الفصل الثالث
المشهد الأول
(أمام كهف بروسبيرو.)
(يدخل فرديناند حاملًا كومة حطب.)
ولكن متعتها تمحو الألم! وقد يُقدم المرء على عملٍ تافه
فيزداد به شرفًا! والغايات الجليلة قد تقتضي
أداء الصغائر! وربما استثقلتُ هذا العمل التافه
وكرهتُه، لولا أن حبيبتي التي أعمل في سبيلها
تُحيي في النفس ما يموت، وتحيل جهدي الجهيد
إلى متعةٍ ولذة! ألا إنها تتحلى برقةٍ ورهافة
تزيد عشرة أضعاف عن قسوة والدها وغلظته!
بل إن الغلظة مركبةٌ في طبعه! إذ حكَم عليَّ بحمل
الآلاف من هذه الأخشاب، وتكديسها، ١٠
وإلا عاقَبني عقابًا مرًّا! وحبيبتي الرقيقة
تبكي عندما تراني أعمل وتقول إن هذا العمل الحقير
لم يقم به شريفٌ مثلي من قبل! لقد توقفتُ عن العمل!
ولكن هذه الأفكار العذبة تزيد من طاقتي عليه،
وهكذا يزداد جهدي بالتوقف عنه!
(تدخل ميراندا، ويقف بروسبيرو في جانب المسرح؛ بحيث لا يَريانه.)
ليْت البرق قد أحرق هذه الأخشاب التي كُتب عليك جمعها!
أرجوك ضعها على الأرض واسترح! وعندما نشعلها للوقود
ستنزل منها القطرات كأنما تبكي تعبك وجهدك!
والدي منكبٌّ على كُتبه، فاسترح الآن أرجوك! ٢٠
فأنت في مأمنٍ منه ثلاث ساعات!
ما كلفني به والدك!
أرجوك دعني أحملها إلى الكومة!
وأدعك تعملين هذا العمل التافه،
ولو مزقتُ عضلاتي، وكسرتُ ظهري!
بل هو أيسر عليَّ لأنني أريده، ٣٠
ولا تريده أنت!
وهذه الزيارة دليلٌ عليها!
ما دمتِ إلى جِواري، حتى في الليل البهيم! أتوسل إليك
أن تذكري لي اسمك! ولو لأذكره في صلواتي وحسب!
يا من تُوازين أعز ما في الدنيا! ما أكثر النساء اللائي
أُعجِبَت عيني بهن! وما أكثر المرات التي ٤٠
وجدتُ أذني الدءوب أسيرةً لأنغام ألسنتهن!
وقد سبق لي الإعجاب بالكثيرات لخصالٍ متفرقة في كلٍّ منهن!
فإذا بدا أن الكمال تحقق في واحدة، ظهرَت نقيصة
تنقض أفضل شمائلها، وتطمسها أو تلغيها!
أما أنتِ! أنتِ أيتها الكاملة التي لا تُضارَع،
فلقد خلقكِ الله من أفضل صفات الإناث جميعًا!
ولا أذكر وجه امرأةٍ أخرى
إلا وجهي الذي أراه في مرآتي! بل لم أشاهد ٥٠
من أستطيع أن أدعوه رجلًا سواكما، أنت يا صديقي الكريم،
ووالدي العزيز، وأما ملامح الآخرين من رجالٍ ونساء
فلا علم لي بها، ولكنني أقسم بعفتي،
جوهرة صداقي، إنني لا أرجو رفيقًا لي
في الدنيا غيرك، لا ولا يستطيع خيالي
أن يصوِّر شكلًا يحبه سواك أنت!
ولكن ها أنا ذا أتكلم على سجيتي فأشتط،
ناسية بذلك أوامر أبي!
أصبحتُ ملكًا، ولو أنني لا أتمنى ذلك، ولا أطيق — إذَن —
عبودية نقل الحطب أكثر مما أطيق ذبابةً واحدة
تحطُّ على فمي! فلْتسمعي حديث روحي إليك:
في اللحظة التي شاهدتُك فيها أول مرة،
طار قلبي إليك شوقًا لعبادتك! وأقام لدَيك
حتى يستعبدني! ومن أجلك أصبحتُ حمَّالًا صَبورًا للحطب!
