ بل لأن دوام العلاج الطبيعي أسبوعًا أو أسبوعين سوف تكون له نتائج مثمرة على الأبدان تتنامى إلى مشاعر النفس المرتاحة.
العالم مليء بينابيع للمياه الجوفية لكل خصائص معدنية في محتواها كالكبريت أو أملاح مختلفة، لكن الشيء الهام هو كيف تسوق ما عندك من مثل هذه المصادر الطبيعية؟
ماذا عن مصر؟!
لن أكرر ما نعرفه جميعًا عن الكثير مما تغص به مصر من عناصر طبيعية وتاريخية وبشرية التي تجذب السياح إليه. لكن للأسف فإن كثيرًا من مثل هذه الينابيع السياحية للأجانب والمصريين ما زالت خبيئة عن المعرفة أو أن المعلومات عنها باهتة والوصول إليها يشق على الكثيرين. وربما أكتب عن هذه الأشياء لاحقًا.
وموضوعنا اليوم يدور حول جانب ليس براقًا للسياحة والارتحال المحلي والمعلومات عنه ناقصة، والتمهيد إلى زيارته والإقامة فيه والاستفادة منه صحيًّا ونفسيًّا غير متاحة لغالبية الناس. ففي مصر كثير من الينابيع التي تحمل مياهها مكونات معدنية خاصة. وفي القاهرة ذاتها كان لدينا منطقتان عاملتان — حسب معرفتي، إحداهما: غرب الإمام الشافعي وتسمى عين الصيرة وكان طينها يساعد بصورة أو بأخرى على شفاء بعض الأمراض الجلدية. ومنذ نحو نصف قرن كان هناك مغطس لهذه المياه الحارة وأبنية بسيطة للمستشفين في هذه العين، يعمل فيها عدد من الممارسين التقليديين لوضع الطين على الجسد ساعة زمن ثم المغطس وبعده «التكييس» — استخدام قفاز خشن لفرك الجلد، ثم التدليك أو بلغة العصر «المساج». أين ذهبت؟ وهل البحيرة الصغيرة التي أنشأتها المحافظة الآن هي نفس العين القديمة بمواصفات أحدث. إذا كان الأمر كذلك فهل أقيمت معها أبنية حديثة تقدم فيها خدمات حديثة شبه طبية وعلاج طبيعي؟ هل كان التجميل المكاني هو الهدف الوحيد لعين الصيرة، أم لماذا لا نستعيد الوظيفة العلاجية الطبية وعين الصيرة أصبحت قريبة المنال بعد أن كانت نائية؟!
والعين الثانية: كانت في شمال حلوان كانت هناك عين حلوان الكبريتية التي أُنشِئ عليها في الأربعينيات فندق يعرفه من يرى بعض الأفلام المصرية القديمة. أين ذهب فندق كبريتاج، وأين الخدمات الطبية التي كانت في المنطقة؟ فقد كانت حلوان منذ قرون ذات شهرة طويلة بجوها اللطيف قياسًا بالقاهرة القديمة، وبمياهها المعدنية التي تحتوي على إيدروجين وكبريتات صوديوم ومغنسيوم وبوتاسيوم وغير ذلك، وتصلح لعلاج أنواع من الروماتيزم والتهاب المفاصل وأمراض التنفس والجلد … إلخ. وفي أوائل القرن اتخذت مقرًا لمرصد حلوان الشهير، وكذلك مقار للعلاج وخاصة للاضطرابات النفسية — مستشفى بهمان، وحديقتها اليابانية كانت مقصدًا للترفيه والتريض العائلي الهادئ. لكن التنمية الصناعية والنمو السكني قد أتى على محاسن حلوان فطمسها، وربما ذهبت معه عين حلوان الكبريتية أدراج الرياح برغم كونها أيضًا قريبة المنال ولا تستدعي ترحالًا كما كان حال الزمان الماضي!
ولعل الأشهر أنها المكان الذي ابتكر فيه (نحو ١٥٠٠ق.م) أول أبجدية معروفة عالميًّا باسم الخط السينائي الذي يتكون من ٢٢ حرفًا هي في أساسها رموز مبسطة للمقطع أو الحرف الأول للكلمات والصور الهيروغليفية، ومن هذه الأبجدية نشأت فيما بعد الكتابة الفينيقية وهي بدورها أصل الإغريقية والأبجديات الأوروبية، وكذلك كانت أصل الأبجدية الأرامية التي تولدت عنها الكتابة النبطية التي هي أصل الكتابة العربية! ما هذا الإبهار في الثروة الأثرية لسيناء ملتقى مصر والعالم الأورو-آسيوي!
