النماذج
(١) كيف ترمي حجرًا؟
افترِضْ أنك واقفٌ على أرض مستوية في يوم هادئ، وتُمسك في يدِك حجرًا، وتودُّ أن ترميَه إلى أبعدِ مسافةٍ ممكنة. إذا سلَّمنا جَدلًا بأنك ستُلقيه بقوة، فإن القرار الأهم الذي يجب اتخاذُه هو تعيين الزاوية التي يترك بها الحجر يدَك. إذا كانت هذه الزاويةُ مسطَّحةً للغاية، فإن الحجر سيسقط سريعًا على الأرض مع أنَّ له سرعةً أُفقية كبيرة، ومن ثمَّ فلن تكون لدَيه فرصةٌ للوصول إلى مسافةٍ بعيدة جدًّا. وعلى الجانب الآخر، فإنك إذا رميتَ الحجر لمسافةٍ عالية جدًّا فإنه يظلُّ مدةً أطولَ في الهواء، ولكن لن يُغطِّيَ مسافةً كبيرة على الأرض في هذه الحالة. من الواضح أننا نحتاج إلى حلٍّ وسط.
في ضوءِ هذه الاعتراضات، وبعضُها من الواضح أنه أكثرُ جِديةً من غيره، ما الموقف الذي على المرء أن يتَّخذه من العمليات الحسابية، والتوقُّعات الناتجة عنها؟ أحد الأساليب هي وضعُ أكبر عددٍ من الاعتراضات في الحسبان. ومع ذلك، فإن النَّهج الأصوبَ على النقيض من ذلك تمامًا؛ حدِّدْ مستوى الدقة الذي تُريده، وحاوِلْ تحقيقه بأبسطِ طريقةٍ ممكنة. وإذا علمتَ من خبرتك أن افتراضًا مبسَّطًا سيكون له تأثيرٌ ضئيل على الناتج، فينبغي لك الأخذُ بهذا الافتراض.
على سبيل المثال، سيكون تأثيرُ مقاومة الهواء على الحجر محدودًا نوعًا ما؛ لأن الحجر صغير، وصلد، ومُتماسكٌ إلى حدٍّ معقول. ولذا، لا مَغزى من تعقيدِ العمليات الحسابية بأخذِ مقاومة الهواء في الاعتبار، في الوقت الذي يُحتمَل فيه حدوثُ خطأٍ كبير وملحوظٍ في زاويةِ رمي الحجر على أي حال. فإذا رغبتَ في أخذ مقاومة الهواء في الاعتبار، فمن الجيد بما يكفي لمعظم الأغراض تطبيقُ القاعدة العامة التالية: كلَّما زادت مقاومةُ الهواء، تعيَّن رميُ الحجر بزاويةٍ أقربَ إلى الزاوية المستقيمة؛ لتعويض ذلك.
(٢) ما المقصود بالنموذج الرياضي؟
عندما يفحص المرءُ حلَّ مسألةٍ ما في الفيزياء، فإنه يحدث أحيانًا وليس دائمًا أن يُلاحظ فَرقًا واضحًا بين إسهامات العلوم وإسهامات الرياضيات. فالعلماء يضَعون نظرية، تعتمد في جزءٍ منها على نتائج الملاحظات والتجارِب، وتعتمد في جزءٍ آخرَ على اعتباراتٍ أكثرَ تعميمًا مثل التبسيط والقوة التفسيرية. ثم يفحص الرياضيُّون، أو علماءُ الرياضيات، النتائجَ المنطقية البَحْتة المترتبةَ على النظرية. وفي بعض الأحيان تكون هذه النتائجُ نِتاجَ عملياتٍ حسابية روتينية تتنبَّأ على وجه التحديد بأنواع الظواهر التي صُمِّمَت النظريةُ لتفسيرها، لكن تنبُّؤات النظرية أحيانًا ما تكون غيرَ متوقَّعةٍ بالمرة. وإذا أثبتَت التجارِبُ صحةَ هذه التنبؤات لاحقًا، فإنه يكون لدَينا برهانٌ قوي يؤكِّد تأييدَ النظرية.