ولْتكلِّلا اعترافي، إذا قلتُ الصدق،
بتاج الهناء والعطف! وأما إن كان كذبًا
فلْينقلب ما كُتب لي من نعيم، إلى بؤسٍ وشقاء! ٧٠
إن حبي وتقديري وإجلالي لكِ يفوق حدود
ما أُكنُّه لكل شيءٍ آخر في الدنيا!
بركاتها على ما رأى النور بينهما!
ما أرغب في منحه، ولا أن آخذ منك،
ما يقتلني عدم الحصول عليه! ولكن كلامي هذا لا يجدي،
فكلما اجتهد حبي في التخفي، زاد كشفه عن ذاته! ٨٠
لا بد أن أتخلى عن الخجل الذي يدفعني إلى المراوغة!
بل سوف ألتزم الصراحة في إطار البراءة المقدسة!
أنا زوجتك إن أردتَ الزواج،
وإذا لم تكن تريده، فسوف أقضي حياتي عذراء في خدمتك!
قد ترفض أن أكون رفيقة لك، ولكنني سأكون
خادمةٌ لك، شئتَ أم أبيت!
هاكِ يدي!
حتى نلتقي بعد نصف ساعة!
(يخرج فرديناند وميراندا منفصلَين.)
وإن كنا قد فُوجِئنا جميعًا بما حدث!
ولكن فرحي به يفوق فرحي بأي شيءٍ آخر!
لا بد أن أعود إلى كتبي، فلا بد أن أنجز أعمالًا كثيرة
في هذا الصدد، قبل موعد العشاء.
(يخرج.)
المشهد الثاني (من الفصل الثالث)
(جانبٌ آخر من الجزيرة.)
(يدخل كاليبان وستيفانو وترينكولو.)
نذوق قطرة ماءٍ واحدة قبل ذلك! وإذَن فلنشرب ولنجرع!
اشرب نخبي يا خادمي الوحش!
فحسب، ونحن ثلاثة منهم، فإن كانت عقول الآخرين مثلنا
انهارت الدولة!
أن يغرقني، ولقد سبحتُ خمسة وثلاثين فرسخًا، مقبِلًا مدبِرًا،
قبل أن أصل إلى الشاطئ! قسمًا بضوء النهار، سوف أجعلك
نائبي يا وحش، أو حامل لوائي!
ترينكولو … فليس مقدامًا!
منازلة أي شرطي! عجبًا لك يا من تشبه السمك! يا أيها
الفاجر! هل يجبن رجلٌ شرب؟ هل تكذب كذب الوحوش،
ونصفك كالسمك والآخر وحشي؟
العصيان، فسوف تُشنَق على أقرب شجرة! الوحش المسكين
من رعاياي ولن أسمح بأي إهانة له!
الطلب الذي رفعتُه إليك؟
(يدخل آرييل غير مرئي.)
تحايَل وخدعني واستولى على جزيرتي!
أتمنى أن يقضي عليك أستاذي المقدام!
ولست كذابًا!
فأُقسِم بقبضتي أن أخلع بعض أسنانك!
أخذها مني أنا! فإذا استطاعت عظَمتكم
أن تثأر لي منه؛ وأعلم أنك تستطيع
وهذا المخلوق لا يستطيع!
وعندها تستطيع أن تدق مسمارًا في رأسه! ٦٠
أتوسل إلى عظَمتكم! سدد إليه اللكمات،
وخُذ تلك الزجاجة منه! فإذا ذهبَت الزجاجة،
لن يشرب إلا ماء البحر! فلن أدله على الينابيع العذبة
الدفاقة!
فإذا قاطعت هذا الوحش بكلمةٍ أخرى، فأقسم بقبضتي
أن أطرد الرحمة من قلبي، وأضربك حتى أبططك
مثل شرائح السمك! ٧٠
ما دمت تحب الضرب، فكذِّبني مرةً أخرى!
لعنة الله على زجاجتك! هذا ما يفعله النبيذ والشرب!
فليهلك وحشك، وليأخذ الشيطان أصابعك!
وعندها تستطيع أن تستولي على كتبه
ثم تهشم رأسه، أو تهوى بخشبةٍ على جمجمته،
أو تغرس وتدًا في بطنه،
أو تقطع رقبته بسكينك،
لا تنس أن تستولي على كتبه أولًا،
فبدونها لن يقِل بلاهةً عني! ولن يستطيع ٩٠
أن يأمر عفريتًا واحدًا فيطيعه!
وكلهم يكرهونه كرهًا عميقًا مثلي!