هل ستكون هناك محال وبوتيكات صغيرة للحرف والأشغال اليدوية من كل سيناء وأحجار خام من الفيروز وتشكيلات من الحفر على صخور أخرى؟ الخلاصة: أنه يمكن بناء هرم متكامل من الأنشطة تعتمد في أساسها على مياه عين فرعون الدافقة، وتحيل المنطقة إلى حركة متعددة تجذب السياحة الداخلية والخارجية معًا.
وفي شمال مدينة الطور مباشرة عين موسى التي اهتمت المحافظة بها ولا أعرف عن فوائدها الشيء الكثير، ولعل في جنوب سيناء ينابيع أخرى. ولكن لو كانت الينابيع المحققة هي فرعون وموسى — لاحظ تناقض الشخصيتان يجمعهما المكان عبر الزمان! فأين الدعاية العلمية في منشورات موجزة التي يظهر فيها تحليل هذه المياه وفوائدها الصحية والخدمات السكنية — بما فيها مخيم للسيارات «كامب»، والهيئة الطبية المشرفة على الصحة العامة والعلاج الطبيعي؟
وفي الصحراء الغربية الشاسعة هناك ينابيع دافئة كثيرة في الواحات الكبرى وخاصة سيوة والبحرية والداخلة.
وفي الواحة الداخلة عدة عيون حارة كبريتية ومعدنية (٣٠–٤٠ درجة) حول مدينة موط أشهرها «موط ثلاثة» على بعد ٣ كيلومتر شمال المدينة، بني عليها حوض مستدير بعمق متر ونصف ومياهه ضاربة إلى اللون الوردي، أقام عليها مستثمرون من فندق «بيونير» في الواحة الخارجة ستة شاليهات وثلاث خيام وفيلا من خمس غرف ومطعم — مغالًى في أسعاره، وفي شمال الواحة عين الجبل على مبعدة ٢٥ كيلومتر من موط لكنها غير مستغلة سياحيًّا بالمعنى المفهوم.
وفي واحة سيوة مجموعة من العيون الحارة والباردة من أشهرها داخل أدغال النخيل المترامية عبن كليوباترا، بني حولها كافتريا وغرف لخلع الملابس ولكن شهرتها الأصلية ترجع إلى أهمية زيارتها للعروسين صبيحة الزفاف. وعين فاطناس للمياه العذبة داخل واحة ظليلة في جزيرة صغيرة وسط بحيرة سيوة المالحة المياه. ويوجد بالجزيرة مقهى صغير للشاي والشيشة على موائد وكنبات بيئية تحت النخيل وأمام البحيرة الواسعة. وربما كان «بير واحد» أنظف الآبار الحارة على بعد نحو أكثر من عشرة كيلومترات جنوب منخفض الواحة وعلى الأطراف الشمالية لبحر الرمال العظيم. هنا واحة صغيرة لكن الكثبان وراء الكثبان تسيطر على المنظر وتجعل له مذاقًا خاصًّا بعيدًا عن أدغال النخيل السيوية. ونظرًا لموقعه فإنه يحتاج إلى سيارة ذات دفع رباعي للوصول إليه. ولا يوجد به سوى شاي وشيشة وعلى راغبي المبيت إحضار الغذاء والماء. وفي شرق الواحة (٢٣ كيلو) عين كبيرة تسمى عين قريشات مياهها نظيفة وعمقها نحو ثلاثة أمتار، وإلى شرقها (١٥كيلو منها) «عين صافي» وهي آخر المعمور السيوي في اتجاه طريق البحرية، وفي المنطقة وجدت عشرات المقابر التي تعود إلى العصر الروماني. أما في داخل الواحة فهناك عشرات العيون الطبيعية التي تستخدم مياهها لري حقول النخيل الشاسعة، وشرب سكان القرى والمستوطنات المختلفة التي من أشهرها قرية أغورمي حيث يوجد معبد النبوءة الذي زاره الإسكندر الأكبر وبالقرب منه بقايا معبد آمون. وفي سيوة عدد كبير من الفنادق معظمها صغير، وكلها تخدم حركة السياحة الأجنبية التي تتكامل مع الآثار وغرابة أدغال النخيل الشاسعة والبحيرات المالحة إلى جوار العيون العذبة والقرى القديمة والخدمات الحديثة، مما يجعلها أكثر الواحات المصرية تكاملًا، لكن ينقصها كثيرًا السياحة الداخلية في هذه الواحة الأسطورية. وبوجه عام تحويل هذه المصادر الطبيعية إلى مزارات للسياحة الداخلية والخارجية على أن تتكامل خدمات صحية وترفيهية وحياتية من أجل معرفة أحسن بالمعمور المصري النائي وتنميته.
