بعض الأسئلة المتداولة
(١) هل صحيحٌ أن المَقدرة الرياضية لدى علماء الرياضيات تضمحلُّ ببلوغهم سنَّ الثلاثين؟
إنَّ هذه الخرافة، التي يعتقد قطاعٌ كبير من الناس في صحتها، تَستمدُّ رَواجها من تصوُّرٍ خاطئ عن طبيعة المقدرة الرياضية. يميل الناسُ إلى التفكير في علماء الرياضيات بوصفِهم عباقرة، والعبقرية في ذاتِها صفةٌ غامضة تمامًا، وُلِدَ بها قليلٌ من الناس، ولا تتأتَّى لأحدٍ سواهم أيُّ فرصةٍ لاكتسابها.
العلاقة بين السنِّ والإنجاز الرياضي تتفاوتُ كثيرًا من شخصٍ إلى آخر، وصحيحٌ أن بعض علماء الرياضيات قدَّموا أفضلَ أعمالهم وهم في العشرينيَّات من أعمارهم. ولكن، تجد الأغلبيةُ العظمى منهم أن معلوماتهم وخبراتهم تتطوَّر باطِّرادٍ على مدار حياتهم، وأنه على مدار أعوامٍ كثيرة قدَّم هذا التطوُّر تعويضًا كافيًا عن أيِّ تراجُعٍ مُفترَض في القدرات الذهنية «الفِطرية» — إن كان لهذا المفهوم معنًى من الأساس. صحيحٌ أنه ليس ثمة الكثيرُ من الطفرات الجوهرية التي حقَّقها علماءُ رياضياتٍ فوق سنِّ الأربعين، ولكن ربما يُعزى الأمرُ إلى أسبابٍ اجتماعية. ففي سنِّ الأربعين، من المُحتمَل أن يكون الشخص القادر على تحقيق مثلِ هذه الطفرة قد أصبح مشهورًا نتيجةً لعملٍ سابق، وربما لا يُوجَد لدَيه الشغفُ الموجود لدى عالِم الرياضيات الأصغرِ سنًّا، والأقلِّ شهرة. ولكن هناك الكثير من الأمثلة المناقضة لهذا، وبعض علماء الرياضيات يواصِلون مسيرتهم بحماسٍ لا يَفتُر بعد سنِّ التقاعد.
بوجهٍ عام، فإن النظرة الشائعة التي تُصوِّر عالِم الرياضيات في قالَبٍ نمَطي بأنه شخصٌ ربما يكون ذكيًّا جدًّا، ولكنه أيضًا غريب، غيرُ مُهندَم، عازفٌ عن الزواج، يميل إلى العُزلة، ليست بقاعدة. صحيحٌ أنه يُوجَد القليلُ من علماء الرياضيات الذين ينطبق عليهم هذا القالَبُ إلى حدٍّ ما، ولكن لا شيء أكثر غباءً من اعتقاد أن المرء — في حال ما لم ينطبق عليه هذا القالبُ — لا يمكن أن يكون ماهرًا بالرياضيَّات. وفي الحقيقة أنه في حال ثبات كلِّ العوامل الأخرى، فإن أرجحية أن يكون المرءُ عالِمَ رياضياتٍ تكون أكبر. نسبةٌ ضئيلة للغاية من طلاب الرياضيات يُصبحون في نهاية المطاف علماءَ باحِثين في الرياضيات. والغالبية يتعثَّرون في مرحلةٍ مبكرة؛ لافتقداهم الاهتمامَ مثلًا، أو لعدم وصولهم إلى مرحلة الإعداد للدكتوراه، أو لحصولهم على دكتوراه ولكن دون حصولهم على وظيفةٍ بالجامعة. وفي رأيي، الذي لا أظنُّ أنني الوحيدُ فيه، أنه من بين أولئك الذين يجتازون تلك العقَبات المختلفة، تُوجَد عادةً نسبةٌ ضئيلة للغاية من الشخصيات الفَذَّة مقارنةً بعدد هؤلاء في مجتمع الطلاب.
