تنويعات على بعض صفات المجتمع
(١) الشخصية المصرية
(١-١) ماهية الشخصية
وقد نجترئ فنقول: إن الشخصية هي جمع التفاعلات التي تحدد حركة وفعل تجاه مواقف معينة معظمها معنوي مثل الكرامة، الرجولة، الخنوع، الذل، الإهانة، الثأر … إلخ. وهذه التفاعلات تحدد شخصية الفرد أو الجماعة أو مجموعة إقليمية أو أقلية أو الأمة بأسرها، أو مجموعة شعوب داخل إقليم عبر الحدود السياسية متشابه في ظروفه الحياتية والعقيدة والفكر. وهناك أيضًا مجموعة تفعيلات لفرد أو جماعة تستمر وتصبح منوالًا موروثًا للاتجاهات والأفعال مثل قوة البأس أو شهوة السلطة والتفرد، أو سيادة الروح العسكرية مع تبجيل قيمة العنف الإمبريالي، أو قوة المال والسيطرة الاقتصادية، مما ينجم عنه سمة لشخصية شعب ما. وكثيرًا ما وصفت الشعوب بشخصيات معينة كالسويسريين بأعمال المال والبنوك، والإنجليز بالتفكير النفعي، والألمان بالدقة العلمية والتنظيمية، أو في الماضي استناد الأقليات إلى التميز بقوة ما كالمال أو البراعة الحرفية، أو استناد قوى الاستعمار إلى قوة عسكرية وإدارية وتابعية اقتصادية معًا مثل الإمبراطورية الرومانية. وهذه كلها أضافت عفويًّا وتلقائيًّا شخصية معينة لهذا الشعب أو ذاك. فالهولنديون فلاحون وملاحون، والفينيقيون وسطاء وبحارة، والإغريق مُدنيون وتجار مهاجرون متوطنون، والمصريون فلاحون علومهم تجريبية نفعية … إلخ، ونضيف في الوقت الحاضر تأثير القناعة والانضمام إلى مؤسسة ناشطة في اتجاه أو آخر، كالعدالة والمساواة أو حقوق المرأة أو إيديولوجية فكرية وحزبية أو استعادة جذور الماضي «الجميل» … إلخ، وهذه المجموعة الأخيرة من مؤثرات الشخصية تتسم بأنها عالمية أكثر منها قومية؛ أي إنها تعبر الحدود الوطنية إلى إطارات إقليمية واسعة كالعالم العربي أو الغربي أو الإسلامي أو النامي، وبالتالي تتعدد الشخصيات داخل الدولة الواحدة بين الانفتاح والانغلاق.
(١-٢) الشخصية المصرية المحلية
في مصر شخصيات عامة ومحلية. الشخصية المصرية المحلية هي تلك التي نجدها تختلف إقليميًّا أو محليًّا بين سكان المدن والريف، أو بين سكان الدلتا والصعيد، وبين سكان الموانئ ذات الأعمال التجارية وسكان مدن الداخل ذات الأعمال الإنتاجية، كما نجده بين الإسكندرية ودمياط وبورسعيد والسويس، وبين طنطا والزقازيق وكفر الشيخ، أو بين أسيوط والمنيا وإسنا على سبيل المثال. بل في أحيان بين مدن ومناطق متقاربة كمدن الصناعة والزراعة، مثل تلك الفروق بين سكان المحلة الكبرى وبسيون وتلا، أو بين كفر الدوار ودمنهور أو نجع حمادي، وهو بين دشنا أو البلينا … إلخ، ويتلخص كل هذا في بعض مصطلحات معروفة تصف شخصيات ذات سمات محلية كالصعايدة – البحاروة – المصاروة (القاهرة) – السوايسة – الدمايطة – المناصرة – الأسايطة – الفييامة … إلخ، ولسنا في حاجة إلى كثير من الشرح في هذا المجال. فكلنا يعرف الكثير عن اختلاف الشخصية المصرية المحلية عبر اللكنة اللغوية، ومن خلال عشرات الأمثال والأقوال والنكات مما لا يحتاج لحصر.
وليست هذه صفة مصرية بل هي غالبة على كل الشعوب. على سبيل المثال بين الشامي (الدمشقي) والحمصي والحموي والحلبي في سوريا، وبين الطرابلسي والبيروتي والزحلاوي في لبنان، وبين الحجازي والنجدي في السعودية، وبين السندي والبنجابي في باكستان، وبين البافاري والسكسوني في ألمانيا، والفيناوي والتيرولي في النمسا، وبين الإنجليزي والأسكتلندي والولشي (ويلز) في بريطانيا، وبين اليانكي والديكسي في الولايات المتحدة، والماندرين والبكيني في الصين، وهكذا دواليك.
(١-٣) الشخصية المصرية العامة
الشخصية العامة غالبًا هي تلك السمات التي تنسجم مع الأطر الوطنية بمعنى أنها لا تظهر طوال الوقت بل تبدو خامدة، ثم تتقد مرة واحدة في حالات الدفاع عن الوطن وكيانه الخارجي والداخلي أو تبني مواقف سياسية أو خلقية أو دينية معينة. فالكيان الخارجي واضح كأن ندافع عن استقلال الوطن عسكريًّا وسياسيًّا، وكأن نحس بالظلم نتيجة ممارسة القوى الكبرى مواقف غير عادلة تجاه قضايا الوطن. لكن الإحساس بالظلم لا يبني شيئًا إذا كان انفعالًا وقتيًّا غير منظم، وبالتالي هو انفعال غير مفيد مثل مقاطعة بضائع أو خلافه. لكنه يصبح قوة مفيدة تسند سياسة الدولة في مواجهة مشاعر الظلم إذا انتظمت مشاعر الناس ونضخم الإحساس بها، حتى يصبح موجة شعبية قد تؤدي إلى تعديل الموقف ولو جزئيًّا. وعلى وجه العموم فإن الأحاسيس والمشاعر حسابها قليل في السياسات الخارجية لكتل العالم المختلفة فالسياسة لا قلب لها، ومن ثم قد تجرحها موجات الغضب مرحليًّا لكنها لا تعدلها ما لم تتغير أسس السياسة «نسبيًّا» بتغير أوضاع تلك القوى، كأن يأتي الديموقراطيون بدل الجمهوريين في أمريكا، أو العمال بدل المحافظين في بريطانيا أو نظام عسكري بدل آخر في بعض دول العالم النامي.
أما الكيان الدخلي للدولة فهو المجال الأكبر للشخصية المصرية؛ لأنه يتعامل مع مواقف ومؤسسات قائمة، وبالتالي فهي محسوسة بصور مختلفة بين الناس؛ لأن الجميع يعرف تلك المواقف ويتحرك بردود فعل إزاءها، مثلًا كالموقف إزاء أزمة القضاة. أيًّا كان التنظيم المسئول عن هذا التساند للقضاة فإن الأغلب أن كثيرًا من المساندين كانوا يرون أنها قضية هامة في البناء الداخلي. كما أن هناك عداء معروف لدى جانب غير يسير من الناس ضد «العسكرتاريا»، وهو عداء قديم لأسباب أكثرها غير مدرك بكفاية لكنه تراث؛ لأن العسكرتاريا تستند إلى التنظيم العسكري كقوة ضغط من جانب الدولة، إما على الحرية أو دفع الضرائب أو حجز الأفراد بسبب أو بدونه.
(١-٤) ثقافات وشخصيات فوق بعضها
في مصر حيث تاريخ الاستيطان للمصريين طويل جدًّا أصولهم غالبًا أصول سكان شمال أفريقيا (السابقين للبربر)، دخلت عليهم جماعات مختلفة الأصول من أفريقيا وآسيا (العهود القديمة)، ومن آسيا وأوروبا (أشوريون وفرس وإغريق ورومان وعرب وكرد وجركس وترك)، لكنهم تداخلوا وهضمتهم مصر الأرض والحضارة. ولا شك أن كل هؤلاء تركوا بصمات على الشخصية، لكنها تذوب مع الأصل وتتشكل من جديد على الدوام، بحيث لا تظهر سوى بصمات الجماعات الأحدث في بعض مظاهر الشخصية، وبخاصة المجموعة العثمانية التي ضمت أتراكًا وأرمن وأكرادًا وجركس. ومعظم هؤلاء سكنوا المدن وأثروا فيما عرفناهم في القرن الماضي باسم أولاد البلد بتنظيمات وخصائص لغوية وفتونة وشهامة وعصبية الحارة — ومنها شيخ الحارة — إلا أن ذلك ذاب منذ أربعينيات القرن الماضي في خضم انتشار التعليم وفقدان العصبية المكانية بالسكن في أحياء جديدة خارج بولاق والقاهرة المملوكية من باب الشعرية والدرب الأحمر إلى الخليفة والسيدة زينب. ومثل ذلك في المدينة الكبرى الثانية، حيث كان الرمل سكنًا للأجانب مقابل أحياء الإسكندرية القديمة في الأنفوشي والمنشية وكوم الدكة ومحرم بك والقباري وكوم الشقافة حيث أولاد البلد الذين زحفوا على الرمل تدريجيًّا إلى أن صارت للإسكندرية لهجتها وأمثالها الخاصة. وهكذا يمكن تتبع مؤثرات الشخصية في المدن القديمة كدمياط والفيوم وأسيوط وجرجا وأسوان مع اختلاف أصول التجمعات المدنية.
إذن تختلف بعض مظاهر الشخصية بين المدينة والأخرى وبين المدينة والريف وبين الدلتا والصعيد بشكل أوضح. وبالمناسبة من هم أهل الصعيد؟ جغرافيًّا من جنوب الجيزة إلى أسوان، لكن صفات الصعيدي الجاد: الرجولة والعصبية والحمية والثأر على سبيل المثال قد تكون أظهر ما يكون من المنيا حتى الأقصر وإسنا، بينما تقع بني سويف في ظل القاهرة الكبرى والفيوم فريدة بما فيها من تراكيب الواحة حيث بعض سكانها بدو متريفين.
وتستحق محافظة أسوان أن نفرد لها أسطرًا؛ لأنها قد تمثل لنا مرحلة أولية من مراحل تاريخ اندماج الجماعات العديدة في أطر الشخصية المصرية. هنا في أسوان — على ضيقها الزراعي والعمراني، نتيجة البيئة الطبيعية — نجد الشخصية تتفرد بين الجعافرة والصعايدة والعبابدة والنوبيين؛ لأن هذه المجتمعات ما زالت تعيش جنبًا إلى جنب دون أن تذوب معًا؛ لظروف شديدة الخصوصية على رأسها استمداد الأصول من طبقة الأشراف بين الجعافرة الحسينية والحسانية، وبدو العبابدة الذين استقروا ما زالوا يستمدون تفردهم من وحي البداوة السابقة والتجارة مع شمال السودان، والصعايدة سكنوا معظم منطقة كوم أمبو بعد استصلاحها وتركيز زراعتها حول اقتصاديات قصب السكر ومصنعه. ويمثل النوبيون — من كنوز وعليقات وفديجة — إضافة جديدة للسكان حول حوض كوم أمبو بعد تهجيرهم من بلاد النوبة التي غرقت بإنشاء السد العالي. وأخيرًا فإن سكان مدينة أسوان يمثلون مزيجًا تاريخيًّا يمتد آلاف السنين، وما زال يتقبل إضافات جديدة بحكم أنها أكبر مركز عمراني في جنوب مصر، وبحكم التجارة المستمرة مع السودان قرونًا طوال — شاركها في ذلك مدينة دراو مركز العبابدة التاريخي التجاري — وحاليًّا فإن السياحة هي صناعة أسوان الأساسية؛ لأن بيئتها فريدة ساحرة: حيث النهر المندفع في زرقة يمشط أمواجه الزبد الأبيض بين الجزر الجرانيتية الداكنة والرمال الحمراء على البر الغربي ترتفع في بهاء تتوجه قباب، وفنادقها العائمة، و«بولفار» الكورنيش الجميل ممشى تحت أشجار عين تحفة للناظرين، وأجمل فنادقها «كتراكت» بألوانه البنية وأفاريزه البيضاء يفترش مع «تراسه» الجرانيتي أجمل بقعة تطل على النيل الخالد، والأشرعة البيض لمئات الفلايك تغدو وتروح كالحمائم فوق هذا الفيض من البهاء والبهجة ذات الألوان.
فالحقيقة الأولى أن اختلاف التاريخ لأي جماعة يساوي اختلافًا في تكوين أسس الشخصية حتى لو كان هذا التاريخ سطحي أو عميق، شفاهي أو مكتوب. والموضوع الأول: هو أن تراكيب مجتمعية معينة، وشخصيات تاريخية هي التي تبدأ بالتغاير بين مجموعة وأخرى حتى لو تجاورت مكانًا في ذات القرية أو الإقليم.
فقصص قبيلة العبابدة وأبطالها القدامى والمحدثون تختلف تمامًا عن قصص مجموعة الجعافرة وعن قصص الهوارة وقصص العرب في جنوب مصر. هذه القصص تمثل الروابط التي تؤدي إلى استمرار بعض الفواصل بين مجموعات من الناس يعيشون على نفس الأرض ويمارسون الفلاحة، أو ريادة الصحراء، أو الاتجار فيما يهم السياح من سلع وبضائع بعضها كنوز حقيقية وغالبها مُصنع على النسق الفرعوني للاتجار … وسكان الصعيد الأوسط منقسمون أيضًا بين تراث الفلاح المجيد وبين تراث القبائل الغربية كالجوازي والفرجان والباسل التي دان لسطوتها الفلاحون قرونًا ثم نفضوا عنهم ذلك التراث، وأصبح النموذج المحتذى هو الحصول على درجات من العلم تصل بهم إلى المناصب المرموقة بديل التباهي بالأصول الماضية. ونفس القصة نجدها في قنا بين الفلاحين — العرب — والهوارة، وكذا في المحافظات المتاخمة للصحراء من الفيوم والجيزة إلى البحيرة والشرقية.
إذن التعليم هو مبدأ التغيير في بلورة الشخصية. ولكن إلى جانب ذلك هناك عوامل أخرى على قدر من الأهمية: من بينها التجنيد العسكري وهجرة العمل في دول البترول العربية. فالتجنيد يؤدي إلى ارتباط المجند برباط محكم مع زملاء له سواء كانوا من نفس المحافظة أو من غيرها. وهو مثل التعليم في مراحله العليا حيث يختلط الطلبة ببعض من أصول مختلفة من مصر. هنا يعمل الالتحام الطوعي للأفراد على أن يكونوا أكثر تقبلًا للغير من مجرد الالتجاء إلى النسب.
أما هجرة العمل فتؤدي إلى تفتح على آفاق أوسع بحكم العمل مع شخصيات متعددة الثقافات من عرب الخليج ومن المهاجرين من الهند وباكستان وإيران وفلسطين ولبنان وسوريا ومن أوروبا وأمريكا. وحين يعود المهاجر يكون قد اكتسب — إلى جانب المدخرات المالية — بعضًا من الثقافات قد تضيف إلى الريف والمدينة تنوعًا ثقافيًّا وشخصية شبه دولية مما قد يجعلهم قنطرة للعبور إلى عالم غير تقليدي وسط عالمه التقليدي السابق.
لكن هناك أيضًا الشخصية التي تنبني على الوضع الاجتماعي، ومن ثم هناك ثقافة الفقراء وثقافة الأغنياء وفيما بينهما ثقافة الطبقة الوسطى التي تميل للانحدار والتفكك بين صعود بعضها إلى الطبقة العليا وسقوط غالبها إلى الطبقة الدنيا. لا يحدث هذا دفعة واحدة بل بدرجة كبيرة من التدريج وبالكثير من التدرج بحيث لا تظهر على السطح كظاهرة اجتماعية. ولا ينقضي وقت طويل حتى يفقد المجتمع ثقافة التوازن بسقوط الطبقة الوسطى واضمحلالها وتصبح كفتا الميزان بين ثقافة الطبقة العليا والطبقة الدنيا، وإن كان جاه التعلم والتوظف في مناصب حاكمة يحفظ للطبقة الوسطى بقية وجود. ولكن بميزان المال فإن وجود الطبقة الوسطى ربما هو أقل من بعض أفراد من الطبقة الدنيا، كما يحدث انتقال مالي مادي لبعض أفراد من الطبقة الدنيا إلى ثقافة العليا بدون مؤهلات سوى التغير المرتقب للجيل الجديد من أبناء تلك الطبقة. هل هم اﻟ «نوفوريش» كما كان يطلق على أغنياء الحرب؟ أم هم بحكم قدرات أهاليهم وقدرات تعلمهم جزء جديد يضاف للطبقة العليا؟ وفي كلتا الحالتين نحن أمام متغيرات في السمات الثقافية وبالتالي في الشخصية.