(٢) ماذا نحتاج لتصحيح مسار السياحة؟
في مقال سابق تكلمت على أحد الموارد السياحية المصرية غير المعتنى بها وهي العيون والينابيع الدافئة، وأن الاهتمام بها سيكون أحد منشطات السياحة باعتبار أن الأمور الصحية هي واحدة من أهم الدوافع لدى الأفراد لتصور الشفاء من بعض متاعب الأبدان.
ومرة أخرى أؤكد أن السياحة مقصود بها السياحة الأجنبية والمحلية معًا. بل ربما تكون سياحة المصريين أكثر ثباتًا في تدعيم وبقاء صناعة السياحة من سياحة الأجانب التي تتأثر بعناصر كثيرة من الأمن والاضطراب السياسي المحلي والإقليمي والدولي.
مصر — شأنها شأن كثير من الدول السياحية — تتمتع بمصادر تاريخية وأثرية ربما تفوق غيرها في صورة المتاحف المفتوحة كالأبنية العملاقة التي تحكي عظمة الهندسة الموغلة في القدم، والمتمثلة في أهرامات مصر من الجيزة إلى منف — سقارة ودهشور واللاهون، ومنطقة الأقصر بمعابدها ومقابرها التي لا نظير لها في العالم، والقاهرة الفاطمية المملوكية بإبداعاتها الإسلامية الرائعة. وتتشابه مصر مع غيرها في أشكال من السياحة الدينية وخاصة الكنائس والأديرة القبطية ذات الشهرة في وادي النطرون ومنطقة الزعفرانة وكنائس مصر القديمة، فضلًا عن رحلة السيد المسيح إلى مصر والأماكن العديدة التي زارها هي معالم تاريخية في غاية الأهمية. وكذلك الموالد المرتبطة بممارسات طقسية للأولياء والقديسين والقديسات، كمولد السيد البدوي وعبد الرحيم القنائي والسيدة زينب وسيدنا الحسين وسانت تريزا وغيرهم كثير.
ومصر تتمتع بالجو صافي الأديم معظم السنة وإن كان حارًّا نصف العام، لكنه مقبول في النصف الآخر، وكلاهما يسمح بحركة الناس الاصطيافية على البحر المتوسط والشتوية إلى البحر الأحمر وجنوب الوادي في أسوان والأقصر وفي الواحات. فالمناخ الجاف غالب السنة هو مورد آخر درجنا علي استخدامه ونحتاج إلى مزيد من تنظيمه، كأن يكون لمؤسسات سياحية وفندقية ازدواجية تخطيطية ومشاركة فعلية في مشآت المصايف والمشاتي معًا.
في مصر لكي نفهم ونخطط لحركة السياحة بوجهيها الداخلي والخارجي نحتاج أشياء كثيرة لكي تكون الصورة أوضح لدى الجميع من وزارة السياحة إلى المؤسسات السياحية، وإلى ملاك المنشآت السياحية ووسائل الانتقال العامة من الطائرة إلى الأوتوبيس السياحي إلى تحسين الطرق وعلامات الإرشاد، وأخيرًا لدى الناس كي يعرفوا أين يذهبون لقضاء إجازاتهم سواء الأسبوعية أو الصيفية أو الشتوية.
ولكن هناك من يقول: إن مثل تلك الحركة من الإشغالات تكاد تبقي على الفنادق والعاملين بها دون أن تغلق أبوابها — وهو قول جدلي على أي حال. فلو كانت الدعوة الإعلامية موجهة بنفس القوة إلى السياحة الداخلية وبأسعار معقولة لما كان هذا التكالب على فتات السياحة الأجنبية الحالية. هذا مع العلم بأن التناقص والتذبذب في سعر الصرف للجنيه المصري مقابل العملات الأجنبية وبخاصة اليورو والدولار يؤدي إلى مزيد من تناقص أسعار الرحلات الشاملة لكي تكسب المزيد من تلك الرحلات، ومن ثم تتناقص مكاسب الفنادق وأرباح جميع النشاطات السياحية الأخرى من المطاعم وأنشطة البحر ورياضاته ومحلات بيع السلع السياحية ورواتب العاملين وأشياء أخرى.
وفضلًا عن ذلك فإن بعضًا ليس بالقليل من الرحلات السياحة إلى مصر — وبخاصة قبل الاضطرابات في الشرق الأوسط من الغزو الأمريكي إلى العنف الإسرائيلي — كانت بعض الرحلات إلى سيناء تدمج في رحلات إلى إسرائيل وسيناء بواسطة الشركات السياحية الإسرائيلية معًا، مما يؤدي إلى تدني نصيب الفنادق المصرية في طابا ونويبع وشرم الشيخ من هذه السياحة، مقابل النصيب الأوفر لشركات السياحة الإسرائيلية التي هي بصورة أو أخرى أقوى وأكثر إعلامًا من الشركات المصرية التي تدخل السوق الخارجي وجلة وغالبًا من خلال مؤسسات السياحة الحكومية المصرية في مكاتبها الخارجية، أو من خلال مكاتب السياحة وشركات الطيران الأجنبية في الدول المختلفة كوسطاء محليين في مصر.
