يوضِّح الشكلُ أدناه خمسَ دوائر؛ الأولى منها لها نقطةٌ واحدة على مُحيطها،
والثانية لها نقطتان على المحيط، وهكذا. وقد رُسِمَت كلُّ الخطوط الممكنةِ للوصل
بين هذه النقاط، وقَسمَت هذه الخطوطُ الدوائرَ إلى أجزاء. إذا عدَدْنا الأجزاءَ
في كل دائرةٍ حصَلْنا على المتتابِعة . يمكن فَهمُ هذه المتتابعة فورًا: يبدو أن عدد الأجزاء يتضاعف
كلَّ مرةٍ عند إضافةِ نقطةٍ جديدة على مُحيط الدائرة؛ أي إن عددَ من النقاط ينتُج عنه من الأجزاء، على الأقل إذا لم تلتقِ ثلاثةُ خطوطٍ في
نقطة.
شكل ٣-١: تقسيم دائرةٍ إلى أجزاء
ومع ذلك، نادرًا ما يقتنع علماءُ الرياضيات بعبارةِ «يبدو أن». وبدلًا من
ذلك، فإنهم يطلبون برهانًا؛ أي: إثباتًا يجعل الجملة الرياضيَّة تتجاوز
كلَّ الشكوك الممكنة. ماذا يعني ذلك؟ على
الرغم من أن المرء يستطيع غالبًا إثباتَ صحةِ جملةٍ رياضية على نحوٍ يتجاوز كلَّ
الشكوك المعقولة، فلا شك أنه سيكون ضَربًا من المبالغة الزعمُ بأنَّ برهانًا ما
لا يترك مجالًا للشكِّ مهما كان. يمكن للمؤرخين تقديمُ العديد من الأمثلة على
جُملٍ وعبارات، بعضُها رياضية، كان يُظَن يومًا أنها لا يَرقى إليها الشكُّ،
ولكن تبيَّن فيما بعدُ أنها غيرُ صحيحة. فلماذا يُفترَض في النظريات الرياضية
اليومَ أن تكون استثناءً في ذلك على أيِّ نحو؟ سأُجيب عن هذا السؤال بإعطاء
أمثلةٍ لبراهين، وأستخلصُ منها بعض الاستنتاجات العامة.
(١) عدم نسبيَّةِ الجذر التربيعي للعدد
كما ذكرنا في الفصل الأخير، يُقال عن عددٍ إنه نسبيٌّ إذا أمكَن كتابتُه
على شكلِ كسر ، حيث و عددان صحيحان. ويُقال إنه غيرُ نِسبي إذا لم يمكن ذلك. أحدُ
أشهر البراهين في الرياضيات يُثبت أن عددٌ غير نِسبي. وهو يشرح تِقنيةً معروفة بأنها البرهانُ
بالتناقُض، أو البرهان بنَقْضِ الفَرض.
يُستهَلُّ البرهان من هذا النوع بافتراض أن النتيجة المطلوب إثباتُها غيرُ
صحيحة. ربما تبدو هذه طريقةً غريبة لتقديم البرهان، لكننا في الحقيقة نَستخدِمُ
غالبًا التقنية نفسَها في المحادثة اليومية. إذا ذهبتَ إلى قسم الشرطة لتقديم
بلاغٍ بأنك رأيتَ عرَبةً محطَّمة عمدًا، واتُّهِمتَ بأنك أنت مرتكبُ هذا
الفِعل، فإنك ربما تقول «إذا كنتُ أنا الفاعل، فما كنتُ لِأَلفِت الانتباهَ
إليَّ على هذا النحو». وعندئذٍ، ستتبنَّى مؤقتًا الفرضيَّةَ (غيرَ الصحيحة)
بأنك أنت الفاعل؛ لإثباتِ مدى سخفِ هذه الفرضية وعدم منطقيَّتها.
سنحاول البرهنةَ على أن عددٌ غير نِسبي؛ ولذا دَعْنا نفترض أنه نِسبي، ونحاول إثباتَ
أن هذا الافتراض يؤدي إلى نتائجَ غيرِ معقولة. سأكتب البرهان في صورةِ سلسلةٍ
من الخطوات، مع إعطاء تفاصيلَ أكثر ربما تتجاوز ما يحتاج إليه
القُرَّاء.
(١)
إذا كان عددًا نسبيًّا، فيمكننا إيجاد العددَين الصحيحَين و بحيث يكون (طبقًا لتعريف كلمة «نِسبي»).
(٢)
أي كسر يكون مُساويًا لكسرٍ ما بحيث لا يكون و عددَين زوجيَّين.
(استمر فقط في قسمة كلٍّ من بَسطِ الكسر ومقامه على حتى يُصبح أحدُهما على الأقل عددًا فرديًّا. على سبيل
المثال، الكسر يساوي يساوي .)
(٣)
وبذلك، إذا كان عددًا نسبيًّا، فيُمكننا إيجاد العددَين الصحيحَين و، كلاهما ليس عددًا زوجيًّا، بحيث .
(٤)
إذا كان ، فإن (بتربيعِ كِلا طرَفَي المعادلة).
(٥)
إذا كان ، فإن (بضرب كِلا الطرفَين في ).
(٦)
إذا كان ، فإن عدد زوجي، وهو ما يعني أن لا بدَّ أن يكون عددًا زوجيًّا.
(٧)
إذا كان عددًا زوجيًّا، فإن لعددٍ صحيح ما (طبقًا لتعريف كلمة «زوجي»).
(٨)
إذا كان و، فإن ، وهو ما يترتَّب عليه أن (بقسمةِ كِلا الطرفَين على ).
(٩)
إذا كان ، فإن عدد زوجي، وهو ما يعني أن عددٌ زوجي.
(١٠)
بافتراضِ أن عددٌ نِسبي، أثبتنا أن ، بحيث لا يكون و عددَين زوجيَّين (الخطوة ٣). ولكننا أثبتنا أن عدد زوجي (الخطوة ٦) وأن عددٌ زوجي (الخطوة ٩). وهذا تناقُض واضح. وبما أن افتراض
أن عددٌ نِسبي له تترتب عليه نتائجُ من الواضح أنها غير
صحيحة، فلا بد أن الافتراض نفسه غير صحيح. وعليه، فإن عددٌ غير نِسبي.