وفي حين أن الصورة السلبية عن علماء الرياضيات قد تكون مُدمِّرة، من حيث أنها تُنحِّي جانبًا الأشخاصَ الذين لولا تنحيتُهم لظهر شغَفُهم بالرياضيات ولَتجلَّت مهارتهم فيها، فالضررُ المترتِّب على كلمة «عبقري» أبلغُ أثرًا وأكثرُ ضررًا. فيما يلي تعريفٌ تقريبيٌّ وبسيط للشخص «العبقري»: هو شخصٌ يستطيع أن يؤدِّيَ بسهولة، وفي سنٍّ صغيرة، شيئًا لا يستطيعه أيُّ إنسانٍ آخَر تقريبًا، إلا بعد سنواتٍ من الممارسة، إنْ حدث واستطاع ذلك من الأساس. تتَّسِم إنجازات العباقرة بأن لها طابعًا غامضًا يُشبه السحر — يبدو الأمر كأنَّ عقولهم لا تعمل بكفاءةٍ أكبرَ من عقولنا فحسب، بل وبطريقةٍ مختلفة تمامًا. كل عامٍ أو عامَين، يلتحِق طالبُ رياضياتٍ بجامعة كامبريدج، يستطيع عادةً أن يحلَّ في دقائق معدودة مسائلَ يستغرق معظمُ الأشخاص، بمَن فيهم مَن يُفترض أنهم يدرسونها، عدةَ ساعات أو أكثر في حلِّها. عندما نلتقي شخصًا كهذا، فإنه لا يسَعُنا إلا أن نخطوَ خطوةً إلى الوراء ونُبدِيَ له إعجابنا به وتقديرَنا له.
لعلك تتساءل الآن كيف عَساه أن يفعل ما فعَله لو لم يكن لدَيه نوعٌ من القدرة الذهنية الفائقة الغامضة؟ الإجابة هي أنه على الرغم من براعة الإنجاز الذي قدَّمه، فإنه ليس بارعًا بحيث يكون عَصِيًّا على التفسير. ولا أعرف بالضبط مُقوِّمات النجاح التي ساعَدَته، ولكن لا بد أن الأمر تطلَّب منه التحلِّيَ بقدرٍ هائل من الشجاعة، والعزم، والصبر، ومعرفةً واسعة بأبحاثٍ صعبة للغاية أجراها آخَرون غيرُه، وكذلك الحظ الجيد الذي أدخَلَه في مجال الرياضيات المناسِب في الوقت المناسب، فضلًا عن قدرةٍ استراتيجية استثنائية.
تُعَدُّ هذه الصفةُ الأخيرة، في نهاية الأمر، أهمَّ من السرعة الذهنية الفذَّة: أبلغ الإسهامات في مجال الرياضيَّات يُقدِّمها غالبًا علماءُ رياضيات في بُطء السلحفاة وليس علماء رياضياتٍ في سرعة الأرانب البرية. وكلما تطوَّرَت قدراتُ علماء الرياضيات، فإنهم يتعلمون الحِيلَ الرياضية المختلفة، وهو ما يُعزى في جزءٍ منه إلى أبحاثِ علماء الرياضيات الآخَرين، ويُعزى في جزءٍ آخَر إلى ساعاتٍ طويلة قضَوْها في التفكير في الرياضيات. وما يُحدِّد إن كان بإمكانهم استخدامُ خبراتهم لحلِّ المسائل المستعصية، يُعنى إلى حدٍّ بعيد، بالتخطيط الدقيق: محاولةُ حلِّ مسائلَ من المحتمَل أن تكون مثمرةً، ومعرفة الوقت الذي ينبغي فيه التخلِّي عن خطٍّ مُعيَّن في التفكير (وهو قرارٌ يصعب اتخاذُه)، والقدرة على رسم خطوطٍ عريضة وواضحة للحُجَج، وهي خطوةٌ تأتي أحيانًا قبل كتابة التفاصيل. وهذا يتطلَّب مستوًى من النضج لا يتعارَض بأي حالٍ مع العبقرية، ولكنه لا يكون مُلازمًا لها على الدوام.
(٢) لماذا لا يُوجد سوى عددٍ قليل جدًّا من عالمات الرياضيات؟
إنه لَمِن المُغري تجنُّبُ هذا السؤال؛ لأن الإجابة عنه تُقدِّم فرصةً سانحة لإثارة الاستياء. ومع ذلك، فإن النسبة الصغيرة من النساء الموجودة، حتى اليوم، في أقسام الرياضيات على مستوى العالم، ملحوظةٌ جدًّا، وتُمثِّل حقيقةً مُهمَّة للغاية في واقع الرياضيات، حتى إنني أشعر أن لِزامًا عليَّ أن أقول شيئًا في هذا الصدد، حتى إذا كان ما أقوله لا يَعْدو أكثرَ من أنني أرى الوضعَ محيِّرًا ومؤسِفًا.
