الهندسة
(١) الهندسة الإقليدية
نتناول فيما يلي مُسلَّمات إقليدس. وإنني لَأسير هنا وَفْق النهج المعتاد، وأستخدمُ مصطلح «خط مستقيم» للمستقيم الذي يمتدُّ بلا نهاية في كِلا الاتجاهَين. وسيكون معنى «القطعة المستقيمة» مستقيمًا له نقطةُ بداية ونقطة نهاية.
-
(١)
أيُّ نقطتَين يمكن توصيلُهما بواسطة قطعةٍ مستقيمة.
-
(٢)
أي قطعةٍ مستقيمة يمكن مدُّها لتُصبح خطًّا مستقيمًا.
-
(٣)
بمعلومية أيِّ نقطة وأيِّ طول ، تُوجَد دائرة نصفُ قُطرها ومركزها النقطة .
شكل ٦-١: المسلَّمة الرابعة لإقليدس ومِثالان على المسلَّمة الخامسة -
(٤)
كل زاويتَين قائمتَين متطابقتان.
-
(٥)
إذا قطعَ قطعتَين مُستقيمتَين و، وإذا كان مجموعُ قياسَي الزاويتَين الداخليتَين على إحدى جانبي أقلَّ من مجموعِ قياسَي زاويتَين قائمتَين، فإن المستقيمَين و يتقاطعان حتمًا على ذلك الجانب من .
في الحقيقة ليس هذا بالسؤال المناسب طرحُه، بما أن البرهان صحيح. ولكن، بما أنه يستند إلى المسلَّمات الخمس لإقليدس، فإنه لا يقتضي ضِمنًا أيَّ علاقةٍ بالحياة اليومية ما لم تكن هذه المسلَّماتُ صحيحةً في الحياة اليومية. ومن ثمَّ، فإنه بالتشكيك في صحةِ مُسلَّمات إقليدس، يمكن التشكيك في مقدمة البرهان.
لكن أيُّ المسلَّمات تبدو أقلَّ مثارًا للشك؟ من الصعب أن نجد خطأً في أيِّ مُسلَّمة منها. إذا أردتَ توصيل نقطتَين في العالم الحقيقيِّ بواسطة قطعةٍ مستقيمة، فكلُّ ما عليك فعلُه هو أن تشدَّ قطعةً من الخيط بحيث تمرُّ بالنقطتَين. وإذا أردتَ مدَّ هذه القطعةِ المستقيمة لتُصبح خطًّا مستقيمًا، فيُمكنك استخدامُ شعاعٍ من الليزر بدلًا من ذلك. وبالمثل، يبدو أنه من غير الصعب إيجادُ دائرة بأي نصفِ قطر وأي مركزٍ مرغوب، ويتَّضح بالخبرة والتجرِبة أنك إذا أخذتَ رُكنَين من ورقةٍ بزاويتَين قائمتَين، فإنه يُمكنك وضعُ أحدهما فوق الآخر بحيث ينطبقان تمامًا. وفي النهاية، ما الذي يمنع مستقيمَين من الامتداد إلى مسافةٍ لا نهائية إلى الأبد، كالحال في قضيبَي السككِ الحديدية اللذين يمتدَّان بطولٍ لا نهائي؟
(٢) مسلَّمة التوازي
دعنا نختبر مسلَّمة التوازي بمزيدٍ من الدقة، ونحاول أن نفهم سببَ أنها تبدو صحيحةً بطريقةٍ بديهية. ربما تدور في أذهاننا البراهينُ التالية.
-
(١)
لنفترض أنَّ لدينا مستقيم و نقطةٌ لا تقع عليه، كل ما عليك فعلُه لرسمِ مستقيم مُوازٍ يمر بالنقطة هو أن تختار مستقيمًا يمرُّ بالنقطة ويسير في الاتجاه نفسِه الذي يسير فيه المستقيم .
-
(٢)
لنفترض أنه تُوجَد نقطة أخرى ولتكُن ، على الجهة نفسِها التي بها النقطةُ من المستقيم وعلى المسافة نفسها من . صِل و بقطعةٍ مستقيمة (مسلَّمة ١)، ثم مُدَّ هذه القطعة المستقيمة لتصبح مستقيمًا كاملًا، ولْيكُن (مسلَّمة ٢). وعليه، فإن لن يتقاطعَ مع .