لقد حاولتُ أن أجعل كلَّ خطوةٍ أعلاه صحيحةً على نحوٍ واضح بحيث يكون
الاستنتاج النهائي بديهيًّا لا يقبل الجدل. ولكن، هل لم أترك حقًّا أيَّ مجالٍ
للشك؟ إذا قدَّم لك أحدُهم عرضًا بالحصول على عشرة آلاف جنيه شريطةَ أن تفقد
حياتَك في حال اكتشاف عددَين صحيحَين مُوجبَين و يُحققان العلاقة ، فهل ستقبل هذا العرض؟ وفي حال قَبِلتَه، هل سيُخالجك شيءٌ
من القلق؟
تتضمَّن الخطوة ٦ تأكيدًا بأنه إذا كان عددًا زوجيًّا، فلا بد أن عدد زوجي. ويبدو هذا واضحًا إلى حدٍّ ما (حاصل ضرب عددٍ فردي
في عددٍ فردي يكون عددًا فرديًّا أيضًا)، ولكن ربما كان في مقدورنا أن نفعل ذلك
بتوضيحٍ أكبرَ إذا كنَّا نُحاول أن نُثبت ﺑ «تأكيدٍ مُطلَق» أن عدد غير نِسبي. ولنُقسِّم الخطوة ٦ إلى خمس خطواتٍ
فرعية:
(٦-أ) عدد صحيح و عدد زوجي. نريد إثبات أن لا بد أن يكون أيضًا عددًا زوجيًّا. دعْنا نفترضْ أن عدد فردي ونبحث عن تناقض.
(٦-ب) بما أن عددٌ فردي، يُوجَد عددٌ صحيح بحيث .
(٦-ﺟ) بِناءً على ذلك، فإن .
(٦-د) لكن ، الذي هو عدد فردي، وهو ما يتناقض مع حقيقة أن عدد زوجي.
(٦-ﻫ) وعليه، فإن عددٌ زوجي.
هل هذا يجعل الخطوة ٦ الآن مُحكَمةً تمامًا لا جدالَ فيها؟ ربما لا، لأن
الخطوة الفرعية (٦-ب) تحتاج إلى تفسير. وفي النهاية، فإن تعريف العدد الفرديِّ
هو ببساطةٍ أنه عددٌ صحيح ليس من مُضاعَفات العدد . لماذا يجب أن يكون كلُّ عددٍ صحيح إمَّا مُضاعفًا للعدد أو يساوي أحدَ مضاعفات العدد مُضافًا إليه واحد؟ فيما يلي برهانٌ يُثبت ذلك.
(٦-ب-١) لِنقُل إن عددًا صحيحًا يكون صالحًا إذا كان مضاعفًا للعدد أو يساوي أحدَ مضاعفات العدد زائد . إذا كان صالحًا، فإن أو ، حيث هو أيضًا عددٌ صحيح. إذا كان ، فإن ، وإذا كان ، فإن . وفي كلتا الحالتَين، يكون صالحًا كذلك.
(٦-ب-٢) العدد صالح، بما أن هو أحد مضاعفات العدد و.
(٦-ب-٣) بتطبيق الخطوة (٦-ب-١) مِرارًا وتَكرارًا، يمكننا أن نستنتِج أن
العدد صالح، ومن ثمَّ فإن العدد صالح، والعدد صالح، وهكذا.
(٦-ب-٤) وعليه، فإن كل عددٍ صحيح موجب هو عددٌ صالح، وهو ما كنا بصدَدِ
إثباتِه.
هل انتهينا الآن؟ ربما تكون الخطوةُ الأقلُّ إحكامًا هذه المرةَ هي
الخطوةَ (٦-ب-٤)؛ وذلك بسبب العبارة الغامضة إلى حدٍّ ما «وهكذا» من الخطوة
السابقة لها. توضح لنا الخطوة (٦-ب-٣) كيف نُبرهن على أن أيَّ عددٍ صحيح موجب مُعطًى هو عددٌ صالح. المشكلة أننا على مدار هذا البرهان
سيكون علينا العَدُّ من إلى ، وهو ما يستغرق وقتًا طويلًا للغاية في حالِ كان عددًا كبيرًا. ويزداد الوضع سوءًا إذا حاولنا إثباتَ أن كلَّ
عددٍ موجب هو عدد صالح. ومِن ثمَّ، يبدو أن البرهان لن ينتهيَ أبدًا.
من الناحية الأخرى، بما أن الخطوات (٦-ب-١) إلى (٦-ب-٣) تُقدِّم لنا حقًّا
وبوضوح طريقةً لإثبات أن أيَّ عددٍ مفرد هو عدد صالح (بشرط أن يكون لدَينا متَّسَعٌ من الوقت)، فإن
هذا الاعتراض يبدو غيرَ معقول. وعليه، فإنه من غير المعقول في واقع الأمر أن
يتبنَّى علماءُ الرياضيات المبدأَ الآتيَ كحقيقةٍ مقرَّرة أو مُسلَّمةٍ
بديهية.
لنفترضْ أنه لأيِّ عدد صحيح موجب جملةٌ مرتبطة به . (في المثال الحالي، ترمز إلى الجملة « هو عدد صالح».) فإذا كانت صحيحة، وإذا كانت صحةُ تقتضي دائمًا صحةَ ، فإن صحيحةٌ لكل .
يُعرَف هذا بمبدأ الاستقراء الرياضي، أو الاستقراء فقط للذين يعتادون
استخدامَه. وبمفرداتٍ أقلَّ تخصُّصًا، فإنه ينصُّ على أنه إذا كان لديك قائمةٌ
غير مُنتهية من الجمل الرياضية التي ترغب في إثباتها، فإن إحدى الطرق للقيام
بذلك أن تُبرهن على أن الجملة الأولى صحيحة، وأن كلًّا منها يستلزم صحةَ الجملة
التي تليها.