ومع ذلك، فإنَّ فكرة تأكيدِ تنبُّؤٍ علمي ما تكون محلَّ نظر إلى حدٍّ ما؛ نظرًا إلى ضرورة إجراء تبسيطاتٍ من النوع الذي ناقَشتُه سابقًا. لنأخُذْ مثالًا آخر: في قانونَيْ نيوتن لكلٍّ من الحركة والجاذبية يقتضي الأمرُ ضِمنًا أنك إذا أسقطتَ جسمَين من الارتفاع نفسِه، فإنهما يرتطمان بالأرض (إذا كانت مستوية) في الوقت نفسِه. كان جاليليو هو أولَ مَن أشار إلى هذه الظاهرة، وهي ظاهرةٌ غيرُ بديهيةٍ نوعًا ما. بل إنها في الحقيقة أسوأُ من ذلك؛ فإذا أجريتَ التجرِبةَ بنفسك باستخدام كُرتَين إحداهما للجولف والأخرى لتنس الطاولة، فإنك ستجدُ أن كرة الجولف ترتطم بالأرض أولًا. إذن، بأيِّ معنًى كان جاليليو مُحقًّا؟
وبالطبع، فإن مُقاومة الهواء هي السبب الذي جعَلَنا لا نعتبر هذه التجرِبةَ دحضًا لنظرية جاليليو أو إبطالًا لها؛ إذ يَثبُت بالتجرِبة صحةُ النظرية عندما تكون مقاومةُ الهواء صغيرة. إذا وجدتَ أنه من الأنسب أكثرَ مما ينبغي اعتبارُ مقاومة الهواء هي المُنقِذَ في كل مرةٍ تُخطئ فيها تنبؤاتُ ميكانيكا نيوتن، فسوف تستعيد إيمانَك بالعلوم، وإعجابَك بجاليليو إذا أُتيحَت لك فرصةُ مراقَبة ريشةٍ تسقط في الفراغ؛ إنها في الحقيقة تسقط تمامًا كما كان سيسقُط الحجر.
تُوجَد العديدُ من الطرق لإنشاء نموذج لموقفٍ فيزيائي معيَّن، ويجب أن نستخدم مزيجًا من الخبرة واعتباراتٍ نظريةً أخرى لتحديدِ الشكل الذي مِن المحتمَل أن يكون عليه النموذجُ المُعطى ليُزودنا بمعلوماتٍ عن الواقع نفسِه. عند اختيار نموذجٍ ما؛ لا بد أن تكون الأولويةُ هي أن يتطابقَ سلوكُه بدقةٍ مع السلوك المُلاحَظ للعالم. ومع ذلك، ثَمة عواملُ أخرى — مثل البساطة والدقَّة الرياضية — يمكن غالبًا أن تحظى بقدرٍ أكبرَ من الأهمية. في الواقع، تُوجَد نماذجُ مفيدةٌ للغاية لا تُشبه تقريبًا الواقعَ الفعليَّ على الإطلاق، كما سيتَّضح من بعض الأمثلة التي سأعرضُها.
(٣) إلقاء زوج من النَّرْد
إذا ألقيتُ زوجًا من النَّرْد، وأردتُ أن أعرف كيف سيكون سلوكُه، فإنني أعرف بالتجرِبة أن هناك أسئلةً مُعيَّنة يكون من غير الواقعيِّ طرحُها. فمثلًا من غير المتوقَّع أن يُخبرني شخصٌ مقدمًا بناتجِ إلقاء النَّرْد في إحدى المرات، حتى إذا أُتيحَت له تكنولوجيا باهظةُ التَّكلِفة، فإنَّ إلقاء النَّرْد سيتمُّ آليًّا. وعلى النقيض من ذلك، فالأسئلة ذاتُ الطبيعة الاحتمالية مثل «ما احتمالُ أن يكون مجموعُ العددَين على كل نَرْدٍ سبعة؟» يمكن غالبًا الإجابةُ عنها، وربما تكون الإجابة مفيدةً إذا كنا — على سبيل المثال — نلعب لُعبة الطاولة مقابل المال. بالنسبة إلى النوع الثاني من الأسئلة، يُمكننا بسهولةٍ شديدة إنشاءُ نموذجٍ للموقف بتمثيل إلقاء النَّرْد على أنه اختيارٌ عشوائي لأحد الأزواج المرتَّبة الستة والثلاثين التالية:
ربما كان على المرء أن يعترضَ في هذا النموذج على أساس أن النَّرْد عند إلقائه يكون سلوكه موافقًا لقوانين نيوتن، ولو بدرجةٍ كبيرة من الدقة على أقلِّ تقدير، ومن ثمَّ فإن الوضع الذي يتوقَّف عليه النَّرْد يكون عشوائيًّا. ومن حيث المبدأُ يمكن حسابُ توقُّفه. ومع ذلك، فكلمةُ «من حيث المبدأ» هنا فيها مُغالاة؛ لأن الحسابات تكون معقَّدةً جدًّا، ويجب أن تُبنى على معلوماتٍ أدق عن الشكل والتكوين، والسرعة الابتدائية، ودوَران النَّرْد، مما يمكن قياسُه في الواقع. ولذلك، لا تُوجَد ميزةٌ على الإطلاق في استخدامِ نماذجَ أكثر حسمًا وتعقيدًا.