-
(٣)
لنفترِض أن هو المستقيمُ المتكوِّن من جميعِ النقاط الواقعة على الجهة نفسِها من المستقيم التي تقع عليها وعلى المسافة نفسِها. من الواضح أن هذا المستقيم لا يتقاطعُ مع .تتعلَّق هذه البراهينُ حتى الآن بوجودِ مستقيم مُوازٍ للمستقيم . ونتناول فيما يلي برهانًا أكثرَ تعقيدًا يهدف إلى إثباتِ إمكانية وجودِ مستقيمٍ واحد كهذا على أقصى تقدير، وهو الجزء الثاني من مسلَّمة التوازي.
-
(٤)
صِل المستقيمَين و بقِطَعٍ مستقيمة عموديَّة على مسافاتٍ متساوية (وهو ما يُعطينا قُضبان السكك الحديدية الموضحة في شكل ٦-٤) بحيث تمرُّ إحدى هذه القطع المستقيمة بالنقطة . والآن، لنفترضْ أنَّ مستقيمٌ آخَرُ يمرُّ بالنقطة . على أحد جانبَي ، يجب أن يقع المستقيمُ بين و، وبذلك فإنه يتقاطع مع القطعة المستقيمة التالية في نقطة، ولْتكُن ، التي تقع بين و. لنفترض أن في هذا المثال تقع على مسافة من الطولِ الإجماليِّ للقطعة المستقيمة من إلى . إذن، سوف يقطع المستقيمُ القطعةَ المستقيمة التالية في نقطةٍ على مسافة من الطول الإجمالي، وهكذا. وعليه، فإنه بعد قطعة مستقيمة، سوف يتقاطع مع . وبما أن كل ما افترضناه بخصوص أنه ليس ، فإنه يترتب على ذلك أن هو المستقيم الوحيد المارُّ بالنقطة الذي لا يتقاطع مع المستقيم .وأخيرًا، نتناول فيما يلي برهانًا يُثبت وجودَ مستقيم موازٍ واحد فقط للمستقيم يمر بنقطةٍ مُعطاة.
-
(٥)
يمكن وصف نقطةٍ في المستوى بواسطة الإحداثيات الديكارتية. للمستقيم (غير الرأسي) معادلةً بالصيغة: . بتغيير نُحرِّك لأعلى ولأسفل. وبديهيًّا، فإن أيَّ مُستقيمَين ناتجَين لا يمكن أن يتَقاطعا بِناءً على ذلك، وكل نقطة تكون مُتضمَّنةً في أحدِهما فقط.
يُلاحَظ أن ما فعلتُه توًّا أنني حاولتُ إثبات مسلَّمة التوازي، وهذا بالضبط ما حاولَ كثيرٌ من علماء الرياضيات قبل القرن التاسع عشر أن يفعلوه. كان أقصى ما أرادوه هو استنتاجَ هذه المسلَّمةِ من المُسلَّمات الأربع الأخرى، ومن ثَمَّ إثبات أنه يمكن الاستغناءُ عنها. ولكن، لم يتمكَّن أحدٌ من ذلك. المشكلة في البراهين التي طرَحتُها توًّا، وأخرى مثلها، أنها تتضمَّن افتراضاتٍ ضِمنية، وعندما يحاول المرءُ أن يجعلها صريحة، يرى أنها ليست نتائجَ بديهيةً للمُسلَّمات الأربع الأولى لإقليدس. وعلى الرغم من أنها معقولة، فإنها ليست أكثرَ معقوليةً من مسلَّمة التوازي نفسِها.
(٣) الهندسة الكُروية
من الطرق الجيدة للوقوف على هذه الافتراضات الضِّمنية ومناقشتِها بوضوحٍ: اختبارُ البراهين نفسِها المُطبَّقة في سياقٍ مختلف، وتحديدًا في سياقٍ تكون فيه مُسلَّمة التوازي غيرَ صحيحة قطعًا. وبأخذِ هذا في الاعتبار، دَعْنا نُفكر لحظةً في سطح الكرة.
لا يتَّضح على الفور ما نقصدُه بأنَّ مُسلَّمة التوازي لا تنطبق على سطح الكرة؛ لأن سطح الكرة لا يتضمَّن خطوطًا مستقيمةً على الإطلاق. سوف نتغلَّب على هذه الصعوبة بتطبيقِ فكرةٍ ذات أهميَّة جوهرية في الرياضيات. تتمثَّل هذه الفكرة، التي هي مثالٌ تطبيقي مُتعمِّق على الطريقة المجرَّدة، في إعادة تفسير مفهوم الخطِّ المستقيم، بحيث يتضمَّن سطحُ الكرة بالفعل خطوطًا مُستقيمة في نهاية الأمر.