كما توضح الفقراتُ القليلة السابقة، فإنه يمكن تقسيم خطوات البرهان
الرياضي إلى خطواتٍ فرعية أصغر؛ ومن ثمَّ أوضحَ صحةً. وهذه الخطوات يمكن
تقسيمها بعد ذلك إلى خطواتٍ أصغر، وهكذا. وفي هذا الصدد، ما يُهم علماءَ
الرياضيات بصفةٍ جوهرية هو حقيقةُ أن تصِل هذه العملية مع الوقت إلى نهاية. ومن
حيث المبدأ، إذا استمررتَ في تقسيم الخطوات إلى خطواتٍ أصغر، فسوف ينتهي بك
المطاف إلى برهانٍ طويل جدًّا، يبدأ بمُسلَّمات مقبولةٍ عالميًّا، وتَخلُص إلى
الاستنتاج المنشود عن طريق القواعد المنطقية الأساسية للغاية (مثل «إذا تحقَّق ، و يشترط ، فإن يتحقق»).
إنَّ ما قلتُه في الفقرة السابقة أبعدُ ما يكون عن الوضوح: في الواقع إنه
كان أحد الاكتشافات الكبرى في مطلع القرن العشرين، ويرجع بدرجةٍ كبيرة إلى كلٍّ
من فريجه وراسل ووايتهيد (راجع جزء «قراءات إضافية»). هذا الاكتشاف كان له
عميقُ الأثر في الرياضيات؛ لأنه يعني إمكانيةَ حَسم أيِّ خلافٍ حول صحة أي
برهانٍ رياضي. في القرن التاسع عشر، على النقيض من ذلك، كان يُوجَد اعتراضاتٌ
حقيقية حول مسائلَ رياضيةٍ جوهرية. على سبيل المثال، اخترع جورج كانتور مؤسِّس
نظرية المجموعات الحديثة براهينَ تعتمِد على فكرةِ أن مجموعةً غير مُنتهية يمكن
أن تكون «أكبر» من أخرى. هذه البراهين مُتفَق عليها الآن، لكنها أثارت كثيرًا
من الشكِّ في وقتها. اليوم، إذا كان هناك خلافٌ على أن برهانًا ما صحيحٌ، فإما
لأنه لم يُكتَب بتفاصيلَ كافية، وإما لأنه لم يُبْذل جهدٌ كافٍ لِفَهمه
واختباره بعناية.
في الواقع، هذا لا يعني أن الاعتراضات لن تَحدث أبدًا. فعلى سبيل المثال،
غالبًا ما يحدُث أن أحدَهم يُقدِّم برهانًا طويلًا جدًّا، غيرَ واضحٍ في بعض
الأجزاء، ويتضمَّن كثيرًا من الأخطاء الصغيرة، لكنه غيرُ صحيح بطريقةٍ واضحة
وجوهرية. وعادةً ما يستغرق الأمرُ جهدًا هائلًا لإثباتِ ما إذا كان البرهانُ
المطروح مُحكَمًا على نحوٍ قاطع. وحتى صاحب البرهان قد يُفضِّل عدمَ المجازفة
لإثباتِ عدم صحته.
على الرغم من ذلك، فإن حقيقة أن الخلافات يمكن أن تُحَل «من حيث المبدأ»
لا تجعل الرياضياتِ مُتفرِّدة. ولا يُوجَد مكافئٌ رياضي لعلماء الفلك الذين لا
يزالون يعتقدون في نظريةِ استقرار الكون، أو لعلماء الأحياء الذين يتبنَّون
باقتناعٍ شديد وجهاتِ نظرٍ مختلفةً جدًّا حول مقدارِ ما تم تفسيرُه بواسطة
الانتخاب الطبيعي، أو الفلاسفة الذين يختلفون جَذريًّا حول العلاقة بين الوعي
والعالم المادي، أو الاقتصاديِّين الذين يتبعون مدارسَ فكرية مُتعارِضة مثل
ترشيد الإنفاق والاقتصادات الكينزية الجديدة.
من المهم أن نفهمَ العبارة السابقة «من حيث المبدأ». لا يُوجَد عالمُ
رياضيات يُلقي بالًا لكتابةِ برهانٍ كامل التفاصيل — بمعنى أن يكتبه على صورةِ
استنتاج من مُسلَّماتٍ أساسية مستخدمًا فقط الخطواتِ الأوضحَ على الإطلاق،
والأسهلَ اختبارًا. وحتى لو كان هذا ممكنًا، فسيكون غيرَ ضروريٍّ تمامًا؛
فالأبحاث الرياضية مكتوبةٌ لقُراء على درجةٍ عالية من التدريب، ولا يحتاجون إلى
أن يكون كل شيءٍ موضَّحًا بعباراتٍ لا التباسَ فيها. ومع ذلك، إذا قدَّم أحدُهم
ادِّعاءً مُهمًّا، ووجد علماءُ الرياضيات الآخَرون أنه من الصعب تتبُّعُ
البرهان، فإنهم سيطلبون إيضاحات، وستبدأ عندئذٍ عمليةُ تقسيم خطوات البرهان إلى
خطواتٍ فرعية أصغر، وأسهلَ استيعابًا. وعادةً، لأن الحضور على درجةٍ عالية من
التدريب، لن تستغرق هذه العملية وقتًا طويلًا حتى يُقدَّم التوضيح اللازم أو
يتَّضح الخطأ. وعليه، فإن أي برهانٍ مزعوم يُقدم نتيجةً يهتمُّ لها علماءُ
الرياضيات الآخَرون لا يكون مقبولًا غالبًا إلا إذا كان صحيحًا.
لم أتناول سؤالًا ربما يرِدُ على أذهان بعض القراء: لماذا يجب قَبولُ
المسلَّمات التي اقترحها علماءُ الرياضيات؟ على سبيل المثال، إذا اعترض أحدهم
على مبدأ الاستقراء الرياضي، فكيف نُقابل هذا الاعتراض؟ سوف يُعطي معظم
الرياضيِّين هذه الإجابة. أولًا، يبدو المبدأُ صحيحًا على نحوٍ واضح لكلِّ مَنْ
يفهمه تقريبًا. ثانيًا، ما يُهمُّ في نظامِ مُسلَّماتٍ ما هو اتساقُ المسلَّمات
وفائدتُها أكثرَ من ماهيَّتها. وما يفعله أيُّ برهانٍ رياضي في واقع الأمر هو
إثبات أن بعض الاستنتاجات، مثل عدم نسبية العدد ، يأتي نتيجةَ مقدماتٍ منطقيةٍ معيَّنة مثل مبدأ الاستقراء
الرياضي. وصحَّة هذه المُقدمات المنطقية هي موضوعٌ مُستقلٌّ تمامًا، يمكن أن
يُترَك بأمانٍ إلى الفلاسفة.