(١-٥) تغيرات الاقتصاد والشخصية
في الماضي غير البعيد كانت هناك شخصية الريف بكل ما يعنيه الريف من قيم وأحكام. صحيح أنه كانت هناك تفاوتات ولكن كان يعبر عنها بجملة توضح أسس الشخصية الريفية ألا وهي «الأرض عرض»، بمعنى أن ثقافة الريف كانت لصيقة بما يملكه الشخص من الأرض حتى لو كانت ملكية قزمية. كان مجتمع القرية بصورة عامة مجتمعًا متساندًا ليس فقط في مظاهر المشاركة في الأفراح والأحزان ولكنه متساند بحيث يعطي الغني إمكانات عمل للفقير، أيًّا كانت أقوال الناس عن الاستعباد وغير ذلك من المصطلحات «الديماجوجية» المدوية فإن التساند هنا هو تمامًا مثل التساند الرأسمالي، حيث يتيح صاحب المصنع للبروليتاريا مجال عمل غالبًا بخسًا مهما كان نوع ما يؤديه من عمل ماهر أو غير ماهر. ومثل ذلك كثير في مجتمع الماضي والحاضر حيث يعمل الناس في أجهزة الحكومة والقطاع العام والخاص من شركات صناعية وتجارية وهيئات خدمية على نفس القيم لا أقل ولا أكثر؛ أي إن الأجور هي محددة تعسفيًّا من قبل الإدارات الحكومية ومجالس إدارات الشركات المساهمة وأصحاب المال في الأعمال الصغيرة، وعلى الموظف أو العامل أن يقبلها أو يرفضها بضمانات أو بدونها. صحيح أن في مجتمعنا بعض ضمانات للعاملين بينما لا توجد مثل هذه الضمانات بالنسبة للفلاحين. ولكن في الحالتين يجد العامل في الشركات والريف نفسه عاطلًا في معظم الأوقات.
وكان لدينا إلى وقت قريب مثل شائع منطوقه: «إن فاتك الميري اتمرغ في ترابه.» لكن لم يعد لهذا المثل أي معنى لدى الكافة فقد سقط مدلوله وحل محله اتجاه إلى العمل في مؤسسات وهيئات تضمن أجورًا شهرية غير منقطعة إلا في حالات الإفلاس، أو مؤخرًا في حالات تخصيص وبيع الشركات العامة التي لا يلتزم فيها الملاك الجدد بالتزام كتابي حول توفيق أوضاع العاملين، ولكنه في الحقيقة يعني فصلهم مع بعض التعويض. وربما يكمن السبب في ذلك إلى تحديث آلات المصانع وعدم الحاجة إلى أعداد كبيرة من العمالة التي كانت ضرورة في ظل نظم الإنتاج القديمة. وفي أحيان تغيير الصفة الأساسية للشركات من إنتاج إلى آخر، وبالتالي تحدث تصفية عمالة.
التوازنات المجتمعية بإجمال يصيبها كثير من عدم التوافق باستمرار كإحدى آليات المجتمع النامي الذي يسعى إلى التحديث من خلال النظم المختلفة، وإن كان ذلك أشيع من خلال المنظومات الرأسمالية المحلية والمتعولمة. كثير من السلع والمنتجات تنخفض قيمتها وهي التي لم يعد الناس في حاجة لها؛ لأن سلعًا أحدث قد أزاحتها من العرض في حين ترتفع أسعار المعروض الجديد.
وكل هذا يحدث مع ذبذبات تميل في مجموعها إلى ارتفاع الأسعار، وهو ما أفقد التوازن بين الدخول والأجور وبين منتجات سلع الحياة. وإلى أقل من نصف قرن كان الموظف أو العامل الذي يتقاضى ٣٠ جنيهًا شهريًّا يعتبر ميسور الحال، وحينما ارتفع سعر كيلو اللحم إلى جنيه واحد شاعت النكتة أن فلان مرتبه ٣٠ كيلو لحم وآخر ٢٠ كيلو! وهكذا عبرت هذه المقولة عن اهتزاز كبير في توازنات الحياة. ولست أدري ماذا يفعل الناس لتدبير احتياجاتهم من الخبز اليومي بعد أن استبعدت اللحوم من المائدة معظم أيام الأسبوع أو الشهر. وماذا عن مصروفات التعليم والدروس الخصوصية ومصاريف الانتقال بالباص والميكروباص بعد أن فقدنا الترام، ومصاريف الملبس المتجدد الموضه، وفاتورة الكهرباء بعد إدخال قيمة رفع «الزبالة» على الفاتورة، رغم أنها ما زالت ترفع فعلًا بواسطة المحترفين السابقين مقابل أجر يدفع لهم أيضًا …
ومهما قيل أو حدث من رفع الأجور والمرتبات بأي نسبة فإن مجرد إطلاق شائعة ما، في هذا المجال ترفع أوتوماتكيًّا أسعار السلع الضرورية للحياة، بحيث تزيد عن الزيادة المرتقبة أضعافًا فينطبق عليها القول الشائع «كأنك يا أبو زيد ما غزيت!»
(١-٦) تجلي الشخصية المصرية
كل هذه المتغيرات المجتمعية الاقتصادية لها أصداء على الشخصية المصرية العامة التي قد تظهر في «الشدة» كتكاتف الناس في إعانة أهالي ضحايا عبارة البحر الأحمر، أو تساند مجتمعي في قضية استقلال القضاء. فليس كل من ساندهم وعركته عصي الشرطة متآمرًا ضد الحكم بل هو مد شعبي غالبه غير منظم. فالشدة هي التي تلم الناس، وبالتالي فإن الشدة هي التي تبرز الشخصية المصرية وتدفعها للتساند وتحمل هراوات الجنود. هوية الشخصية هنا كثيرة الدوافع والأسباب بعضها منظم من قبل الأحزاب، ولكن غالبها ينطلق من أسباب شخصية ترى أن هذه معركة من يستند إلى الحائط، ولم يعد هناك ما يخسره نتيجة ضيق الحياة التي تأخذ بالخناق في أشكال شتى أبرزها حرية التعبير عن الرغبة في التغيير. والقضاء هو الفيصل بين الظلم والعدل. وقديمًا ما زال القول المعلن على اللافتات: «العدل أساس الملك (أو الحكم)»، فإذا انهارت هذه المعتقدات، فأين المفر؟ في الزمان القريب كان الأزهر وشيوخهم مركز القوة — لاعتبارات كثيرة من بينها أنهم كانوا رجال القضاء — في مواجهة الاحتلال الفرنسي … وضد الإنجليز وقف الأزهر والكنيسة والمثقفون معًا في سيمفونية رائعة، وضد استبداد الملكية وقف المثقفون على اختلافهم من رجال دين وعلمانيين وقفة أهَّلتْ مصر لمتغيرات عبر بها شباب الجيش إلى إنهاء النظام الملكي عام ١٩٥٢. هذه كلها مواقف الشدة التي تظهر فيها بجلاء الشخصية المصرية بقوة دماء جديدة في الماضي والحاضر.
(١-٧) الشخصية بطيئة الانفعال
الشخصية المصرية ربما تكون بطيئة الانفعال ولكنها تبرز بقوة حين وقت الحسم فتفاجأ المراقبين وتذهلهم بعد أن كانوا يعتقدون أن الشعب خانع خائف مستسلم. هذه هي سمة الشعوب في العالم مكانًا وزمانًا. فالثورة الفرنسية لم يتصورها أحد بهذا الشمول والقوة والتمادي في الديموقراطية الفجة غير المنقاة غير المنظمة. لكنها ثورة تجمعت خيوطها على مهل كمًّا فوق كم حتى اكتمل الانفعال، فانقض مدمرًا واحدة من أعتى الملكيات وأقواها وأغناها وأكثرها ترفًا ونزقًا. صحيح أن نابوليون وجيشه ومارشالاته قد حول الجمهورية إلى إمبراطورية، لكنها لم تعش طويلًا فعادت ملكية البوربون بعد سقوطه بين ١٨١٥ و١٨٤٨، ثم عادت الجمهورية لكن الرئيس نابليون الثالث استغل رئاسته وحولها إلى ملكية ١٨٥٢ حتى سقطت الملكية نهائيًّا في فرنسا في ١٨٧٠.
ومثل هذا الثورة البلشفية في روسيا القيصرية ثم أجلت الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة ظهور مفاسد «أولجارشية» النظام الذي أصابه الوهن لطول مدد الحكام. ثم انتقل الوضع إلى سياسة المصارحة، بالإضافة إلى تداخلات ومساعي الدول الغربية لإسقاط المعسكر الشرقي تدريجيًّا بدأً من بولندا وألمانيا الشرقية، مما أدى في النهاية إلى تفكك الاتحاد السوفيتي نفسه كنهاية للحرب الباردة بانتصار الغرب. ولكن الخبراء يرصدون في الآونة الأخيرة بوادر حرب باردة بين روسيا وحلف الأطلنطي بسبب التنافس على شرق أوروبا وبخاصة بولندا والغزل الغربي لأوكرانيا، لكن هذه المواجهة لا تظهر بقوة بسبب انغماس أمريكا في حربها التي لا تستطيع منها فكاكًا مشرفًا في أفغانستان والعراق والموقف تجاه إيران، وبقية منطقة الشرق الأوسط في سوريا ولبنان وفلسطين وإسرائيل.
لسنا بسبيل المقارنة لكننا بالمعرفة نصبح أقدر على تبني أساليب أقل حدة في معالجة الضغوط التي يتحملها الناس، فليس من مصلحة مصر حدوث ردود فعل عنيفة: مخزون الطعام اليومي محدود ومليء بالثغرات والشهوات وأطماع التجار الكبار، ومصير الحركة والانتقال داخل مدينة مختنقة كالقاهرة سوف يخنق الجميع، والأحزاب كلها لا تستطيع ضبط الأتباع والمؤيدين وأولئك من الطغمة التي يشار إليهم حديثًا بالبلطجية. وحتى التنظيمات القوية الملتحفة بالدين لا تستطيع السيطرة على كثير من الاندفاعات التي تعربد ما حلا لها نشاطها المدمر أن تفعل ذلك!
المفروض التعقل من كل الأطراف، ففي أوقات الشدة سوف تظهر الشخصية المصرية مرة أخرى ويمكن أن تصبح أداة فاعلة إذا نالت حرية التعبير واطمأنت إلى العدالة الاجتماعية والعدالة القانونية والعدالة التشريعية. وإذا كانت التعددية سمة المجتمع بغض النظر عن اختلاف الاتجاهات الحزبية والجماعات المختلفة، فإن الكل سيتأسس على أن مصلحة مصر أعلى من مصلحة الحزب. وبالتالي فإن حق السماح بتداول السلطة هو الملاذ حتى لا تركد في الماء الآسن وتنذر بشرر ولو مستصغره.
(١-٨) نحن والعولمة
كل هذا واجب قومي يجب أن يعرفه ويتداوله كل المهتمين من الأحزاب ومؤيديهم في ظل العولمة التي تشكل هاجسًا كبيرًا لدى الناس، لعدم المعرفة الدقيقة بحقيقة تداخلات العولمة في النسيج الاقتصادي المصري، ومن ثم تتضارب المفاهيم بين النقيض والنقيض. فنحن نعيش فعلًا داخل العولمة ولسنا في موقف اختيار أو معارضة. فاقتصاديتنا الرئيسية هي جزء من نسيج معولم: البترول والغاز الطبيعي وقناة السويس والسياحة والقمح والقطن والسكر والشاي والبن وصناعة الدواء … إلخ.
أما منبر معارضة العولمة ورفضها فهو بالأساس قائم على الحفاظ على العناصر الحضارية في مصر وغير مصر: اللغة والدين والأعراف والأسرة والسلوكيات وأحكام المجتمع في الزواج والطلاق، بل أيضًا في تباين الزي فليس لدينا لباس قومي كالهند أو بعض أفريقيا. وستظل هذه العناصر محك تجربة فردية وجماعية حسب الانتماءات الإيديولوجية والمعتقدات، إلى أن تثبت مناسيب وسط تسمح بتداخلات أعلى أو أدنى من المتوسط — تمامًا كما يحدث الآن.
من خلال كل هذه التفعيلات — التي نرجو أن تمر سلميًّا على المصريين — سوف تعاود الشخصية المصرية الظهور بوضوح بحيث تكون عاملًا فاعلًا في الإبقاء على الحوار البناء بين الجميع مع شعور الانتماء لجميع المصريين، ومن ثم ظهور مصر كقوة واضحة الشخصية في مجالاتها الإقليمية والعالمية.
(٢) سلوكيات المجتمع ومنظومة القيم
لكل مجتمعات الدنيا في الماضي والحاضر أطر من القيم ونسيج من السلوكيات المتسقة داخل إطار القيمة مما يشكل في النهاية تقاليدَ وأعرافًا وقوانين تدين أي سلوك أو تصرف خارج الإطار القيمي العام. لكن كانت هناك متغيرات مجتمعية اقتصادية سياسية تقود غالبًا إلى غزوات وحروب، وكلها تؤدي إلى بعض الحركة والحراك الاجتماعي خارج الإطار القيمي بحيث يحدث التغير برغم مقاومة المحافظين للحفاظ على الموروث من السلوكيات والقيم التقليدية. وبعبارة أخرى فإن أطر القيم في الحضارات ليست خالدة بل يعتريها التغير من آن لآخر، وإن احتفظت ببعض الميراث متداخلًا مع العناصر الجديدة في تراكيب جديدة.
وعلى هذا فإن التغير في القيم والأطر الحاكمة قد يحدث بالتدريج نتيجة تراكمات كمية تستمد جذورها من الداخل، نتيجة اكتشافات في جوانب الحياة الاقتصادية ومجالات استخدام أشكال جديدة من الطاقة. أو قد يحدث تغير قيمي سريع شبه انفجاري نتيجة تداخلات ثقافية حضارية تأتي من مجتمعات وقوى خارجية تتخذ صورة صراع الحضارات الذي حدث مرارًا وتكرارًا في تاريخ البشرية على مدى ثلاثة آلاف سنة على وجه التعميم. فقبل ذلك كانت المجتمعات صغيرة العدد متقوقعة في توزيع جغرافي شبه منعزل يتغير ببطء من الداخل مع قليل من الاحتكاك بالعوالم خارج عالمها الخاص، لا يعلمون عن بعضهم سوى صور ضبابية تسيطر عليها الأسطورة: فالسكان الأخر لهم أشكال جسمية ولغات وثقافات غريبة يحسن اتقاؤها، كأنهم ليسوا من البشر كقصص الملاح الغريق من العصر الفرعوني، أو مغامرات سندباد البحر والبر في العصر الإسلامي، أو رحلات جاليفر بين الأقزام والعمالقة في العصر الحديث.
ومنذ نحو ثلاثة آلاف سنة بدأت بعض المجتمعات في تشكيل ممالك وإمبراطوريات بعض سماتها الغزو والتوسع وإشاعة أفكار وعقائد وثقافة جديدة، وبخاصة الفارسية والإغريقية والرومانية، ودول الخلافة في دمشق وبغداد واسطنبول وانتهاء بإمبراطوريات الاستعمار الأوروبية، وأخيرًا المساعي الإمبراطورية للهيمنة الاقتصادية والسياسية الأمريكية الأوروبية التي تتخذها صورة العولمة المعاصرة.
وتمر مصر منذ نحو قرن في مراحل متغيرات قيمية متتابعة تسارعت في نصف القرن الأخير بحيث سقطت بسرعة كثير من السلوكيات السالفة، وحلت محلها سلوكيات أخرى ولكن بدون تشكيل قيمي جديد واضح. ولهذا فإن التضارب السلوكي في أداء المجتمع أصبح شيئًا مثيرًا للبلبلة والشكوك حول الأداء المجتمعي: ماذا يروم وإلى أين يتوجه؟
ماذا نقصد بالمجتمع والأداء المجتمعى؟ المجتمع هنا هو كل الناس وكل التشريعات والقوانين والأجهزة الإدارية والحاكمة. والأداء المجتمعي هو التفاعلات التي تحدث بين كل مكونات المجتمع إيجابًا أو سلبًا. وبرغم الفصل بين هذه المكونات إلا أنها تترابط وتتشابك وتتأثر وتؤثر بعضها البعض، بحيث قد يكون أداء الناس بالتأييد أو المعارضة، رائدًا ودافعًا إلى التغيير التشريعي أو التنفيذي والعكس صحيح. هذا مع اعتبار أن هناك فاصلًا زمنيًّا بين المؤثر والتأثير، أي يتأخر التشريع فترة في استجابته للمؤثرات النابعة عن الجهاز التنفيذي، أو نابعة عن الضغط الذي تمارسه قوى محلية ذات مصالح. ومن ناحية أخرى فهناك مقاومة من الناس أو من الجهاز القضائي لقوانين تصدرها الأجهزة الحكومية، مما يؤدي إلى تأزم المواقف أو تراجع القوانين وتعديلها.
