ربما يكون كتاب «الأصول» لإقليدس، الذي ألَّفه نحو عام قبل الميلاد، الكتاب الأكثر تأثيرًا في الرياضيات على مرِّ
التاريخ. وعلى الرغم من أن إقليدس عاشَ قبل أكثرَ من ألفَي عامٍ مضَت، فإنه كان
من نواحٍ كثيرةٍ أولَ عالِم رياضياتٍ حديثة على نحوٍ يمكن تمييزه — أو على الأقل
أولَ عالِم رياضيات حديثة نعرفُه. وعلى وجه الخصوص، فقد كان أولَ مؤلِّفٍ
يَستخدم منهجَ المُسلَّمات بطريقةٍ منهجية، حيث استهلَّ كتابه بخمسِ مُسلَّماتٍ،
واستنتجَ منها مجموعةً هائلة من النظريات الهندسية. فالهندسة التي يعهدها معظمُ
الناس، إن كانوا على درايةٍ بها بأي حال، هي هندسة إقليدس، إلا أنه على مستوى
البحث كان لكلمةِ «هندسة» تعريفٌ أوسعُ نطاقًا بكثير: معظم علماء الهندسة
حاليًّا لا يقضون جُلَّ وقتِهم مع المسطرة والفِرْجار.
(١) الهندسة الإقليدية
نتناول فيما يلي مُسلَّمات إقليدس. وإنني لَأسير هنا وَفْق النهج المعتاد،
وأستخدمُ مصطلح «خط مستقيم» للمستقيم الذي يمتدُّ بلا نهاية في كِلا
الاتجاهَين. وسيكون معنى «القطعة المستقيمة» مستقيمًا له نقطةُ بداية ونقطة
نهاية.
(١)
أيُّ نقطتَين يمكن توصيلُهما بواسطة قطعةٍ مستقيمة.
(٢)
أي قطعةٍ مستقيمة يمكن مدُّها لتُصبح خطًّا مستقيمًا.
(٣)
بمعلومية أيِّ نقطة وأيِّ طول ، تُوجَد دائرة نصفُ قُطرها ومركزها النقطة .
شكل ٦-١: المسلَّمة الرابعة لإقليدس ومِثالان على المسلَّمة
الخامسة
(٤)
كل زاويتَين قائمتَين متطابقتان.
(٥)
إذا قطعَ قطعتَين مُستقيمتَين و، وإذا كان مجموعُ قياسَي الزاويتَين الداخليتَين على إحدى
جانبي أقلَّ من مجموعِ قياسَي زاويتَين قائمتَين، فإن
المستقيمَين و يتقاطعان حتمًا على ذلك الجانب من .
يوضِّح شكلُ ٦-١ المسلَّمتَين الرابعةَ والخامسة.
تعني المسلَّمة الرابعة أنك تستطيع تحريكَ أي زاويةٍ قائمة حتى تنطبق تمامًا
على أيِّ زاويةٍ قائمة أُخرى. أما فيما يخصُّ المسلَّمة الخامسة، فإنه نظرًا
إلى أن مجموع قياسَي الزاويتَين
المُسمَّاتَين و وأقلُّ من درجة، فإنها تُخبرنا أن المستقيمَين و يتقاطعان في موضعٍ ما على يمين . تكافئ المسلَّمة الخامسة ما يُسمَّى «مسلَّمة التوازي»،
التي تؤكِّد أنه بمعلوميةِ أي مستقيم وأي نقطة لا تقع على ، يُوجَد مستقيمٌ واحد فقط يمر بالنقطة ولا يتقاطع أبدًا مع المستقيم .
استخدم إقليدس هذه المسلَّماتِ الخمسَ لتأسيس علم الهندسة بكاملِ صورته
كما كانت مفهومةً آنَذاك. فيما يلي، على سبيل المثال، ملخَّصٌ يُوضح كيفيةَ
إثبات النتيجةِ المعروفة جيدًا أنَّ مجموع (قياسات) زوايا المثلَّث يساوي درجة. تتمثل الخطوةُ الأولى في إثبات أنه إذا كان لدَينا
مستقيم يتقاطع مع مُستقيمَين متوازيَين و، فإن الزوايا المتقابلة تكون متساوية. أي إنه في شيءٍ مثل
شكل ٦-٢ يجب أن نحصل على و. وهذه إحدى النتائج المترتِّبة على المسلَّمة الخامسة.
أولًا، تخبرنا أن أقلُّ من ، وإلا لتقاطعَ المستقيمان و (في موضعٍ ما إلى يَسار المستقيم في الشكل). بما أن و يُكوِّنان معًا خطًّا مستقيمًا، ، فإنه يترتَّب على ذلك أن يساوي على الأقل ، وهو ما يعني أن أكبر من أو تُساويها. وطبقًا لهذه الحجة نفسِها، فإن يجب أن تُساويَ على الأقل ، ومن ثمَّ فإن تكون أكبرَ من أو تساويها. الطريقة الوحيدة لحدوث ذلك أن تكون و متساويتَين في القياس. وبما أن و، فإن كذلك.
لنفترضِ الآن أن مثلَّث، وأن الزوايا عند و و هي و و وعلى الترتيب. طبقًا للمُسلَّمة الثانية، يمكن مدُّ القطعة
المستقيمة لتُصبح المستقيم . تخبرنا مسلَّمة التوازي أنه يُوجَد مستقيم يمرُّ بالنقطة لا يتقاطع مع . لنفترض أن و هما الزاويتان الموضَّحتان في شكل ٦-٣.
طبقًا لما أثبتناه توًّا، فإن و. ومن الواضح أن ، بما أن الزوايا الثلاث و و تُكوِّن معًا خطًّا مستقيمًا. وعليه، فإن ، وهو المطلوب إثباته.
بماذا يُخبرنا هذا البرهانُ عن الحياة اليومية؟ يبدو أن أحد الاستنتاجات
المهمَّة أنه إذا عُيِّنَت ثلاثُ نقاط و و في الفراغ، وقيست زوايا المثلث بعناية، فإن مجموعها يساوي درجة. ويتأكَّد ذلك بتجرِبةٍ بسيطة: ارسم مثلثًا على قطعةٍ
من الورق، ثم قُصَّه بعنايةٍ قدْرَ الإمكان، وقَطِّعه إلى ثلاثة أجزاء يحتوي
كلٌّ منها على أحد أركان المثلث، ثم ضَع الأركان الثلاثة قريبًا بعضُها من بعض،
ولاحِظ أن الزوايا تُكوِّن بالفعل خطًّا مستقيمًا.
شكل ٦-٢: إحدى النتائج المترتبة على المسلَّمة الخامسة لإقليدس
شكل ٦-٣: إثباتُ أن مجموع زوايا المثلث يُساوي درجة
إذا كنتَ مقتنعًا الآن بأنه من غير
المتصوَّر أن يُوجَد مثلث ماديٌّ مجموعُ زواياه لا يساوي درجة، فأنت في صحبةٍ جيدة؛ لأنه الاستنتاج الذي توصَّل إليه
الجميع بدءًا من إقليدس عام قبل الميلاد وحتى إيمانويل كانط في نهاية القرن الثامن عشر.
وفي الواقع، كان كانط مقتنعًا جدًّا بذلك حتى إنه خَصَّص جزءًا من كتابه «نقد
العقل الخالص» للسؤال عن كيف يُمكن للمرء أن يكون على يقينٍ تام من أن الهندسة
الإقليدية كانت صحيحة.