هناك نقطةٌ جديرة بالاعتبار، وهي أن قلةَ أعداد النساء في الرياضيات هي ظاهرةٌ إحصائية أخرى: تُوجَد عالمات رياضيات على قدرٍ جيد جدًّا من المهارة، وعلى غِرار نظائرهن من علماء الرياضيات، لديهن الكثيرُ من الطرق المختلفة التي يتَميَّزن بها، بما فيها أحيانًا أن يكنَّ عبقريات. ولا يُوجَد دليلٌ مادي، أيًّا كان، على وجود حدٍّ أعلى من أي نوع لِما يمكن أن تُحققه النساءُ في الرياضيات. يقرأ المرء بين الفَينة والفينة أن الرجل أفضلُ أداءً في بعض الاختبارات العقلية للقدرة البصَرية المكانية، مثلًا، ويُقترَح أحيانًا أن هذا راجعٌ إلى تسيُّدِهم في الرياضيات. ولكن، هذه الحُجة غيرُ مُقنِعة تمامَ الإقناع: القدرة البصرية المكانية يمكن أن تتطوَّر وتُصقَل بالممارسة، وعلى أي حال، فمع أنها قد تكون مفيدةً لعالم الرياضيات، فإنها نادرًا ما تكون ضرورية.
السبب الأكثر معقوليةً هو فكرة أن العوامل الاجتماعية مهمة: أمام كلِّ فتًى فخورٍ بمقدرته الرياضية، توجد فتاةٌ يَعتريها الحَرج لتفوُّقِها في مهنةٍ يَنظُر إليها المجتمعُ على أنها غيرُ أُنثَوية. بالإضافة إلى ذلك، الفتيات الموهوبات في الرياضيات لديهنَّ نماذجُ قليلة يُحتذَى بها، ومن ثمَّ فإن الوضع سرمدي. وثَمة عاملٌ اجتماعي آخرُ قد يتجلَّى أثرُه في مرحلةٍ لاحقة، وهو أن الرياضيات تتطلَّب — أكثر من مُعظم التخصصات الأكاديمية الأخرى — عقليةً مُتفردة من طِراز معيَّن، وهو ما يصعب — وإن كان بالتأكيد ليس مستحيلًا — أن يجتمع مع الأمومة. لقد قالت الروائيةُ كانديا ماكويليام مرةً إن كلَّ ابنٍ من أبنائها كلَّفها كتابَين؛ لكن يظلُّ من الممكن على الأقل تأليفُ روايةٍ بعد بِضع سنواتٍ من التوقُّف عن التأليف. أما إذا تخلَّيتَ عن الرياضيات بضعَ سنواتٍ، فإنك تصبح كمَن يُقلِع عن عادة، ونادرًا ما يمكن العودةُ إلى الرياضيات بعد ذلك.
اقتُرِحَ أن عالمات الرياضيات يَمِلن إلى التطوُّر في مرحلةٍ متأخرة عن نظائرهن من الرجال، وهذا يضَعُهن في وضعٍ غير مُواتٍ في الهيكل الوظيفي الذي يُكافئ الإنجازاتِ الأولى. تُؤكِّد ذلك القصصُ الحياتية لكثيرٍ من عالمات الرياضيات المرموقات، وإن كان تَقدُّمُهن المتأخِّر يُعزى بدرجةٍ كبيرة إلى الأسباب الاجتماعية المذكورة توًّا، ولكن مرةً أخرى يظلُّ هناك الكثيرُ من الاستثناءات.
مع ذلك، لا يبدو أيٌّ من هذه التفسيرات كافيًا. وبدلًا من الاستطراد في هذا الأمر، أرى أن الأفضل هو التنويهُ إلى تأليف الكثير من الكتب حول هذا الموضوع (راجِع جزء «قراءات إضافية»). وتعليقٌ أخير هو أن الوضع آخذٌ في التحسُّن: نسبة النساء بين علماء الرياضيات ازدادت باطِّرادٍ في السنوات الأخيرة، وعلى ضوء التغيُّر الذي شهده — وما زال يشهده — المجتمع بوجهٍ عام، من المؤكِّد تقريبًا أن يستمرَّ الحال على هذا المنوال.