(٤) التنبُّؤ بالنموِّ السكاني
بل إنَّ هذا النموذج الرئيسي جيدٌ بما فيه الكفاية لإقناعنا بأنه في حالِ ارتفاع معدَّل المواليد بدرجةٍ كبيرة عن معدَّل الوفَيات، فإن عدد السكان سيزداد بسرعةٍ كبيرة للغاية. ولكنه أيضًا غيرُ واقعي على نحوٍ يجعل تنبؤاتِه غيرَ دقيقة. على سبيل المثال، افتراض أنَّ نسبة المواليد ونسبة الوفَيات ستظلان كما هما مدةَ ٢٠ عامًا ليست مقبولة؛ ذلك أنهما قد تأثَّرا في الماضي بالتغيُّرات الاجتماعية والأحداث السياسية مثل التطورات الحادثة في مجال الطِّب، والأمراض الحديثة، وارتفاع متوسِّط العمر الذي تبدأ عنده النساءُ في الولادة، والحوافز الضريبية، والحروب الواسعةِ النطاق في أجزاءٍ متفرقة من العالم. سببٌ آخر لتوقُّع تغيُّر نسبة المواليد ونسبة الوفَيات مع مرور الزمن هو أن أعمار السكان في البلد الواحد ربما تكون موزعةً على نحوٍ غير متساوٍ إلى حدٍّ ما. على سبيل المثال، إذا حدَث ارتفاعٌ مفاجئ في المواليد قبل ١٥ عامًا، فهناك مبررٌ لتوقُّع ارتفاع نسبة المواليد خلال ١٠ إلى ١٥ عامًا.
(٥) سلوك الغازات
وفقًا لنظرية الحركة للغازات التي قدَّمها دانييل برنولي عام ١٧٣٨، وتطوَّرَت على يد ماكسويل وبولتزمان وآخَرين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فإن الغاز يتكوَّن من جُزَيئاتٍ متحرِّكة، وكثيرٌ من خصائصه، مثل درجة الحرارة والضغط، هي خصائصُ إحصائيةٌ لهذه الجزيئات. درجة الحرارة مثلًا تُناظِر متوسطَ سرعة الجزيئات.
ومع أخذِ هذه الفكرة في الاعتبار، فلْنُحاولْ وضْعَ نموذجٍ للغاز الموجود في صندوقٍ مكعَّب. يجب بالطبع تمثيلُ الصندوق بمكعَّبٍ (وهو تمثيلٌ رياضي وليس فيزيائيًّا)، وبما أن الجزيئاتِ صغيرةٌ جدًّا فمن الطبيعيِّ تمثيلُها بنقاطٍ داخل المكعب. من المفترض أن هذه النقاطَ تتحرَّك، ومِن ثمَّ يجب أن نُقرر القواعد التي تحكم حركتَها. وفي هذه المرحلة، علينا إجراءُ بعض الاختيارات.
وليس من الصعب أبدًا استنتاجُ العلاقات العددية بين الضغط ودرجة الحرارة والحجم.