وفي خلال مثل هذه الاصطراعات والتغيرات تطلق شعارات قيمية معظمها غامضة كالدعوة إلى قيم الريف أو إلى مصداقية الفعل للقول أو الشفافية. هذا علمًا بأن الشعارات لا تصبح قدوة قيمية بمجرد إطلاقها، فالقيمة القدوة للمجتمعات تتولد من ذات المجتمع وتتحكم فيه بالممارسة الحرة والتوارث الاجتماعي إذا ظلت الأمور الاقتصادية الاجتماعية مستقرة، مثل استقرار الاقتصاد المصري طوال قرن على القطن والصناعات المرتبطة به. ولكن التغيرات التي صاحبت الاقتصاد المصري في نصف القرن الماضي نبعت من ترتيبات وأفكار إلى ترتيبات أخرى مغايرة المضمون: من تجارب شكل من الاشتراكية والملكية العامة إلى عودة الرأسمالية والخصخصة؛ أي من نقيض إلى آخر، وهو ما أدى إلى حدوث بلبلة قيمية وسلوكيات متغايرة في فترة قصيرة. ولم يقتصر الأمر على ذلك بل تعداه إلى مضمون النشاط الاقتصادي. فالانفتاح على أموال خارجية ذات اتجاه أكثر إلى تجارة الاستيراد مع صناعات حديثة بعضها تجميعي لمكونات من الخارج كالسيارات وبعض الإلكترونيات، واستثمارات أكثر في عالم السياحة، كلها وقفت على طرف آخر مختلف عن أشكال الإنتاج الزراعي والسلعي الصناعي السابقة، بحيث أصبح هناك شبهة انفصال بين الإنتاج الجديد والقديم أدى إلى هبوط ملحوظ في الاستثمار الزراعي الصناعي التقليدي المحلي المنشأ، بحيث ظهرت بوادر ركود في هذه المجالات السابقة.
وحتى الاهتمام بتوسيع رقعة الاستزراع خارج الوادي والدلتا حظي بالكثير من اهتمام الدولة واستثماراتها، بينما تراكمت مشكلات الأراضي الزراعية القديمة في جوانب كثيرة على رأسها ضعف التربة ومشكلة ارتفاع منسوب الماء الباطني ونظام الري بالغمر، وزيادة تكلفة الإنتاج بفاتورة متزايدة القيمة للأسمدة والبذور، وأخطرها ضعف التسويق ووقوع الفلاحين في حلزون هابط من القروض الائتمانية من البنوك الزراعية. وبعبارة أخرى فإن منظومة الاقتصاد الزراعي أصبحت خليط من ممارسات قديمة وحديثة بين الأراضي القديمة والحديثة في نمط الري والتسميد والبذور والمحاصيل والتسويق، لكن سلوكيات الفلاح العامل لم تتغير في كلا الحالتين.
وليس بوسعنا تتبع عوامل كثيرة تسبب تغيرات الأداء المجتمعي والقيم السائدة. وربما كان أهم العوامل تغير قيمة المال من مقوم حياتي اجتماعي اقتصادي في معظمه إلى ما يقرب من شهوة الحصول عليه بأيسر الطرق وأقلها اتساقًا مع قيمة العمل. ليس معنى هذا أن المال لم يكن يلعب دورًا هامًا في الماضي أو الحاضر. فهذا شيء لا ينكره أحد. ولكن الحصول على المال في ظل القيمية السالفة لم يكن يحدث غالبًا إلا من خلال العمل داخل إطار القانون السائد، ومن ثم كان نادرًا أن تحدث الوسائل التي نراها اليوم بين بعض النافذين في «انتهاب» الأموال من البنوك بدون الضمانات والمتابعة القانونية إلا فيما بعد الافتضاح، أو تكوين أرصدة شخصية من العمولات غير المشروعة والرشوة لتسهيل أعمال غير مطابقة للمواصفات المطلوبة في أي مشروع. وغاية ما أتذكره أن أحد الوزراء فيما قبل ١٩٥٢ اشتهر عنه — بحق أو ظلمًا أو مبالغة — أنه كان يرحب بالعملاء باستخدام الرقم الذي يريده لتسهيل أو تمرير العطاءات كأن يقول: «يا تلتمية أهلًا أو مرحبًا» — يعني ٣٠٠ جنيه … إلخ. أما الآن فإننا نقرأ اتهامات وأحكامًا قضائية بمئات الملايين أو بالمليارات. ونقرأ عن وزراء ومحافظين ومستشاري وزراء ورؤساء هيئات وإدارات وغيرهم كثير توجه إليهم اتهامات الفساد والرشوة واستغلال النفوذ، وأقلها الاتهام بإهدار المال العام. وبعض هؤلاء هربوا للخارج يمارسون رغد العيش بما حصلوه من أموال بطرق غير مشرفة. القصد أن تغير سلوكيات الحصول على الأموال هو السبب في مثل هذه الجرائم التي تنحدر وتجد طريقها إلى صغار المسئولين فيطولهم الفساد بأقدار مختلفة.
الفساد واحد قديمًا وحاليًّا ولكن شيوعه على مناسيب متعددة يجعل الناس يتساءلون عن بعض القيم التي كانت سائدة، كالشرف والذمة والأمانة واحترام الذات واحترام الناس … إلخ. هل هذه القيم ما زالت قائمة وفعالة، ولهذا توجه الاتهامات للمنحرفين عن المتعارف عليه من القيم والشرائع والقوانين التي تسند وجودها؟ أم هناك قيم جديدة تريد فرض نفسها كبدائل لقيم عصر مضى؟ إن التساؤلات في هذا المجال تطرح نفسها بقوة على الفقهاء والمشرعين، وقد نحتاج إلى صياغات أخرى تأخذ في الاعتبار مقتضيات العصر. ولكني أرجو ألا يفهم أن أي طرح جديد يمكنه الاستغناء عن قيم إنسانية مارستها أجيال متعاقبة تسعى إلى العدالة للجميع وتحمي حقوقهم وتوفر للذات الإنسانية التوقير والاحترام.
مثلًا في مفهوم الرأسمالية إن قروض البنوك هو عمل ضروري للمستثمر وتشغيل لأموال الأفراد المودعة في البنوك. فهي إذن ممارسة وسلوك متفق عليه وجاري العمل به. وليس المطلوب التوقف عن القروض؛ لأن أخطاء قد حدثت نتيجة لانتهازية البعض في استمراء القروض لتكوين ثروة من العدم وتهريبها، أو أن آخرون جانبهم الصواب في تقدير علاقات الإنتاج والسوق، مما أدى إلى فشل مشروعاتهم. فإذا ضيقنا الخناق قد تتحول البنوك إلى صناديق آمنة لوضع أموال لا تتحرك ولا تربح.
وفي نهاية الأمر، وعلى الأغلب، سوف تتكون مفاهيم منظومة أخرى غير المنظور الرأسمالي الحالي في إدارة الأعمال، خاصة مع العولمة القادمة والتجارة الحرة شكلًا مع التخصيص الإنتاجي والاستهلاكي لأقاليم العالم في العقود القليلة القادمة.
أطلنا قليلًا في موضوع المال؛ لأنه لا يمس أداء الدولة فقط، بل ينصرف إلى سلوكيات وقيم العمل لدى الأفراد أيضًا، حيث أصبح الإحساس بقوة المصالح الشخصية أعلى من المصلحة العامة. وقد يتمثل ذلك بوضوح في التهرب الضريبي من جانب الأفراد، كما يتمثل في فرض مستمر لضرائب جديدة تُثقل التوافق بين الرواتب المجمدة والاحتياجات المتنامية للأسرة، نتيجة تداعيات الترويج لأشكال جديدة من السلع الاستهلاكية، وبالتالي حلزون متصاعد من التضخم وهبوط قيمة العملة مع ارتفاع أسعار السلع والخدمات.
أشكال الانحراف الناجمة عن عدم التوافق هذه كثيرة. وكمثال على ذلك قضية الدروس الخصوصية التي عجز عن حلها الوزير تلو الآخر. وهي تكاد تشبه في الشكل وليس المضمون توظيف حارس العمارة براتب محدود على أن يحصل باقي احتياجاته من السكان في صور شتى من الشهرية إلى خدمات أخرى. فرواتب المدرسين في المدارس العامة والخاصة محدودة وقليلة الحوافز ولا تنمو إلا بالكاد، ولا تفي قطعًا احتياجات المعيشة. ومما لا شك فيه أن المدرس القدوة الذي قال عنه أحمد شوقي «قم للمعلم وفه التبجيل.» أصبحت قيمة من تراث الماضي. كنا في الماضي نحترم المدرس أشد الاحترام، ولكن التلميذ يرى في المدرس الآن أجيرًا بمال أبيه، فكيف يكون التبجيل والاحترام؟ وفي الماضي كان التلميذ الذي يأخذ دروسًا خصوصية يخشى افتضاح أمره بين زملائه، بينما العكس صحيح الآن. ولهذا سقطت قيمة المدرسة كعامل مساند للأسرة في تربية النشء.
المجانية في التعليم قيمة عظيمة تتيح تكافؤ الفرص أمام الجميع. لكن المجانية في واقع الأمر انتهت لكثرة نفقات الدروس الخصوصية. كما أننا فقدنا هدف التعليم فأصبح طريقًا ذو اتجاه واحد من الابتدائي إلى الجامعة. لقد كان لذلك مبررات منذ نصف قرن حين أطلق طه حسين قوله المأثور: «إن التعليم كالماء والهواء.» لكننا بالغنا في الهدف فعظمنا الشهادة الجامعية على غيرها من أشكال التعليم المهني، ففقدنا المهنة وفقدنا نوعية خريج الجامعة. والآن تزخر مصر بالعاطلين من خريجي الجامعات. فما أحوجنا إلى فهم قيمة التعليم في الجوانب المهنية والعلمية على أنهما ضرورة لبناء مجتمع سوي. لهذا فالتعليم المجاني «بحق» لا يجب أن يتعدى نهاية المرحلة الإعدادية. وما بعد ذلك من مراحل تعليمية يجب أن يكون متاحًا بمقابل سواء الثانوي الفني أو العام. الغرض من هذه المداخلة أن نستعيد قيمة التعليم كمنتج حقيقي لاحتياجات الفرد والمجتمع. أما المجانية في التعليم الثانوي والعالي فيجب منحها للمتفوقين فقط، وبذلك يصبح للتفوق قيمة تدعو إليه. لقد تحولت الدراما الحالية في التعليم إلى تراجيديا تمس كل الأسر المصرية عند بلوغ أبنائها شهادة مرحلية، وبخاصة الثانوية العامة التي أجريت عليها تجارب وجراحات وما زالت في طور العناية المركزة. لا يوجد في العالم مثل هذه المأساة التي تنبع عن قصور في فهم قيمة التعليم وأهدافه المجتمعية.
والأسرة تكاد تفقد هي الأخرى وظيفتها في التنشئة نتيجة عوامل كثيرة. وربما حل محلها قيم عنف مستمدة من وسائل إعلام أقواها التلفزيون، ومن أصدقاء السوء والسقوط في بؤرة المخدرات. وكذلك تتهاوى قيمة الأسرة نتيجة رفض الشباب لأشكال الحرمان من السلع الاستهلاكية التي تملأ السمع والبصر، فينجذبون إلى تجمعات التطرف والهوس تحت شعارات عديدة متناقضة كالحرية الفردية أو إصلاح المجتمع بوعظ قَتال. ولهذا نرى جرائم لم تكن تخطر على بال ولا تحدث حتى في عالم الحيوان. فكيف يقتل أو يتآمر فرد على قتل أب أو أم أو أخ من أجل حفنة نقود؟ طبيعي أن هذه حالات محدودة، ولكن دلالاتها أنها تحدث فهي نقلة قيمية يجب تدارسها بعمق حتى لا تستشري كنمط وقيمة جديدة.
ومن المشكلات الأخريات الشيء الكثير نسوق بعضًا منها كسلوكيات مرفوضة وإن كانت واقعًا مريرًا. فالتسيب في حركة المرور صار مشكلة المشاكل التي تستجدي حلًّا دون كثير جدوى نتيجة إمعان الناس في فوضى المرور وفقدان الردع الفعال. وقانون إقامة الجراجات في العمارات والنوادي «مضروب» عيانًا بيانًا لا تلاحقه المجالس المحلية للمدن والأحياء، كأن القانون شيء وتنفيذه شيء آخر! والتعدي على نهر النيل مسلسل مستمر حتى صار مجرى ضيقًا ضعيف التيار يراه الناس بحزن شديد حسرة على ما كان عليه من قوة واتساع وجمال. ولو جاء الشعراء الذين امتدحوه بالأمس لأنكروا اليوم أن يكون هذا هو النيل المتدفق «من أي عهد في القرى» كما قال الشاعر. والتعدي باسم التجميل والتطوير على المدن والأحياء التاريخية، وهي أمور تنافي كل وسائل الحفاظ على التاريخ. والعشوائية الفكرية والتنفيذية والتعتيم هي وسائل من أجل حصول المصالح الخاصة على منفعة كموضوع جزيرتي الوراق والدهب. والسحابة السوداء تلصق فقط بقش الأرز بينما المساهم الأكبر هو سيارات الحكومة والأفراد المتهالكة، تنفث من الغازات والأكاسيد ما يفوق قش الأرز وكذلك حصار القاهرة بأدخنة المصانع والمسابك والورش في شبرا الخيمة وطره وحلوان والتبين، بحيث أصبح جو القاهرة الكبرى مصدرًا خطيرًا للقلق الصحي.
وباختصار ظلت القيم الأخلاقية والاقتصادية الاجتماعية والصحية معلقة كشعارات، لكن تعتريها ممارسات وسلوكيات عشوائياتها أكثر من كونها منظومة شاملة.
وليس القصد من هذا الموضوع التشاؤم والبكاء على الأطلال، لكن القصد أننا مررنا بفترة طويلة نسبيًّا من التغيير القيمي دون أن نرسي بدائل تتماشى مع المتغيرات سريعة الإيقاع حولنا وفي داخلنا. ومن ثم سادت تصرفاتنا الاجتهادات التفسيرية والبلبلة الفكرية نتيجة فقدان مرجعيات قيمية جديدة. وإن بقيت بعض هذه المرجعيات فإنما هي بعض قيم دارسة في صورة قالب عام نتمسح به، ونلجأ إليه كشعارات مريحة في الأزمات كالشرف والعدالة والحق دون محتواها الكلاسيكي.
فالحق أننا نحتاج إلى تدبر حقيقي لفاعلية قوانين وتشريعات تتناسب مع المتغيرات الراهنة في منظومة القيمة والسلوك. فلا شيء خالد وكل شيء إلى تغيير.
(٣) نماذج من ممارسات غير محبوبة
(٣-١) الأستاذ الجامعي والوزير
الترقي في الوظائف والمراكز الاجتماعية لا ينتهي حيث ينتهي التأهيل التخصصي للناس كما هو الحال في العالم المتقدم. فعلى سبيل المثال المدرس الجامعي ينتهي عادة عند درجة الأستاذية. قليل منهم من يصبح عميدًا لكلية أو رئيسًا لجامعة. لكن الطموح زاد بحيث أصبحت السلسلة الطبيعية للترقي لا تنتهي ولا تتوقف. فلا شك في أنه في البلاد النامية وفي ظل حكومات التكنوقراط يحتاج الأمر إلى وزراء ورؤساء وزارات يختارون من بين أساتذة الجامعات بحكم تخصصهم الدقيق. وهذا هو الشيء عندنا.
لكن هناك ملاحظات على ذلك أهمها أن الأساتذة في قاعات الدرس بين الطلبة وفي المعامل والمكتبات بين المراجع وكتابة البحوث وإجراء التجارب ونشر التقارير العلمية، أو رئاسة الأقسام وعمادة الكليات شيء، وبينهم كوزراء يسوسون عمل وزارة بين فطاحل المتمرسين في العمل الحكومي المكتبي والعصبيات «الشللية» في الوزارة شيء آخر. ففضلًا عن جدة العمل على الوزير الأستاذ، فهو قد اعتاد منطق العمل العلمي المتأني الذي لا يصل إلى تقرير أفضلية ما بالسرعة التي تتطلبها احتياجات العمل اليومي في الوزارة. ومن ثم قد يستغرق وقتًا في التعرف على طبيعة العمل التنفيذي في وزارة تضم آلاف العاملين من مختلف الوظائف والمؤهلات في القاهرة، وفي فروع الوزارة ومكاتبها ضمن الهياكل الإدارية للمحافظات من أسوان إلى سيناء.
وبعد فهل ينجح الوزير الأستاذ كما ينجح الوزير القادم من تحت السلاح في نفس الوزارة؟ الوزارة عمل سياسي بالأساس، والأستاذ أكاديمي بالطبع والتطبع. بعض الأساتذة الوزراء تطبعوا بالعمل الوزاري بمضي الوقت. والسؤال الملح هو هل يصبح الأكاديمي مستشارًا؟ وهل تكون الاستشارة دائمة أم محددة بقضية معينة؟ تطبيق مثل هذا النمط من الاستفادة من الأكاديمي الاستشاري تساعد بدون شك على بقاء الأستاذ منشغلًا بالعلم الذي تمرس فيه طيلة حياته العملية، وتساعد الوزارات باستشارات مدروسة لا توضع على الرفوف. هذه قضية يمكن أن نأخذها في الحساب الدقيق كي تسير الأمور كما نود أن تكون.
في العالم الغربي لا نجد سلسلة الترقي التي وصفناها في العالم النامي. بل منتهى أمل الأكاديمي أن يصبح «السيد الأستاذ» فقط أو يصبح رئيسًا لقسم علمي. أما عمادة الكلية ففي غالب الأحيان تصبح دورية بين الأساتذة لمدة سنة واحدة، وبالتالي فهي ليست مطمعًا أو مطمحًا. وكذلك على النمط نفسه يصبح منصب رئيس الجامعة غير مطمح. فالكثير من الأساتذة يعزفون عن مثل هذه المناصب؛ لأنها تشغلهم عن أبحاثهم أو عن قيادة فكرية في عالم المؤتمرات والندوات التي تملأ الحياة الجامعية. كما أن مناصب العمادة والرئاسة غالبًا ما تتضمن أعمالًا روتينية يستطيع مسجل الكلية أو الجامعة إجراءها ضمن اللوائح والقواعد المرسومة والمتبعة بدقة وحيدة غير بيروقراطية. لو طبقنا هذا بالتدريج فأغلب الظن أن الدولة سترفع عن كاهلها عناء البحث عن عميد أو رئيس جامعة، مع الأمل أن تتحول الجامعة إلى وحدات حلقاتها الأساسية، هي الأقسام العلمية المسئولة عن التطور المرغوب في عالم تتغير فيه المعرفة بسرعة تفوق البنية العلمية في ظل الهيراركية الحالية.