ولكن، كان كانط مخطئًا في ذلك؛ بعدها بنحو ثلاثين عامًا، تمكَّن عالِمُ
الرياضيات الكبير كارل فريدريش جاوس أن يضَع تصوُّرًا لهذا المثلث، ونتيجةً
لذلك قاسَ فعلًا زوايا المثلثِ المكوَّنِ بواسطة قِمَم جبال هوهنهاجن وإنسلبرج
وبروكن في مملكة هانوفر، لاختبارِ إذا ما كان مجموعُها يساوي فعلًا درجة. (هذه القصة مشهورة، لكنها — بأمانةٍ — تجعلني أشكُّ
فيما إذا كان يُحاول بالفعل اختبارَ الهندسة الإقليدية.) هذه التجربة لم تكن
حاسمة؛ لأنه من الصعب قياسُ الزوايا بدقةٍ كافية، لكن المثير للاهتمام فيما
يخصُّ هذه التجرِبة ليس نتيجتَها، ولكن حقيقة أن جاوس تكبَّد عناءَ إجرائها من
الأساس. فما الخطأ المحتمَل أن يجدَه في البرهان الذي طرَحتُه توًّا؟
في الحقيقة ليس هذا بالسؤال المناسب طرحُه، بما أن البرهان صحيح. ولكن،
بما أنه يستند إلى المسلَّمات الخمس لإقليدس، فإنه لا يقتضي ضِمنًا أيَّ علاقةٍ
بالحياة اليومية ما لم تكن هذه المسلَّماتُ صحيحةً في الحياة اليومية. ومن
ثمَّ، فإنه بالتشكيك في صحةِ مُسلَّمات إقليدس، يمكن التشكيك في مقدمة
البرهان.
لكن أيُّ المسلَّمات تبدو أقلَّ مثارًا للشك؟ من الصعب أن نجد خطأً في
أيِّ مُسلَّمة منها. إذا أردتَ توصيل نقطتَين في العالم الحقيقيِّ بواسطة قطعةٍ
مستقيمة، فكلُّ ما عليك فعلُه هو أن تشدَّ قطعةً من الخيط بحيث تمرُّ
بالنقطتَين. وإذا أردتَ مدَّ هذه القطعةِ المستقيمة لتُصبح خطًّا مستقيمًا،
فيُمكنك استخدامُ شعاعٍ من الليزر بدلًا من ذلك. وبالمثل، يبدو أنه من غير
الصعب إيجادُ دائرة بأي نصفِ قطر وأي مركزٍ مرغوب، ويتَّضح بالخبرة والتجرِبة
أنك إذا أخذتَ رُكنَين من ورقةٍ بزاويتَين قائمتَين، فإنه يُمكنك وضعُ أحدهما
فوق الآخر بحيث ينطبقان تمامًا. وفي النهاية، ما الذي يمنع مستقيمَين من
الامتداد إلى مسافةٍ لا نهائية إلى الأبد، كالحال في قضيبَي السككِ الحديدية
اللذين يمتدَّان بطولٍ لا نهائي؟
(٢) مسلَّمة التوازي
تاريخيًّا، كانت مُسلَّمة التوازي هي المسلَّمةَ الأكثر مَثارًا للشك، أو
على الأقل للبلبلةِ والجدل. ذلك أنها أكثرُ تعقيدًا من المُسلَّمات الأخرى،
وتتضمَّن مفهومَ اللانهاية بصفةٍ أساسية. أليس من الغريب، عند إثبات أن مجموعَ
زوايا المثلث تساوي درجة، أن يستند البرهان بالضرورة إلى ما يحدث في أرجاء
الفضاء الخارجي الفسيح؟
دعنا نختبر مسلَّمة التوازي بمزيدٍ من الدقة، ونحاول أن نفهم سببَ أنها
تبدو صحيحةً بطريقةٍ بديهية. ربما تدور في أذهاننا البراهينُ التالية.
(١)
لنفترض أنَّ لدينا مستقيم و نقطةٌ لا تقع عليه، كل ما عليك فعلُه لرسمِ مستقيم مُوازٍ
يمر بالنقطة هو أن تختار مستقيمًا يمرُّ بالنقطة ويسير في الاتجاه نفسِه الذي يسير فيه المستقيم .
(٢)
لنفترض أنه تُوجَد نقطة أخرى ولتكُن ، على الجهة نفسِها التي بها النقطةُ من المستقيم وعلى المسافة نفسها من . صِل و بقطعةٍ مستقيمة (مسلَّمة ١)، ثم مُدَّ هذه القطعة
المستقيمة لتصبح مستقيمًا كاملًا، ولْيكُن (مسلَّمة ٢). وعليه، فإن لن يتقاطعَ مع .
(٣)
لنفترِض أن هو المستقيمُ المتكوِّن من جميعِ النقاط الواقعة على
الجهة نفسِها من المستقيم التي تقع عليها وعلى المسافة نفسِها. من الواضح أن هذا المستقيم لا
يتقاطعُ مع .
تتعلَّق هذه البراهينُ حتى الآن بوجودِ مستقيم مُوازٍ للمستقيم . ونتناول فيما يلي برهانًا أكثرَ تعقيدًا يهدف إلى إثباتِ
إمكانية وجودِ مستقيمٍ واحد كهذا على أقصى تقدير، وهو الجزء الثاني من
مسلَّمة التوازي.
(٤)
صِل المستقيمَين و بقِطَعٍ مستقيمة عموديَّة على مسافاتٍ متساوية (وهو ما
يُعطينا قُضبان السكك الحديدية الموضحة في شكل ٦-٤)
بحيث تمرُّ إحدى هذه القطع المستقيمة بالنقطة . والآن، لنفترضْ أنَّ مستقيمٌ آخَرُ يمرُّ بالنقطة . على أحد جانبَي ، يجب أن يقع المستقيمُ بين و، وبذلك فإنه يتقاطع مع القطعة المستقيمة التالية في نقطة،
ولْتكُن ، التي تقع بين و. لنفترض أن في هذا المثال تقع على مسافة من الطولِ الإجماليِّ للقطعة المستقيمة من إلى . إذن، سوف يقطع المستقيمُ القطعةَ المستقيمة التالية في نقطةٍ على مسافة من الطول الإجمالي، وهكذا. وعليه، فإنه بعد قطعة مستقيمة، سوف يتقاطع مع . وبما أن كل ما افترضناه بخصوص أنه ليس ، فإنه يترتب على ذلك أن هو المستقيم الوحيد المارُّ بالنقطة الذي لا يتقاطع مع المستقيم .
وأخيرًا، نتناول فيما يلي برهانًا يُثبت وجودَ مستقيم موازٍ واحد فقط
للمستقيم يمر بنقطةٍ مُعطاة.
(٥)
يمكن وصف نقطةٍ في المستوى بواسطة الإحداثيات الديكارتية. للمستقيم
(غير الرأسي) معادلةً بالصيغة: . بتغيير نُحرِّك لأعلى ولأسفل. وبديهيًّا، فإن أيَّ مُستقيمَين ناتجَين لا
يمكن أن يتَقاطعا بِناءً على ذلك، وكل نقطة تكون مُتضمَّنةً في أحدِهما
فقط.