(٣) هل الرياضيات والموسيقى مُتلازِمتان؟
على الرغم من حقيقةِ أن كثيرًا من علماء الرياضيات غيرُ موسيقيِّين بالمرة، وأن قليلًا من الموسيقيِّين لهم اهتماماتٌ بالرياضيات، فثَمة معلومةٌ يُروَّج لها باستمرار بأنهما متَّصلتان. ونتيجةً لذلك، من غير المستغرَب أن نعلم عن عالم رياضياتٍ ما أنه عازفٌ جيد جدًّا للبيانو، أو أنَّ لدَيه هوايةَ التأليف الموسيقي، أو أنه يحبُّ الاستماع إلى موسيقى باخ.
تُوجَد الكثير من الأدلة السردية التي تُشير إلى أن علماء الرياضيات ينجذبون إلى الموسيقى أكثرَ من أي ضربٍ آخَر من الفنون، وقد زعَمَت بعضُ الدراسات أنها أثبتَت أن الأطفال الذين لدَيهم ثقافةٌ موسيقية يكون أداؤهم أفضلَ في المواد العلمية. ومن غير الصعب تخمينُ الأسباب. فعلى الرغم من أن التجريد مُهمٌّ في جميع الفنون، وأن للموسيقى مُكونًا تمثيليًّا، فإن الموسيقى هي الفن التجريدي الأكثرُ وضوحًا: جزءٌ كبير من مُتعة الاستماع إلى الموسيقى ينبع من تقديرٍ مباشر، إن لم يكن وعيًا كاملًا، لهذه الأنماط الخالصة من دون أيِّ معنًى جوهري.
ولسوء الحظ، فإنَّ الأدلة السردية يدعمها القليلُ جدًّا من العلوم الطبيعية. حتى إنه من غير الواضح نوعيةُ الأسئلة التي ينبغي طرحُها. فما الذي سنتعلَّمه في حالِ جُمِعَت بياناتٌ ذات دلالة إحصائية تُوضح أن نسبة علماء الرياضيات الذين يعزفون على البيانو أعلى منها في غيرِ علماء الرياضيات، الذين لهم خلفيَّات اجتماعية وتعليمية مُماثلة؟ أعتقد أن هذه البيانات «يمكن» جمعُها، لكن سيكون الأهمُّ بكثير هو وضْعَ نظريةٍ يمكن اختبارُها بالطرق التجريبية، تُفسِّر هذه العلاقة. وفيما يخص الأدلةَ الإحصائية، فإن هذه النظرية ستكون أقيمَ كثيرًا لو أنها أكثرُ تحديدًا. الرياضيات والموسيقى مختلفتان للغاية؛ من الممكن أن يُولَع المرء وجْدانيًّا ببعض الجوانب ويكون غيرَ مهتمٍّ تمامًا بجوانبَ أخرى. هل تُوجَد علاقاتٌ أكبرُ وأكثر تعقيدًا بين الذَّوق الرياضي والذوق الموسيقي؟ إذا كان الأمر كذلك، فستكون هذه العلاقات أكثرَ إفادةً من العلاقات التبادُلية البسيطة بين مستويات الاهتمام في فروع المعرفة ككلٍّ.
(٤) لماذا لا تروقُ الرياضياتُ لعددٍ كبير حقًّا من الناس؟
لا يحدث كثيرًا أن نسمع أحدًا يُصرِّح بعدم حُبِّه للأحياء أو للأدب الإنجليزي. وبطبيعة الحال، لا تحظى هذه الموادُّ باهتمام الجميع، إلا أن الأشخاص الذين لا تروق لهم يتفهَّمون جيدًا أنَّ ثمة آخَرين يُخالفونهم الرأي. على النقيض من ذلك، يبدو أن الرياضيات، والموادَّ ذاتَ المحتوى الرياضي الكثيفِ مثل الفيزياء، لا تُثير عدم الاكتراث فحسب، بل أيضًا كراهيةً فِطرية حقيقية. ما الذي يجعل الكثيرَ من الأشخاص يُحجِمون عن الموضوعات الرياضية بمجرد أن يَسْنَح لهم ذلك، ويتذكَّرونها بفزعٍ بقيةَ حياتهم؟