(٣-٢) شباب البورصة وشيوخ الجامعة
ذكرني الاستجواب المثير في مجلس الشعب التي نقلت وقائعه بالتلفاز ونشرتها الصحف حول البورصة، وسوق المال، وإهدار المال العام، ومرتبات شباب غض بآلاف الجنيهات، ذكرتني هذه المناقشة الحامية وتوابعها الحالية من مساءلات وإجراءات قانونية، بقانون الجامعات الذي أقره مجلس الشعب على عجل ومر دون توابع، برغم أنه حول مكافأة الأساتذة غير المتفرغين الذين أفنوا حياتهم في مدرجات الجامعة، يبنون الشباب علميًّا وثقافيًّا وفكريًّا من نحو ١٥٠٠ جنيه إلى مجرد ١٩٠ جنيهًا، بعد استقطاعات غير مفهمومة لمكافآت مفروض أنها غير خاضعة لأية استقطاعات.
أي منطق هذا الذي يحيل مكافأة لأستاذ أقل من مكافأة عمال غير مهرة من أدنى الرتب! ويضاف هذا إلى معاش تقاعد ضئيل أقل من ألف جنيه (على الأغلب بين ٦٠٠ و٨٠٠ جنيه)، وتعويض أشبه بإعانة العجزة من الصندوق الاجتماعي في الجامعة بما قيمته ٦٠٠ جنيه، فيصبح دخله الصافي بين ١٣٠٠–١٥٠٠ جنيه شهريًّا، بعد أن كان بين ٢١٠٠ و٢٥٠٠ جنيه. وحتى هذا الرقم متواضع لا يفي باحتياجات حياة كريمة لأستاذ كبير السن والمقام، ولا يكفي متطلباته الصحية بحكم السن الذي يحتاج فيه إلى رعاية طبية عالية التكلفة بنسبة لا يوفرها التأمين الصحي. هل تكريم الأستاذ اقتطاع أم زيادة في المرتب والمكافأة — أم أنه ينطبق عليه القول الشائع: «آخر خدمة الغز …»
قيل: إن القانون الجديد يوفر للدولة نحو خمسة ملايين جنيه سنويًّا نتيجة خفض المكافأة، فهل هذا التوفير — إذا صح — يساوي تكريم أستاذ عانى ما عاناه وأصبح ناضجًا علميًّا؟ ولأنه ليست له أطماع إدارية بحكم القانون فهو غالبًا كالحكيم العجوز يتصف بالرأي الموضوعي في مجلس القسم. لكنه لم يعد عضوًا في مجلس القسم حسب القانون الجديد، وبالتالي افتقد زملاؤه الأصغر وتلامذته خبرةَ سن ربما جنبت بعض مزالق.
قيل أيضًا: إن القانون الجديد يفتح الباب لشباب الأساتذة. فهل كان في قدرة الأساتذة كبار السن إغلاق الباب أمام الشباب؟ وإلا فكيف ترقى الشباب في مراتب الجامعة إلى درجة الأستاذية؟ أليس بواسطة أساتذة أكبر منهم؟
العلماء لا يبلغون سنًا للتقاعد إلا عندما يتوقفون عن أي شكل من أشكال الإضافة العلمية: كتابة بحث أو الإسهام في بحث، أو إصدار كتاب أو مراجعته، إشراف علمي على الدارسين لمراحل الماجستير والدكتوراه، إسهام في تنمية الأقسام التي ينتمون إليها، تقديم استشارات تطلبها منه هيئات وأجهزة حكومية وخاصة، وغير ذلك كثير. أما أن يتساوى الأستاذ الباحث مع غيره من موظفي الدولة من مديرين وفنيين وإداريين في سن موحد للتقاعد، فهذا هو اللامعقول في المؤسسة الجامعية. بل إنه غير ممارس في الجامعات الأوروبية والأمريكية، حيث الحكم هو رغبة الأستاذ في التقاعد وليس بلوغه سن معينة. كما أن التقاعد لكبر السن غير ممارس في بعض الوظائف المصرية — ربما غير الحكومية — كعضوية مجالس إدارات البنوك والصحف على سبيل المثال.
الاستجواب المثير في مجلس الشعب، وضعنا في كفة الميزان مع شباب حديث التخرج يتقاضون في البورصة أضعافًا مضاعفة قدر مكافأة الأساتذة الذين علموهم، بادعاء وتبرير أنهم خبرة نادرة؟ فمن أين أتت الخبرة ومتى وكيف وكل علامات الاستفهام؟
لسنا ضد الشباب، فللأساتذة أبناء شباب يتمنون لهم وللجيل القادم كل الخير. والخبرة الطويلة للأساتذة علمتهم أن لكل جيل دور لا ينازعه فيه أحد، وإن كان الشيوخ يشيرون على الشباب إذا طلبت منهم المشورة والحكمة. ولكن الرواتب والمكافآت يجب أن تكون متناسبة مع قدر الدخول في مصر. بمعنى أنه إذا كان متوسط الدخل العام في مصر مثلًا ألفي جنيه، فكيف يرتفع الراتب أو ينخفض عن هذا المعدل كثيرًا؟ الرواتب سبب الاستجواب هي غالبًا عالية جدًّا؛ لأن أحدًا من المسئولين لم ينكرها صراحة. فإذا بدأ بعض الشباب في البورصة وغيرها بمرتبات كبيرة فكم نتوقع لهم من رواتب خلال مدة خدمتهم الطويلة؛ ٣٠ ألفًا أو٥٠ ألفًا، أو أكثر، وحين يصبحون «خبراء» فعلًا كم ستكون رواتبهم ومكافآتهم وعضويتهم «المجاملة» في كثير من مجالس الإدارات ولجان متعددة، شأنهم في ذلك شأن التقليد الممارس حاليًّا!
-
ملاحظة: بعد نحو سنتين من تطبيق هذا القانون أحيل القانون إلى محكمة عليا — لعلها الدستورية — التي حكمت ببطلان القانون وإعادة الأمور إلى ما كانت عليه بالنسبة للأساتذة غير المتفرغين الذين كانوا قبل صدور القانون يتقاضون المكافأة الأعلى. أما الأساتذة المتفرغين الذين يبلغون سن السبعين فيما بعد فيطبق عليهم المكافأة الأدنى. وبعبارة أخرى فقد حدث اختلال في المكافآت بين أساتذة غير متفرغين قدامى ومحدثين. صحيح أن هذا الاختلال سوف يزول بمضي السنين، ولكن مجرد وجود فئتين من هؤلاء الأساتذة فيما يختص بقيمة المكافآت هو أمر قانوني يثير العجب! فهو نوع من المصالحة بين أوضاع كانت قائمة وبين قانون جديد مر على عجل.
-
ويدعونا هذا الموقف وغيره للتساؤل مرة ومرات هل هذه قيمة تكريم المجتمع لأساتذته في شيخوختهم؟ لقد طالبت الجامعات بتطبيق كادر القضاء على الأساتذة دون جدوى. وحتى ما بقي من بعض تميز أزاله القانون الجديد. أليس من الواجب الآن المطالبة برفع مكافآت الحالية من ١٩٠ إلى ألف جنيه كتقدير وتكريم؟!
(٣-٣) مشكلة جزيرتي الوراق والدهب
أثار قرار اعتبار الجزيرتين أرض منفعة عامة عاصفة من الاحتجاجات من قبل ٣٠–٤٠ ألفًا من المواطنين ساكني الجزيرتين ويعملون بهما منذ عشرات السنين. وحسب ما قرأته فإن قرار الحكومة باعتبارهما أرض منافع عامة بني على مقولة أن الجزيرتين قد ظهرتا بعد السد العالي؛ أي منذ ٣٠ سنة! وحتى لو كان ذلك القول أمر حقيقي فإن حق وضع اليد للمزارعين والساكنين ينطبق بالتمام والكمال، ويصبح المطلوب توفيق أوضاعهم مع وزارة الزراعة أو غيرها، دون المساس بهذا الحق.
ولكن مقولة أن الجزيرتين تعودان إلى ما بعد السد العالي مقولة يجانبها الصواب تأسيسًا على وجود الجزيرتين على خرائط المساحة المصرية ١–١٠٠٠٠ جزيرة الوراق في لوحة روض الفرج رقم (٣) من لوحات مدينة القاهرة صادرة سنة ١٩٢٩، وجزيرة الدهب على اللوحة (٩) الجيزة والروضة من خرائط القاهرة ونفس المقياس وصادرة ١٩٢٩، كما تظهر أيضًا على اللوحة (١١) مصر القديمة وساقية مكي وصادرة عام ١٩٣٤. ومعنى ذلك أن الجزيرتين مأهولتان تمارس فيهما زراعة الحقل والأشجار والعمران القروي منذ ٧٢ سنة على الأقل، حسب سجل رسمي تمثله خرائط مصلحة المساحة المصرية الحكومية. والغالب أن هناك خرائط أقدم في مكتبة مصلحة المساحة المصرية.
على أية حال ادعاء أنها أرض منافع تدحضه الخرائط الصادرة عن المساحة التي هي أعلى جهاز موضوعي في مصر. وربما أضيفت هذه الحقيقة إلى مواقف يدعم أحقية الأهالي بالشراء أو التوريث أو وضع اليد. ولعل في وزارة الزراعة ما يثبت ذلك أيضًا.
وقد أعلن رئيس الوزراء أنه لا مساس بالحقوق القائمة، فكيف يتفق ذلك الإعلان مع القرار الوزاري أن الجزيرتين أرض منافع؟ وربما يكون توصيف المنفعة العامة منطبقًا على الأرض التي أضيفت نتيجة هبوط مستوى النهر بعد السد العالي حول الجزر، وهي بدون شك أراضٍ هامشية وتخضع لحق الشفعة باعتبارها امتداد لملكية مجاورة، وهو حق معمول به كالقانون تمامًا. وعلى أي الحالات فالحكم في ذلك يرجع إلى الصور الجوية أو أي مساحة أجرتها المساحة المدنية بعد، ١٩٧٠ حيث ستتضح حقيقة ومساحات الإضافات إلى الجزر وفيما إذا كانت أرض شفعة أو أرض جزاير حسب المتبع في مصر قبل السد العالي.
ما الحكمة في إثارة هذه الزوبعة؟ هل هي التخوف من إقامة عشوائيات؟ وإذا كان ذلك فلماذا لم تمنع السلطات الوزارية المسئولة تلك العشوائيات البشعة المتنامية أمام أعيننا حول الطريق الدائري في المرج وشبرا الخيمة وإمبابة والجيزة فوق أرض زراعية منتجة؟ أين وزارة الإسكان والتعمير والمرافق العامة، وأين وزارة الزراعة وقوانينها التي تمنع البناء على الأرض الزراعية خارج الكوردون العمراني للمدن والقرى، وأين محافظات القليوبية والجيزة والقاهرة وأجهزتها التنفيذية في إزالة المخالفات؟ أين كل هؤلاء من تلك العشوائيات التي ما زالت تبنى حول الطريق الدائري فتهدر قيمته؟
إذا كان الأمر كذلك، فلماذا نمنع عشوائيات في الجزر ولا نمنع غيرها؟ أليست هناك حقوق ملكية تحترمها الدولة؟ أم هل الغرض إزالة السكان والمزارع وتحويل الجزيرتين إلى أماكن سياحية بالمعنى الذي نمارسه؛ فنادق ومطاعم وملاهٍ كلها من فئة النجوم الخمسة؟ لماذا تجميل الهدف بتوصيف غير مطابق للواقع؟ لماذا لا نتصارح بالغرض الحقيقي أيًّا كان، ثم تدفع تعويضات حقيقية لآلاف المواطنين، أم أن ادعاء أنها أرض منافع سوف يسهل للحكومة الحصول عليها بأقل القليل من التعويضات؟!
(٤) نموذج سلوكيات يحتذى
ليست كل القيم في مصر مهدرة أو في حالة تفسخ ووضع غير مفهوم. بل هناك بعض بارقة أمل في ظهور مؤسسات وجمعيات خيرية لا تسعى للربح، بل إن سعيها غالبه هو إلى تضميد بعض الجروح في المجتمع بعيدًا عن تحميل الأجهزة الحكومية الكثير من العنت التي قد لا تقدر على الاستمرار فيه بنفس قوة الخطوات الأولى.
وثمة احتياجات أخرى اجتماعية تعليمية ومهنية أو وقائية أو علمية بحثية. وفي بعض هذه الاحتياجات تظهر الفروق في التراتب المجتمعي المهين بين قمة الغنى والوفرة وحضيض الفقر والعوز والفاقة، وبخاصة في احتياجات التعليم والتأهيل المهني واتباع تعليمات الوقاية بأشكالها الصحية والغذائية والتوالد السكاني. أما الاحتياجات العلمية والبحثية فهي للنخبة المؤهلة لذلك العمل، لكنها قد تفتقر إلى التجهيزات اللازمة لإجراء البحوث، أو أن دخل مثل هؤلاء الأفراد من التواضع بحيث تؤدي ببعض المؤهلين إلى التماس مواصلة الحياة في وظائف تكاد تمنعهم من إجراء البحوث، وبالتالي يفقد المجتمع بعض المتميزين في المجالات البحثية التي هي أساس التقدم أو مواكبة ابتكارات الزمن.
الفرق بين الجمعيات والمؤسسات الخيرية؛ أن الأولى تمولها التبرعات التي يهبها الخيرون من الناس مرة أو تكرارًا، بينما الثانية لها دخل ثابت من مخصصات مالية وعقارية رصدها واحد أو أكثر من الأشخاص أو شركات كبرى صناعية أو تجارية تخصص للمؤسسة المعنية أموالًا وممتلكات دائمة أو نسبة مئوية قد تصل إلى ١٠٪ من مبيعاتها السنوية لتدير بها شئونها الخيرية. كما تتقبل المؤسسات منح وهبات ضمن شروط معينة يتبرع بها آخرون لتدعيم أنشطة المؤسسة وزيادة فعاليتها. وعلى هذا فإن الجمعيات الخيرية التي تقوم فقط على التبرعات قد تعاني من نقص أو تدفق التبرعات سنة عن أخرى، مما قد يؤدي بها إلى ثبات النشاط الخيري وعدم قدرتها على زيادة فعاليتها، بل إنه في حالات قد يؤدي إلى الانكماش وتحول إدارة الجمعية إلى أيدٍ أخرى حكومية أو أهلية؛ ولهذا فإنه من المستحسن أن تكون لدى الجمعية أرصدة مالية عاملة أو ممتلكات عقارية تزودها بدخل شبه ثابت يعوض الذبذبة في كم التبرعات السنوية.
ولقد عرفنا في مصر منذ زمن بعيد نظام الوقف الخيري لصالح نشاط جمعية في مجال ما من مجالات خدمة المجتمع. وأظن أقدمها كان مارستانات العصر المملوكي — أشهرها قلاوون والمؤيد شيخ — حيث يعالج المرضى بشيء كثير من العناية والإخلاص المهني والإنساني، وربما على هذا النسق كانت مستشفى الجمعية الخيرية الإسلامية على نيل العجوزة — تعود إلى الربع الثاني من القرن الماضي — ومبرة محمد علي في مصر القديمة. ولست أعرف ماذا صارت إليه الأمور بعد إلغاء الأوقاف والجمعيات في النصف الثاني من القرن الماضي، أغلب الظن أنها تحولت إلى مستشفيات حكومية أو هيئة عامة لوزارة الصحة. وكذلك كانت هناك جمعيات خيرية في مجال التعليم، كمدارس الجمعية الخيرية أو رقي المعارف التي أصبحت مدارس حكومية على المنوال نفسه التي جرت عليه الأمور في النصف الثاني من القرن الماضي. وكانت هناك أوقاف خيرية من أطيان زراعية لدعم البحوث العلمية. والمثال الذي أعرفه جيدًا حالة الجمعية الجغرافية المصرية التي تواجه الآن أخطار مافيا انتهاب الأراضي الموقوفة عليها، برغم أنها أوقاف خيرية وليست أهلية، وبالتالي لا يصح التصرف فيها. وإذا تمكن المدعون من الاستيلاء على هذه الأوقاف، فإنه مما لاشك فيه أن الجمعية الجغرافية سوف يهددها الانكماش بعد نحو قرن ونصف قرن مجيدة من النشاط العلمي المشهود له عالميًّا!