شكل ٦-٤: أُحادية المستقيمات المتوازية
يُلاحَظ أن ما فعلتُه توًّا أنني حاولتُ إثبات مسلَّمة التوازي، وهذا
بالضبط ما حاولَ كثيرٌ من علماء الرياضيات قبل القرن التاسع عشر أن يفعلوه. كان
أقصى ما أرادوه هو استنتاجَ هذه المسلَّمةِ من المُسلَّمات الأربع الأخرى، ومن
ثَمَّ إثبات أنه يمكن الاستغناءُ عنها. ولكن، لم يتمكَّن أحدٌ من ذلك. المشكلة
في البراهين التي طرَحتُها توًّا، وأخرى مثلها، أنها تتضمَّن افتراضاتٍ ضِمنية،
وعندما يحاول المرءُ أن يجعلها صريحة، يرى أنها ليست نتائجَ بديهيةً
للمُسلَّمات الأربع الأولى لإقليدس. وعلى الرغم من أنها معقولة، فإنها ليست
أكثرَ معقوليةً من مسلَّمة التوازي نفسِها.
(٣) الهندسة الكُروية
شكل ٦-٥: دائرة عظمى
من الطرق الجيدة للوقوف على هذه الافتراضات الضِّمنية ومناقشتِها بوضوحٍ:
اختبارُ البراهين نفسِها المُطبَّقة في سياقٍ مختلف، وتحديدًا في سياقٍ تكون
فيه مُسلَّمة التوازي غيرَ صحيحة قطعًا. وبأخذِ هذا في الاعتبار، دَعْنا نُفكر
لحظةً في سطح الكرة.
لا يتَّضح على الفور ما نقصدُه بأنَّ مُسلَّمة التوازي لا تنطبق على سطح
الكرة؛ لأن سطح الكرة لا يتضمَّن خطوطًا مستقيمةً على الإطلاق. سوف نتغلَّب على
هذه الصعوبة بتطبيقِ فكرةٍ ذات أهميَّة جوهرية في الرياضيات. تتمثَّل هذه
الفكرة، التي هي مثالٌ تطبيقي مُتعمِّق على الطريقة المجرَّدة، في إعادة تفسير
مفهوم الخطِّ المستقيم، بحيث يتضمَّن سطحُ الكرة بالفعل خطوطًا مُستقيمة في
نهاية الأمر.
يُوجَد في الواقع تعريفٌ بسيط مألوف: القطعة المستقيمة من إلى هي أقصرُ مسار من إلى يقع بأكمله داخلَ سطح الكرة. يمكن للمرء أن يتخيَّل و على أنهما مدينتان، والقطعة المستقيمة هي أقصرُ مسارٍ تسلكه
الطائرة. هذا المسار سيكون جزءًا من «دائرةٍ عُظمى»، وهي دائرة نحصل عليها
برسمِ مستوًى يمرُّ بمركز الكرة، وتحديد الموضع الذي يقطع فيه هذا المستوى
السطحَ (شكل ٦-٥). ومثالًا على الدائرة العُظمى خطُّ
الاستواء للكرة الأرضية (التي، لأغراضٍ تتعلق بالمناقشة، سأعتبرها كرةً
تامَّة). بالنظر إلى الطريقة التي عرَّفنا بها القطعةَ المستقيمة، فإن الدائرة
العظمى تُقدِّم تعريفًا جيدًا لمفهوم «الخط المستقيم».
إذا أخذنا بهذا التعريف، فإن مُسلَّمة التوازي تكون خطأً بالتأكيد. على
سبيل المثال، ليكُن هو خط الاستواء للكرة الأرضية، ولتكن نقطةً في نصف الكرة الشمالي. من السهل ملاحظةُ أن أيَّ
دائرةٍ عُظمى تمرُّ بالنقطة سيقع نصفها في النصف الشمالي بينما يقع نصفها الآخرُ في
النصف الجنوبي، حيث تقطع خط الاستواء في نقطتَين متقابلتَين تمامًا (انظر شكل
٦-٦). بعبارةٍ أخرى، لا يُوجَد مُستقيم (وهو ما زلتُ أعني
به الدائرةَ العُظمى) يمرُّ عبر النقطة لا يتقاطع مع المستقيم .
شكل ٦-٦: لا تنطبق مسلَّمة التوازي على الهندسة الكروية
قد تبدو هذه حيلةً وضيعة؛ فإذا عرَّفتُ «الخط المستقيم» بأسلوبٍ جديد، فمن
غير المستغرَب أن تنهارَ مُسلَّمة التوازي من أساسها. ولكن ليس المقصودُ أن
يكون الأمرُ مُستغرَبًا، بل إن التعريف قد وُضِعَ لهذا الغرض على وجهِ الخصوص.
وسيكون الأمر مثيرًا للاهتمام عندما نفحص بعضَ البراهين المطروحة كمحاولاتٍ
لإثباتِ مُسلَّمة التوازي. وفي كل حالة، سنكتشف افتراضًا لا يصلح للهندسة
الكروية.
على سبيل المثال، يَفترض البرهان رقم (١) أن العبارة «في الاتجاه نفسِه»
واضحةُ المعنى. لكن المعنى غيرُ واضح إطلاقًا في حالة سطح الكرة. لنرَ هذا،
افترِض أنَّ لدينا النقاطَ الثلاث و و الموضحة في شكل ٦-٧. النقطة هي القُطب الشمالي، وتقع النقطة على خط الاستواء، وكذلك تقع النقطة على خط الاستواء في رُبع المسافة من النقطة . يُوجَد أيضًا في شكل ٦-٧ سهمٌ صغير عند ، يشير إلى على طولِ خط الاستواء. ما
السهم الذي يمكن رسمُه عند حتى يشيرَ في الاتجاه نفسِه؟ الاتجاه الطبيعي الذي يمكن
اختياره ما زال على طولِ خط الاستواء، بعيدًا عن . ماذا عن رسم سهمٍ عند في الاتجاه نفسِه مرةً أخرى؟ يمكننا اختيارُ هذا السهم
كالآتي. ارسم القطعةَ المستقيمة من إلى . بما أن السهم عند النقطة يصنع زاويةً قائمة مع هذه القطعة المستقيمة، فلا بد أن الأمر
نفسَه ينطبق على السهم عند النقطة ، وهو ما يعني حقيقةً أن السهم يُشير لأسفل في اتجاه . ولكن، لدينا مشكلة الآن، وهي أن السهم الذي رسَمناه عند لا يُشير في الاتجاه نفسه عند .
شكل ٦-٧: العبارة «في الاتجاه نفسه» لا معنى لها على سطح الكرة
المُشكلة في هذا البرهان أنه غيرُ مُفصَّل بقدرٍ كافٍ. لماذا لا يقطع
المستقيمُ المعرَّفُ فيها المستقيم ؟ ففي نهاية الأمر، إذا كان و مستقيمَين في كرة، فإنهما سيتقاطعان. أما فيما يخصُّ البرهان
رقم (٣)، فإنه يفترض أن خطٌّ مستقيم. وهذا لا ينطبق على الكرة: إذا كان هو خط الاستواء و يتكوَّن من كلِّ النقاط الواقعة على مسافة ميل شمالَ خط الاستواء، فإن ليس دائرةً عُظمى. في الواقع إنها خطُّ عرضٍ ثابت، وكما
سيُخبرك أيُّ طيَّار أو بحَّار، لا يُمثل أقصرَ مسار بين النقطتَين.
البرهان رقم (٤) مختلفٌ بعضَ الشيء، حيث يتعلق بأحادية المستقيمات
المتوازية وليس وجودها. وسأناقش هذا الموضوعَ في الجزء التالي. يطرح البرهانُ
رقم (٥) افتراضًا مُهمًّا للغاية، وهو أنه: يمكن وصف الفضاء بواسطة الإحداثيات
الديكارتية. ومرةً أخرى، لا ينطبق هذا على سطح الكرة.