بمجرد اختيارنا للسرعات، نستطيع مرةً أُخرى أن نغُضَّ الطَّرْف تمامًا عن وجود تفاعلاتٍ بين الجزيئات. ونتيجةً لذلك، فإن النموذج المُحسَّن قليلًا سيشترك في كثيرٍ من عيوب النموذج الأول. ولا سبيلَ أمامنا لإصلاح ذلك إلا بوضعِ نموذج يُراعي هذه التفاعلاتِ بطريقةٍ أو أخرى. ويتَّضح أنه حتى النماذج البسيطة جدًّا لأنظمة الجسيمات المتفاعلة تتصرَّف بطريقةٍ مدهشة، وتُسفِر عن مشكلاتٍ رياضية صعبة للغاية، مُستحيلة الحل غالبًا.
(٦) نَمْذجة الدماغ البشري وأجهزة الكمبيوتر
يُطلَق على مجموعةِ البوَّابات المرتبطة بواسطة أضلاع اسمُ «دائرة»، وما استعرضتُه هنا هو نموذج الدائرة الحسابي. السببُ في أن كلمة «الحسابي» مناسبةٌ هنا هو أن الدائرة يمكن التفكيرُ فيها بأنها تأخذ متتابعةً واحدة من الأصفار والآحاد، وتنقُلها إلى متتابعة أخرى، طبقًا لقواعدَ محددة سابقًا، من الممكن أن تكون معقدةً للغاية في حالِ إذا كانت الدائرةُ كبيرة. وهذا أيضًا ما تفعله أجهزةُ الكمبيوتر، على الرغم من أنها تُترجم هذه المتتابعاتِ إلى صِيَغٍ يمكن فهمُها مثل لُغات البرمجة العاليةِ المستوى والإطارات والأيقونات وهكذا. ومن ثَم يصبح من السهل جدًّا (من الناحية النظرية، ولكنه يظلُّ كابوسًا مروِّعًا من الناحية العَملية) تحويل أيِّ برنامج كمبيوتر إلى دائرة تُحوِّل المتتابعات المكوَّنة من أصفارٍ وآحاد طبقًا للقواعد نفسِها تمامًا. علاوةً على ذلك، الخصائص المهمَّة لبرامجِ الكمبيوتر تكون لها ما يُماثلها في الدوائر الناتجة.
وعلى وجه الخصوص، فإن عدد الرءوس في الدائرة يُقابل المدةَ الزمنية التي يستغرقها برنامجُ الكمبيوتر في تشغيله. ولهذا إذا استطاع المرءُ إثباتَ أن طريقةً معيَّنة لنقل مُتتابعات الأصفار والآحاد تحتاج إلى دائرةٍ كبيرة جدًّا، فإنه يكون قد أثبتَ كذلك أنها تحتاج إلى برنامجِ كمبيوتر يستغرق في تشغيله وقتًا طويلًا للغاية. تتمثل مَيزةُ استخدام نموذج الدائرة بدلًا من تحليل أجهزة الكمبيوتر في أنه أبسطُ وأسهل وأقرب إلى الواقع.
يمكن أن يُسفر تعديلٌ صغير في نموذج الدائرة عن نموذجٍ مفيد للدماغ البشري. والآن، بدلًا من الأصفار والآحاد، فإن المرءَ لدَيه إشاراتٌ مُتباينة في قوتها، يمكن تمثيلها بأعدادٍ ما بين صفرٍ وواحد. البوابات التي تُقابل الخلايا العصبية، أو خلايا الدماغ، مختلفةٌ أيضًا، لكنها ما زالت تتصرَّف بطريقةٍ بسيطة للغاية. تستقبل كلُّ بوابة بعضَ الإشارات من البوابات الأخرى. فإذا كانت القوة الكلية لهذه الإشارات — أي مجموعُ كلِّ الأعداد المقابلة — كبيرةً بدرجةٍ كافية، فإن البوابة تُرسِل إشاراتها الخاصةَ بقُوًى مُعيَّنة. وإلا، فإنها لا تُرسل أيَّ إشارة. وهذا يُقابل قرار الخلية العصبية في أن «تستجيب» أو لا.