أكتب هذا الموضوع بعد زيارة قمت بها مؤخرًا لمقر «جمعية أصدقاء الغد المشرق» الكائنة في مدينة السلام على أول طريق بلبيس الصحراوي. وهي جمعية خيرية أنشئت ١٩٨٩ وبنت مقرها الكبير الحالي في ١٩٩٧. وهي — كغيرها من الجمعيات المماثلة — ترعى ذوي الاحتياجات الخاصة ذهنيًّا، ولكنها ربما تتميز بأن بها قسمًا خاصًّا للمعاقين ذهنيًّا وحركيًّا، وهي مهمة صعبة في حاجة إلى كفايات طبية وفكرية واجتماعية عالية ومتفانية في العمل الإنساني.
وفي مصر جمعيات خيرية تقوم بواجبها الإنساني في ظل ظروف صعبة، وبخاصة نقص التمويل مما يؤدي إلى الكثير من الدعوة إلى التبرع بشتى وسائل الإعلام، وبالأخص على التلفزيون مثال ذلك مستشفيات الأورام والأطفال وغير ذلك كثير.
وهذا يقودنا إلى التفكير الجاد في تحويل بعض هذه الجمعيات الخيرية إلى مؤسسات خيرية، بمعنى أن تكون الدعوة لا للتبرعات المرحلية فقط بل إلى وقف أملاك وعقارات وأرصدة دائمة للمؤسسات، بحيث تضمن استمرارها في أعمالها الخيرية دون اهتزاز مصادرها المالية. فالمؤسسات ليست في حاجة فقط إلى أبنية وتجهيزات وعمالة مخلصة لنخبة من الأخصائيين، بل يجب أن تكون هناك من الموارد ما يسمح بتحديث التجهيزات المعملية وترتيب عمالة دائمة مدفوعة الأجر. فالعامل تبرعًا قد لا يحاسب كالعامل الدائم، كما أن هناك طاقة لفعل الخير لا يمكن قياسها على مدى زمني طويل. إذن المؤسسة هي بنية ذات قوام متكامل، وبالتالي أكثر ثباتًا ودوامًا من الجمعية الخيرية. وليس الغرض أن تتحول كل الجمعيات إلى مؤسسات خيرية أو شبه خيرية، فلكل مهام ومواصفات لا يستغني عنها المجتمع المدني خاصة في البلاد النامية التي نحن منها بدون جدال.
كل هذه المؤسسات تنفق مليارات الدولار والجنيه واليورو من أجل تحقيق معادلة المجتمعات والمساعدة على تقليل الفروق الكبيرة بين العالم المتقدم والنامي. ومما لا شك فيه أن هناك لوائحَ وقوانينَ ولجانًا حكومية استشارية لمنع تضارب المؤسسات في مهامها واختصاصاتها. هذا فضلًا عن أن الأموال المخصصة لمثل هذه المؤسسات هي خاضعة للإعفاء الضريبي أو ما يشبه ذلك.
ونحن في مصر في حاجة إلى مثل هذه المؤسسات، وحري بكبار الرأسمالية المصرية أن تنشأ على نحو مماثل وعلى مقياس مصر مؤسسات في شتى الاتجاهات التي يحتاجها مجتمعنا. هل نجد في مستقبل قريب مؤسسات تحمل أسماء مؤسسيها في الصناعة والزراعة والبيئة والسكان والتعليم وسلوكيات الفندقة والسياحة، وإرشادات الحياة في المدن بعد هجرة الريف غير المنضبطة، بدلًا عما نقرؤه عن أشكال الفساد والتهرب من الضرائب وتهريب الأموال للخارج؟
(٥) قضايا التراث: على هامش ندوة علمية
(٥-١) دعوة ملحة لحماية جذور الحضارة المصرية
إذا كانت «مصر هبة النيل» كما قال هيرودوت، فإن «مصر هبة الصحراء» أيضًا، كما يؤكد علماء ما قبل التاريخ في معهد هاينريخ بارت في جامعة كولن بألمانيا، الذين يقومون بدراسات مضنية منذ سنوات بحثًا عن أركيولوجيا الحضارة في مصر الصحراء، في الفترة من خمسة إلى عشرة آلاف سنة مضت قبل أن تتحول إلى الصحراء التي نعرفها الآن.
في شهر مارس الماضي نظمت هيئة اليونسكو بالقاهرة، وبالتعاون مع هيئة المساحة الجيولوجية المصرية ندوة علمية أشبه بالمهرجان الرصين، في قاعة رشدي سعيد المجهزة للندوات والمؤتمرات على أفضل ما يكون، بعنوان «تراث حضارة مصر فيما قبل التاريخ». وقد شارك في الندوة كوكبة من العلماء المرموقين من المصريين والأجانب، ولمعظمهم دراسات ميدانية وحفائر تمتد إلى أكثر من ثلث قرن في الصحاري المصرية. قدم الندوة وأدارها د. سمير رياض عن اليونسكو، وشارك د. رشدي سعيد الجيولوجي المصري ذو السمعة العلمية العالمية، ود. أبو الحسن رئيس المساحة الجيولوجية بكلمات ترحيب وثناء على المجهودات الجادة لهؤلاء العلماء الأجلاء، في خدمة التعريف بحضارات ما قبل التاريخ التي تعتبر الجذور الأساسية التي منها استمدت الحضارة الفرعونية أصولها.
هذه البحوث المضنية في قلب الصحاري لا تفصح عن مكنوناتها إلا بالجهد المعرفي والتنظيم الإداري والمالي الجيد، والشراكة الفعلية في أحسن صورها بين المحافل العلمية المصرية والأجنبية، وأخيرًا العلماء المتميزين بالرغبة في كشف مصادر الحضارة الإنسانية في مصر.
فإلى جانب ما تقدمه الهيئات المصرية من إمكانات مادية وانتقال ومعيشة وعلماء ومعامل، هيئات مصرية متخصصة على رأسها هيئة المساحة الجيولوجية، وهيئة الاستشعار عن بعد، وهيئة الآثار المصرية، إلى جانب بعض الجغرافيين الجيمورفولوجيين والجيولوجيين المتخصصين، إلى جانب هؤلاء هناك العديد من الهيئات العلمية الأجنبية التي تشارك في هذه الأبحاث، نذكر منها أكاديمية العلوم البولندية، وجامعة لوفان البلجيكية، وجامعة المثودست في دالاس بالولايات المتحدة، وجامعة روما بإيطاليا، وجامعة كولن بألمانيا، وجامعة تورنتو بكندا، والمعهد الأركيولوجي الألماني بالقاهرة، والمعهد الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة.
وهذه الصورة من التعاون العلمي الجاد والمضني في آن واحد تعيد إلى الأذهان المشاركة والتعاون العلمي والمادي العالمي، أثناء إنقاذ آثار النوبة قبل بناء السد العالي في أوائل الستينيات. ولكن الصورة فيما يختص بحفريات ودراسة حضارات ما قبل التاريخ، هي أقل إعلامًا بالقياس إلى حالة النوبة، بحيث لا يكاد يعرفها سوى المهتمين بأصول الحضارة في وادي النيل سواء في مصر أو السودان.
حقًّا إن إنقاذ آثار النوبة اشتمل على نقل معابد وتماثيل ضخمة كأشياء مادية ملموسة مدون عليها سجلات التاريخ التي لا تقبل الشك إلا فيما ندر. وفي مقابل هذه الفخامة والضخامة نجد أن حفريات وبحوث ما قبل التاريخ لا تشتمل على مثل هذه الضخامة من الأبنية والمنحوتات الرائعة. وبرغم ذلك فإن هذه البحوث تكشف صفحات من حياة الحضارة مطوية وغير معروفة جيدًا، وتبين أن حضارة مصر الفرعونية لم تنشأ من فراغ، وإنما بجهود وئيدة على مر خمسة آلاف سنة قبل أن تشرق الحضارة الفرعونية بعظمتها وزهوها الذي أثار العجب والدهشة على مر الزمن، لدرجة أن بعض غير المتخصصين زعموا أن هذه الحضارة المصرية وافدة من كوكب آخر، وليست نبت إنسان أرض النيل وجهده المستمر المتصل طوال هذه الآلاف من السنين.
والبعض الآخر يدعي زورًا أن اليهود — كعبيد في مصر — هم الذين شاركوا في بناء الحضارة المصرية، وخصوا بالذات بناء الأهرامات على مثل هذه المشاركة. هذا مع العلم بأن اليهود — كمجموعة دينية — لم يظهروا إلا بعد خروجهم إلى سيناء في العصور الفرعونية المتأخرة، وأن من سبقهم كانوا قبائل من البدو تأتي أطراف الدلتا تستغيث من الجدب والظمأ، أو لتبادل حيواناتها بالمنتجات المصرية الزراعية شأنهم في ذلك شأن كل البدو الذين يأتون أطراف الدلتا والوادي على مر العصور قبل وبعد العبرانيين. والعبرانيون اصطلاح يصف المجموعة التي قبلت ديانة سيدنا موسى وخرجت من مصر وتاهت، وأقامت في الصحراء عدة عقود قبل أن تعبر نهر الأردن وتدخل فلسطين من الشرق، ومن ثم أصبحوا يعرفون باسم العبرانيين ومفردها «عبري» باللغات المختلفة. وللأسف الشديد إن إطلاق الأكاذيب سهل وليس لدى غالبية أبناء البشر قابلية التحقق، ومن ثم يبتلعون الكذب إلا فئة العلماء الذين يعرفون الحقيقة، ولكن ليس لديهم أبواق إعلامية كالكذابين!
وعلى أية حال فقد آن الأوان أن نعلن عن تلك البرامج البحثية كبرنامج عمل حضاري يبحث عن جذور قدر كبير من جهد الإنسان، للتعايش مع الظروف المناخية الملائمة منذ عشرة آلاف سنة، ثم انسحابه التدريجي إلى الأمان الذي يقدمه النيل الخالد نتيجة انكماش الأمطار وحلول الجفاف وتكوين الصحراء.
التمهيد المعرفي بالصحراء
المعرفة بالصحراء الغربية معرفة علمية جغرافية جيولوجية بشرية وحضارية تعود إلى عصر الكشوف الجغرافية المتأخر في أفريقيا. في القرن ١٨ وبتشجيع من محمد علي باشا كانت هناك محاولات من بعض الإيطاليين والفرنسيين، نذكر منهم بلزوني الإيطالي، وفردريك كايو الفرنسي، ودروفتي القنصل الفرنسي. وفي عصر الخديوي إسماعيل كان هناك مجموعة من الكشافين الجغرافيين والجيولوجيين الألمان، مثل جورج شفاينفورت وجوستاف ناختيجال، لكن أشهرهم وأكثرهم اكتشافًا للصحراء الغربية وتوقيعًا على الخرائط، كان الجغرافي جرهارد رولفس في رحلته المشهورة (١٨٧٣) من أسيوط إلى بحر الرمال الكبير (حيث كادت البعثة أن تهلك لولا سقوط أمطار مصادفة)، ومن ثم إلى سيوة. وقد مول الخديو إسماعيل هذه الرحلة العلمية بأربعة آلاف جنيه (وهو مبلغ كبير آنذاك)، وكانت البعثة تضم علماء أخر مثل الجيولوجي كارل زيتل، والطبوغرافي فيلهلم يوردان.
ومنذ أول القرن العشرين بدأت المساحة الجيولوجية المصرية أعمالها الكشفية بباحثين وعلماء إنجليز منهم ليونز وجون بول وهيوم وبيدنل. وربما كان جون بول أشهرهم كرحالة وكشاف، وشارك الأمير كمال الدين حسين في رحلاته إلى جنوب الصحراء وهضبة الجلف الكبير. وكذلك شارك الهنغاري الكونت لاديسلاف دا المازي الأمير كمال في بعض رحلاته للجلف الكبير (١٩٢٣). وللعالم الأثري أحمد فخري دراسات أثرية متميزة عن الواحات البحرية والفرافرة والخارجة.
وإلى جانب ذلك الأمير ورحلات الأمير عمر طوسون كان أحمد حسنين باشا أول رحالة مصري يعبر الصحراء من الشمال إلى الجنوب: السلوم إلى دارفور عام ١٩٢٣، وكان بذلك أول من اكتشف علميًّا جبل أركنو وجبل العوينات في نقطة تلاقي حدود مصر وليبيا والسودان، وكان قد سبق له في عام ١٩٢٠ أن شارك الرحالة الإنجليزية روزيتا فوربس من الساحل الشمالي إلى جغبوب والكفرة عام ١٩٢٠، وكانت روزيتا تتسمى في تلك الرحلة باسم خديجة، وبذلك تمكنت من دخول الكفرة التي كان السنوسيون يحرمون دخولها على الأجانب وغير المسلمين. ولرشدي سعيد (مدير المساحة الجيولوجية ١٩٦٨–١٩٧٧) أعمال هامة منشورة عن جيولوجية مصر ونهر النيل والصحراء، وربما كان من أهم أعماله تنظيم برنامج الدراسة العلمية للصحراء الجنوبية، وهو البرنامج القائم حتى الآن.
ولم تكن روزيتا فوربس هي المرأة الوحيدة التي قامت بأعمال كشفية، فقد كانت هناك الهولندية الكسين تيني (الصحراء الكبرى ١٨٦٩)، ودوروثي كلايتون (بحر الرمال والجلف الكبير ١٩٣٢)، وفالتراود لاما (زوجة سمير لاما الكشاف المصري في منطقة الجلف الكبير ١٩٤٦)، والهولندية أريتا باييتر (الفرافرة وبحر الرمال ١٩٩٥)، وأخيرًا كساندرا فيفيان التي بدأت اهتماماتها وأسفارها في الصحراء الغربية منذ ١٩٧٨، ولها كتاب جامع نشرته الجامعة الأمريكية سنة ٢٠٠٠ باسم «صحراء مصر الغربية» بالإنجليزية.
حضارة ما قبل التاريخ
هذا التمهيد المعرفي الطويل بالصحراء الغربية والذي استمر قرابة قرن ونصف القرن قد ساعد بدون شك في بدء الدراسات الأثرية والحضارية. كانت الفيوم — وما تزال — منطقة جذب أولي وهام لتلك الدراسات باعتبارها بيئة تغيرت على مر زمن سجله الجيولوجي مدروس ومعروف، وسجله التاريخي مكتوب ومدون منذ العصور الفرعونية والإغريقية والرومانية والإسلامية.
وكذلك كان من الطبيعي أن تبدأ دراسة حضارات ما قبل التاريخ في مناطق الهوامش الصحراوية للوادي والدلتا، ومن ثم كانت المنشورات العلمية عن حضارات العصر الحجري القديم في مناطق، مثل نجع أحمد الخليفة قرب أبيدوس في غرب محافظة سوهاج ويعود تاريخها إلى نحو مائتي ألف سنة، وآثار نزلة خاطر جنوب مدينة أسيوط التي تعود إلى نحو ٣٣ ألف سنة مضت، وآثار مناطق الشويخات والمخادمة قرب قنا، والكوبانية جنوب إدفو وتعود إلى أكثر من ٣٥ ألف سنة. وأحدث من هذا نجد بقايا حضارات عصر ما قبل الأسرات التي تعود إلى العصر الحجري الحديث وما بعده، مثل حضارة مرمدة بني سلامة في أقصى جنوب البحيرة غرب الدلتا، وحضارة الفيوم وحضارة البداري قرب أسيوط وكلها في حدود سبعة آلاف سنة مضت، ثم حضارة نقادة في غرب مدينة قنا ٦٠٠٠–٤٥٠٠ سنة مضت، ومنها انتشرت إلى باقي الوادي في أشكال متعددة، وحضارة المعادي ٥٨٠٠ سنة … إلخ.
وفي سيناء أماكن عديدة لآثار ما قبل التاريخ تكاد أن تتركز في ثلاث مناطق هي: سلسلة التلال الشمالية من المغارة إلى جبل لبنى وجبل حلال، وعين جديرات ومعظمها ترجع إلى العصر الحجري القديم الأوسط (٦٠–٣٥ ألف سنة مضت)، وواحدة تعود إلى عصر البرونز في المغارة بين ٤٨٠٠ و٣٨٠٠ سنة مضت. المنطقة الثانية: وادي جيرافي بين طابا والكونتلا وتعود إلى عصور متعددة من الحجري الحديث (٨ آلاف سنة) إلى النحاس.
خريطة مواقع آثار ما قبل التاريخ في مصر
عن هيئة المساحة الجيولوجية المصرية وهيئة الاستشعار عن بعد وهيئة اليونسكو — فبراير ٢٠٠٤، انظر ملحق الصور.
وفي الوقت الذي لم تحظَ فيه الصحراء الشرقية بدراسات عن الحضارة — ربما لأن آثارها تقع تحت ظل الحضارة الفرعونية وما تلاها من عصور — فإن الصحراء الغربية قد حظيت بالدراسات المتعددة، ربما لأنها لا تنتهي جنوبًا أو غربًا، بل تقود إلى علاقات ما قبل التاريخ وعلاقات العصور التاريخية كلها من مصر إلى السودان وتشاد وليبيا وشمال أفريقيا.