قد تبدو هذه حيلةً وضيعة؛ فإذا عرَّفتُ «الخط المستقيم» بأسلوبٍ جديد، فمن غير المستغرَب أن تنهارَ مُسلَّمة التوازي من أساسها. ولكن ليس المقصودُ أن يكون الأمرُ مُستغرَبًا، بل إن التعريف قد وُضِعَ لهذا الغرض على وجهِ الخصوص. وسيكون الأمر مثيرًا للاهتمام عندما نفحص بعضَ البراهين المطروحة كمحاولاتٍ لإثباتِ مُسلَّمة التوازي. وفي كل حالة، سنكتشف افتراضًا لا يصلح للهندسة الكروية.
البرهان رقم (٤) مختلفٌ بعضَ الشيء، حيث يتعلق بأحادية المستقيمات المتوازية وليس وجودها. وسأناقش هذا الموضوعَ في الجزء التالي. يطرح البرهانُ رقم (٥) افتراضًا مُهمًّا للغاية، وهو أنه: يمكن وصف الفضاء بواسطة الإحداثيات الديكارتية. ومرةً أخرى، لا ينطبق هذا على سطح الكرة.
إنَّ الهدف من تناول موضوع الكرة أنه يُتيح لنا أن نستخلِص من كل برهانٍ من البراهين (١) و(٢) و(٣) و(٤) و(٥) افتراضًا ينصُّ عمليًّا على أن «الهندسة التي نَستخدِمها ليست هندسةً كروية». قد تتساءل: وما الخطأ في ذلك؛ فنحن في النهاية لا نستخدِم الهندسة الكروية. وقد تتساءل أيضًا كيف لنا أن نأمُلَ في إثباتِ أن مُسلَّمة التوازي لا تتمخَّض عن بقية مُسلَّمات إقليدس، إذا كانت حقًّا لا تتمخَّض عنها. ولا فائدة من القول إن علماء الرياضيات قد حاولوا استنتاجها قرونًا دون أن ينجَحوا في ذلك. وكيف نتأكَّد من أنه لن يخرجَ علينا عبقريٌّ شابٌّ في غضون مائتَي سنة بفكرةٍ رائعة جديدة تُفضي في النهاية إلى برهان؟
هذا السؤال له إجابةٌ جميلة، على الأقل، من حيث المبدأ. وُضِعَت المسلَّمات الأربع الأولى لإقليدس لوصف الفراغ المستوي اللانهائي ذي البُعدَين. لكننا غيرُ مُجبَرين على تفسيرها بهذه الطريقة ما لم ينتج بالطبع هذا الاستواءُ من المُسلَّمات. وإذا استطعنا إعادةَ تفسير (أو ربما تقريبًا «تحريف») المسلَّمات بطريقةٍ ما عن طريق إضفاءِ مَعانٍ جديدة على مصطلحات مثل «القطعة المستقيمة»، بالأحرى كما فعلنا مع الهندسة الكروية، وإذا وجَدْنا بعدما فعَلنا ذلك أن المُسلَّمات الأربعَ الأولى صحيحةٌ لكن مُسلَّمة التوازي خاطئة، نكون بذلك قد أثبتنا أن مُسلَّمة التوازي ليست نتيجةً للمسلَّمات الأخرى.
لكي نعرف سببَ ذلك، تخيَّل أن لدَينا برهانًا مزعومًا، يبدأ بالمُسلَّمات الأربع الأولى لإقليدس، ويَخلُص بعد سلسلةٍ من الخطوات المنطقية الدقيقة إلى مُسلَّمة التوازي. بما أن الخطوات تتتابع منطقيًّا، فإنها ستظلُّ مُتحققةً وصحيحة عند تفسيرها بالتأويل الجديد. وبما أن المسلَّمات الأربع الأولى صحيحةٌ بموجب التفسير الجديد، ومُسلَّمة التوازي غيرُ صحيحة، فلا بد من وجودِ خطأٍ ما في هذا البرهان.