تُوجَد علاقاتٌ متعدِّدة من هذا النوع، إلا أن مواكبةَ الرياضيات تستوجبُ ما هو أكثرُ من مجرد الطلاقة التقنية؛ أي القدرة على استخدامِ القواعد وتطبيقها بسهولة. في كثيرٍ من الأحيان، تُقدَّم فكرةٌ جديدة مهمة جدًّا وأكثرُ تعقيدًا على نحوٍ ملحوظ من اللاتي سبَقْنها، وكلٌّ منها يُتيح فرصةً للتخلُّف عن الرَّكْب. ومثالٌ واضح على هذا استخدامُ الحروف بدلًا من الأعداد، وهو ما يجده كثيرون مُحيِّرًا، وإن كان أساسيًّا لكلِّ فروع الرياضيات فوق مستوًى مُعيَّن. ومن الأمثلة الأخرى الأعدادُ السالبة، والأعداد المُركَّبة، وحسابُ المثلَّثات، ورفع الأعداد لقُوًى، واللوغاريتمات، ومبادئ حساب التفاضل والتكامل. أما أولئك الذين ليسوا على استعدادٍ لتحقيق القفزة المفاهيمية الضرورية عندما يُواجهون إحدى هذه الأفكار، فلن تكون لدَيهم قناعةٌ بكل الرياضيات المبنيَّة عليها. وسوف يعتادون تدريجيًّا فَهْم ما يقوله لهم مُعلِّمو الرياضيات فهمًا جزئيًّا. وبعد بضع قفزاتٍ أخرى يُغفِلونها، سيجدون أن هذا الفهم الجزئيَّ حتى مُبالَغٌ فيه. وفي غضون ذلك، سيرَون آخَرين في فصولهم يُواكبون الشرح دون أدنى صعوبةٍ على الإطلاق. فلا عجبَ أن تُصبح دروسُ الرياضيات، بالنسبة إلى الكثيرين، تجرِبةً مَريرة.
هل هذا ما يكون عليه الوضع حتمًا؟ هل بعض الناس مُقدَّر لهم حتمًا ألا يُحبُّوا الرياضيات في المدرسة؟ أم أنه قد يكون من الممكن تدريسُ مادة الرياضيات بطريقةٍ مختلفة بحيث يكون عددُ المستبعَدين أقلَّ؟ أنا مُقتنع بأن أيَّ طفلٍ أُتيحَت له في سنٍّ مبكرة فرصةُ تَلقِّي تعليمٍ فردي في الرياضيات على يدِ مُعلِّم جيد ومُتحمِّس سيَنشأ مُحبًّا للرياضيات. هذا بالطبع لا يعني وضْعَ سياسةٍ تعليمية مناسبة على الفور، ولكنه يُشير على الأقل إلى وجودِ مَجال لتحسين طرقِ تدريس الرياضيات.
تنبع إحدى التوصيات من الأفكار التي أَكَّدتُ عليها في هذا الكتاب. لقد أشرتُ ضِمنيًّا فيما سبق إلى وجودِ تناقضٍ بين الطلاقة التقنية وبين استيعابِ المفاهيم الصعبة، ولكن يبدو أن أغلب مَن يُجيد أحدَ الأمرَين يُجيد الآخر. وبالفعل، إذا كان فهمُ موضوعٍ رياضي يتعلق إلى حدٍّ كبير بتعلُّمِ القواعد التي تحكمه أكثرَ من فَهْم جوهر الموضوع نفسِه، فإن هذا بالضبط ما يتوقَّعُه المرءُ — الفرق بين الطلاقة التقنية والفهم الرياضي أقلُّ وضوحًا ممَّا قد يتصوَّره المرء.
لا أريد التنويه إلى ضرورة أن يُحاول المرء توضيحَ ماهيَّة الطريقة المجردة للأطفال، وإنما أريد التنويهَ ببساطةٍ إلى أن المعلِّمين ينبغي أن يكونوا على علمٍ بنتائجها. وأهمُّ هذه النتائج أنه من الممكن جدًّا تعلُّمُ استخدامِ المفاهيم الرياضية بطريقةٍ سليمة دون معرفةِ ما تعنيه بالضبط هذه المفاهيم. وقد تبدو هذه فكرةً سيئة، لكن تدريس هذا الاستخدام غالبًا ما يكون أيسرَ من ذلك، وغالبًا ما يترتَّب على ذلك تلقائيًّا فهمٌ أعمقُ للمعنى، إن كان ثمة أيُّ معنًى عِلاوةً على الاستخدام.