وبطبيعة الحال تركزت الدراسات حول الواحات حيث توجد أقدم الآثار في الخارجة والداخلة وتعود إلى الحجري القديم الأوسط (١٤٠–٤٠ ألف سنة)، وأوائل العصر الحجري الحديث (١٠–٧ آلاف سنة)، ونهايات الحجري الحديث (٧–٤ آلاف سنة)، وربما كانت أقدم هذه الآثار في منطقة بلاط في شرق الداخلة. وفي الفرافرة نجد معظم الآثار تعود إلى أواخر الحجري الحديث، وكذلك الحال في سيوة. وفي الجلف الكبير آثار تعود إلى عصري الحجري القديم والحديث معًا. وفي كل الحالات توجد آلاف مؤلفة من المنتجات الفخارية وكسر الفخار حسب صناعات وأشكال مختلفة. وفي أماكن كثيرة وبخاصة في وادي صورة في غرب هضبة الجلف الكبير رسوم على جدران الأودية لسيدات وصيادين، وأشهرها لوحة السباحين الرائعة. فعلى الأغلب كانت في تلك الفترة بحيرات — ربما موسمية حسب فصل المطر — تمارس فيها أنواع السباحة والقفز والغطس، كما توجد جداريات في منطقة كركر في منحدرات جبل العوينات تمثل قطعان الزراف وقوافل من الإبل وغير ذلك …
أبحاث الندوة
تركزت أبحاث الندوة حول الجزء الجنوبي الشرقي من الصحراء الغربية؛ أي تلك المنطقة التي تقع غرب أبو سمبل ومشروع توشكى بنحو ٨٠ كيلومترًا في حوض نبطه، وجبل الرملة شرقي طريق درب الأربعين التاريخي. والمنطقة مليئة بآثار عصر الحجري الحديث من واحة دنقل إلى صفصف وبير طرفاوي وبير صحرا.
وقد عرض الأساتذة علي مظهر (مصري)، وفرد ويندروف (أمريكي)، ورومولد شيلد (بولندي)، ورودلف كوبر (ألماني)، نتائج أبحاث عشرات المواسم بالخرائط والصور والأفلام. المنطقة كانت منذ نحو عشرة آلاف سنة تتلقى أمطارًا صيفية تسمح بتكوين بحيرات موسمية في المنخفضات، ونمو الكثير من الأعشاب والشجيرات، ومن ثم كانت الحياة البرية والطيور كثيرة مما سمح للسكان بالاستقرار على ضفاف البحيرات وممارسة الصيد ورعي الأغنام والأبقار، وربما زراعة أنواع من الذرة الرفيعة لفترة امتدت إلى نحو خمسة آلاف سنة مضت، قبل أن يحل الجفاف التدريجي والهجرة شرقًا إلى وادي النيل.
جمع الباحثون ١٢٧ نوعًا من بذور النباتات بما فيها السرغم — نوع من الدخن والذرة الرفيعة — وخضروات وفواكه ودرنيات ربما غالبها ناجم عن تجارة البدل والمقايضة مع جماعات أخرى، غالبًا على ضفاف النيل مقابل الأغنام أو الأبقار التي يرعونها. وعثر الباحثون على هياكل عظمية للإنسان في مختلف الأعمار وهيكل لبقرة صغيرة.
دعوة لإنقاذ التراث
الدعوة المطلوبة مبنية على عدة أسس أولها: أن الصحراء الغربية تحتوي على أماكن أثرية لم تكتشف بعد، وربما نفقدها إلى الأبد إذا ما دخلت بعض المناطق ضمن مشروعات الاستزراع والإصلاح الزراعي في الواحات أو شرق العوينات. وثانيًا: أشارت بعض الصور التي عرضت إلى أن مفيض توشكى يدفع خلال مواسم الفيضانات العالية بكميات كبيرة من المياه، تكون بحيرات مختلفة الأحجام في منخفض توشكى الطبيعي. وهذا المنخفض قريب من مناطق الآثار، وبخاصة حوض نبطه. والخشية أن تتسرب المياه الباطنية فتطمر مناطق الآثار ويضيع تاريخ إلى الأبد.
صحيح أننا في حاجة إلى مشاريع الاستزراع، وفي حاجة إلى درء أخطار الفيضانات العالية، ولكن المطلوب إقامة ما يمكن لتحويل مياه المفيض بعيدًا عن نبطه وما حولها، وإجراء مسح أثري لمناطق الاستزراع شرق العوينات وغيرها، كي لا نهدم الميراث أثناء تلهفنا لإيجاد مجالات زراعية جديدة.
ويعرض البعض اقتراحًا بتحويل منطقة الجلف الكبير وجبل العوينات — بالاتفاق مع ليبيا والسودان اللتان تشاركان مصر ملكية الجبل — إلى محمية طبيعية وحضارية؛ تحسبًا للأضرار بما فيها من غنى أثري لا يعوض. فهل تستجيب الدوائر المسئولة في وزارات الري والزراعة والثقافة والبيئة بدراسة مشتركة للإبقاء على أصول التراث الحضاري؟ والمسألة في الحقيقة أكبر من الجهود المصرية وحدها، بل إننا نتساءل هل يمكن عقد اتفاق ثقافي شامل، بمشاركة هيئة اليونسكو، بين مصر والسودان وليبيا من أجل المحافظة على هذه المنطقة الأثرية الممتدة بطول حدود الدول الثلاث، لإفساح الوقت لمشروعات بحثية لمزيد من التنقيب والتقصي عن الجذور المشتركة لحضارة هذا الركن الشمالي الشرقي من أفريقيا.
(٦) قضايا جوهرية
(٦-١) التراث ليس ملكًا لأحد
قرأت هذا الأسبوع في إحدى المجلات الأسبوعية القاهرية أن محمية الغابة المتحجرة — جبل الخشب — في شرق القطامية مهددة بالزوال، نتيجة التوسع العمراني لوزارة الإسكان في منطقة التجمع الخامس بالقاهرة الجديدة. وحيث إن هذه الغابة الحجرية محمية طبيعية منذ ١٩٨٩، فالمتعارف عليه ألا تمتد إليها يد بالتغيير أو الإفساد سواء كانت يد جهاز حكومي أو يد أفراد ممن ينتهبون الأراضي العامة، وهم كثر.
مساحة المحمية الآن ستة كيلومترات مربعة هي البقية الباقية من غابات كانت تمتد في العصر الجيولوجي المعروف باسم «الأولوجوسين» — منذ نحو ٣٠ إلى ٢٠ مليون سنة مضت — في شمال الصحراء الشرقية من القاهرة-حلوان إلى منطقة خليج السويس الحالية. وفي تلك الفترة كان المناخ في شمال مصر مطيرًا مما سمح بنمو تلك الغابات التي ربما كانت ممتدة أيضًا إلى شمال الصحراء الغربية، لكن تعاقب عصور الجفاف غالبًا قد طمست معالم تلك الأشجار تحت تكوينات الرمال الكثيفة. وفي هذا العصر الجيولوجي كانت بداية ظهور الفيل بخرطومه المعهود حاليًّا، وظهور أوائل النسور والصقور في عالم الطيور.
المناخ — كما يعلم الجميع — ليس عنصرًا بيئيًّا ثابتًا على الدوام، بل هو يتغير من نقيض إلى نقيض تدريجيًّا على فترات زمنية طويلة، حسب مسببات ذلك الانتقال المناخي سواء كانت سريعة — عشرات آلاف السنين — أو بطيئة — مئات آلاف السنين — ومن ثم تعرضت أواسط أوروبا الحالية لمناخات مدارية وشبه استوائية منذ نحو ٥٠ إلى٤٠ مليون سنة. وتعرضت أوروبا وأمريكا الشمالية لمناخات جليدية متعددة منذ بضعة ملايين من السنين من الآن، ثم تحولت تدريجيًّا إلى ما هي عليه الآن مناخيًّا خلال قرابة المليون سنة الأخيرة. وبالمثل كانت صحاري مصر كلها تتمتع بمناخ أكثر رطوبة ومطرًا — نسبيًّا — حتى نحو عشرة إلى ثمانية آلاف سنة من الآن، ثم حل الجفاف سريعًا أو متباطئًا خلال الخمسة أو الستة آلاف سنة الماضية، فتراكمت تكوينات الرمال التي نراها الآن على تكوينات أسبق من الرمال والصخور، بحيث أعطتنا صورة الصحراء الحالية.
إذا عدنا لموضوعنا فماذا تعني غابة حجرية أو أشجار متحفرة أو حفريات شجرية ونباتية أو حفريات لأشكال الحياة الحيوانية والطيور، إلى آخر ذلك من مصطلحات علمية؟ حين يحل مناخ جاف أو شبه جاف تموت الأشجار وتحل المعادن الصخرية المذابة محل أنسجة النبات، وبخاصة جذوع الأشجار فتبقى على الشكل النباتي، ولكن في صورة متحجرة. ومثل ذلك يحدث في عالم الحياة البيولوجية، ولكن غالبًا في صورة انطباع كامل على وجه الصخر اللاحق.
لهذه البقايا الحفرية أهمية على جانب كبير عالميًّا؛ لأنها تعطينا مؤشرات عن جوانب الحياة على ظهر الأرض وتطوراتها المختلفة. هذه الحفريات الشجرية — والنباتية الأخرى وحفريات الأحياء — تهم علوم النبات ومنها يستدل على شكل المناخ السابق على تكوينها. وهي أيضًا تهم علوم البيولوجيا؛ لأن لكل بيئة نباتية أشكالًا من الحياة الديدانية والحشرية والحيوانية، حتى لو كانت الحفرية المكتشفة صغيرة تبدو قليلة الأهمية، ففي فترة لاحقة قد تصبح مفتاحًا لأحد ألغاز الحياة. وتصبح القيمة المضافة للحفاظ على مثل هذه المحميات عالية لا تقدر بثمن قطعة أرض؛ لأنها تصبح — إذا ما درست من كل جوانبها — حلقة من حلقات المعرفة عن التغيير البيئي العالمي، تضاف إلى ما سبقها من معارف عن مناطق أخرى. وقد تساعد هذه المعارف أبحاث الفضاء في الكشف عن نماذج لأشكال من الحياة على كوكب مجموعتنا الشمسية، وبالأخص على سطح المريخ الذي هو الشغل الشاغل لتلك الأبحاث في الوقت الحاضر.
هذا فضلًا عما يصيب الفرد المواطن من زهو وافتخار أن بلاده تقع على خريطة العالم المعرفية. تمامًا كما نعرفه حين نقول: إن محمية وادي الحيتان قرب الفيوم هي إضافة علمية قومية وعالمية في آن واحد، وتمامًا أيضًا حين نزهو بحضارة مصر ذات الأغوار في العصور الفرعونية والمسيحية والإسلام.
ماذا تفعل وزارة الإسكان في محمية الغابة المتحجرة؟ ربما هي لن تمسها في الصميم وكل ما قيل: إنها تريد شق طريق وما يتبعه من بنية تحتية — مياه وصرف وكهرباء واتصالات — خلال المحمية من طرف إلى آخر. إلى هنا يبدو منطق التنمية العمرانية مقبولًا. لكنا نعرف ونعي وندرك تمامًا أن شق الطريق أمرٌ لا يتسم بالبراءة حتى لو كان ذلك هو كل مخطط وزارة الإسكان، ذلك أن أي طريق يجلب من ورائه ما نعرفه من مغزى المثل القديم «مسمار جحا». فالطرق كالمغناطيس تجذب التعديات الأولى التي سرعان ما تصبح هي القاعدة، حسب المثل السائر أيضًا «الحي أبقى من الميت».
في الأسطر السابقة أوضحنا أن القيمة العلمية أبقى وأدوم من تنمية عمرانية قد تزول في فترة لاحقة، وبذلك نخسر الأمرين خسارة مريرة. وفي الخبر الأسبوعي المشار إليه في مطلع هذا الموضوع أن وزارة البيئة قد تصدت لمخطط وزارة الإسكان، وبقيت معدات وآلات الحفر التابعة للإسكان على أسوار المحمية. صحيح أن وزارة البيئة قد تأخرت بعض الشيء لكن تصميمها المحافظة على المحمية قد أدى إلى مواقف متصلبة من الجانبين، حدت برئيس الوزراء إلى التوسط في الأمر وتشكيل لجنة للتقصي من ممثلين عن كل من الوزارتين بالاشتراك مع خبراء من وزارة البحث العلمي. وأيًّا كان رأي اللجنة فإنه ينقصها اشتراك علماء الحفريات لتقرير القيمة الحقيقية للمحمية.
- الوجه الأول: هو لماذا لا تبحث وزارة الإسكان عن طريق يدور بعيدًا عن المحمية، وبذلك تصبح عنصرًا فاعلًا في الحفاظ على المحمية بدلًا من تدهورها، وبذلك يصبح لها السبق في التصرف المتوازن بين احتياجاتها وحماية التراث، فالموضوع في جوهره ليس اختصام كل وزارة لاختصاصاتها وأعمالها، بل إن العمل الجماعي للوزارات يجب أن يكون هو الرائد خاصة إذا كان الموضوع يمس التراث القومي والمعرفي العالمي معًا.
- والوجه الثاني: هو لماذا تأخرت بحوث العلماء؟ وربما كانت الإجابة على هذا الوجه من السؤال على
النحو الآتي:
- (١) أن البحث العلمي في مصر ينقصه الشيء الكثير وبخاصة التمويل.
- (٢) وربما أيضًا أن هناك أولويات في ميزانيات البحث العلمي لدى الجامعات، بحيث تطغى في بعض التصورات على القيمة الفعلية لدراسات الحفريات بيولوجيًّا ونباتيًّا وإيكولوجيًّا.
- (٣) وربما — للمرة الثالثة — يقودنا هذا إلى طرح سؤال آخر هو لماذا لا تطرح الغابة المتحجرة كمشروع بحث علمي مشترك مع نظائر جامعاتنا وعلمائنا في أوروبا وأمريكا أو شرق آسيا؟ فمثل هذه البحوث شديدة التخصص شديدة التكلفة الميدانية والمعملية شديدة التخصص في النشر، وتحتاج في مراحل معينة إلى عقد أنواع مختلفة من الندوات والحلقات النقاشية والمؤتمرات العلمية، لتبادل الرأي والمشورة وما خاب من استشار.
ويقودنا الموضوع إلى مواضيع مماثلة في مصر والولايات المتحدة وألمانيا لنرى كيف يمكن التصرف في التراث العالمي.
«نبطه» وحضارة جنوب مصر
في أقصى جنوب الصحراء الغربية وعلى مبعدة يسيرة من أبو سمبل — نحو ٨٠ كيلومترًا غربًا — يوجد حوض نبطه الصغير الذي يضم مجموعة من الآثار الحضارية للناس منذ عشرة إلى ثمانية آلاف سنة مضت. ونبطه ليست سوى مكان واحد من عدة أماكن تمتد غربًا إلى مناطق آبار نخلاي وتخليص والشب وكسيبه وصفصف وطرفاوي وصحرا، وربما أبعد من ذلك غرب شرق العوينات، وقد تتصل المنطقة الأثرية بما هو معروف عن السكن البشري في العصور الحجرية في هضبة الجلف الكبير وجبل عوينات على الحدود المشتركة المصرية الليبية السودانية.
يحلل بعض الباحثين بعض الصور الفضائية للمنطقة ويطلقون تحذيرًا أن المنطقة قد تغرق أو تمحى آثارها الحفرية نتيجة وجود بحيرة عند نهاية مفيض توشكى في سنوات الفيضان العالي، وأن هذه البحيرات ليست بعيدة عن منخفض نبطه الصغير بحيث قد تنصرف المياه إليه أو على الأقل تتسرب إليه كمياه باطنية، ومن ثَمَّ ينادي بعض الباحثين بإعلان المناطق الجنوبية محمية طبيعية بشرية للحفاظ على خبيئات أثرية تكتشف في مستقبل الدراسات التالية، ومعلوم أن فيضان النيل ليس عاليًا كل سنة ومن ثم فالخطر — وإن كان كامنًا — إلا أنه لا يحدث كل سنة، ومع ذلك فمن الواجب اتخاذ احتياطات ما لحماية هذه المنطقة التي قد تكون أحد العناصر التي تشكلت عنها الحضارة الفرعونية الرائعة.
نموذج حضاري آخر مهدد
وقد أقيم سد لتوليد الكهرباء على بعد عشرة كيلومترات من بيج إدي على نهر زاك، مما أدى إلى تصريف مائي كبير عند التشغيل الأقصى للمولدات، مما ينجم عنه اندفاع الماء في المنخفض يغطي وينقل أدوات التراث ويربك تصنيف مواقعها، ويرى فريق البحث الحالي أن المنطقة كلها ستزول في أقل من ١٥ سنة، ومن ثم إسراع الفريق في العمل الموسمي الحقلي لتحصيل ما يمكن تحصيله قبل وقوع الكارثة، وهكذا فإن مصلحة محدودة تتغلب على أصول معرفية تعويضها مستحيل، فيا للأسف على الضياع!
نموذج للحفاظ التراثي من ألمانيا
عمر التكوينات في المنخفض نحو خمسين مليون سنة، وأهميته الاقتصادية كانت تكمن في وجود التكوينات الحجرية الإردوازية المحتوية على زيوت بترولية تصلح لاستخدامها كمصدر طاقة. وفعلًا استغلت تلك التكوينات منذ ١٨٧٥ حتى أوقفت عام ١٩٧١ — لارتفاع تكلفة المنتج بالمقارنة بالبترول المستورد أو بترول بحر الشمال — ورأت حكومة الولاية تحويل المنخفض إلى مكان توضع فيه نفايات — زبالة — مدن فرانكفورت ودارمشتاد وأوفنباخ. ولكن المناهضين لهذا القرار من المواطنين والعلماء والمعاهد العلمية الدولية وأحزاب البيئة لم يملوا معارضة الإجراء الحكومي لمدة ١٧ سنة، أمام هيئات ومحاكم مختلفة إلى أن استصدروا في عام ١٩٨٨ قرارًا من المحكمة يوقف قرار حكومة الولاية، وتحويل منطقة «ميسل» إلى محمية.