لماذا لا نَستخدم الهندسة الكروية لطرحِ التفسير الجديد؟ السبب، للأسف، أن المُسلَّمات الأربعَ الأولى لإقليدس ليست كلُّها صحيحةً في حالة الكرة. على سبيل المثال، لا تحتوي الكرةُ على دوائرَ ذات أنصافِ أقطار كبيرة على نحوٍ اختياري، ومن ثَمَّ فإن المُسلَّمة الثالثة غيرُ صحيحة، كما أنه لا يُوجَد ما يمكن أن نُسمِّيَه المسارَ الأقصر الوحيد ما بين القطبَين الشماليِّ والقطبي، ومن ثَمَّ فإن المسلَّمة الأولى غيرُ صحيحة كذلك. وعليه، فإنه على الرغم من أن الهندسة الكروية ساعَدَتنا في فهم أوجُه القصور في بعض البراهين الاجتهادية لمُسلَّمة التوازي، فإنها لا تزال تترك المجالَ مفتوحًا لاحتمالية أن ينجح برهانٌ آخرُ في ذلك. وبناءً على ذلك، سأنتقل إلى تفسيرٍ جديد آخَر، يُسمَّى الهندسة الزائدية. ومرةً أخرى ستكون مُسلَّمة التوازي غيرَ صحيحة، ولكن هذه المرة ستكون كلُّ المسلَّمات الأربع الأولى صحيحة.
(٤) الهندسة الزائدية
هناك العديدُ من الطرق المتكافئة لوصفِ الهندسة الزائدية، ولكن الطريقة التي اخترتُها معروفةٌ باسم نموذج القرص، اكتشفَها عالِمُ الرياضيات الفرنسيُّ العظيم هنري بوانكاريه. ومع أن المجال لا يتَّسع لتعريفها بدقةٍ في كتابٍ كهذا، فيُمكنني على الأقل شرحُ بعض سِماتها، ومناقشةُ ما تُخبرنا به عن مسلَّمة التوازي.
إذا كان ذلك يبدو مُحيِّرًا ومتناقضًا، فيُمكنك تخيُّل خريطةِ العالم. كما هو معلومٌ للجميع، فإنه نظرًا إلى أن العالَم دائري، والخريطة مُسطَّحة، فالمسافات تكون مُحرَّفة بالضرورة. تُوجَد طرقٌ عديدة لإجراء هذا التحريف، وفي أكثرِ هذه الطرق شيوعًا، وهو «إسقاط مركاتور»، تبدو الدولُ قربَ القطبَين أكبرَ كثيرًا من حقيقتها. تبدو جرينلاند، على سبيل المثال، وكأنها تُضاهي في حجمها أمريكا الجنوبيةَ بأكملِها. وكلما اقتربتَ من الحدِّ العُلوي أو السفلي لهذه الخريطة، تقلَّصَت المسافة مقارنةً بما هي عليه في الحقيقة.
يترتَّب على هذا التحريف نتيجةٌ معروفة، وهي أن أقصرَ مسار بين نقطتَين على سطح الكرة الأرضية يظهر مُنحنيًا على الخريطة. وهذه الظاهرة يمكن فهمُها بطريقتَين. الطريقة الأولى هي أن تُنحِّيَ الخريطة جانبًا وتستحضرَ في ذهنك الكرةَ الأرضية، لاحِظ أنه إذا كان لديك نقطتان في النصف الشمالي، بحيث تقعُ الأولى على مسافةٍ طويلة جدًّا إلى الشرق عن الثانية (مثالٌ جيد على ذلك باريس وفانكوفر)، فإنَّ أقصرَ مسارٍ من النقطة الأولى إلى الثانية سيمرُّ بالقرب من القُطب الشمالي بدلًا من الاتجاه غربًا. أما عن الطريقة الثانية، فهي أن تستعين بالخريطة الأصلية لمناقشة وتفسير فكرة أنه إذا كانت المسافات قربَ الحدِّ العُلوي للخريطة أقصرَ مما تبدو، فإنه يمكن تقصيرُ المسار بالاتجاه شمالًا نوعًا ما وكذلك غربًا. وبذلك، فإنه من الصعب أن نعرف بدقةٍ ما المسارُ الأقصر، إلا أن المبدأ على الأقلِّ صار واضحًا، وهو أن «الخط المستقيم» (بمنظورِ المسافات الكروية) سيكون مُنحنيًا (بمنظور المسافات على الخريطة الفعلية).