(٢) عدم نسبية النسبة الذهبية
من الخبرات العامة لدارسي الرياضيات المتقدِّمة الوصولُ إلى نهاية
البرهان، ثم التفكير في الجملة الآتية: «لقد فهمتُ تتابُعَ خطوات البرهان،
لكنني بشكلٍ ما لا أستطيع الحكمَ على صحة النظرية، أو استخلاصَ رأيِ أيِّ شخصٍ
في هذا البرهان.» عادةً ما نفترض في البرهان ما هو أكثرُ من مجرد ضمانِ صحته.
ونشعر بعد قراءة برهانٍ جيدٍ أنه يُمِدُّنا بتوضيحٍ للنظرية، وأننا فهِمنا
شيئًا لم نكن قد فهمناه سابقًا.
بما أن جزءًا كبيرًا من العقل البشري مُكرَّس لمعالجة البيانات المرئية،
فمن غير المستغرب أن العديد من البراهين تستخدِم قدراتنا على التخيُّل. لتوضيح
هذا، سأُعطي برهانًا آخرَ على عدم النسبية، ولكن هذه المرةَ عدم نسبية ما
يُسمَّى بالنسبة الذهبية. والنسبة الذهبية هي عددٌ أثارَ اهتمامَ غيرِ
الرياضيِّين (وبقدْرٍ أقل، اهتمام علماء الرياضيات) قرونًا. ويُقصَد به النسبةُ
بين أطوال أضلاع المستطيل بما يُحقق الخاصية التالية: إذا اقتطعتَ مربعًا من
هذا المستطيل، فإن الناتج هو مستطيلٌ أصغرُ مُماثل في شكله تمامًا للمُستطيل
الأصلي، ولكن بعد دورانه. ينطبق هذا على المستطيل الثاني في شكل ٣-٢.
لماذا يُفترَض وجودُ هذه النسبة على أي حال؟ (علماء الرياضيات لديهم خبرةٌ
في طرح هذا النوع من الأسئلة). إحدى الطرُق لإثبات وجودِ هذه النسبة هي أن
نتخيَّل أنَّ لدَينا مستطيلًا صغيرًا مرسومًا عند ضلعِ مربعٍ ما، بحيث يُصبح
المربع مستطيلًا أكبر. بادئَ بَدءٍ، لنتخيَّلْ أن المستطيل الصغير طولُه أكبرُ
كثيرًا من عرضِه، بينما المستطيل الكبير ما زال أشبهَ بمُربع. إذا سمحنا
للمستطيل الصغير أن يزداد عرضُه حتى يُصبح هو نفسُه مربعًا، فإن المستطيل
الكبير سيُصبح طولُه ضِعفَ عرضِه. ومن ثمَّ، فإن المستطيل الصغير كان في
البداية أقلَّ عرضًا بكثيرٍ من المستطيل الكبير، والآن أصبح أكبرَ عرضًا
(بالنسبة إلى حجمه). وفي نقطةٍ ما بين هذين الوضعَين، يكون المستطيلان
مُتماثِلَين في الشكل. يوضح شكل ٣-٢ هذه العملية.
ثمة طريقة أخرى لإثباتِ وجود النسبة الذهبية، وهي حسابُها. إذا سمَّيناها وافترضنا أن طولَ ضلع المربع يساوي ، فإن المستطيل الكبير يبلغ طولَا ضلعَيه و، بينما يبلغ طولا ضِلعَي المستطيل الصغير و. وإذا كانا مُتماثلَين في الشكل، فإن . وبضرب كِلا الطرفَين في نستنتج أن ، وعليه فإن . وبحلِّ هذه المعادلة التربيعيَّة، مع الوضع في الاعتبار أن ليست عددًا سالبًا، فإننا نجد أن . (إذا كانت لديك خبرة جيدة في الرياضيات، أو استوعبتَ الفصل
السابق استيعابًا تامًّا، فلربما تتساءل عن سببِ تَيقُّنِنا من وجود . في الواقع، ما يفعله هذا البرهان الثاني هو تحويل مسألةٍ
هندسية إلى مسألةٍ جبرية مكافئة.)
شكل ٣-٢: وجود النسبة الذهبية
أما وقد أثبتنا أن النسبة موجودة، فلنأخذ مُستطيلًا يبلُغ طولا ضلعَيه و ونُفكِّر في العملية التالية. أولًا، نقتطع مربعًا من
المستطيل، بحيث نحصل على مستطيلٍ أصغر، يكون طبقًا لتعريف النسبة الذهبية له
نفس شكل المستطيل الأصلي. نُكرِّر هذه العملية مرارًا، فنحصل بذلك على سلسلةٍ
من مستطيلاتٍ أصغر فأصغر، كلٌّ منها له نفس شكل المستطيل الذي يسبقُه، ومن
ثَمَّ فكلٌّ منها له طولا ضلعَين يُحقِّقان النسبة الذهبية. ومن الواضح أنها
عمليةٌ تستمر إلى ما لا نهاية (انظر المستطيل الأول شكل ٣-٣.)
شكل ٣-٣: اقتطاع مربعاتٍ من مُستطيلات
والآن لنفعل الشيءَ نفسَه مع مستطيلٍ النِّسبةُ بين طولَي ضلعَيه هي ، حيث و عددان صحيحان. هذا يعني أن المستطيل له نفس شكل المستطيل
الذي طول ضلعَيه و، ومن ثمَّ يمكن تقسيمُه إلى عدد من المربَّعات الصغيرة، كما يتَّضِح في حالة المستطيل الثاني
في شكل ٣-٣. ماذا لو أزلنا المربعاتِ الكبيرةَ من طرَف هذا
المستطيل؟ إذا كان أصغرَ من ، فسوف نُزيل مربعًا بُعداه ونحصل في النهاية على
مستطيلٍ بُعداه . نستطيع عندئذٍ أن نُزيل مربعًا آخر، وهكذا. هل يمكن أن
تستمرَّ هذه العملية إلى الأبد؟ الإجابة لا؛ لأننا في كل مرةٍ نقتطع فيها
مربعًا فإننا نُزيل عددًا صحيحًا من المربعات الصغيرة، وربما لا يُمكننا أن
نفعل ذلك أكثرَ من عدد من المرات؛ لأنه لا يُوجَد لدَينا سوى عدد من المربعات الصغيرة لنبدأ به.