إنَّ الهدف من تناول موضوع الكرة أنه يُتيح لنا أن نستخلِص من كل برهانٍ
من البراهين (١) و(٢) و(٣) و(٤) و(٥) افتراضًا ينصُّ عمليًّا على أن «الهندسة
التي نَستخدِمها ليست هندسةً كروية». قد تتساءل: وما الخطأ في ذلك؛ فنحن في
النهاية لا نستخدِم الهندسة الكروية. وقد تتساءل أيضًا كيف لنا أن نأمُلَ في
إثباتِ أن مُسلَّمة التوازي لا تتمخَّض عن بقية مُسلَّمات إقليدس، إذا كانت
حقًّا لا تتمخَّض عنها. ولا فائدة من القول إن علماء الرياضيات قد حاولوا
استنتاجها قرونًا دون أن ينجَحوا في ذلك. وكيف نتأكَّد من أنه لن يخرجَ علينا
عبقريٌّ شابٌّ في غضون مائتَي سنة بفكرةٍ رائعة جديدة تُفضي في النهاية إلى
برهان؟
هذا السؤال له إجابةٌ جميلة، على الأقل، من حيث المبدأ. وُضِعَت
المسلَّمات الأربع الأولى لإقليدس لوصف الفراغ المستوي اللانهائي ذي البُعدَين.
لكننا غيرُ مُجبَرين على تفسيرها بهذه الطريقة ما لم ينتج بالطبع هذا الاستواءُ
من المُسلَّمات. وإذا استطعنا إعادةَ تفسير (أو ربما تقريبًا «تحريف»)
المسلَّمات بطريقةٍ ما عن طريق إضفاءِ مَعانٍ جديدة على مصطلحات مثل «القطعة
المستقيمة»، بالأحرى كما فعلنا مع الهندسة الكروية، وإذا وجَدْنا بعدما فعَلنا
ذلك أن المُسلَّمات الأربعَ الأولى صحيحةٌ لكن مُسلَّمة التوازي خاطئة، نكون
بذلك قد أثبتنا أن مُسلَّمة التوازي ليست نتيجةً للمسلَّمات الأخرى.
لكي نعرف سببَ ذلك، تخيَّل أن لدَينا برهانًا مزعومًا، يبدأ بالمُسلَّمات
الأربع الأولى لإقليدس، ويَخلُص بعد سلسلةٍ من الخطوات المنطقية الدقيقة إلى
مُسلَّمة التوازي. بما أن الخطوات تتتابع منطقيًّا، فإنها ستظلُّ مُتحققةً
وصحيحة عند تفسيرها بالتأويل الجديد. وبما أن المسلَّمات الأربع الأولى صحيحةٌ
بموجب التفسير الجديد، ومُسلَّمة التوازي غيرُ صحيحة، فلا بد من وجودِ خطأٍ ما
في هذا البرهان.
لماذا لا نَستخدم الهندسة الكروية لطرحِ التفسير الجديد؟ السبب، للأسف، أن
المُسلَّمات الأربعَ الأولى لإقليدس ليست كلُّها صحيحةً في حالة الكرة. على
سبيل المثال، لا تحتوي الكرةُ على دوائرَ ذات أنصافِ أقطار كبيرة على نحوٍ
اختياري، ومن ثَمَّ فإن المُسلَّمة الثالثة غيرُ صحيحة، كما أنه لا يُوجَد ما
يمكن أن نُسمِّيَه المسارَ الأقصر الوحيد ما بين القطبَين الشماليِّ والقطبي،
ومن ثَمَّ فإن المسلَّمة الأولى غيرُ صحيحة كذلك. وعليه، فإنه على الرغم من أن
الهندسة الكروية ساعَدَتنا في فهم أوجُه القصور في بعض البراهين الاجتهادية
لمُسلَّمة التوازي، فإنها لا تزال تترك المجالَ مفتوحًا لاحتمالية أن ينجح
برهانٌ آخرُ في ذلك. وبناءً على ذلك، سأنتقل إلى تفسيرٍ جديد آخَر، يُسمَّى
الهندسة الزائدية. ومرةً أخرى ستكون مُسلَّمة التوازي غيرَ صحيحة، ولكن هذه
المرة ستكون كلُّ المسلَّمات الأربع الأولى صحيحة.
(٤) الهندسة الزائدية
هناك العديدُ من الطرق المتكافئة لوصفِ الهندسة الزائدية، ولكن الطريقة
التي اخترتُها معروفةٌ باسم نموذج القرص، اكتشفَها عالِمُ الرياضيات الفرنسيُّ
العظيم هنري بوانكاريه. ومع أن المجال لا يتَّسع لتعريفها بدقةٍ في كتابٍ كهذا،
فيُمكنني على الأقل شرحُ بعض سِماتها، ومناقشةُ ما تُخبرنا به عن مسلَّمة
التوازي.
يُعَدُّ فهم نموذج القرص أكثرَ تعقيدًا من فهم الهندسة الكروية؛ لأن الأمر
لا يتطلَّب هنا إعادةَ تفسيرِ مصطلحَي «المستقيم»، «القطعة المستقيمة» فحسب،
ولكن أيضًا فكرة المسافة. على سطح الكرة المسافة لها تعريفٌ سهلُ الاستيعاب:
المسافة بين نقطتَين و هي أقصرُ طولٍ ممكنٍ للمسار من إلى الذي يقع داخل سطح الكرة. ومع أنَّ ثمة تعريفًا مشابهًا
ينطبق في الهندسة الزائدية، فإنه من غير الواضح — لأسبابٍ سوف تتَّضح لاحقًا —
ما هو أقصرُ مسار، أو في الواقع ما هو طولُ أيِّ مسار.
يوضح شكل ٦-٨ تغطية القرص الزائدي باستخدام أشكالٍ
خماسية منتظِمة. وهذه بالطبع جملةٌ تستوجب الشرح؛ لأنها تُصبح غيرَ صحيحةٍ إذا
فهمنا المسافةَ بالطريقة العادية: من الواضح أن حوافَ هذه «الأشكال الخماسية»
ليست خُطوطًا مستقيمة، وليست متساويةً في الطول. ولكن، المسافات في القُرص
الزائدي لا تُعرَّف بالطريقةِ المعتادة، وتصبح أكبرَ بالنسبة إلى المسافة
العادية كلما اقتربَت من الحدِّ. وفي الواقع، فإنها تُصبح أكبرَ بكثير حتى إنَّ
الحدَّ — على الرغم مما يبدو عليه ظاهريًّا — يكون بعيدًا جدًّا عن المركز. ومن
ثمَّ، فإن السبب في أن الخماسيَّ المميَّز بنجمةٍ يبدو أنَّ له ضلعًا أكبرَ من
كل الأضلاع الأخرى: هو أن هذا الضلع أقربُ إلى المركز. وقد تبدو الأضلاع الأخرى
أقصر طولًا، إلا أنَّ المسافة الزائدية تُعرَّف بحيث يُعوَّض هذا القِصَر
الظاهري بدقةٍ بقُرب هذه الأضلاع من الحافة.