ليس الغرض مجرد النقد، ولكنه موجه كحافز للمسئولين في الوزارات والشركات المعنية وفي قطاع السياحة الخاص، من أجل توجيه جهد أكبر إلى السياحة المصرية الداخلية بحيث لا تكون اقتصاديات مراكزنا السياحية في قبضة السياحة الأجنبية فقط. هناك إسراف في الفنادق عالية النجوم في خليج العقبة والبحر الأحمر وهو ما قد يكون أبعد عن منال غالبية المصريين ماليًّا، ومن ثم فقد حان الوقت أن يتجه الفكر السياحي إلى فنادق متوسطة على أن تراعى كل شروط النظافة وحسن استقبال النزلاء والاهتمام بإقامتهم وخدمتهم، كما تفعل الفنادق الأعلى رتبة من حيث الكيف. وأن تشجع المؤسسات السياحية على إنشاء بنسيونات وغرف عائلية على المستوى المطلوب من الشروط السابقة ولكن على منسوب صغير متناسب مع عدد الغرف وعدد الأسرة. ومعلومات المسئولين مؤكدة عن نجاح مثل هذه الأماكن الصغيرة التي تستقبل أعدادًا كبيرة من السياح، فإنها حقًّا تمثل اللبنة الأساسية في السياحة في النمسا وإيطاليا وإسبانيا على سبيل المثال؛ لأنها في متناول كثير من فئات الناس والعائلات ذات الدخل المحدود، فضلًا عن أنه ليس في استطاعة الفنادق متعددة النجوم أن تستوعب ملايين السياح، بل وربما لا ترحب بكل طبقات السياح.
وليس من الضروري أن تكون المراكز السياحية ذات الأسعار المقبولة — فنادق وبنسيونات — في ذات الأماكن الحالية للفنادق الرفيعة. فالسواحل المصرية الملائمة للسياحة تمتد مئات الكيلومترات على البحار المصرية. فلا داعي للتزاحم في خليج نعمة مثلًا، بل هناك داخل منطقة الشرم أماكن أخرى تدعو إلى الاستثمار المتوسط. وفي نبق ودهب وشمال نويبع حتى طابا عشرات الأماكن التي يمكن أن تبدأ — وتستمر — بكبائن وعشش «كيب» بيئية ومركز خدمات يقدم كل التسهيلات المناسبة للنزلاء — ومثل هذا كان ناجحًا في رأس البر على سبيل المثال. مع الإعلان الصحيح يمكن لهذه الأماكن أن تجذب الناس ويمكن أن تنمو خدماتها وتجذب المزيد من النجاح، ولكن بشرط ألا تهدم مقوماتها لتبني بدلها فنادق النجوم المتعددة. وبالمثل هناك عشرات الأماكن تحت الإنشاء بطول ساحل البحر الأحمر نرجو ألا تكون على شاكلة الغردقة والجونة وخليج مكادي ومرسى علم. فقد شبع الناس من القرى السياحية الضخمة التي تبلغ أسعارها عنان السماء بالنسبة لغالبية المصريين. وشبع الناس في الغردقة حرمانهم من البحر بعد أن تم تخصيص كل الشواطئ لتلك القرى والفنادق الرفيعة المستوى. ومثل هذا يمارس الآن في منتجعات العين السخنة الجديدة، فهل يمكن ممارسة السياحة المتوسطة جزئيًّا في بعض المنتجعات الجديدة، مثلًا في مرسى علم أو شلاتين أو القصير وسفاجا؟
سفاجا بالذات تحتاج منشآت كثيرة متوسطة: سواء فنادق أو بنسيونات أو شقق صغيرة «استوديو» لخدمة الحركة في الميناء، سواء كانت الحركة التجارية العادية أو حركة العبارات لعشرات آلاف المصريين العاملين في الخارج والسعودية، وآلاف المعتمرين والحجاج في مواسم متعددة تغطي شهورًا طويلة من السنة. ومثل ذلك تمامًا نويبع التي تتعرض سنويًّا لتزاحم غير إنساني للعابرين والحجاج، وتصريحات كثيرة من المسئولين سنويًّا بصلاح الحال العام التالي دون فعل حقيقي، الحل هنا ليس فقط بيد الجهاز الإداري المصري في الميناء، وليس فقط بيد شركات السياحة التي يمكن وصف بعضها بابتزاز رغبات الذين يتوقون إلى إشباع مشاعرهم الدينية … لكنه أيضًا نتيجة إحجام الفندقة المتوسطة عن تقديم الخدمة الضرورية للمسافرين، وفي ذات الوقت إحجام المسافرين — بل وبخل بعضهم — عن السفر يومًا أو يومين قبل مواعيد العبارات للراحة والاستمتاع كجزء من سفرتهم الطويلة من مصر إلى الخليج أو الحجاز.