ومنذ ذلك التاريخ أصبحت منطقة «ميسل» كنزًا يغترف منه العلماء، وفرق البحث العلمي أدلة ومعارف عن نشأة المنخفض وأشكال الحياة وتطورها منذ تلك الحقبة البعيدة. لقد نشأ المنخفض كبحيرة في فوهة بركان خمد منذ ٤٧ مليون سنة في ظل ظروف مناخية حارة شبه مدارية، مما جعل المنطقة وسفوحها موطنًا للغابات البدائية، وموطنًا لحيوانات البيئات المدارية كالكائنات من عائلات السعالي — ربما أنصاف قردة — والخفافيش والثعابين وبدايات تكوين الطيور. وعلى القاع تنمو أعشاب المستنقعات والكثير من الألجا المستنقعية. ومن حين لآخر في الماضي كانت تنبعث غازات سامة تختلط بالمياه فأهلكت الأسماك والنباتات المستنقعية، وكثير من أشكال الحياة الأخرى التي حفظت في الطين، والذي تحول على مر الزمن إلى التراكيب الحجرية المحتوية على الزيوت.
كثير من الأشجار تحولت إلى حفريات بكاملها، وبعض الحيوانات حفظت بشكل مثير بجلودها وشعرها. ومما عثر عليه جنين حصان بدائي كامل، وسلحفاة لم تضع بيضها بعد، وثعبان مات بعد العشاء الأخير، وتمساح صغير بأسنانه كاملة، وحيوانات أخرى كالتابير وآكل النمل.
والخلاصة: أن ما عثر عليه البحث حتى الآن كان عبارة عن حفريات نباتية لمائة من العائلات النباتية و٤٣ من حفريات الطيور، و٣١ من الزواحف وثمانية حفريات من الأسماك وخمسة من الحيوانات البرمائية. ومعظمها معروض في متحف حفريات «ميسل»، وبعضها في متحفي دارمشتاد وفرانكفورت. وليس هذا كل شيء. فالعلماء لا يكلون عن استخلاص ميزانيات بحثية من كل الجهات للمزيد من المتابعة البحثية في هذا الكنز الزاخر بمعلومات باليونتولوجية، عن أشكال الأرض والمناخ والحياة في عصور سالفة.
وفي النهاية يجب أن أقول: إن الغرض ليس دعاية علمية؛ لأن العلم لا يحتاج إلى دعاية فهو ليس منتجًا للبيع، وليس له مكان في بورصة أسعار الأراضي والعقارات والسلع. لكن بورصة العلم الوحيدة هي المعرفة والمزيد منها حتى نفهم حساسية البيئة ودورنا في الحفاظ عليها، بدلًا من التصرف السلطوي من أجل مشروع اقتصادي — ناجح أو فاشل — سواء أدى هذا إلى فقدان لقى أثرية تراثية وضياع فرصة جديدة من فرص المعرفة التي لا تقدر بثمن. وقد قيل: إن مثل ذلك قد حدث عند حفر نفقي الأزهر، فإذا صحت هذه المقولة نكون قد أضعنا للأبد فرصة التعرف على حقائق تاريخية كانت مدفونة تحت القاهرة الفاطمية المملوكية.
إن النموذج الألماني في المحافظة على التراث يعطينا مثالًا قويًّا كيف يكون الحفاظ وعدم الملل في التمسك بالقضية ١٧ سنة، والنجاح آخر الأمر بتحويل المنطقة إلى محمية يحترم الجميع حدودها بقوة القانون.
ومنطقة الغابة المتحجرة التي أثارت هذا الكلام ليست في حاجة إلى حكم قضائي، فهي محمية معلنة منذ ١٩٨٩، أي منذ ١٧ سنة، والمطلوب أن تفك اللجنة التي تشكلت الاشتباك بين مساعي وزارة الإسكان في اختراق المحمية، وبين وزارة البيئة في الحفاظ على تكامل المحمية.
والأمل قوي والرجاء أقوى في أن يكون قرار اللجنة لصالح العلم والمعرفة القومية والعالمية.
(ملاحظة: الأغلب أن التعقل لصالح المحمية قد حدث وبعدت جرافات وزارة الإسكان عن الموقع.)
(٧) قضايا الرموز
(٧-١) أزمة ممارسة الديموقراطية
هل الديموقراطية أمل والاستبدادية أمر واقع؟
ولكن قبل الإغريق وإلى الوقت الحالي كانت هناك أنظمة حكم في الحضارات القديمة والحديثة، معظمها متغيرات بين الأنظمة الملكية والاستبدادية وأقلها الديموقراطية. كان الملوك في الماضي يحكمون بتفويض إلهي — ما لم يكونوا أبناء الآلهة — يساندهم في ذلك سدنة المعابد ورجال الدين. وحينما تحدث متغيرات اقتصادية اجتماعية يتغير النظام الملكي بالثورة والقوة تنتهي بانفصال الدولة إلى حكومات محلية صغيرة، كما حدث في مصر الفرعونية مرتين على الأقل، أو من أجل حكم الشعب بالشعب كما حدث في فرنسا. لكن شهوة السلطة تدفع الثوار إلى العودة إلى الاستبدادية والنظام الملكي، كما حدث في الثورة الفرنسية حين تحول القنصل نابليون إلى إمبراطور، ثم تذبذب نظام الحكم الفرنسي بعد سقوط نابليون بين الملكية والجمهورية والملكية مرة ثالثة، إلى أن استقرت الجمهورية الانتخابية بعد معاناة وتضحيات طويلة من قبل الشعب الفرنسي.
وكذلك الحال مع الثورة الماركسية اللينينية في الاتحاد السوفيتي التي تحولت إلى جمود حكم الأوليجارشية — كبار السن من زعماء الحزب — بحيث صاروا كأنهم سدنة النظرية الشيوعية إلى أن تفككت بشكل درامي عند أول ممارسة للمصارحة والتجديد في عهد جورباتشوف الأصغر سنًا من الزعماء السابقين. فكأن دعوة جورباتشوف للمصارحة والمشاركة قد فتحت «قمقم» مارد الشعب من أجل الإصلاح، استغله الأشرار في عهد يلتسن لضرب البرلمان بالمدفعية للقضاء على الدعوة للديموقراطية. ولا يعفي خبراء السياسة الحرب الغربية المستترة في عالم الاستخبارات المضادة للشيوعية من دور هام في إسقاط الاتحاد السوفيتي، وإضعاف روسيا من أجل زعامة أمريكية مطلقة للعالم دون منافس.
وفي أوقات البأس والشدة تبحث الشعوب عن البطل الذي يتحول إلى الزعيم الملهم. لكنه بدوره يتحول إلى الحكم بحزب واحد يضم الناس جميعًا — طوعًا أو كرهًا — كما حدث فترة النازية في ألمانيا، وما حدث أيضًا في أنظمة شبيهة تعتمد التاريخ المجيد منطلقًا، والحزب المتزمت وسيلة حكم بوليسي ينتهي بالشعب إلى مصير مأسوي، كما حدث مؤخرًا في عالمنا العربي.
الصهيونية نموذج لاستخدام الدين
وفي معترك التخلف والتقدم تنعزل فئة ترى في العودة إلى الماضي حصنًا آمنًا. وأكثر أدوات الماضي قوة في إثارة التجمع استخدام الأديان بتفسيرات ضيقة الأفق قليلة المرونة قليلة التأهيل للمعاصرة العالمية، كما هو حادث الآن بين بعض أصحاب الديانات السماوية. فالصهاينة يستخدمون اليهودية بضراوة من أجل السيطرة ليس فقط على أرض فلسطين، بل أيضًا منابع القوة المالية والإعلامية في العالم وفي الغرب بصفة خاصة، ويروجون لأنفسهم أنهم دولة الديموقراطية والانتخابات الحرة — بعد غسل الأدمغة في الداخل والخارج — التي تتناقض تمامًا مع ممارساتها التعسفية واللامبالاة بحصد أرواح الفلسطينيين.
وفي أغلب التاريخ اليهودي كان ساسة وزعماء اليهود دائمًا ضد الاندماج مع الشعوب التي يعيشون بين ظهرانيهم. وتاريخهم مليء بذلك التكتيك من أجل استراتيجية البقاء كنواة صلبة لها قوتها الاقتصادية، ومن ثم السيطرة المالية المتشابكة بين يهود العالم. فكلما أصبحت الأمور يسيرة واضطهاد اليهود أقل عنفًا؛ أصبح الميل إلى الاندماج كبيرًا بين الأقلية اليهودية وبقية الشعب الذي يعيشون وسطه. حينئذ يفتعل زعماء الصهاينة وغلاة اليهود الحوادث التي تجلب عليهم غضب الشعوب من أجل أن يظل اليهود أقلية مضطهدة، ومن ثم تتوقف عملية الاندماج السلمي. وقد حدث هذا تكرارًا في أوروبا الغربية وروسيا القيصرية. حتى الاتحاد السوفيتي وقع تحت ضغوط هائلة إسرائيلية أمريكية من أجل السماح لليهود السوفيت بالهجرة — برغم عدم اضطهادهم — ولكن تحت دعاوى كثيرة على رأسها حقوق الإنسان، وحرية انتقال اليهود إلى إسرائيل — لكن الكثير منهم توجه إلى أمريكا وأوروبا الغربية بدلًا من إسرائيل.
وكمثال حي فإن يهود النمسا يفتعلون اليوم مطالب — تلاعب بقانون التعويضات — لمزيد من الدعم والتميز في إنشاء المدارس اليهودية، وقضايا تعويضات الإسكان التي ترفضها الحكومة النمساوية بحكم عدم التمييز، وبحكم أن قضية التعويضات قد تمت منذ فترة طويلة. والمعروف أن النمسا من الدول الأوروبية التي تستهدفها الحملات الدعائية والإعلامية الصهيونية منذ فترة رئاسة كورت فالدهايم للنمسا، والتي انقضت منذ بضع سنوات، ومنذ نجاح حزب «يورج هايدر» في الانتخابات النمساوية المعروف بميوله اليمينية والعرقية؛ بل إن برونو كرايسكي مستشار النمسا الأسبق يقع تحت مطرقة الدعاية الصهيونية برغم أنه يهودي؛ لأنه كان يتصرف على الأغلب كمواطن نمساوي اشتراكي المذهب قبل أن يكون يهوديًّا. ومعروف أن مطالب اليهود في النمسا تجلب تدخل إسرائيل في شئون تعتبرها النمسا أمورًا داخلية. وبعبارة أخرى هم نمساويون ولكنهم عمليًّا يطلبون البقاء كجالية دينية لها كل حقوق المواطنة، ولكن مع ولاء أكبر لإسرائيل. فماذا سيكون عليه الأمر لو طالب المسلمون النمساويون بموضوعات مشابهة؟ وماذا لو طالب يهود أمريكا بمثل ذلك التميز عن بقية الشعب الأمريكي؟
أطر الديموقراطية في العالم المتقدم
قد لا توجد معايير متشابهة للمارسة الديموقراطية لدى كل الشعوب، ولكن هناك إطار أساسي، يتلخص في تداول السلطة بواسطة الانتخابات بين الأحزاب المختلفة وفقًا للدستور. وتطبيق النظم الديموقراطية في فرنسا مختلف في خصوصياته عن بريطانيا أو إيطاليا، أو دول أخرى في أوروبا والولايات المتحدة … إلخ، من معسكر الدول المتقدمة. وبغض النظر عن الخصوصيات فإن تداول السلطة بين الأحزاب اليمينية والليبرالية أو الاشتراكية الديموقراطية واليسارية، وتجمعات أخرى كالخضر وأنصار البيئة، هو ما يعطي الدول المتقدمة نوعًا من الحيوية كل عدد من السنين تمارس خلالها سياسات اقتصادية اجتماعية متغيرة بين حين وآخر، مما يعطي دينامية لفئات متعددة. وبالرغم من أن أحزاب اليمين أميل إلى سياسات تحابي كبار الشركات وأصحاب الأعمال، وأن أحزاب الاشتراكية والعمال أميل إلى إيجاد توازن الدخول بين العمال والطبقات العليا، إلا أن الفوارق في سياسات اليمين واليسار ليست كبيرة فيما يخص الكثير من احتياجات التعليم والصحة والتأمينات الاجتماعية وتأمينات البطالة لمعظم فئات الناس.
ومما يعيب الممارسة الديموقراطية هذا الإنفاق من طائل المال في الحملات الانتخابية، وعقد الاتفاقات بين المرشحين وغير ذلك من مستتر الأمور. إلا أن هذا لا ينفي أن هناك كتلًا من الناخبين لها انتماءات وأفكار وحرية تعبير لصالح حزب أو آخر، وهو ما يمكن أن نحسبه لصالح حرية الانتقاء والتعبير، ومن ثم تبادل السلطة التي هي البديل الصحيح لبقاء حزب في الحكم سنوات طوال، مما يؤدي بالضرورة إلى ثقة زائدة وتعفن بعض قياداته، ومن ثم يؤدي إلى هزيمة الحزب عند تراكم متغيرات كمية غير محسوسة على مر السنوات، وقد حدث ذلك لكثير من الأحزاب المسيحية الديموقراطية في أوروبا التي استأثرت بالحكم مددًا طويلة، ثم سقطت بظهور متغيرات عدة أهمها: استقلالية السياسة الأوروبية عن الأمريكية، والتقدم الاقتصادي مع نمو السوق الأوروبية كمقدمة للاتحاد الأوروبي، فلم تعد مبادئ الأحزاب المسيحية الديموقراطية تنتمي إلى الجيل الجديد ولا تخاطب وجدانه.
كما أن الممارسة الديموقراطية الحقيقية في الانتخابات غالبًا ما تظهر نتائج شبه متوازنة بين الأحزاب، فلا نجد حزبًا يفوز بأغلبية ساحقة (+٨٠٪) كالتي نشهدها في انتخابات الدول النامية. ويكفي للتدليل على ذلك فوز بوش على أل جور بحفنة من الأصوات، أو فوز الأحزاب في أوروبا بنسب ضئيلة لكي تصل إلى الحكم، غالبًا بواسطة ائتلاف عدة أحزاب، ومثل هذه النتائج توضح انقسام الناخبين بناء على تأييدهم برامج حزبية ملزمة.
الديموقراطية في العالم النامي
مفاهيم الغرب من طلب تطبيق الديموقراطية في بلاد العالم النامي تختلف بشدة زمانًا ومكانًا وحسب مقومات استراتيجية غريبة متغيرة. توجد الآن في العالم النامي حكومات تمارس الديموقراطية شكلًا وليس موضوعًا، أو حكومات تمارس جزءًا وتتحفظ على الباقي من النظام الديموقراطي. وتتعرض بعض أنظمة في العالم النامي إلى انقلابات غالبها عسكري تمسك بتلابيب السلطة أزمانًا، إلى أن تحدث متغيرات سياسية دولية في إقليم ما تتطلب التدخل أو المساعدة على التغيير، كأن الديموقراطيات الكبرى كانت غافلة عن هذا أو ذاك من تلك النظم الاستبدادية، ثم اكتشفتها فجأة! مع العلم بأن بعض هذه الانقلابات تجد من بعض القوى الغربية تشجيعًا أو عونًا سافرًا أو مستترًا.
منذ نحو أكثر من ربع قرن تشكلت أحزاب عديدة على رأسها الحزب الوطني الحاكم، ومجموعة أحزاب أخرى كالوفد والتجمع … إلخ، يطلق عليها «أحزاب المعارضة» التي هي معارضة على استحياء؛ لأنها لم تَفُزْ في أي من الانتخابات التي جرت سوى بنسب جد ضئيلة، وهو ما يعزى إلى أشياء كثيرة منها: السطوة التي يمارسها الحزب الوطني، والفوائد المرجوة من الانضمام إليه سواء في الانتخابات أو بعدها. كما أن الأحزاب الأخرى أضعف من أن تجاري الوطني في شبكة مراكزه في الدوائر المختلفة. وربما ليست للأحزاب برامج تفصيلية، وإنما أطر عامة تشترك فيها كل الأحزاب. وكل هذا دعا بعض المحللين إلى القول بأن الأحزاب شبه منعزلة عن إيقاع الناس. وكذلك إلى القول بأن عدم تحقق شعارات المرشحين سواء من الحزب الوطني أو أحزاب المعارضة قد أدى إلى حالة من العزوف عن الاشتراك في الانتخابات بين نسبة لا بأس بها من الناخبين. ويزيد البعض توصيف هذه الحالة إلى أنها حالة لا مبالاة سياسية.