لا تحرق إلا كتبه! فلدَيه مواعين جميلة —
وهذا هو الاسم الذي يطلقه عليها —
وهو يريد أن يزين بها منزله عندما يصبح له منزل!
أما ما يجب أن تتأمله بعمقٍ فهو جمال ابنته
وهو نفسه يرى أنها لا تُبارَى ولا تُجارَى! لم أشاهد
في حياتي من النساء غير سيكوراكس، والدتي، ١٠٠
وتلك الفتاة، وشتان ما بين الاثنتَين!
وتنجب لك أجمل ذرية!
ملِكًا وملكة — حمانا الله من العيون! — وتصبح أنت
وترينكولو نائبين للملك! ما رأيك في هذه الخطة يا ترينكولو؟
لسانك طول عمرك! ١١٠
هل تقتله خلالها؟
فلنمرح إذَن! هل تبدأ الأغنية الجماعية
التي تعلمتها منك منذ قليل؟!
شيء معقول! اسمع يا ترينكولو! هيا نغني معًا!
(يغنِّي.)
(آرييل يعزف اللحن على الناي بمصاحبة الدف.)
فاظهر في أي صورةٍ تريدها!
الرحمة!
أستطيع أن أرى عزاف الدف الخفي! ما أبرعه في العزف!
(يخرجون.)
المشهد الثالث (من الفصل الثالث)
(منطقةٌ أخرى في الجزيرة.)
(يدخل ألونزو، وسباستيان، وأنطونيو، وجونزالو، وأدريان، وفرانشيسكو، وآخرون.)
سيدي! إن عظامي الهرمة تؤلمني! ونحن نسير في متاهةٍ
بلا شك! مرة يستقيم الطريق ومرة ينحرف!
لا بد أن أستريح قليلًا، بعد إذنك!
وأخمد نشاطي، لا بأس! اجلس واسترح.
لقد بدأتُ أتخلى عن الأمل، ولن أسمح له أن
يستمر في خداعي. لقد غرق ابني
بعد أن ضللْنا الطريق في البحث عنه، والبحر يسخر
من بحثنا عبثًا على البر! ١٠
اسمع! إن كنت فشلتَ مرةً في تحقيق ما اعتزمتَه
فلا تتراجع عنه أبدًا!
ولن ينتبهوا إلينا، بل لن يستطيعوا ذلك،
مثلما انتبهوا وهم مستريحون!
(موسيقى ورزينة غريبة، وبروسبيرو في أعلى المسرح (غير مرئي)، تدخل أشكالٌ غريبة متفرقة، وتأتي بمائدةٍ عامرة، وترقص حولها مع إيماءات التحية والترحاب، ثم تدعو الملك ورفاقه إلى الطعام قبل أن تنسحب وتخرج من المسرح.)
عن وحيد القرن! أو أن في بلاد العرب شجرةً واحدة
تتخذها العنقاء عرشًا لها، وأن العنقاء تتولَّى الحكم الآن!
سأقسم إنها قد وقعَت، وإن الرحالة لم يكذبوا أبدًا،
وإن كان المغفلون في بلدنا لا يصدقونهم!
لو قلت إنني رأيتُ من بين أهل الجزيرة —
فلا شك أن هؤلاء من أهل الجزيرة — ٣٠
من يتخذون أشكالًا غريبة، ومع ذلك —
وانتبه لكلامي — يزيدون رقة وطيبة عن الكثيرين
من بني جنسنا، بل عن أيٍّ منهم تقريبًا!
شرٌّ من الشياطين!
من هذه الأشكال وهذه الحركات وهذه الأصوات التي —
حتى دون لسان — تتحدث نوعًا من الحديث الصامت الرائع!
ولدَينا بطون! هل تحبون أن تذوقوا ما تركوه هنا؟
أحدٌ منا يصدق في طفولته أن بعض سكان الجبال
لهم رقابٌ متهدلة كالثيران، وفي حلوقهم زوائد لحمية
مثل الأكياس؟ أو أن بعض الناس لهم رءوس في صدورهم؟
وهو ما يؤكده لنا الآن كل من راهن على ألا يعود الرحالة
بنسبة خمسة إلى واحد!
إذ أشعر أن أجمل ما في العمر قد مضى! قم يا أخي الدوق!
انهض وشاركنا ما نفعل.
(برقٌ ورعد. يدخل آرييل في صورة «هاربي» وهو طائرٌ
خرافي ضخم له وجه امرأة، ويصفق بجناحيه على المائدة،
وبحيلةٍ بارعة تختفي المائدة.)