ومن الطبيعي أن نسأل عند هذه النقطة عمَّا تبدو عليه الهندسةُ الزائدية الحقيقية. أي: ماذا تكون الخريطةُ المُحرَّفة لخريطةٍ ما؟ ما الذي يُضاهى بنموذج القرص على غِرار مضاهاة الكرةِ بإسقاط مركاتور؟ الإجابة عن هذا صعبةٌ إلى حدٍّ ما. فمن جانبٍ، كان ضربًا من الحظ أنْ تَسنَّى التعرفُ على الهندسة الكروية بوصفها سطحًا يقع في فراغٍ ثلاثيِّ الأبعاد. ولو أننا بدأنا بإسقاط مركاتور، بمفهومه الغريب للمسافات، دون معرفةِ أنَّ ما لدَينا هو خريطةٌ للكرة، لَاندهَشنا وابتهَجْنا لاكتشاف وجودِ سطح مُتماثل على نحوٍ رائع في الفراغ، خريطة لهذه الخريطة، إن جاز التعبير، حيث المسافات بسيطةٌ للغاية، لا تَعْدو كونَها أكثرَ من أطوالٍ لأقصرِ المسارات في المعتاد، بمفهومٍ يسهل استيعابُه.
(٥) كيف يمكن أن ينحنيَ الفراغ؟
واحدةٌ من أكثر العبارات المتناقضة في الرياضيات (والفيزياء) هي «الفراغ المُنحني». نعرف جميعًا ما يعنيه أن يكون خطٌّ أو سطحٌ منحنيًا، لكن كيف يكون الفراغُ نفسُه منحنيًا؟ وحتى لو استطعنا بطريقةٍ ما فَهْم فكرة الانحناء الثلاثيِّ الأبعاد، فالتشبيهُ مع السطوح المنحنية يوحي بأننا لن نستطيعَ أن نرى بأنفسنا إذا ما كان الفراغُ منحنيًا، إلا إذا استطعنا الخروجَ إلى بُعدٍ رابع لنرى ذلك. وربما لَاكتشَفنا وقتها أن الكون كان بمنزلة السطح الثلاثيِّ الأبعاد لكرةٍ رباعية الأبعاد (وهو مفهومٌ شرَحتُه في الفصل الخامس)، تبدو على الأقل منحنية.
هذا كله مستحيلٌ بالطبع. وبما أننا لا نعرف كيف نقف خارج الكون — هذه الفكرة متناقضة تقريبًا في مفرداتها — والدليل الوحيد الذي يمكننا استخدامه ينبع من داخله. فما الدليل الذي يمكن أن يُقنِعَنا بأن الفراغ مُنحنٍ؟
ربما تميل إلى توضيحِ أن الفراغ كما نعرفه لا يتَّسم بهذه الخصائص الغريبة. فالمستقيمات التي تبدأ في اتجاهٍ بعينِه تستمرُّ في الاتجاه نفسِه، ولا تغييرَ يطرأُ على زوايا المثلث ومحيطات الدوائر كذلك. بعبارةٍ أخرى، يبدو أنه حتى لو كان من الممكن منطقيًّا أن يكون الفراغُ منحنيًا، فإنه في الواقع مسطَّح. ولكن من الممكن أن يُعزَى ظهورُ الفراغ أمامنا مسطحًا إلى أننا نُقيم في هذا الجزء الصغير منه، تمامًا كما يبدو سطحُ الأرض مسطحًا، أو بالأحرى مسطحًا مع وجودِ نُتوءاتٍ مختلفة الأحجام، إلى شخصٍ لم يُسافر بعيدًا.
ومع أنه من المسلَّم به اليوم أن الفراغَ (أو، على نحوٍ أدق، الزمَكان) مُنحنٍ، فإن الانحناء الذي نُلاحظه، كما في حالة الجبال والوديان على سطح الأرض، هو مجردُ اختلالٍ بسيطٍ في شكلٍ أكبرَ كثيرًا، وأكثرَ تماثلًا. وإحدى المسائل الكبرى غيرِ المحسومة في الفلَك تعيينُ شكل الكون الواسع النطاق، وهو الشكل الذي يتَّخِذه الكون إذا أزَلْنا الانحناءاتِ الناتجةَ عن النجوم والثقوب السوداء وغيرها. هل سيظلُّ الكون منحنيًا مثل كرةٍ كبيرة، أو سيُصبح مسطَّحًا، كما يتصوَّره البعضُ بطبيعة الحال، وإن كان من المحتمَل جدًّا أن يكون تصوُّرُهم غيرَ صحيح؟
(٦) المنطويات
إنَّ السطح المغلَق هو شكلٌ ثنائيُّ الأبعاد، ليس له حدود. سطح الكرة مثالٌ جيِّد على هذا، وكذلك الطارة (المصطلح الرياضي لشكل سطح الحلقة أو للكعكة المُحلَّاة التي على شكل حلقة). وكما اتضح من مناقشة موضوع الانحناء، قد يكون من المفيد التفكيرُ في هذه الأسطح دون الرجوع إلى الفراغ الثلاثيِّ الأبعاد الموجودة فيه، ويزداد هذا الأمرُ أهميةً في حال الرغبة في تعميم مفهوم السطح المغلق ليشمل أبعادًا أعلى.