شكل ٦-٨: تغطية مستوًى زائديٍّ بأشكالٍ خماسية منتظمة
إذا كان ذلك يبدو مُحيِّرًا ومتناقضًا، فيُمكنك تخيُّل خريطةِ العالم. كما
هو معلومٌ للجميع، فإنه نظرًا إلى أن العالَم دائري، والخريطة مُسطَّحة،
فالمسافات تكون مُحرَّفة بالضرورة. تُوجَد طرقٌ عديدة لإجراء هذا التحريف، وفي
أكثرِ هذه الطرق شيوعًا، وهو «إسقاط مركاتور»، تبدو الدولُ قربَ القطبَين أكبرَ
كثيرًا من حقيقتها. تبدو جرينلاند، على سبيل المثال، وكأنها تُضاهي في حجمها
أمريكا الجنوبيةَ بأكملِها. وكلما اقتربتَ من الحدِّ العُلوي أو السفلي لهذه
الخريطة، تقلَّصَت المسافة مقارنةً بما هي عليه في الحقيقة.
يترتَّب على هذا التحريف نتيجةٌ معروفة، وهي أن أقصرَ مسار بين نقطتَين
على سطح الكرة الأرضية يظهر مُنحنيًا على الخريطة. وهذه الظاهرة يمكن فهمُها
بطريقتَين. الطريقة الأولى هي أن تُنحِّيَ الخريطة جانبًا وتستحضرَ في ذهنك
الكرةَ الأرضية، لاحِظ أنه إذا كان لديك نقطتان في النصف الشمالي، بحيث تقعُ
الأولى على مسافةٍ طويلة جدًّا إلى الشرق عن الثانية (مثالٌ جيد على ذلك باريس
وفانكوفر)، فإنَّ أقصرَ مسارٍ من النقطة الأولى إلى الثانية سيمرُّ بالقرب من
القُطب الشمالي بدلًا من الاتجاه غربًا. أما عن الطريقة الثانية، فهي أن تستعين
بالخريطة الأصلية لمناقشة وتفسير فكرة أنه إذا كانت المسافات قربَ الحدِّ
العُلوي للخريطة أقصرَ مما تبدو، فإنه يمكن تقصيرُ المسار بالاتجاه شمالًا
نوعًا ما وكذلك غربًا. وبذلك، فإنه من الصعب أن نعرف بدقةٍ ما المسارُ الأقصر،
إلا أن المبدأ على الأقلِّ صار واضحًا، وهو أن «الخط المستقيم» (بمنظورِ
المسافات الكروية) سيكون مُنحنيًا (بمنظور المسافات على الخريطة
الفعلية).
وكما قلتُ سابقًا، فعندما تصل إلى حافة القرص الزائدي، فإن المسافاتِ
تُصبح أكبرَ مقارنةً بما تبدو عليه. ونتيجةً لذلك، فإن أقصر مسارٍ بين نقطتَين
يَميل إلى الانحراف ناحيةَ مركز القرص. هذا يعني أنه ليس خطًّا مستقيمًا
بالمعنى العاديِّ (إلا إذا تصادفَ أن هذا المستقيم يمرُّ بالضبط عبر المركز).
ويتبيَّن أن المستقيم الزائدي؛ أي: أقصر مسارٍ بمنظور الهندسة الزائدية، هو
قوسُ الدائرة الذي يتقاطع مع حدِّ الدائرة الرئيسية مكوِّنًا زاويتَين قائمتَين
(انظر شكل ٦-٩). والآن، إذا نظرتَ مرةً أخرى إلى التغطية
الخماسية لشكل ٦-١٠، فإنك سترى أن حوافَ الأشكال الخماسية،
وإن كانت لا تبدو مُستقيمة، هي في الحقيقة قطعٌ مستقيمة، بما أنه يمكن مَدُّها
إلى مستقيماتٍ زائدية، طبقًا للتعريف الذي طرَحتُه آنفًا. وبالمِثل، فإنه على
الرغم من أن الأشكال الخماسية لا تبدو جميعُها ذاتَ شكلٍ وحجم واحد، فإنها كذلك
بالفعل، بما أن الأشكال الخماسيةَ القريبة من الحافَة تكون أكبرَ كثيرًا مما
تبدو — وهو عكس ما يحدث في حالة جرينلاند. ومن ثمَّ، فإن نموذج القرص، مثله مثل
إسقاط مركاتور، هو «خريطة» مُحرَّفة للهندسة الزائدية الفعلية.
شكل ٦-٩: مستقيمٌ زائدي نموذجي
ومن الطبيعي أن نسأل عند هذه النقطة عمَّا تبدو عليه الهندسةُ الزائدية
الحقيقية. أي: ماذا تكون الخريطةُ المُحرَّفة لخريطةٍ ما؟ ما الذي يُضاهى
بنموذج القرص على غِرار مضاهاة الكرةِ بإسقاط مركاتور؟ الإجابة عن هذا صعبةٌ
إلى حدٍّ ما. فمن جانبٍ، كان ضربًا من الحظ أنْ تَسنَّى التعرفُ على الهندسة
الكروية بوصفها سطحًا يقع في فراغٍ ثلاثيِّ الأبعاد. ولو أننا بدأنا بإسقاط
مركاتور، بمفهومه الغريب للمسافات، دون معرفةِ أنَّ ما لدَينا هو خريطةٌ للكرة،
لَاندهَشنا وابتهَجْنا لاكتشاف وجودِ سطح مُتماثل على نحوٍ رائع في الفراغ،
خريطة لهذه الخريطة، إن جاز التعبير، حيث المسافات بسيطةٌ للغاية، لا تَعْدو
كونَها أكثرَ من أطوالٍ لأقصرِ المسارات في المعتاد، بمفهومٍ يسهل استيعابُه.
شكل ٦-١٠: دائرة زائدية نموذجية، ومركزها
لسوء الحظ، لا يُوجَد شيءٌ مماثل لهذا في الهندسة الزائدية. لكن الغريب أن
هذا لم يجعل الهندسة الزائدية أقلَّ واقعيةً من الهندسة الكروية. إنه يجعلها
أصعبَ فهمًا، على الأقل في البداية، لكن كما أكَّدتُ في الفصل الثاني، فإن
واقعيةَ المفاهيم الرياضية تتعلق بوظيفتها أكثرَ من معناها. وبما أنه يمكن
الوقوف على وظيفة القُرص الزائدي (على سبيل المثال، إذا سألتَني عمَّا قد يعنيه
دورانُ قرصٍ مُغطًّى بأشكالٍ خماسية بمقدار درجة حول أحد رءوس الشكل الخماسي الرئيسي، فيُمكنني إخبارك)،
فإن الهندسة الزائدية واقعية بقدرِ واقعية أي مفهومٍ رياضي آخر. وقد تكون
الهندسة الكروية أسهلَ استيعابًا من وجهةِ نظر الهندسة الإقليدية الثلاثية
الأبعاد، ولكنه ليس بالفارق الكبير.
من خصائص الهندسة الزائدية الأخرى أنها تُحقق المسلَّمات الأربع الأولى
لإقليدس. على سبيل المثال، يمكن توصيلُ أيِّ نقطتَين بدقةٍ بواسطة قطعةٍ
مُستقيمة زائدية واحدة. (أي، قوس الدائرة الذي يقطع الدائرة الرئيسية بزاويتَين
قائمتَين). ومع ذلك، قد يبدو الأمرُ كما لو أنك لا تستطيع إيجادَ دائرة نصف
قُطرها كبيرٌ حول أيِّ نقطةٍ مُعطاة، ولكن هذا يعني أنك نسيتَ أن المسافات
تُصبح أكبرَ بالقرب من حافَةِ القرص. وفي الواقع، إذا تماسَّت الدائرة الزائدية
مع الحافة، فإن نصف قُطرها (أي نصف قطرها الزائدي) سيكون كبيرًا جدًّا بدون شك.