لقد أثبتنا بذلك الحقيقتَين الآتيتَين:
(١)
إذا كانت النسبة بين ضِلعَي المستطيل هي النسبةَ الذهبية، فإنه يمكننا
الاستمرارُ في اقتطاع مربعاتٍ إلى ما لا نهاية.
(٢)
إذا كانت النسبة بين ضلعَي المستطيل هي لزوجٍ ما من الأعداد الصحيحة و، فإننا لا نستطيع الاستمرار في اقتطاع مربعاتٍ إلى ما لا
نهاية.
وعليه، فإن النسبة ليست النسبةَ الذهبية، أيًّا كانت قيمتا و. بعبارةٍ أخرى، فإنَّ النسبة الذهبية ليست عددًا
نسبيًّا.
إذا أمعَنتَ التفكير في البرهان السابق، فسوف تُدرك في نهاية الأمر أنه لا
يختلف عن برهانِ عدم نسبية كما يبدو للوهلة الأولى. ولكن، طريقة تقديم البرهان مختلفةٌ
بالتأكيد، وأكثر استحسانًا لكثير من الناس.
(٣) أجزاء الدائرة
الآن وقد تحدَّثنا عن طبيعة البرهان الرياضي، فلنرجع إلى المسألة التي
بدَأنا بها هذا الفصل. لدينا دائرةٌ يُوجَد على مُحيطها عددُ من النقاط، نصلُ كلَّ نقطتين منها بخطٍّ مستقيم، ونريد أن
نُبرهِن على أن عدد الأجزاء المعرَّفة بهذه الخطوط المستقيمة يُساوي . وهذا يتحقق إذا كان يساوي أو أو أو أو . لإثبات هذه الفكرة عمومًا، علينا أن نجد سببًا مقنعًا
لمضاعفة عددِ الأجزاء في كلِّ مرة نُضيف فيها نقطةً جديدة على المحيط. تُرى،
ماذا عساه أن يكون هذا السبب؟
لا شيءَ يتبادر إلى الذهن على الفور، ومن ثمَّ ربما تكون إحدى الطرق التي
يمكن البدءُ منها أن ندرس أشكالَ الدوائر المقسَّمة ونرى إن كان يُوجَد نمطٌ
مُعيَّن يمكن تعميمُه. على سبيل المثال، بتعيين ثلاث نقاطٍ على محيط الدائرة
يصبح لدَينا ثلاثةُ أجزاءٍ خارجيةٍ وجزءٌ مركزي. وبتعيينِ أربع نقاط، يُصبح
لدَينا أربعة أجزاء خارجية، وأربعة أجزاء داخلية. وبتعيين خمسِ نقاط، يُصبح
لدَينا شكلٌ خماسي في المركز وخمسةُ مثلثات بارزةٍ منه وخمسةُ مثلثاتٍ مُشتقَّة
من النجمة الناتجة، وتجعله مرةً أخرى شكلًا خماسيًّا، وأخيرًا خمس مناطق
خارجية. ولذا، يبدو طبيعيًّا أن نفكِّر في على أنها ، وفي على أنها ، وفي على أنها .
شكل ٣-٤: أجزاء الدائرة
هل ساعدك ذلك؟ يبدو أننا لم نحصل على أمثلةٍ كافية للخروج بنمطٍ واضح؛
ولهذا دعنا نرسُم الأجزاءَ الناتجة من ستِّ نقاط على محيط الدائرة. تظهر
النتيجة في شكل ٣-٤. تُوجَد الآن ستةُ أجزاء خارجية. كلٌّ
منها يلي جزءًا على شكل مثلَّث يُشير إلى الداخل. وبين كل جزأَين متجاورَين من
هذا النوع، يُوجَد جزءان مُثلَّثان أصغَر. حتى الآن، جزءًا، ولم نحسب بعد عدد الأجزاء داخل الشكل السداسي في
المركز. وهذه تنقسم إلى ثلاثة أجزاء على شكلٍ خماسي الأضلاع، وثلاثة أجزاء على
شكلٍ رُباعي الأضلاع، ومثلث واحد في المركز. ومن ثم، يبدو من الطبيعي أن نفكِّر
في عدد الأجزاء على النحو التالي: .
ولكن، يبدو أنَّ هناك خطأً ما؛ لأن هذا يُعطينا جزءًا. هل وقعنا في خطأٍ ما؟ على الأرجح، لا: المتتابعة
الصحيحة هي . وفي الواقع، لو أمْعنَّا التفكير قليلًا، يتضح لنا أن عدد
الأجزاء لا يمكن أن يتضاعف في كل مرة. بدايةً، من الغريب أن يكون عددُ الأجزاء
المعرَّفة عند عدم تعيين أي نقاطٍ على محيط الدائرة هو بدلًا من ، وهو ما كان يُفترَض أن يكون عليه الوضع في حال مُضاعفة
العدد عند تعيين النقطة الأولى. وعلى الرغم من هذا التضارُب الذي يحدث أحيانًا
مع الصفر، فإن معظم علماء الرياضيات سيجدون أن هذه الحالة تحديدًا مُثيرةٌ
للإزعاج. ومع ذلك، فثَمة مشكلةٌ أهمُّ وهي
أنه إذا كان عددًا كبيرًا إلى حدٍّ ما، فمن البديهيِّ تمامًا أن يكون كبيرًا للغاية. على سبيل المثال، يُساوي عندما ، و عندما . هل من المنطقيِّ تمامًا أن وجود نقطة على محيط الدائرة سيُنتِج أكثر من مليون جزءٍ مختلف؟ بالتأكيد لا. تخيَّل رسْمَ دائرة كبيرة في
حقل، وتثبيتَ وتدًا على محيطها على مسافاتٍ غير مُنتظمة، ثم ربْطَها بحبلٍ
رفيع جدًّا. من المؤكَّد أن عدد الأجزاء الناتجة سيكون كبيرًا جدًّا، ولكنه لن
يكون كبيرًا على نحوٍ لا يمكن تصوُّره. إذا كان قطر الدائرة يساوي أمتار وقسَّمنا الدائرة إلى مليون جزءٍ، فسيكون لدَينا في المتوسط ما يزيد عن جزءٍ لكل سنتيمتر مربَّع. وكان لا بد أن يزيد سُمك الدائرة
عن ذلك باستخدام الحبل، ولكن من الواضح أن هذا لن يتأتَّى مع وجود نقطة فقط على مُحيطها.