يسخر الدنيا وما فيها لتحقيق غاياته، قد
قضى بأن يلفظكم البحر، وهو الذي لا تتخم له شهية،
ويلقي بكم على ظهر هذه الجزيرة، التي لا يعيش فيها البشر،
لأنكم أقل بني البشر جدارة بالعيش، لقد أصبتُكم بالجنون؛
بل بالإقدام الذي يجعل الرجال ينتحرون شنقًا أو غرقًا!
(ألونزو وسباستيان وآخرون يستلُّون سيوفهم.)
يا لكم من حمقى! ما أنا وزملائي ٦٠إلا جنود القدر! أما العناصر التي صُنعَت منها سيوفكم
فلن تستطيع انتزاع ريشةٍ واحدة من ريشي،
إلا إن استطاعت أن تجرح الرياح المدوية، أو تقتل
المياه بطعناتٍ تثير السخرية؛ إذ لا يلبث سطح الماء أن يلتئم!
وزملائي الجنود مثلي، من المُحال أن يُصابوا بأذًى!
وحتى إن كنتم قادرين على جرح أحد، فسوف تجدون
سيوفكم قد ثقلت ولم تستجب لقوتكم
بل لن تستطيعوا رفعها! أما رسالتي إليكم، فهي أن
أذكِّركم أن ثلاثتكم قد خلعتُم بروسبيرو الصالح ٧٠
من عرش ميلانو، وألقيتم به مع ابنته البريئة في البحر،
وها هو قد عاقبكم! بل إن الملائكة
التي تطيع من يمهل ولا يهمل، ومن أغضبَته جريمتكم،
قد أثارت البحار والشطآن، بل وجميع المخلوقات
حتى تحرمكم السكينة! لقد حرمَتك ابنك يا ألونزو!
وها أنا ذا أعلن أنها قضَت بالهلاك البطيء عليكم،
وهو أسوأ من الموت الذي يأتي دفعةً واحدة؛
إذ يقتفي آثاركم أينما تكونوا، وأما الغضب
الذي قد يقع على رءوسكم في هذه الجزيرة الموحشة ٨٠
فلن تتَّقوه إلا بالندم الصادق على ما فعلتم
وحياة الطهر والبراءة بعد ذلك.
(يختفي في الرعد، ثم تعود الموسيقى الهادئة، وتعود
الأشكال الغريبة إلى الدخول، وتنخرط في الرقص ساخرة
بالحركات والإيماءات، ثم تخرج وهي تحمل المائدة.)
يا آرييل الحبيب! لقد مثَّلتَ الدور برشاقةٍ خلابة
وأطعتَ تعليماتي فلم تُسقط كلمةً مما كلفتُك بقوله!
وهكذا فعل خدمي الأقل شأنًا منك؛ إذ أدوا المهام التي
تناسب كلًّا منهم بدقةٍ رائعة فأضفوا عليها حياةً دافقة!
كما إن تعاويذي السحرية تفعل فعلها فيهم،
فها هم أولاء أعدائي يتخبطون في حبائل حيرتهم وذهولهم!
وأصبحوا جميعًا تحت سيطرتي! سأتركهم في نوبات همومهم ٩٠
وأزور فرديناند الصغير — الذي يحسبون أنه غرق —
وكذلك محبوبته ومحبوبتي العزيزة!
(يخرج.)
الوقفة الذاهلة والحملقة الغريبة!
تكلَّمَت وحدَّثَتني عن فعلتي! بل لقد أشار إليها
نشيد الريح في أذني! وأما الرعد، ذلك المزمار العميق
الرهيبة من مزامير أرغن الطبيعة، فقد نطق باسم
بروسبيرو! كأنه الصوت القراري في نشيد آثامي
وهي التي تسببت في أن يرقد ابني في الطين بقاع البحر ١٠٠
سأنشده في أعمق بقعة لم يصل إليها مقياس الأعماق
فأرقد معه في الطين!
(يخرج ألونزو.)
(يخرج سباستيان وأنطونيو.)
مثل السم الذي لا يفعل فعله إلا بعد فترةٍ طويلة،
بدأَت تُقرَض خيوط عزيمتهم. أرجوكم يا من تتمتعون بنضرة
الشباب أن تسرعوا إلى اللحاق بهم!
امنعوهم من فعل ما قد يدفعهم هذا الجنون
إلى فعله!
(يخرج الجميع.)