عنصر آخر من أوجه النقص في السياحة إجمالًا والسياحة الداخلية بوجه خاص هو النقص الذي يجب أن نلام عليه جميعًا في موضوعين؛ أولهما: القلة الواضحة في الكتب الموجهة لغير المتخصصين عن آثارنا وجغرافية بلادنا ومواردنا السياحية في المليون كيلومتر مربع التي تحتلها بلادنا، والموضوع الثاني: النقص الذي لا مبرر له في الخرائط السياحية للمدن والأقاليم المصرية.
الموضوع الأول: نقص الكتب
نعم لدينا كتب بالعربية لكنها موجهة للمتخصصين في الآثار الفرعونية والإسلامية، ولدينا كتب بحثية نشرتها مجالس خاصة كالمجلس الأعلى للآثار أو الثقافة عن سيناء أو الصحراء الغربية في صورة موسوعات جيدة، لكنها أيضًا متخصصة ومعلوماتها قديمة غير متجددة. ولدينا بعض مجلات مثل «القاهرة اليوم» تصدر بالإنجليزية ولا تشفي الغليل العام.
المطلوب كتب موجهة للعامة غير المتخصصة عن مصر: جغرافيتها وتاريخها وآثارها وسواحلها الشتوية والصيفية وأنواع الفنادق والمطاعم والرحلات الداخلية في المنطقة كرحلة إلى سيوة من مطروح، أو رحلة إلى معابد دندره وإدفو وأبيدوس من الأقصر، أو رحلة إلى أبو سمبل ومشروع توشكى والواحات الصغيرة حول أسوان، أو رحلة سانت كترين من نويبع أو دهب أو شرم الشيخ، ورحلة من أسيوط أو الفيوم إلى الواحات الخارجة والبحرية وما يليهما من واحات، ناهيك عن رحلات حول القاهرة إلى القناة أو وادي النطرون، ومن الإسكندرية إلى رشيد ومزارع جناكليس على سبيل المثال … إلخ. ويجب أن يتضمن الكتاب متوسط أسعار الإقامة في مناطق الزيارات الرئيسية، ويعدد رحلات السفاري بالجمال، أو سيارات الدفع الرباعي عبر الصحراء الشرقية من الغردقة أو مرسى علم أو برنيس إلى أسوان، وبحيرة ناصر ومزار الشيخ الشاذلي ومناجم الذهب والنحاس الفرعونية ومحاجر أنواع من الجرانيت أو السماقي الإمبراطوري «بروفير» في جبال غربي الغردقة. ورحلات سفاري أخرى من الخارجة على طول درب الأربعين التاريخي وإلى أبو سمبل، أو من الداخلة إلى هضبة الجلف الكبير والأودية الجافة العديدة والمظاهر الطبوغرافية التي يشبهها العلماء بأنها أقرب ما تكون إلى مظاهر سطح المريخ! أو رحلات من واحة الفرافرة وسيوة إلى أطراف بحر الرمال العظيم … إلخ. ورحلات البحر الشاطئية، وإجراء سباقات لليخوت والشراع من الإسكندرية إلى مطروح أو السلوم أو العريش، ومن الغردقة إلى شرم الشيخ أو مجموعة جزر جوبال وشدوان — شاكر — والجفتون أو إلى مرسى علم وحلايب وجزيرة الزبرجد أو جزيرة وادي الجمال. مناطق السياحة وأشكال الحركة إليها لا تعد ولا تحصى إذا تنبه لها أي مستثمر كبير أو صغير فهو قادر على تركيز الحركة إلى مكان يحدثه ويضيف له مراقد الراحة في مخيم أو عشش بيئية أو مطاعم ومشارب ذات مزاج وطعم خاص مع سهرات ليلية فولكلورية — يستطيع أن يقيم ذلك أو أحسن في أي مكان من مصر في الواحات وعلى شواطئ البحر الأحمر والمتوسط، وفي سيناء الجبال، وفي الأقصر غرب، وأسوان شرق وغرب، وفي بورسعيد والسويس، وفي رأس البر أو مصب فرع رشيد، وفي العريش ومرسى مطروح ومئات الأماكن الأخرى — الشيء المهم أن يمتلك موهبة خيال يمكن إيجاده على أرض الواقع.