يبدو أنَّ من الصعب الاعتقادَ بأن هذا النموذج يمكنه التقاطُ كل تعقيدات الدماغ. ومع ذلك، قد يكون ذلك صحيحًا جُزئيًّا؛ لأننا لم نقل شيئًا عن عدد البوابات التي ينبغي أن تكون موجودة، ولا الكيفية التي ينبغي ترتيبُها وَفقًا لها. يحتوي الدماغ البشريُّ النموذجي على نحوِ مائة مليون خليةٍ عصَبية مُرتَّبة بطريقةٍ معقَّدة جدًّا، وعلى ضوء المعرفة الحاليَّة بالدماغ، من غير الممكن أن نقول ما هو أكثرُ من ذلك، على الأقل فيما يتعلق بالتفاصيل الدقيقة. وعلى الرغم من ذلك، فإن النموذج يُمِدُّنا بإطارٍ نظري مُفيد للتفكير في آليَّة عملِ الدماغ، وأتاح للناس مُحاكاةَ بعض أنواع السلوك الشبيهة بالدماغ.
(٧) تلوين الخرائط وإنشاء الجداول الزمنية
لنفترض أنك صمَّمتَ خريطةً مُقسَّمة إلى قطاعاتٍ، وأردتَ أن تختار ألوانًا لهذه القطاعات. ورغبتَ في أن تستعمل أقلَّ عددٍ ممكنٍ من الألوان، لكنك لا ترغب في تعيين اللون نفسِه إلى قِطاعَيْن متجاورَيْن. نفترض الآن أنك أردتَ أن تُنشئ جدولًا زمَنيًّا لمحاضراتِ مقرَّرٍ جامعي مُقسَّم إلى وحداتٍ تعليميَّة. عدد المواعيد المتاحة للمحاضرات محدود، ومن ثمَّ يحدُث تعارضٌ بين بعض الوحدات التعليمية وغيرها. ولدَيك قائمةٌ تُحدِّد كلَّ طالبٍ والوحدات التي يأخذُها، وتريد أن تختار المواعيد بحيث لا تتعارض وَحْدتان تعليميَّتان إلا إذا كان لا أحدَ يحضرهما معًا.
(٨) معانٍ مختلفةٌ لكلمة «مُجرَّد»
عند إنشاء نموذج، فإننا نُحاول قدْر الإمكان تجاهُلَ ما يمكن تجاهلُه من الأمور المتعلقة بالظاهرة قيد الدراسة، ونستخلص منها فقط السِّمات الأساسيةَ لِفَهم سلوكِها. في الأمثلة التي نوقِشَت اختُزِلَت الأحجارُ إلى نقاطٍ مفردة، واختُزِلَ سكان أيِّ بلدٍ إلى عددٍ واحد، واختُزِلَ الدماغ إلى شبكةٍ من البوابات التي تخضع لقواعدَ رياضيةٍ بسيطة للغاية، واختُزِلَ التفاعلُ بين الجزيئات إلى صفرٍ أو لا شيء. إنَّ البِنَى الرياضيةَ الناتجة هي تمثيلاتٌ مجرَّدة للمواقف المادِّية الجاريةِ نمْذَجَتُها.
الرياضياتُ موضوعٌ مجرَّد من منظورَين؛ إنها تستخلص السِّماتِ المهمةَ من مشكلةٍ ما، وإنها تتعامل مع كائناتٍ غير مادية وغير ملموسة. وسوف يُناقش الفصلُ التالي مفهومًا ثالثًا أعمقَ للتجريد في الرياضيات، وهو ما أعطانا المثالُ المذكور في الجزء السابق فكرةً عنه بالفعل. الرسم هو نموذجٌ مَرِن جدًّا له استخداماتٌ كثيرة. ومع ذلك، فلا داعيَ عند دراسة الرسوم أن يأخذ المرءُ استخداماتها في الاعتبار؛ لا يُهم إذا كانت النقاطُ تُمثِّل قطاعاتٍ أو محاضراتٍ أو غير ذلك تمامًا. يمكن للباحث النظريِّ في مجال الرسوم أن يترك العالمَ الواقعيَّ كُليةً وراءه ويدلفَ إلى عالم التجريد البَحْت.