كما قلتُ سابقًا إن علماء الرياضيَّات يتحفَّظون على عباراتٍ مثل «من
الواضح أن». ولكن في هذا المثال يمكن أن يَستندَ حَدْسُنا إلى حُجةٍ قوية، يمكن
تلخيصُها على النحو الآتي. إذا قُسِّمَت الدائرة إلى عددٍ كبير من الأجزاء
المتعدِّدة الأضلاع، فلا بد أنه سيُوجَد بين هذه الأجزاء عددٌ هائل من الأركان.
وكلُّ ركن عبارةٌ عن نقطةٍ حيث يتقاطع جُزءان من الحبل، ويمكن أن نُثبِّت أربعة
أوتاد لكلِّ موضع من هذه التقاطعات؛ أي المواضع التي تنتهي عندها أجزاءُ الحبل
ذاتُ الصِّلة. يُوجَد اختيارًا ممكنًا للوتد الأول، و للوتد الثاني، و للوتد الثالث، و للوتد الرابع. وهذا يعني أن عددَ الطرق التي يمكن بها
اختيارُ الأوتاد الأربعة هو ، ولكن هذا معناه أننا لو اخترنا الأوتادَ الأربعة نفسَها
بترتيبٍ مختلف، فإننا نحصل على التقاطعات نفسِها. تُوجَد طريقة لوضعِ أيِّ أربعة أوتاد مُعطاة بالترتيب، وإذا أخذنا
هذا الأمر في الاعتبار فإننا نجد أن عددَ التقاطعات هو ، وهو ما يفوق بكثيرٍ عددَ الأركان الناتجة عن جزءًا. (في الواقع، يتَّضح أن العدد الصحيح للأجزاء الناتجة
عن تعيين نقطة هو .)
يحوي هذا المثالُ التحذيريُّ العديدَ من الدروس المهمَّة فيما يخصُّ تفسير
الجُمَل الرياضية. وأوضحُ هذه الدروس أنك إذا لم تهتمَّ بإثباتِ صحَّة ما تقول،
فإنك عُرضةٌ لقول شيءٍ غير صحيح. المغزى الأكثرُ إيجابيةً هو أنك إذا حاولتَ
إثبات جملٍ ما، فستكون المحصِّلة أنك سوف تفهمها بطريقةٍ مختلفة تمامًا، وأكثر
إمتاعًا بكثير.
(٤) نظرية فيثاغورس
تنصُّ نظرية فيثاغورس الشهيرة على أنه إذا كان للمثلث القائم الزاويةِ
أطوالُ الأضلاع و و، حيث هو طول الوتر (الضلع المقابل للزاوية القائمة)، فإن . لهذه النظرية العديد من البراهين، إلا أنه يتضح أنَّ
برهانًا واحدًا تحديدًا قصيرٌ وسهل الفهم. في الواقع، كلُّ ما يحتاج إليه هو
الشكلان التاليان:
في شكل ٣-٥، المربعات التي سَمَّيتُها و و لها أضلاعٌ بالأطوال و و على الترتيب، ومن ثمَّ مساحاتها كالتالي: و و. ولأن تحريك المثلثات الأربعة لن يُغير مساحاتها، أو يجعلها
تتداخل، فإن مساحة جزءِ المربع الأكبر الذي لا تُغطيه هو نفسُه في كِلا
الشكلَين. لكن في الشكل الأيمن تبلغ هذه المساحة وفي الشكل الأيسر تبلغ المساحة .
شكل ٣-٥: برهان مُوجز لنظرية فيثاغورس
(٥) تغطية شبَكةٍ من المربعات بإزالة الأركان
نتناول هنا إحدى الأُحجيات المعروفة. خُذْ شبكةً من المربعات بُعداها ، وأَزِلِ المربعَين في ركنَين مُتقابلَين. هل يمكنك تغطيةُ
باقي الشبكة بقِطَع على شكل حجر الدومينو، بحيث تُغطي كلٌّ منها مُربعَين
مُتجاورَين بالكامل؟ يتَّضح من الشكل المعروض هنا (شكل ٣-٦) أن هذا غير مُمكن في حالة استبدال الشبكة التي بُعداها بشبكة . افترض أنك قرَّرتَ وضع قطعةٍ في الموضع . ستُلاحظ بسهولةٍ أنك مُضطرٌّ حينها أن تضَعَ قطعًا في
المواضع و و و، بحيث يتبقى مربعٌ لا
يمكن تغطيته. وبما أن الركن الأيمن العُلوي يجب تغطيته بطريقةٍ ما، والطريقة
الأخرى الوحيدة لذلك تؤدي إلى مشكلاتٍ مُشابهة (قياسًا على الوضع المماثل)،
فإنه يستحيل تغطية الشكل بالكامل.
إذا استبدلنا ﺑ ، فستظل تغطية الشبكة مُستحيلة؛ لسببٍ بسيط وهو أن كلَّ قطعة
تُغطي مربَّعَين، ولدَينا مربعًا نريد تغطيتها، وهذا عددٌ فردي. ولكن، عددٌ زوجي، ومن ثمَّ لا يمكن استخدام هذا البرهان في حالةِ
شبكةٍ بُعداها . ومن ناحية أخرى، إذا حاولتَ إيجاد برهانٍ مُشابه للبرهان
الذي استخدمتُه لشبكةٍ بُعداها ، فسوف تستسلم سريعًا؛ لأن عدد الاحتمالات الذي ينبغي أن
تُفكِّر فيه كبيرٌ للغاية. إذن، كيف ينبغي مُعالجة المشكلة؟ إذا كنتَ لم تُصادف
هذه المسألة من قبل، فإنني أستحثُّك على أن تحاول حَلَّها قبل مواصلة القراءة،
أو أن تتخطَّى الفِقرة التالية؛ لأنك إذا نجحتَ في حل المسألة فإنك ستحصل على
فكرةٍ جيدة عن متعة الرياضيات.