النمسا تبيع جبالها وبحيراتها، وإيطاليا تبيع سواحلها وبحارها صيفًا، وتونس تبيع جزيرة جربا ونحن نبيع البحر الأحمر شتاء، ولكن شتان بين عشرات الملايين من السياحة الداخلية والخارجية في أوروبا وبين أعداد السياح الأجانب والمصريين في مصر. نحن حقًّا في حاجة إلى كتب متعددة غير متخصصة موضحة بالخرائط والصور من أجل السياحة العربية والسياحة المصرية معًا. قد نبدأ بكتاب ليس بالضرورة من منشورات الحكومة كالهيئة العامة للكتاب، بل يستحسن أن تتبنى إحدى دور النشر الصحفية وغير الصحفية استكتاب المؤلفين والخبراء على أن تنشر إصدارات أخرى لنفس الكتاب مرة كل سنتين لإضافة الجديد من معالم سياحية وطرق ووسائل انتقال جديدة وغير ذلك من الأمور. ومثل هذا الكتاب لا يصادر على نشر كتب أخرى في ذات المجال وسيظل الحكم للجمهور أيضًا يفضل ويختار. وبالمثل يمكن نشر كتب عن أحياء مختارة من القاهرة والإسكندرية ذات طابع متميز في العمران والترفيه والسياحة، مثل حارات الدرب الأحمر والجمالية وتاريخ وقصص ناسها القدامى ونوادرهم.
إن معلومات عامة الناس عن التاريخ المصري الطويل ضعيفة وغير صحيحة سواء عن العصور الفرعونية أو الهلينية والرومانية والفاطمية والمملوكية والعثمانية، بل هناك خلط في تسلسل أسرة محمد علي رغم قربها الزمني منا! إنه حقًّا شيء مؤسف أن نكون أطول أمة في تاريخ متصل الحلقات مدون على الحجر والبردي والورق، ومع ذلك فمعرفة أبناء مصر بها معرفة ضئيلة وضبابية!
والموضوع الثاني: نقص الخرائط السياحية
هو النقص الذي لا مزيد عليه من خرائط مصر وخرائط المدن المصرية. لقد كانت مصلحة المساحة المصرية تصدر خرائط كثيرة عن مصر وعن القاهرة بمقاييس رسم كبيرة وصغيرة. وتبعها في ذلك المساحة العسكرية. ولكن أحدًا منها لم يواكب احتياجات الناس إلى خرائط مطوية تفصيلية تكون في متناول يد الناس يتداولونها حينما يسافرون بدلًا من اللوحات التي تطبع عليها هذه الخرائط ولا تصلح إلا للقراءة على المكاتب. وفي بعض البلاد كالنمسا وألمانيا التي أعرفها جيدًا مثل هذه الخرائط المطوية مصحوبة بدليل أو كشاف لأسماء الشوارع والحارات وخطوط الأوتوبيس والترام والمترو وأرقامها وعلامات على وجود محطاتها، بحيث يتعرف الإنسان على موقع الشارع المقصود ورقم المواصلة التي يركبها. بل إن بعض هذه الخرائط تكتب بعض أرقام البيوت لكي يعرف الفرد أين ينزل في شارع طويل: في وسطه أو آخره أم أوله! وكثير من أفراد الشرطة يحملون معهم، مثل هذا الكشاف لأسماء شوارع المدينة التي يخدمون فيها ليدل التائه إلى مقصده إذا سُئل. قد نَحْتَجُّ أن بعض الشرطة لا يقرءُون. وهذا صحيح ولكن لماذا يصبحون جنود شرطة؟
وعلى أية حال فبرغم أنني أطلب ذلك فإنني أعتقد صعوبة تحقيقه في مدينة كبيرة كالقاهرة التي تفتقر حتى الآن إلى دليل تلفونات محدث سنويًّا! فيا للأسف رغم أن هيئة التلفونات ليست فقيرة، وتتقاضى أموالها من المشتركين أربع مرات في السنة. وفي بلاد العالم الأخرى تدفع التلفونات مرة في السنة وبواسطة تجهيزات كومبيوتر تغني الناس عن طوابير المرات الأربعة في مصر. أسوق التلفون كأحد رموز الخدمة السياحية فإذا كان على السائح أن يبحث عن رقم معين، فكيف يفعل مع عدم وجود دليل سنوي يغنيه شر سؤال الاستعلامات التي تقع تحت ضغوط هائلة بعد أن يسمع مرات عديدة طلب الرسالة المسجلة أن يعيد الاتصال مرة أخرى لأن جميع الخطوط مشغولة! لن أتجاسر على الأمل أن تكون هناك تجهيزات كمبيوترية للشوارع والفنادق والمواصلات والأجور … إلخ، في بعض المدن متاحة للجميع!