(٥) هل يستخدم علماءُ الرياضيات الكمبيوتر في عملهم؟
الإجابة المختصَرة هي أن معظمهم لا يستخدمونه، أو على الأقل، لا يستخدمونه بطريقةٍ أساسية. وبطبيعة الحال، فإنهم مثل أيِّ شخص نجدهم لا يستغنون عن الكمبيوتر لمعالجة النصوص، ولتواصُلِ بعضهم مع بعض، بالإضافة إلى الدَّور المهم الذي صار يلعبه الإنترنت. تُوجَد موضوعاتٌ في الرياضيات تتضمَّن عملياتٍ حسابيةً طويلة وبغيضة، ولكن تُوجَد عمليات حسابية روتينية أساسًا لا بد من إجرائها، وتوجد برامجُ معالَجةٍ رمزية جيدةٌ جدًّا يمكن الاستعانة بها في إجراء هذه العمليات الحسابية.
ومن ثمَّ، فإن أجهزة الكمبيوتر مفيدةٌ جدًّا بوصفها أجهزةً توفِّر الوقت، وأحيانًا تكون مفيدةً جدًّا لدرجة أنها تُمكِّن علماءَ رياضياتٍ من اكتشاف نتائجَ لم يكن ممكنًا أن يكتشفوها بأنفسهم. ومع ذلك، فإن نوع المساعدة التي يمكن لأجهزة الكمبيوتر تقديمُها محدودٌ جدًّا. إذا تصادفَ أن مسألتك، أو في الأغلب مسألة فرعية، كانت واحدةً من الأقلية الصغيرة التي يمكن حلُّها ببحثٍ طويل ومتكرِّر، فالمساعدة تكون جيدةً وحسَنة. ولكن، من ناحية أخرى، إذا كنتَ متحيرًا وتحتاج إلى فكرةٍ ذكية، فإنه في الحالة الراهنة للتكنولوجيا لن يُقدِّم لك الكمبيوتر أيَّ مساعدةٍ على الإطلاق. في الواقع، معظم علماء الرياضيات يقولون إن أهمَّ أدواتهم هي قطعةٌ من الورق وشيء للكتابة به.
في رأيي، الذي هو رأيُ أقلية، أن هذا الوضع مؤقَّت، وأنه على مدار المائة سنة القادمة أو نحوها، سوف تتمكَّن أجهزةُ الكمبيوتر تدريجيًّا من إنجازِ ما يفوق بكثيرٍ ما يُنجزه علماء الرياضيات — ربما يبدأ الأمر بإعدادِ تمارينَ بسيطة لنا، أو توفيرِ أسبوعٍ كامل علينا في محاولة إثبات مُبرهنةٍ تمهيدية، لها تأويلٌ معروف يُوفر مثالًا مناقضًا (أتحدثُ هنا عن خبرةٍ متكررة)، وفي نهاية المطاف تحلُّ محلَّنا تمامًا. معظم علماء الرياضيات أكثرُ تشاؤمًا بكثير (أو هل عساه أن يكون هذا تفاؤلًا؟) حول مدى مهارةِ أجهزة الكمبيوتر في الرياضيات.
(٦) كيف يكون البحث في مجال الرياضيات ممكنًا؟
على العكس، ربما يسأل المرءُ ما الذي يدعو إلى المفارقة فيما يخصُّ إمكانيةَ البحث في الرياضيات؟ لقد ذكرتُ في هذا الكتاب العديدَ من المسائل غيرِ المحسومة، والأبحاثُ الرياضية تتضمن إلى حدٍّ بعيد محاولةَ حلِّ تلك المسائل وشبيهاتها. وإذا قرأتَ الفصل السابع، فستعرف أن إحدى الطرق الجيِّدة لتكوين أسئلةٍ هي أن تتناول ظاهرةً رياضية يصعُب تحليلها بدقة، وتُحاول أن تصوغ إقراراتٍ تقريبيةً عنها. واقتُرِحَت طريقةٌ أخرى في نهاية الفصل السادس: اختر مفهومًا رياضيًّا صعبًا، مثل المنطوية الرباعية الأبعاد، وستجد عادةً أنه حتى الأسئلة البسيطة حوله سيكون من الصعب جدًّا الإجابةُ عنها.
لو أن هناك شيئًا غامضًا فيما يخصُّ البحث الرياضي، فإنه لا يَكمُن في وجود أسئلةٍ صعبة — ففي الحقيقة من السهل جدًّا وضعُ أسئلةٍ صعبة غير واردة — وإنما يكمن في وجودِ ما يكفي من الأسئلة التي على مستوًى مناسبٍ من الصعوبة يجعل الآلافَ من علماء الرياضيات عالِقين فيها. ولكي يتحقَّق هذا؛ لا بد بالتأكيد أن تنطويَ على تَحدٍّ، ولكنها لا بد أيضًا أن تُقدم بصيصًا من الأمل في إمكانيةِ حلِّها.