(الدائرة الزائدية تُشبه الدائرة العادية، إلا أن مركزها لا يُوجَد حيث يتوقَّع
المرءُ أن يكون. انظر شكل ٦-١٠.)
أما فيما يخصُّ مسلَّمة التوازي، فإنها غيرُ صحيحة من وجهة نظر الهندسة
الزائدية، وهذا بالضبط ما كنا نأمُله. يمكن رؤية ذلك في شكل ٦-١١، حيث أشرتُ إلى ثلاثةٍ من الخطوط المستقيمة الزائدية
بالأسماء و و. يتقاطع المستقيمان و في نقطةٍ سمَّيتُها ، لكن لا يتقاطع أيٌّ منهما مع المستقيم . ومن ثمَّ، يوجد مستقيمان يمرَّان بالنقطة (بل في الواقع عدد لا نهائي من المستقيمات) لا يتقاطع مع . وهذا يتناقض مع مسلَّمة التوازي، التي تنصُّ على ضرورة وجود
مستقيمٍ واحد فقط. بعبارة أخرى، فإننا في الهندسة الزائدية لدَينا التفسير
البديل لمسلَّمات إقليدس، الذي كنا نبحث عنه بالضبط للبرهنة على أن مُسلَّمة
التوازي ليست نتيجةً منطقية للمسلَّمات الأربع الأخرى.
شكل ٦-١١: مسلَّمة التوازي لا تتحقق في المستوى الزائدي
بالطبع، لم أُبرهن فعليًّا في هذا الكتاب على أن الهندسة الزائدية لها
جميعُ الخصائص التي ادَّعيتُها. فهذا يتطلب إفرادَ بِضع محاضراتٍ في مقرَّرٍ
جامعي نمطيٍّ في مادة الرياضيات، لكنني على الأقل أستطيع أن أوضح على نحوٍ
أدقَّ كيف نُعرِّف المسافة الزائدية. وللقيام بذلك، يجب أن أحدِّد إلى أيِّ
مدًى تكون المسافات القريبة من القرص أكبرَ مما تبدو عليه. الإجابة هي أن
المسافات الزائدية عند نقطة تكون أكبرَ من المسافات «العادية» بمقدار ، حيث هي المسافة من النقطة إلى حدِّ الدائرة. بعبارةٍ أخرى، إذا تنقَّلتَ في القرص
الزائدي، فإن سرعتَك عندما تمرُّ بالنقطة — طبقًا للمفهوم الزائدي للمسافة، هي مضروبًا في سرعتك الظاهرية، وهو ما يعني أنك إذا حافظتَ على
مسافةٍ زائدية ثابتة، فسيبدو الأمر كأن سرعتك تتناقص كلَّما اقتربتَ من حدِّ
القرص.
قبل أن نترك موضوعَ الهندسة الزائدية، دعنا نتعرَّف على سبب إخفاق البرهان
رقم (٤) في إثبات وجودِ مُستقيمٍ مُوازٍ واحد فقط. كانت الفكرة كالآتي: لنفترض
أنَّ لدَينا المستقيم ، و نقطةٌ لا تقع على ، ولدَينا المستقيم يمر عبر النقطة ولا يتقاطع مع المستقيم ، يمكن توصيل المستقيمَين و بواسطة العديد من القطع المستقيمة المتعامدة على كلٍّ من و، مما يُقسِّم الفراغ بين و إلى مستطيلات. يبدو واضحًا أنه يمكن تنفيذُ ذلك، لكنه أمرٌ
غير ممكنٍ في السياق الزائدي؛ لأن مجموعَ زوايا الشكل الرباعيِّ تكون دائمًا
أقلَّ من درجة. بعبارة أخرى، في القرص الزائدي لا توجد ببساطة
المستطيلاتُ اللازمة للبرهان.
(٥) كيف يمكن أن ينحنيَ الفراغ؟
واحدةٌ من أكثر العبارات المتناقضة في الرياضيات (والفيزياء) هي «الفراغ
المُنحني». نعرف جميعًا ما يعنيه أن يكون خطٌّ أو سطحٌ منحنيًا، لكن كيف يكون
الفراغُ نفسُه منحنيًا؟ وحتى لو استطعنا بطريقةٍ ما فَهْم فكرة الانحناء
الثلاثيِّ الأبعاد، فالتشبيهُ مع السطوح المنحنية يوحي بأننا لن نستطيعَ أن نرى
بأنفسنا إذا ما كان الفراغُ منحنيًا، إلا إذا استطعنا الخروجَ إلى بُعدٍ رابع
لنرى ذلك. وربما لَاكتشَفنا وقتها أن الكون كان بمنزلة السطح الثلاثيِّ الأبعاد
لكرةٍ رباعية الأبعاد (وهو مفهومٌ شرَحتُه في الفصل الخامس)، تبدو على الأقل
منحنية.
هذا كله مستحيلٌ بالطبع. وبما أننا لا نعرف كيف نقف خارج الكون — هذه
الفكرة متناقضة تقريبًا في مفرداتها — والدليل الوحيد الذي يمكننا استخدامه
ينبع من داخله. فما الدليل الذي يمكن أن يُقنِعَنا بأن الفراغ مُنحنٍ؟
ولكن مرةً أخرى، يصبح السؤال أسهلَ إذا انتهَجْنا نهجًا مجردًا. وبدلًا من
الدخول في تمرينات عقلية غير عادية، ونحن نحاول أن نفهم ماهيَّة الفراغ المنحني
الحقيقيةَ، دعونا نتبع ببساطةٍ الأسلوبَ المعتاد في تعميم المفاهيم الرياضية.
نحن نفهم كلمة «مُنحَنٍ» عند استخدامها للسطوح الثنائية الأبعاد. وحتى يمكن
استخدامُها في سياقٍ غيرِ معتاد؛ أي في سطحٍ ثلاثيِّ الأبعاد، علينا أن نُحاول
إيجادَ خصائص السطوح المنحنية التي يكون من السهل تعميمُها، كما فعلنا عند
تعريف ، أو المكعبات الخماسية الأبعاد، أو بُعد نُدْفة الثلج لكوخ.
وبما أن نوع الخاصية التي نريد الانتهاءَ إليها، هو نوعٌ يمكن اكتشافُه من داخل
الفراغ؛ كان لِزامًا علينا البحثُ عن طرق اكتشاف انحناء السطح التي لا تعتمد
على الوقوف خارجه.
كيف نُقنع أنفسَنا مثلًا أنَّ سطح الأرض مُنحنٍ؟ تتمثَّل إحدى الطرق في
الانطلاق في مكُّوك فضائي، والنظر إلى الخلف، وملاحظة أنه كرويٌّ تقريبًا.