إذا أردنا الحياة على مستوى يزداد تحسنًا فإن علينا أن نعرف أن علاقات الحياة والأنشطة الاقتصادية متداخلة متفاعلة، فإذا تكلمنا اليوم عن السياحة فهي ليست جزيرة منعزلة عن غيرها بل إن العناصر والمواضيع تجر بعضها بعضًا، وإن تحسين السياحة جزء من تحسين الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية السياسية في مصر وأي بلد في العالم.
(٣) السفاري ريادة الصحاري والجبال
دروب السفاري كثيرة
وهناك طرق سفاري قصيرة وأخرى طويلة. سيناء الجنوبية مليئة بالسفاري القصيرة لمائة كيلومتر — تزيد أو تقل — تخرج من شرم ودهب وغيرهما إلى أقدام الكتلة الجبلية الشماء في سانت كترين، وفي البحر الأحمر سفاري أطول أو أقصر مثل الذهاب إلى دير الأنبا بولس أو الأنبا أنطوان، أو الشيخ الشاذلي، وسفاري طويلة عبر الجبال غربي الغردقة أو من القصير إلى الأقصر ومن مرسى علم إلى وادي الجمال أو إلى النيل عند إدفو أو كوم أمبو، أو عبر وادي العلاقي إلى أسوان وبحيرة السد العالي.
أما الصحراء الغربية فهي مليئة بكل أشكال السفاري من الشمال والجنوب والشرق والغرب وكل زوايا البوصلة الأرضية. فمن مطروح إلى سيوة والبحرية والفرافرة والداخلة والخارجة والأقصر خط معروف ممتد مئات الكيلومترات مطروق للسياحة وبخاصة السياحة الألمانية، أو من الخارجة جنوبًا إلى باريس ودوش وشرق العوينات وتوشكى وأبو سمبل، أو من الداخلة إلى أبو بلاص والجلف الكبير ووادي عبد الملك ووادي مصورات ومسننات جبل العوينات وفوهات ضخام ناجمة عن ارتطام النيازك وربما المذنبات الفضائية من ملايين السنين، أو بالأمس القريب في رمال الصحراء عند أركنو، أو من الداخلة والخارجة إلى أسيوط، ومن الداخلة إلى غرب الموهوب وأبو منقار وجنوب بحر الرمال الكبير حيث الجفاف على ظهور الحيتان الرملية يمتص رطوبة كل شيء بما فيه هبة ريح تاركًا أي كائن بيولوجي جلد على عظم! أو من سيوة جنوبًا إلى أطراف بحر الرمال الشمالية، أو من الفرافرة إلى عين ضاله أو داله إلى وسط بحر الرمال أو إلى الصحراء البيضاء والصحراء السوداء في الرحلة ما بين الفرافرة والبحرية، أو من البحرية إلى الفيوم والريان ومنها إلى البهنسا أو من قارون إلى منخفض القطارة الهائل ومن ثم إلى الساحل عند ميدان المعارك الكبيرة في العلمين، أو تنتقل من واحة سيوة العامرة إلى واحة قارة أم الصغير المنعزلة التي كانت تائهة في عالم من النسيان والأحلام، أو تطرق دروب التهريب من سيوة وجنوب السلوم إلى واحة جغبوب وعالم ليبيا والسنوسية، أو تحاذي في أحيان غرد أبو محرك ذلك الكثيب الطولي الذي يمتد ٥٠٠ كيلومتر من شمال البحرية إلى الخارجة ونيل النوبة القديم … ودروب ودروب بعضها مرصوف ومعظمها دقته الأقدام في رحلات آلاف السنين …
أطياف وأحلام على أرض الواقع
هذه هي أراض الأحلام للسياح — الأرض الغريبة بما فيها من رمل وحجر وحرارة تلهب الرءوس، وجفاف يعتصر رطوبة الوجه والجسم، وبرودة منعشة في ليالٍ مقمرة، وطعام جاف وشربة ماء مقننة. وربما يتوه الفكر في ظلمة ليل يلفه عالم غير مرئي مليء بالسحر والسحرة والعفاريت والجن النادر من ضحكات ضبع تائه وتغريد طير على شفى الموت … هذا هو العالم الذي جاءوا من أجله، فقد أصابهم الملل من حياتهم النمطية المتكررة، وأحبطتهم بيئتهم المدنية النظيفة، وقواعد الآداب والسلوك حتى اختنقوا داخل أسوار غير مرئية لا يفكرون إلا من خلالها ولا ينظرون إلا من فتحات ضيقة، بينما هنا في أحضان بكر الأرض هم أحرار بكل المعنى، تتفتح أذهانهم على مبادآت وتعن لهم فلسفات وينظرون للعالم من خلال فضاء لا نهائي يتسع لكل شيء ولكل دقة في القلوب؛ عالم مسحور، تحول ترانسندتالي، جسم بلا جاذبية أرضية، مادة بلا أوزان، هباءة تسبح مع هبات ريح فوق أديم لا أرضي من صنع لحظة خيال فوقية …
هؤلاء سياح من نوع آخر نرجو أن نستقطبهم ليس في فنادق النجوم الكثيرة بل في فنادق الطبيعة تحت قبة السماء، والمطلوب تجهيزات شديدة البساطة أهمها قليل من الماء وكثير من مضادات القرص والسموم في محطات معروفة، فليس بعدك يا روح برغم التحولات الترانسندنتالية روح!