(٧) هل حدث أبدًا أن حلَّ غير المحترفين المسائلَ الرياضيةَ المشهورة؟
الإجابةُ الأبسط والأقلُّ تضليلًا عن هذا السؤال هي النفيُ الصريح ﺑ «لا». يعلم علماءُ الرياضيات المحترفون في وقتٍ قريب جدًّا أن أيَّ فكرةٍ لدَيهم تقريبًا عن أي مسألة معروفة كانت لدى كثيرٍ من الناس قبلهم. ولكي تكون الفكرةُ جديدة، يجب أن تكون لها سِمةٌ ما تُفسِّر السببَ في أن أحدًا لم يُفكر فيها من قبل. قد يكون الأمر ببساطةٍ أن هذه الفكرة مبتكَرةٌ تمامًا وغير متوقَّعة، ولكن هذا نادرٌ جدًّا: بوجهٍ عام، إذا ظهرَت فكرةٌ ما، فإنها تظهر لسببٍ وجيه ولا تأتي من العَدم. وإذا كانت قد تبادرَت إليك، فما المانع في أن تكون قد تبادرَت إلى غيرك؟ أحد الأسباب الأكثرِ معقوليةً أن هذه الفكرة متعلقةٌ بأفكارٍ أخرى غير معروفةٍ على وجه الخصوص، لكنك تكبَّدتَ عَناء تعلُّمها واستيعابها. هذا يحدُّ على الأقل من احتمال أن تكون الفكرة قد تراءت لآخَرين قبلك، وإن كان الاحتمال يظلُّ واردًا.
تتلقَّى أقسامُ الرياضيات حول العالم على الدوام رسائلَ من أناسٍ يدَّعون أنهم توصَّلوا إلى حلولِ مسائلَ مشهورة، وكل هذه «الحلول» تقريبًا تكون غيرَ صحيحة، وبدرجةٍ مُضحكة أيضًا. وبعضُها، وإن لم يكن خطأً تمامًا، فإنه لا يُشبه بُرهانًا صحيحًا لأيِّ شيءٍ حتى إنها ليست بمحاولاتٍ للحل بأيِّ حال. وأولئك الذين يتَّبِعون على الأقل بعضَ المعايير المتَّفَق عليها في الطَّرح الرياضي يستخدمون حُججًا أوَّلية جدًّا حتى إنها — في حالِ كانوا على صواب — قد اكتُشِفَت منذ قرون. ولا يكون لدى الأشخاص الذين يكتبون هذه الرسائلَ أيُّ تصوُّر حول مدى صعوبةِ الأبحاث الرياضية، ولا حول الجهود اللازمة التي تستغرق سنواتٍ كاملةً لتكوين القدْر الكافي من المعرفة والخبرة لتقديم بحثٍ أصلي ذي معنًى، ولا حول إلى أيِّ مدًى تعتبر الرياضيات نشاطًا جماعيًّا.
لا أعني بهذه النقطة الأخيرة أن علماء الرياضيات يعملون في مجموعاتٍ كبيرة، مع أن كثيرًا من الأوراق البحثية يكون مُعِدُّوها اثنَين أو ثلاثة. ما أعنيه بالأحرى أنه مع تطور الرياضيات تُبتكَر أساليبُ جديدة وتصبح لا غِنى عنها للإجابة عن أنواعٍ مُعيَّنة من الأسئلة. ونتيجةً لذلك، فإن كل جيل من علماء الرياضيات يقِف على أكتافِ سابقيه، حيث يعمد إلى حلِّ مسائل كان يُنظر إليها من قبل على أنها مستحيلة. فإذا حاولتَ أن تعمل بمعزلٍ عن الاتجاه السائد في الرياضيات، فسوف يتعيَّن عليك إذن وضعُ هذه الأساليب بنفسك وهذا يضعُك أمام عقَبةٍ تعجيزية.