ولكن، التجرِبة التالية، وهي تجربة ثنائية الأبعاد بقدْرٍ أكبر بكثير، ستكون
مُقنعة جدًّا كذلك؟ ابدأ عند القطب الشمالي، واتَّجِه جنوبًا مسافةَ نحو ميل، بعد تعيين اتجاهك المبدئي. انعطِف يمينًا بعد ذلك،
واقطع المسافةَ نفسَها مرةً أخرى. ثم انعطِف يسارًا واقطَع المسافة نفسَها مرةً
ثالثة. المسافة ميل هي تقريبًا المسافة من القطب الشمالي إلى خط الاستواء،
وهكذا ستنقلك الرحلةُ من القطب الشمالي إلى خط الاستواء، ثم ربع المسافة حول خط
الاستواء، ثم تعود بك إلى القطب الشمالي مرةً أخرى. وعلاوةً على ذلك، فإن اتجاه
عودتك سيكون عموديًّا على الاتجاه الذي بدأتَ به. وبناءً على ذلك، يُوجَد على
سطح الأرض مثلثٌ متساوي الأضلاع كلُّ زواياه قائمة. وعلى السطح المستوي، يجب أن
يكون قياس زوايا المثلث المتساوي الأضلاع درجة، حيث تكون جميعها متساويةً في القياس ومجموعها درجة. وعليه، فإن سطح الأرض ليس مسطحًا.
وهكذا، فإن إحدى طرق إثبات أن السطحَ الثنائيَّ الأبعاد مُنحنٍ، من داخل
السطح نفسِه، هي إيجادُ مثلثٍ مجموعُ زواياه ليس درجة، وهذا أمرٌ يمكن تجرِبتُه في الأسطح الثلاثية الأبعاد
كذلك. لقد ركَّزتُ في هذا الفصل على الهندسة الإقليدية، والكروية، والزائدية في
بُعدَين، ولكن يمكن التعميمُ بسهولةٍ تامة على الأسطح الثلاثية الأبعاد. فإذا
قِسْنا زوايا المثلث في الفراغ ووجَدنا أن مجموع زواياه أكبرُ من درجة، فهذا سيدلُّ على أن الفراغ أشبهُ بنسخةٍ ثلاثية
الأبعاد من سطح كرةٍ عنه بالفراغ الذي يمكن وصفُه بواسطة الإحداثيات
الديكارتية.
إذا حدث هذا، فإنه يبدو منطقيًّا أن نقولَ إن الفراغ ذو انحناءٍ موجب.
ويمكن توقُّعُ سِمةٍ أخرى في هذا الفضاء، وهي أن المستقيمات التي بدأَت في
الاتجاه نفسِه سوف تتقارب، وقد تتقاطع في النهاية. ولكن من سِماته أيضًا أنَّ
طول محيط الدائرة التي نصفُ قطرها لن يُساويَ ، ولكن أقل من ذلك قليلًا.
ربما تميل إلى توضيحِ أن الفراغ كما نعرفه لا يتَّسم بهذه الخصائص
الغريبة. فالمستقيمات التي تبدأ في اتجاهٍ بعينِه تستمرُّ في الاتجاه نفسِه،
ولا تغييرَ يطرأُ على زوايا المثلث ومحيطات الدوائر كذلك. بعبارةٍ أخرى، يبدو
أنه حتى لو كان من الممكن منطقيًّا أن يكون الفراغُ منحنيًا، فإنه في الواقع
مسطَّح. ولكن من الممكن أن يُعزَى ظهورُ الفراغ أمامنا مسطحًا إلى أننا نُقيم
في هذا الجزء الصغير منه، تمامًا كما يبدو سطحُ الأرض مسطحًا، أو بالأحرى
مسطحًا مع وجودِ نُتوءاتٍ مختلفة الأحجام، إلى شخصٍ لم يُسافر بعيدًا.
بعبارةٍ أخرى، ربما يكون الفراغ مسطحًا على نحوٍ تقريبيٍّ فحسب، وربما إذا
استطعنا تكوينَ مثلثٍ كبير جدًّا، فإننا سوف نجد أن مجموعَ زواياه لن يكون درجة. هذا بالطبع ما حاوَلَه جاوس، إلا أن مثلثه هذا لم يكن
كبيرًا بدرجةٍ كافية على الإطلاق. ومع ذلك، فإنه في عام ١٩١٩ أثبتَت إحدى أشهر
التجارِب العِلمية في التاريخ أن فكرة الفراغ المنحني ليست مجردَ خرافةٍ من
نَسْج خيالِ علماء الرياضيات، بل هي حقيقةٌ واقعية. طبقًا لنظرية النسبية
العامة لأينشتاين، التي نُشِرَت قبل ذلك بأربعة أعوام، فإن الفراغَ ينحني بفِعل
الجاذبيَّة، ومِن ثمَّ فإن الضوء لا ينتقل دائمًا في خطوطٍ مُستقيمة، على الأقل
حسب فهم إقليدس للمصطلح. والتأثيرُ صغيرٌ جدًّا حتى إنه لا يمكن اكتشافه
بسهولة، ولكن جاءت الفرصةُ في عام ١٩١٩ عندما حدث كسوفٌ كُلي للشمس، أمكَنَ
مشاهدتُه من جزيرة «برينسيب» في خليج غانا. وفي أثناء حدوثه، التقَط عالِمُ
الفيزياء آرثر إدينجتون صورةً فوتوغرافية ظهرَت فيها النجوم الموجودة بجوار
الشمس مباشرة في غيرِ مكانها المتوقَّع، تمامًا كما تنبَّأَت نظرية
أينشتاين.
ومع أنه من المسلَّم به اليوم أن الفراغَ (أو، على نحوٍ أدق، الزمَكان)
مُنحنٍ، فإن الانحناء الذي نُلاحظه، كما في حالة الجبال والوديان على سطح
الأرض، هو مجردُ اختلالٍ بسيطٍ في شكلٍ أكبرَ كثيرًا، وأكثرَ تماثلًا. وإحدى
المسائل الكبرى غيرِ المحسومة في الفلَك تعيينُ شكل الكون الواسع النطاق، وهو
الشكل الذي يتَّخِذه الكون إذا أزَلْنا الانحناءاتِ الناتجةَ عن النجوم والثقوب
السوداء وغيرها. هل سيظلُّ الكون منحنيًا مثل كرةٍ كبيرة، أو سيُصبح مسطَّحًا،
كما يتصوَّره البعضُ بطبيعة الحال، وإن كان من المحتمَل جدًّا أن يكون
تصوُّرُهم غيرَ صحيح؟
الاحتمال الثالث أن يكون الكونُ سالب الانحناء. وهذا يعني ببساطةٍ عكس
الانحناء الموجب بطريقةٍ أو بأخرى. ومن ثَمَّ، يكون دليلُ الانحناء السالبِ أن
مجموع زوايا المثلث أقلُّ من درجة، أو أن المستقيمات التي تبدأ في الاتجاه نفسِه تميل إلى
أن تتباعد، أو أن محيط الدائرة التي نصفُ قطرِها أكبرُ من . يحدث هذا النمطُ من السلوك في القرص الزائدي. على سبيل
المثال، يعرض شكل ٦-١٢ مثلثًا مجموع زواياه أقلُّ من درجة. ومن غير الصعب تعميمُ ما يحدث في الكرة والقرص الزائدي
على أشكالٍ مشابهة ذاتِ أبعادٍ أعلى، وقد تكون الهندسة الزائدية نموذجًا أفضلَ
لشكل الزمكان الأوسع نطاقًا عن الهندسة الكروية أو الإقليدية.
شكل ٦-١٢: مثلث زائدي
(٦) المنطويات
إنَّ السطح المغلَق هو شكلٌ ثنائيُّ الأبعاد، ليس له حدود. سطح الكرة
مثالٌ جيِّد على هذا، وكذلك الطارة (المصطلح الرياضي لشكل سطح الحلقة أو للكعكة
المُحلَّاة التي على شكل حلقة). وكما اتضح من مناقشة موضوع الانحناء، قد يكون
من المفيد التفكيرُ في هذه الأسطح دون الرجوع إلى الفراغ الثلاثيِّ الأبعاد
الموجودة فيه، ويزداد هذا الأمرُ أهميةً في حال الرغبة في تعميم مفهوم السطح
المغلق ليشمل أبعادًا أعلى.