هؤلاء حين يعودون مفعمين بالتجربة النادرة هم سيكونون أكثر الدعاة حماسًا لمثل هذه الرحلات إلى مصر السفاري ومصر التاريخ ومصر الطبيعة أكثر من شركات ومكاتب السياحة. عرفت شبابًا في ألمانيا والنمسا يذهبون إلى مملكة نبال؛ لأنها جبال وحشية وناس مختلفي النزعة والديانة وتكريم للسياح ومصداقين لبرامجهم المعلنة سواء بالنسبة للفنادق أو الزيارات. ولو كانت هناك أوراق تصف السياحة والسفاري المصرية على أنها تجربة متعة طبيعية روحية معًا لوجدنا نتائج أفضل، ويزيد الفضل لو كانت مصداقية مكاتب السياحة المصرية عالية يحكى عنها على أنها نموذج طيب للمعاملة غير مقصر في تنفيذ برامجه المعلنة. وبعد فإن السفاري هي جزء من كل في صناعة السياحة، والتحسن في فرع من السياحة سوف يؤدي إلى سمعة طيبة تساعد على نمو موازٍ في فروع أخرى، مثل السياحة العلاجية أو غيرها مما يتفتق عنه فكر الرواد في المجالات السياحية.
أرقام جامدة
وللمقارنة نجد أنه في ٢٠٠٤ بلغ عدد السياح إلى مصر ٥٫٧ ملايين سائح أنفقوا نحو ٦٫٣ مليارات دولار، في مقابل ١٧ مليون سائح في تركيا ومدخول سياحي ٧٫٦ مليارات دولار. فرنسا أكبر دولة تستقبل السياح في تلك السنة حيث بلغ العدد ٧٥ مليون سائح ومدخول نحو ٣١ مليار دولار، وإسبانيا ٥٣ مليون سائح ومدخول ٥١ مليار دولار، وإيطاليا ٣٧ مليون سائح ومدخول ٣٨ مليار دولار. وبرغم أرقام السياحة ومدخولاتها إلى مصر فهي في المرتبة اﻟ ٣٠ من حيث عدد السائحين، وهي في المرتبة ٢٥ من حيث الدخل السياحي. كما أن هذا الدخل يساوي ٥٪ من الناتج المحلي العام لمصر عام ٢٠٠٤ والبالغ ٧٨٫٨ مليار دولار وعلى الأغلب هو أعلى قليل من صادرات النفط والغاز المصرية. فهل نأمل في زيادة عدد السياح والمدخول إلى نحو الضعف في بضع السنوات القادمة، هذا إذا لم يحدث عمل إرهابي يؤدي إلى نكسة سياحية عددًا ومدخولًا — لا قدر الله.
إلى الشباب: اعرف نفسك
وربما تكون هذه الأرقام والنسب حافزًا على زيادة الاهتمام بالسياحة الخارجية من ناحية، ولكني من ناحية أخرى أرى ضرورة تنشيط السياحة الداخلية كي يعرف الناس كم هي كثيرة أوجه الجمال ومصادر الثروة بالحركة داخل الدولة. وقد لا يتأتى ذلك باستمرار إنشاء الفنادق الغالية بل المتوسطة الآمنة صحيًّا حتى تكون في متناولنا ومعظمنا ذوي دخول محدودة. وأدعو بإلحاح الأندية المختلفة إلى تنويع نشاطها الاصطيافي بإنشاء نشاط شتوي إلى الأماكن البرية المصرية في الصحاري والواحات وجبال البحر الأحمر وسيناء. على أن مثل هذا النشاط هو على الأغلب موجه للشباب فهم حقًّا في حاجة إلى اكتشاف مصر وإمكانتها، والأكثر اكتشاف أنفسهم وقابلياتهم لتقبل الجديد، مما يحفز الطموح بديلًا للخمول الحالي في مماشي الجامعات وعلى كراسي المقاهي …