لا يعني هذا الجزمُ أنه لا يُوجَد شخصٌ غيرُ محترف يستطيع أن يُجرِيَ بحثًا ذا مغزًى في الرياضيات. والواقع أن هناك مثالًا أو اثنَين على ذلك. عام ١٩٧٥ اكتشفَت مارجوري رايس، وهي ربَّة منزل في مدينة سان دييجو على درايةٍ بسيطةٍ جدًّا بالرياضيات، ثلاثَ طُرق لم تكن معروفةً قبلًا لتقسيم المستوى بواسطة مُضلَّعات خُماسية (غير منتظمة)؛ وذلك بعد قراءة المسألة في مجلة «ساينتفيك أمريكان». وفي عام ١٩٥٢ أثبتَ كورت هيجنر، وهو مدرسٌ ألماني في الثامنة والخمسين من عمره، إحدى حَدْسيات جاوس الشهيرة، التي ظلَّت دون حسمٍ أكثرَ من قرن.
ومع ذلك، لا يتَناقض هذان المثالان مع ما قلتُه حتى الآن. تُوجَد بعض المسائل التي لا يبدو أنها وثيقةُ الصِّلة بالمحتوى الرئيسي للرياضيات، وهذه المسائلُ لا يُساعد في حلِّها كثيرًا معرفةُ الأساليب الرياضية الموجودة. وكانت مسألةُ إيجاد تقسيماتٍ جديدة على شكلِ مُضلَّعاتٍ خماسية كانت واحدةً من هذا النوع: لم يكن عالِمُ الرياضيات المحترفُ مؤهلًا بقدرٍ أفضلَ حالًا من غيرِ المحترف الموهوب لحلِّها. كان إنجاز رايس أشبهَ بإنجازِ عالِم الفلَك غير المحترف الذي يكتشف مُذنَّبًا جديدًا — الشهرة الناتجة هي جائزةٌ يستحقُّها عن جدارةٍ نظيرَ بحثٍ طويل. أما عن هيجنر، فعلى الرغم من أنه لم يكن عالمَ رياضياتٍ محترفًا، فإنه لم يعمل حتمًا بمعزلٍ تام. وتحديدًا، فقد درس بنفسه الدوالَّ المعيارية. ولا يتَّسع المجال هنا لشرحِ المقصود بالدوالِّ المعيارية؛ إذ إنها عادةً ما تُعتبَر موضوعًا مُتقدمًا للغاية حتى بالنسبة إلى مُقررِ رياضياتٍ في مرحلة البكالوريوس.
من المثير للاهتمام أن هيجنر لم يكتب بُرهانه بطريقةٍ تقليدية تمامًا، وعلى الرغم من أن بحثه قد نُشِرَ على مضض، فقد كان يُعتقَد لسنواتٍ طويلة أنه غيرُ صحيح. وفي أواخر الستينيَّات من القرن العشرين، حلَّ المسألةَ مجددًا كلٌّ من آلان بيكر وهارولد شتارك على حِدَةٍ، وعندئذٍ فقط أُعيدَ النظر في بحث هيجنر بعناية، ووُجِدَ أنه صحيحٌ في نهاية المطاف. ولسوء الحظ، تُوفي هيجنر عام ١٩٦٥ ومن ثمَّ لم يُمهِلْه القدَر أن يعيشَ ليشهد الاعتراف بأهليته.
(٨) لماذا يصفُ علماء الرياضيات بعضَ النظريات والبراهين بأنها جميلة؟
لقد ناقشتُ هذا السؤال من قبلُ في الكتاب؛ ولذا سأتناوله بإيجازٍ شديدٍ هنا. قد يبدو من الغريب استخدامُ لغةٍ جمالية للإشارة إلى شيءٍ جامد في ظاهره مثل الرياضيات، لكن — كما شرحتُ (في نهاية مناقشة موضوع «تغطية شبكةٍ من المربعات بإزالة الأركان») — قد تُضفي البراهينُ الرياضية قدرًا من الاستمتاع، وثَمة أوجُه تشابهٍ كثيرةٌ بين هذا النوع من الاستمتاع والاستمتاع الجمالي بالمعنى المتعارَف عليه.
ولكن من أوجُه الاختلاف بينهما — على الأقل من وجهة النظر الجمالية — أن عالِم الرياضيات يكون مجهولًا بقدرٍ أكبر من الفنان. وعلى الرغم من أنَّنا قد نُعجَب كثيرًا بعالم الرياضيات الذي يكتشف برهانًا جميلًا، فالقصةُ الإنسانية وراء الاكتشاف تخبو مع الوقت، وفي النهاية، فإنَّ الرياضيات في ذاتِها هي ما يُسعدنا.