شكل ٣-٦: تغطية شبكة من المربعات بإزالة الأركان
لأولئك الذين تجاهلوا نصيحتي، وأعتقد بحُكم خبرتي أنهم أغلبية، إليكم
كلمةً واحدة فقط، تُلخص تقريبًا البرهانَ الكامل: الشِّطْرنج. لوحُ الشطرنج
عبارةٌ عن شبكة ، مربعاتُها ملوَّنة بالتبادل بالأسود والأبيض (وهو تفصيلٌ لا
داعيَ له فيما يخصُّ اللعبة، لكنه يجعل الأمر أكثرَ وضوحًا واستيعابًا).
المربَّعان في الركنَين المتقابلَين لهما اللون نفسُه. إذا كانا باللون الأسود،
حسبما يُحتمَل، فإن لوح الشطرنج الناتجَ سيتضمَّن مربعًا باللون الأبيض و مربعًا باللون الأسود. كلُّ قطعةٍ من
الدومينو تُغطي بالضبط مربعًا واحدًا من كل
لون، وبوضعِك قطعةَ دومينو، فسيتبقَّى لديك في النهاية، أيًّا كانت
الطريقةُ التي فعَلتَ بها ذلك، مربعان باللون الأبيض، وهذان المربعان لن
تتمكَّن من تغطيتِهما.
هذه الحجة الموجَزة توضِّح جيدًا كيف أن البرهان يمكن أن يُقدم أكثرَ من
مجردِ ضمان أن الجملة صحيحة. على سبيل المثال، لدينا الآن بُرهانان على أن
الشبكة التي بُعداها وأُزيلَ منها رُكنان متقابلان لا يمكن تغطيتها. أحدُهما
البرهانُ الذي قدَّمتُه، والآخَر لوح الشطرنج الذي قدَّمتُه مثالًا على شبكة
بُعداها . وكِلاهما يُثبت ما نريد، إلا أن البرهان الثانيَ تحديدًا
يُقدِّم لنا سببًا على أن التغطية غيرُ ممكنة. ويخبرنا هذا السببُ أن تغطية
شبكة بُعداها مع إزالة ركنَين متقابلَين غيرُ ممكنةٍ كذلك. وعلى النقيض من
ذلك، تخبرنا حُجةُ البرهان الأول بذلك في حالة الشبكة التي بُعداها فحسب.
ما يميِّز الحجة الثانية أنها تعتمد على فكرةٍ واحدة، وهي وإنْ كانت غيرَ
متوقعة، فإنها تبدو طبيعيةً جدًّا ما دام المرءُ قد فهمها. كثيرًا ما يتحيَّر
الناس عندما يستخدم علماءُ الرياضيات كلماتٍ مثل «أنيق»، أو «جميل» أو حتى
«ظريف» لوصفِ برهانٍ ما، إلا أن مثالًا كالسابق يعطي فكرةً عمَّا يَعنون بهذه
الكلمات. يمكن الاستعانة بالموسيقى كتشبيهٍ مُفيد: ربما نستمتع تمامًا عند عزف
مقطوعةٍ موسيقية بنغمةٍ توافقية غير متوقَّعة، ويبدو فيما بعدُ أنها مناسبة
بدرجة مدهِشة، أو عندما يبدو نسيجُ الأوركسترا أكثرَ من مجرد مجموع آلاته،
بطريقة لا يمكن فَهمُها فهمًا تامًا. يمكن للبراهين الرياضية أن تُمِدَّنا
بمتعةٍ مماثلة من خلال ما تكشف عنه من تجلياتٍ مُفاجئة، وأفكار غير متوقَّعة
ولكنها طبيعية، ومع تلميحاتٍ مثيرة بأنه لا يزال يُوجَد الكثير لاكتشافه.
بالطبع، جمالُ الرياضيات ليس هو نفسه جمالَ الموسيقى، ولكن الجمال الموسيقي لا
يتماثل كذلك مع جمالِ لوحةٍ فنِّية أو قصيدة أو حتى وجه إنسان.
(٦) ثلاثُ جُمَل تبدو واضحةً ولكنها تحتاجُ إلى براهين
من مظاهر الرياضيات المتقدِّمة، التي يجدها الكثيرون محيِّرة، أن بعض
نظرياتها تبدو واضحة جدًّا، لا تحتاج إلى برهان. إزاء نظرية كهذه يسأل الناسُ
كثيرًا: «إذا لم يعتبر ذلك واضحًا، فما الواضح إذن؟». زميل سابق لي
لدَيه إجابةٌ جيدة لهذا السؤال، وهي أن
الجملة تكون واضحةً إذا تبادَر إلى الذِّهن على الفور برهانٌ يُثبت صحَّتها. في
الجزء الباقي في هذا الفصل، سأعطي ثلاثة أمثلةٍ على جُمَل ربما تبدو واضحة،
لكنها لا تجتاز هذا الاختبار.
(١)
تنصُّ النظرية الأساسية في الحساب على أن كلَّ عددٍ طبيعي يمكن كتابتُه
بطريقة وحيدة كحاصل ضرب أعدادٍ أوَّلية، بصرف النظر عن الترتيب المكتوبة به.
على سبيل المثال، ، و، و هو نفسُه عددٌ أوَّلي (ويُعتبر في هذا السياق «حاصل ضرب»
عدد أولي واحد فقط). عند النظر في أعدادٍ صغيرة كهذا، سرعان ما يقتنع المرء
بأنه لا تُوجَد أبدًا طريقتان مختلفتان لكتابة عددٍ كحاصل ضرب أعدادٍ
أوَّلية. هذه هي الفكرة الأساسية في النظرية، ويبدو أنها لا تحتاج إلى
برهان.