وقد يكون في ذلك جانب كبير من الواقع ولكن لماذا؟ في الماضي قبل الثورة كانت هناك محافل سياسية حزبية وغير حزبية لها جذور بين العمال والطلبة وبعض الفلاحين وكبار الملاك والصناعيين والتجار. وكان هناك تفاعل مستمر بين القيادات والقواعد المختلفة، بحيث إنه كان هناك تأثير على اتجاهات حزب كبير كالوفد في المواقف المختلفة. وهذه الفئات موجودة بيننا، فهناك العمال والفلاحون والطلبة والتوجهات الدينية والرأسمالية الجديدة، بعضها وطني والآخر معبر عن مصالح استثمارية خارجية. ولكي نحاول الخلاص من اللامبالاة والعزوف؛ يجب تفعيل أشكال عديدة من المشاركة السياسية بين غالبية فئات الناخبين بإشراكهم الفعلي بدلًا من جمعهم في منابر لا يتحدثون فيها إلا بالكاد. وألا تقتصر هذه الندوات على التوجهات العامة والتبرير، بل تمتد إلى قضايا سياسية عربية وأخرى محلية، وأن تصعد الآراء إلى أعلى دون خوف من نبض الشارع ومنطق الأحداث. مثل هذه هي التربة الصالحة للمشاركة السياسية الفعالة من المجالس المحلية إلى مجلس الشعب. وفي الاعتقاد أن المجالس المحلية والشعبية المنتخبة هي المدرسة الأولى، لتفعيل روح المشاركة والقدرة على المساءلة في كل الموضوعات العامة التي تمس سكان المحليات في الريف والمدينة: مناقشة مشكلات مزمنة كالتزايد السكاني والبطالة، وإشكاليات تسويق المنتجات وأسعارها، وسياسة الإسكان والحد من العشوائيات، وسياسة التعليم وإخراجه من المضمون الحالي ذي التوجه الأحادي من الابتدائي إلى الجامعة إلى تشعيبات تتوازى مع متطلبات عصر المعلوماتية، وغير ذلك من الموضوعات التي تمس كل الناس، من خلال مثل هذه المناقشات الصريحة في المحليات تتكون المشاركة السياسية الفعالة في مستقبل الديموقراطية في مصر، وتتشكل أحزاب أو برامج حزبية جديدة تنظر كثيرًا إلى الأمام وقليلًا إلى أمجاد الماضي …
(٧-٢) مفهوم الديموقراطية وتجريح تاريخنا المجيد
بعض الكتاب والشعراء يرسمون صورًا قائمة من الظلم وأشكال الحكم الاستبدادي لأحداث الماضي قياسًا على مفاهيم عصرنا الحالي، عصر ذيوع مفهوم الديموقراطية الراهن الذي ما هو إلا أحد المراحل التاريخية التي تمر بها البشرية. ذلك أنه لم تكن هناك مراحل ثابتة في تاريخ الفكر السياسي العالمي، ولم تكن هناك دائمًا مفاهيم عن الوطن والوطنية ونظم الدولة التي تغيرت كثيرًا من الوحدة الأرضية للقبيلة والعشيرة إلى وحدات إقليمية، أكبر صاحبتها القوة العسكرية ونظم الحكم الملكية الوراثية. وشهدت تلك الفترة حروبًا توسعية كثيرة من جانب الممالك المتجاورة كانت تتسم بالكثير من القتل واستعباد الشعوب المغلوبة، وهجرات كثيرة من الغالبين إلى أرض المغلوبين الذين يفر بعضهم إلى مهاجر جديدة لتكوين أوطان جديدة.
وتاريخنا في مصر والشرق الأوسط وأوروبا وآسيا مليء بمثل هذه الأحداث من عصور الفراعنة إلى البابليين والأشوريين، والحيثيين والفرس، وإمبراطوريات الصين والهند، والمقدونيين والرومان، وفتوحات الدول الإسلامية والحروب الدينية، وغزوات المغول، والاستعمار الأوروبي … إلخ، كم من البشر راحوا ضحية هذه الحروب المدمرة؟ كم من الأمم غابت عن التاريخ؟ وكم من المدن والحضارات زهقت أرواحها؟ وكم وكم ما شاء لنا السؤال سواء عن أنظمة الدول، أو أنظمة القبائل في أعماق أفريقيا وأمريكا قبل وبعد الغزوات الأوروبية والاستعمار الاستيطاني الأوروبي؟
هل كان الناس في تلك العصور غائبين عن الوعي بآفات الحكام الذين يحكمونهم ويقودونهم إلى حروب لا ناقة لهم فيها، كما يقول المثل القبلي البدوي؟ أم أن غالب الناس كانت تحدوهم الرغبة نفسها التي تتولد لدى الحكام من أجل الحرب والتوسع؟ صحيح أنه ربما ظهرت أفكار عن شكل من الحكم خلاف الأمر الواقع الاستبدادي — كما نصفه الآن — لكن مصير هذه الأفكار كانت غالبًا إلى زوال نتيجة سيادة الأمر الواقع — الاستبدادي — وقبول غالب الناس به؛ لأنه كان النسيج الذي من خلاله يجد الناس قوام حياتهم اليومية من نشاط اقتصادي وملبس وغذاء ومأوى ومكانة اجتماعية منخفضة أو مرتفعة. تمامًا كما يجد الناس أنفسهم في ظل الأنظمة الحالية: اعتياد على سلوكيات وقيم ودساتير، وطرق مألوفة وغير مألوفة لتأمين الحياة بأشكالها الفقيرة وفاحشة الغنى.
من هنا نعود مرة أخرى إلى التأكيد أنه من نافلة القول قياس الماضي على الحاضر، ووصف الماضي بالاستبداد والهمجية والظلم. فهذه مراحل تتطور من خلال ظروفها الحياتية الخاصة أفكار السيادة والحكم الملائم في كل عصر وزمان. صحيح أن تجارب الماضي لم تكن كلها منسقة منسجمة أو متشابهة. فهناك تجربة حكم ديموقراطي محدودة زمنيًّا ومكانًا بمدينة أثينا مقابل الحكم الاستبدادي في فترات أخرى في نفس المدينة، ومقابل نظام تسيطر عليه القوة العسكرية في إسبرطة المجاورة أو مقدونيا إلى الشمال من اليونان الأصلية، ويرى بعض علماء المصريات أن مصر مرت بمرحلة تفككت فيها قوة الملوك الآلهة بعد الأسرة السادسة (نحو ٢٢٠٠ق.م)، وأصبحت الأقاليم أكثر استقلالًا في إدارة شئونها، وأكثر مراعاة لمصالح الناس من أوتوقراطية نظام الحكم السابق.
ويغالي البعض في أن هذا التفكك حدث بصورة مفاجئة — ربما في شكل ثورة عارمة تضمنت أفكارًا عن أسلوب حكم أميل إلى الشعب منه إلى الملكية الوراثية. لكن زعماء الأقاليم ركبوا الموجة الفكرية الجديدة وطوعوها تدريجيًّا لإقامة حكم فراعين صغار. ثم عاد الحكم الملكي الموحد مرة أخرى ابتداء من الأسرة الثانية عشر (نحو ١٩٦٠ق.م)، بمجموعة قضايا كانت كالدستور — مكتوب وغير مكتوب — على رأسها تنظيم اقتصادي جديد معتمد على ضبط مياه النيل باستخدام منخفض الفيوم كخزان طبيعي للأخذ منه وقت الحاجة، مع استصلاح أراض حول البحيرة العذبة — تمامًا كما نفعل الآن تحت مسمى الخروج من الوادي واستزراع الصحاري ومشروع توشكى! وهناك أدلة يسوقها مارتن برنال في كتابه «أثينا السوداء» (الترجمة العربية): أن المصريين في تلك الفترة أو ما بعدها قد استوطنوا منطقة تثيبس — طيبة — إلى الشمال قليلًا من أثينا، وجففوا البحيرة التي كانت قائمة، وكونوا أسس اقتصاد زراعي متين في تلك المدينة ناقلين معهم تكنولوجية تجفيف البحيرات واستزراع شواطئها. فهل كانت تلك الفترة تشير إلى هجرات مصرية إلى منطقة بحر إيجة؟ العلاقات الثقافية قوية ومعروفة بين مصر واليونان القديمة خلال الألف الثانية قبل الميلاد. ولكن لو صح ما ذكره برنال فإن ذلك يعني تعرجًا جديدًا في تاريخ البحوث المصرية. فالمتعارف عليه حتى الآن هو أن مصر كانت تجتذب الهجرات إليها من آسيا الغربية (القبائل السامية وبعض الشعوب الهندو-أوروبية اللغة)، وبلاد اليونان، فضلًا عن بلاد شمال أفريقيا — تجمعات البربر — وشمال السودان — الزنوج والزنجانيون.
الخلاصة: أن الانتقادات التي توجه إلى الماضي هي انتقادات ظالمة بمقياس عصور الماضي. يرى أحد الشعراء المصريين — في حديث إذاعي — أن اسم «راكوتيس» — نسبة إلى قرية راقودة — هو أولى بتسمية مدينة الإسكندرية. يرى الشاعر أن الإسكندر لم ينشئ المدينة، وإنما عدل بعض الشيء في راقودة التي يصفها بأنها كانت مدينة كبيرة قائمة، وهو ما يحتاج إلى تدليل علمي. ويرى أنه من الظلم نسبة المدينة إلى الإسكندر؛ لأنه كان محاربًا غازيًا قاتلا. ألم يكن كل الفاتحين كذلك؟ وينسى أن الإسكندر خلص مصر من حكم فارسي استمر طويلًا، وأن المصريين قابلوا الإسكندر بالترحيب (٣٣٢ق.م)، كما فعلوا بعد نحو ألف سنة عندما خلصهم عمرو بن العاص من الرومان (٦٤١م)؟ وينسى أكثر أنه ترتب على حملة الإسكندر نشأة أسرة البطالمة التي حكمت مصر وفقًا لتقاليد مصر وديانتها برغم أصولها المقدونية، وأن الإسكندرية كانت لقرون طويلة منارة العلوم والثقافة والفلسفة في عالم آنذاك، ومذاهب دينية متعددة آخرها كنيسة الإسكندرية (نحو ٢٥٠م).
فكيف نقضي على هذه الدوحة الحضارية العالمية مقابل مفهوم محلي وطني — إذا جاز ذلك — وبعد فما هو قدر الإسكندرية على شجرة الحضارة العالمية، مقابل اسم راكوتيس — لم يتخلص الشاعر من التسمية اليونانية لراقودة، ومن ثم فضل عليها الاسم اليوناني الذي له رنين حضاري.
ومثل هذا ما يكتب وما يقال عن المظالم التي أحدثتها أسرة محمد علي بالمصريين. وبالمثل يوصف حكم المماليك الطويل، وينسى هؤلاء الناقمين أن أمجاد مصر القاهرة التي تفاخر بها هي فاطمية مملوكية، وأن مصر كانت تعيش رخاء وازدهارًا غير مسبوق جعلها مطمح الغزاة من عثمانيين وأوروبيين. خصائص الحكم والمنافسات القاتلة بين زعماء المماليك شيء كان يخص طبقة المماليك وحدهم. أما عامة المصريين من تجار وزراع وملاحين فكانوا يعيشون حياتهم قدمًا — تمامًا كما كان عامة الأوروبيين والصينيين والهنود يعيشون بعيدًا عن دسائس الحكام وأباطرتهم. صحيح أن الصراعات والحروب كانت تنعكس على الناس في رفع قيمة الضرائب، وقد تصيب بعضهم بالإفلاس — تمامًا كما نعاصره اليوم تحت مسميات عديدة منها التنمية والمجهود الحربي وضريبة المبيعات، وغير ذلك كثير.
أما أسرة محمد علي فهي — برغم المظالم وبرغم أصولها الأجنبية — بانية مصر الحديثة المستقلة عن الدولة العثمانية فعلًا وليس شكلًا. الثورة الزراعية في شكل الري الدائم — وبالتالي مضاعفة المساحة المحصولية آنذاك — وإدخال محصول القطن على نطاق تجاري صناعي، هي نتاج أفكار تبناها محمد علي، وأشكال الصناعة الحديثة آنذاك هي الأخرى أفكار كانت تدعم الآلة الحربية المصرية، وأعطت لمصر مقدمات في التحولات الصناعية من الحرفية إلى المشاغل والمعامل والمصانع. وإنشاء الجريدة الرسمية «الوقائع» كانت الأب الحقيقي لمولد الصحافة المصرية — أول أشكال الإعلام وأهمها حتى الآن، لقد كان مقدرًا أن تكون مصر واليابان فرسي رهان في التنمية والنمو في أفريقيا وآسيا. لكن تحالف الدول الأوروبية على مصر محمد علي باعتبارها دولة قوية، قد تخلف الدولة العثمانية المتهالكة إلى جوار أوروبا من ناحية وسيطرتها على الشرق الأوسط وطريق التجارة البري-البحري إلى المحيط الهندي من ناحية أخرى قد أوقف التقدم الاقتصادي المصري، بينما اليابان في جزرها البعيدة لم تكن تشكل تهديدًا حقيقيًّا للمصالح الأوروبية، ومن ثم تطورت بأسلوبها الذي فاجأ العالم في مطلع القرن الحالي بالقوة والنماء.
ولا شك أننا مدينون إلى عصر إسماعيل بالانفتاح الثقافي: أصول الكثير من المعاهد العلمية والمدارس بمراحلها المتعددة وبداية تعليم البنات، وتخطيط القاهرة الجديدة (الإسماعيلية = وسط القاهرة الآن)، وامتداد السكة الحديدية إلى الصعيد والتطوير الزراعي الصناعي، وفتح قناة السويس ونشأة مدن القناة — عدا السويس — كلها من بين أشياء أخرى تعود إلى أفكار بعض المصريين — على رأسهم علي باشا مبارك — والأجانب.
فكرة أن الأسر الحاكمة في مصر من أصول أجنبية تنطبق على أسرة محمد علي كما تنطبق على المماليك والأيوبيين والفاطميين والولاة في العصر العباسي والأموي والراشدي والبطالمة. فهل نبغض كل هؤلاء الحكام؟ الواقع أن هؤلاء قد تمصروا حقيقة، وأصبحت مصر هي بلدهم ووطنهم، مثل ذلك الكثير من الأسر الحاكمة في أوروبا. وعلى سبيل المثال فإن الأسرة المالكة الحالية في بريطانيا تعود إلى أصول ألمانية — ساكس كوبورج — وفي روسيا كان القياصرة خليط روسي ألماني. لكن كل هؤلاء كانوا مواطنين أوفياء لبلدهم. هكذا كان الحال في الماضي. وما حدث في الماضي ليس عليه قياس من الحاضر. الحكام الأجانب هم الذين يتبعون دول أجنبية تحكم، مثل الحكام الفرس أو الرومان في مصر. ومن ثم لا تجب المغالاة في الطعن في أنظمة الماضي على ضوء الأنظمة المعاصرة.
الديموقراطية كفكر سياسي سائد الآن في العالم ليس جامدًا غير متحرك. فالديموقراطية الأمريكية أو الأوروبية الآن غير الديموقراطية في القرن الماضي، وستتطور نتيجة الاتصالات العالمية سريعة الإيقاع. ولو جمدت الممارسة الديموقراطية على شكل معين ستصبح نظامًا راكدًا بالنسبة لمتغيرات العصر القادم. قيل: إن النظام العالمي تغير بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، وأصبحت أمريكا هي القطب الأوحد. ولكن تجربة سنوات قليلة أثبتت غير ذلك بدرجة محسوسة. فروسيا على قدر من النفوذ يمنع الغرب من التدخل بصورة قاطعة في جرائم وحشية ارتكبها الصرب في البوسنة، ويرتكبونها الآن في كوسوفا، وقوة الاتحاد الأوروبي تتنامى، وإن كانت تختفي في الأزمات الحقيقية تحت تراكمات محاولة إيجاد الصيغة الملائمة. والأزمات المالية المدمرة تكتسح مراكز قوة في الشرق الأقصى. وحكومة الولايات المتحدة في حالة مائعة فهي أقل تحددًا في خضم أحداث عالمية كثيرة بعد أن فقدت البعد الأساسي الرائد في تشكيلها، ألا وهو عدم وجود كتلة مناهضة. وهناك الكثير من المشكلات التي تواجه سياسة الولايات المتحدة تقف منها مواقف غير ثابتة، مثل حركة انفصال الشيشان عن روسيا، وكوسوفا عن يوجسلافيا، ونزاع تركيا واليونان، ومشكلة قبرص وقضية العراق وموقفها إزاء إيران وليبيا ونظام الحكم الرجعي في أفغانستان، الذي نتج عن تأييد أمريكا للحركات الدينية المتطرفة في العالم الإسلامي. لكن أكبر المشكلات الأمريكية هي اتخاذ صيغة ملائمة تساهم في حل أزمة السلام في فلسطين والأراضي التي تحتلها إسرائيل في غزة والضفة والجولان السوري والجنوب اللبناني. هل يعني هذا أن شكل ومحتوى الديموقراطية في الولايات المتحدة تتغير إلى شكل آخر غير الذي كان ممارسًا أيام روزفلت وأيزنهاور وكنيدي على سبيل المثال؟
مرة أخرى نقول: إنه لا داعي لتجريح رموز الماضي فهي جزء من التاريخ رضينا أم أبينا … فلنكن واقعيين ومنصفين فنحن لسنا جزيرة منعزلة، وإنما نتفاعل مع العالم ومرة نعطي ومرة نأخذ — هكذا حال الدنيا والله المستعان …