ليس علماءُ الرياضيات وحدهم هم مَن يُحبِّذون التفكير في الأسطح بمنظورٍ ثنائيِّ الأبعاد بَحْت. على سبيل المثال، الهندسة في الولايات المتحدة متأثرةٌ بوضوحٍ بانحناء الأرض، لكن إذا أردنا تصميم خريطةِ طريقٍ مُفيدة، فلا يستدعي الأمرُ بالضرورة طباعتَها على قطعةٍ كبيرة منحنية من الورق. والأكثرُ عمَليةً من ذلك أن تُنشئ كتابًا يتضمَّن عدةَ صفحاتٍ، تعرض كلٌّ منها جزءًا صغيرًا من الدولة. ومن الأفضل أن تكون هذه الأجزاءُ متراكبة، بحيث إذا وقَعَت مدينةٌ ما على نحوٍ غيرِ ملائم بالقرب من حافَةِ صفحة، فإنها تظهر في صفحةٍ أخرى بوضوحٍ أكثر. وعلاوةً على هذا، ستُوجَد عند حواف كلِّ صفحة إشارةٌ توضح الصفحاتِ الأخرى التي تُمثل المناطقَ المتراكبة جزئيًّا وآليةَ هذا التراكب. ونظرًا إلى انحناء الأرض، فلن تكون أيٌّ من الصفحات دقيقةً تمامًا، ولكن يمكن للمرء أن يُضمِّن الصفحاتِ خطوطَ العرض والطول الثابتةَ للإشارة إلى التشوُّه البسيط الحادث، وبهذه الطريقة يمكننا تضمينُ هندسة الولايات المتحدة في كتابٍ مؤلَّف من صفحاتٍ مسطحة.
وعلى ضوء هذا الأطلس، كيف نتصوَّر أن تكون طريقة التنقل داخل المنطوية؟ الطريقة البديهية أن نُفكِّر في نقطةٍ ما تتحرَّك في إحدى الصفحات. إذا وصلَت هذه النقطةُ إلى حافة الصفحة، فستُوجَد صفحةٌ أخرى تعرض الجزء نفسَه من المنطوية، ولكن لن تُوجَد النقطةُ عند الحافة مباشرةً، حتى يتَسنَّى للمرء الانتقالُ إلى هذه الصفحة عوضًا عن ذلك. ومن ثَمَّ، يمكن تجميعُ هندسة المنطويات بأكملها باستخدام دليل أطلس، بحيث لا يكون من الضروري التفكيرُ في المنطوية بكونها «حقًّا» سطحًا ثلاثيَّ الأبعاد، يقع في فراغٍ رباعي الأبعاد. وفي الحقيقة، فإن بعض المنطويات الثلاثيةِ الأبعاد لا يمكن حتى أن نُضمِّنها في فراغاتٍ رباعية الأبعاد.
تُثير فكرة الأطلس هذه بعضَ التساؤلات البديهية. على سبيل المثال، على الرغم من أنها تُتيح لنا وصفَ ما يحدث إذا تحرَّكنا ضمن المنطوية، وكيف نُكوِّن من تلك المعلومة، التي ربما تكون متضمَّنةً في عددٍ كبير من الصفحات بقواعدَ معقَّدةٍ للغاية حول كيفية تراكبها، انطباعًا عن «الشكل» الأساسي للمنطوية؟ وكيف نُميِّز أن أطلسَين مختلفَين يُمثِّلان المنطويةَ نفسَها؟ وعلى وجه الخصوص، هل من طريقةٍ سهلة نُحدِّد بها — بالنظر إلى الأطلس الثلاثي الأبعاد — ما إذا كانت المنطوية التي يُمثِّلها الأطلس سطحًا ثلاثيَّ الأبعاد في كرةٍ رباعية الأبعاد؟ لا تزال الصياغةُ الدقيقةُ لهذا السؤال الأخير، المعروفةُ باسم «حَدْسيَّة بوانكاريه»، مسألةً غيرَ محسومة، خُصِّصَت لحلِّها جائزةٌ قدرها مليون دولار (من معهد كلاي للرياضيات).