ولكن هل هي حقًّا على هذا القدْر الكبير من الوضوح؟ الأعداد و و و و كلها أعدادٌ أولية، فإذا كانت النظرية الأساسية في الحساب
واضحة، فإنه ينبغي أن يكون واضحًا أن لا يساوي . يمكن بالطبع التحقُّق من أن العددَين مختلفان حقًّا
(أحدهما، طبقًا لما سيقوله أيُّ عالم رياضياتٍ، أهمُّ من الآخر)، لكن هذا لا
يُثبِت بوضوحٍ أنهما مختلفان أو يشرح لماذا لا يمكن إيجادُ حاصلَي ضربِ
آخرَين من الأعداد الأولية، يُعطيان النتيجة نفسَها هذه المرة. في الحقيقة
لا يُوجَد برهان سهلٌ للنظرية: إذا تبادر برهانٌ إلى الذهن على الفور، فأنت
تتمتَّع بعقلٍ غير عادي بالمرة.
(٢)
افترِض أنك ربطتَ عُقدةً منزلقة في قطعة خيطٍ عادية، ثم لصقتَ
النهايتَين معًا، بحيث تحصل على الرسم الموضَّح في شكل ٣-٧، المعروف للرياضيِّين بأنها العقدة الثلاثية الوُرَيقات.
هل من الممكن فكُّ هذه العقدة دون قطع الخيط؟ لا، طبعًا لا يمكن.
لماذا، على الرغم من ذلك، نميل إلى أن نقول «بالطبع»؟ هل خطرَت لنا
توًّا حُجة تؤيد ذلك؟ ربما — يبدو كما لو أن أي محاولةٍ لفك العُقدة تجعلها
حتمًا تزيد من تشابكها وليس العكس. ولكن، من الصعب تحويلُ هذا الإحساس
الغريزي إلى برهانٍ صحيح. من الواضح حقًّا أنه لا تُوجَد طريقةٌ سهلة لفكِّ
العُقدة. ومن الصعب استبعادُ إمكانية وجود طريقةٍ لفكِّ هذه العقدة الثلاثية
الوُرَيقات بجعلها أكثرَ تعقيدًا أولًا. ويبدو هذا باعترافِ الجميع أمرًا
غيرَ وارد، ولكن تحدُث بالفعل ظواهرُ من هذا النوع في الرياضيات، بل حتى في
الحياة اليومية: على سبيل المثال، لترتيبِ غرفةٍ جيدًا، يلزم غالبًا أن
نبعثر محتوياتها ونجعلها أكثرَ فوضى أولًا، وذلك على عكس أن نضع كلَّ شيءٍ
في خِزانته.
(٣)
يعني مصطلح «منحنى» في المستوى أيَّ شيءٍ يمكنك رسمُه دون أن ترفع
القلمَ عن الورقة. يُوصَف المنحنى بأنه بسيطٌ إذا كان لا يتقاطع مع نفسِه
أبدًا، ومُغلقٌ إذا كان ينتهي حيثُ بدأ. يوضِّح شكل ٣-٨
ما تعنيه هذه التعريفاتُ من خلال الرسوم المعروضة. يحوي المنحنى الأولُ
الموضَّح، وهو منحنًى بسيطٌ ومُغلَق في الوقت نفسِه، منطقةً واحدةً من
المستوى، تُسمَّى داخل المنحنى. ومن الواضح أن كل مُنحنًى بسيطٍ مُغلق
يُقسِّم المستوى إلى جزأَين، داخلي وخارجي (ثلاثة أجزاء إذا اعتبرنا المنحنى
نفسه جزءًا).
شكل ٣-٧: عقدة ثلاثية الوُرَيقات
شكل ٣-٨: أربعة أنواع من المنحنى
شكل ٣-٩: هل تقع النقطة السوداء داخل المنحنى أم خارجه؟
ولكن هذا واضحٌ حقًّا؟ نعم، واضحٌ بالتأكيد إذا كان المنحنى غيرَ مُعقَّد
بدرجةٍ كبيرة. لكن ماذا عن المنحنى الموضَّح في شكل ٣-٩؟
إذا اخترتَ نقطةً في مكانٍ ما قربَ الوسط، فمن غيرِ الواضح تمامًا إذا ما كانت
النقطة تقع داخلَ المنحنى أو خارجَه. ربما تقول إن الوضع ليس كذلك، لكن من
المؤكَّد وجودُ جزءٍ داخلي وآخرَ خارجي للمنحنى، حتى لو كان من الصعب نظرًا إلى
تعقيد المنحنى تمييزُهما بصورة مرئية.
كيف يمكن للمرء تبريرُ هذا الاقتناع؟ ربما يحاول المرء تمييزَ الداخل من
الخارج على النحو التالي. لنفترضْ لحظةً أن مَفهومَي الداخل والخارج لهما
معنًى، عندئذٍ فإنك في كل مرةٍ تقطع المنحنى تنتقل من الداخل إلى الخارج أو
العكس. ومن ثمَّ، فإنك إذا رغبتَ أن تُقرر ما إذا كانت نقطةً ما تقع داخل المنحنى أو خارجَه،
فإن كلَّ ما عليك أن ترسُم خطًّا يبدأ من
النقطة وينتهي عند نقطةٍ ما أخرى تبعد بقدْرٍ كافٍ عن المنحنى حتى تكون خارجَه بوضوح. إذا قطع
هذا الخطُّ المنحنى عددًا فرديًّا من المرات، فإن النقطة تقع في الداخل، وإلا فإنها تقع في الخارج.
مشكلةُ هذه الحجة أنها تَعتبر أشياءَ كثيرةً أمرًا مُسلَّمًا به. على سبيل
المثال، كيف لك أن تعرف إذا رسمتَ خطًّا آخرَ من ، ينتهي عند نقطة مختلفة ، أنك لن تحصلَ على إجابةٍ مختلفة؟ (لن تختلف الإجابة، ولكنه
أمرٌ يتعيَّن إثبات صحته). جملة أن كلَّ منحنًى بسيطٍ مغلقٍ يكون له جزءٌ داخلي
وآخرُ خارجي؛ هي في الواقع نظريةٌ رياضية شهيرة، تُعرف باسم نظرية منحنى
جوردان. ومهما بدَت النظريةُ واضحة، فإنها تحتاج إلى برهان، وكلُّ البراهين
المعروفة لها مختلفةٌ بالقدْر الذي لا يتَّسع معه المجالُ لعرضها جميعًا في هذا
الكتاب.