ليس علماءُ الرياضيات وحدهم هم مَن يُحبِّذون التفكير في الأسطح بمنظورٍ
ثنائيِّ الأبعاد بَحْت. على سبيل المثال، الهندسة في الولايات المتحدة متأثرةٌ
بوضوحٍ بانحناء الأرض، لكن إذا أردنا تصميم خريطةِ طريقٍ مُفيدة، فلا يستدعي
الأمرُ بالضرورة طباعتَها على قطعةٍ كبيرة
منحنية من الورق. والأكثرُ عمَليةً من ذلك أن تُنشئ كتابًا يتضمَّن عدةَ
صفحاتٍ، تعرض كلٌّ منها جزءًا صغيرًا من الدولة. ومن الأفضل أن تكون هذه
الأجزاءُ متراكبة، بحيث إذا وقَعَت مدينةٌ ما على نحوٍ غيرِ ملائم بالقرب من
حافَةِ صفحة، فإنها تظهر في صفحةٍ أخرى بوضوحٍ أكثر. وعلاوةً على هذا، ستُوجَد
عند حواف كلِّ صفحة إشارةٌ توضح الصفحاتِ الأخرى التي تُمثل المناطقَ المتراكبة
جزئيًّا وآليةَ هذا التراكب. ونظرًا إلى انحناء الأرض، فلن تكون أيٌّ من
الصفحات دقيقةً تمامًا، ولكن يمكن للمرء أن يُضمِّن الصفحاتِ خطوطَ العرض
والطول الثابتةَ للإشارة إلى التشوُّه البسيط الحادث، وبهذه الطريقة يمكننا
تضمينُ هندسة الولايات المتحدة في كتابٍ مؤلَّف من صفحاتٍ مسطحة.
من حيث المبدأ، لا يُوجَد ما يعوق الفردَ عن إنشاء أطلس يشمل كلَّ العالم
بتفصيلٍ مُشابه (وإن كانت ستظهر صفحاتٌ عديدة بأكملها تقريبًا باللون الأزرق).
ومن ثمَّ، يمكن بطريقةٍ ما تضمينُ الخصائص الرياضية للكرة في أطلس واحد. وإذا
أردتَ حلَّ مسائلَ هندسية عن الكرة، وليس في مقدورك تمامًا أن تتخيَّلها ولكن
لديك أطلس، فستتمكن من حلِّها بقليلٍ من الجهد. ويوضح شكل ٦-١٣ أطلس من تسع صفحات، لكنه ليس لكرة، بل لطارة. ولمعرفةِ كيف
يُناظر هذا شكلَ الكعكة المحلَّاة، تَصوَّر أنك لصقتَ الصفحتَين معًا بحيث
تُكوِّنان صفحةً واحدة كبيرة، ثم وصَّلتَ الحافَتَين العُلويةَ والسفلية للصفحة
الكبيرة، لتكوينِ أسطوانة، وأخيرًا وصَّلتَ نهايتَي الأسطوانة معًا.
شكل ٦-١٣: أطلس لطارة (سطح حلقي)
من أهمِّ فروع الرياضيات دراسةُ كائناتٍ معروفة باسم المُنطويات، تنتُج عن
تعميم هذه الأفكارِ لتشمل الثلاثةَ الأبعاد أو أكثر. وبوجهٍ عام، فإن المنطويةَ
ذاتَ البُعد هي أيُّ كائنٍ هندسي تُحاط فيه كلُّ نقطةٍ بمنطقةٍ تُشبه
كثيرًا جزءًا صغيرًا من الفراغ ذي البُعد . وبما أن المنطويات تُصبح أصعبَ في تصوُّرها كلما ازداد عددُ
الأبعاد، فإن فكرة الأطلس تُصبح من ثَمَّ أكثرَ نفعًا.
لنُفكِّرْ لحظةً فيما سيبدو عليه الأطلس الخاص بمنطويةٍ ثلاثية الأبعاد.
من الضروريِّ بالطبع أن تكون الصفحاتُ ثلاثيةَ الأبعاد، كما أنها ستكون مسطحةً
على غِرار صفحاتِ خريطة الطريق. وأعني بذلك أن الصفحات ستكون بمنزلة أجزاءٍ
كبيرة من الفراغ الإقليدي المعروف، ويمكن أن نجعلَها متوازياتِ مُستطيلاتٍ أو
أشباهَ مكعَّبات، ولكنه أمرٌ غير مُهمٍّ جدًّا رياضيًّا. كلُّ صفحة من هذه
الصفحات الثلاثية الأبعاد ستكون بمنزلةِ خريطةٍ لجزءٍ صغير من المنطوية، وعلى
المرء أن يُحدد بدقةٍ آليةَ التراكُب في هذه الصفحات. وربما يكون أحدُ أساليب
تحديد ذلك أن النقطة التي تقع قربَ حافةٍ معينة من الصفحة تُناظر النقطةَ في الصفحة .
وعلى ضوء هذا الأطلس، كيف نتصوَّر أن تكون طريقة التنقل داخل المنطوية؟
الطريقة البديهية أن نُفكِّر في نقطةٍ ما تتحرَّك في إحدى الصفحات. إذا وصلَت
هذه النقطةُ إلى حافة الصفحة، فستُوجَد صفحةٌ أخرى تعرض الجزء نفسَه من
المنطوية، ولكن لن تُوجَد النقطةُ عند الحافة مباشرةً، حتى يتَسنَّى للمرء
الانتقالُ إلى هذه الصفحة عوضًا عن ذلك. ومن ثَمَّ، يمكن تجميعُ هندسة
المنطويات بأكملها باستخدام دليل أطلس، بحيث لا يكون من الضروري التفكيرُ في
المنطوية بكونها «حقًّا» سطحًا ثلاثيَّ الأبعاد، يقع في فراغٍ رباعي الأبعاد.
وفي الحقيقة، فإن بعض المنطويات الثلاثيةِ الأبعاد لا يمكن حتى أن نُضمِّنها في
فراغاتٍ رباعية الأبعاد.
تُثير فكرة الأطلس هذه بعضَ التساؤلات البديهية. على سبيل المثال، على
الرغم من أنها تُتيح لنا وصفَ ما يحدث إذا تحرَّكنا ضمن المنطوية، وكيف نُكوِّن
من تلك المعلومة، التي ربما تكون متضمَّنةً في عددٍ كبير من الصفحات بقواعدَ
معقَّدةٍ للغاية حول كيفية تراكبها، انطباعًا عن «الشكل» الأساسي للمنطوية؟
وكيف نُميِّز أن أطلسَين مختلفَين يُمثِّلان المنطويةَ نفسَها؟ وعلى وجه
الخصوص، هل من طريقةٍ سهلة نُحدِّد بها — بالنظر إلى الأطلس الثلاثي الأبعاد —
ما إذا كانت المنطوية التي يُمثِّلها الأطلس سطحًا ثلاثيَّ الأبعاد في كرةٍ
رباعية الأبعاد؟ لا تزال الصياغةُ الدقيقةُ لهذا السؤال الأخير، المعروفةُ باسم
«حَدْسيَّة بوانكاريه»، مسألةً غيرَ محسومة، خُصِّصَت لحلِّها جائزةٌ قدرها
مليون دولار (من معهد كلاي للرياضيات).