(١) في الثقافة العامة والتربية عند العرب قبل الإسلام
قامت للعرب قبل ظهور الإسلام ثلاث حضارات عريقة، اتصفت كل واحدة منها بالرقي العمراني
والعقلي، وكانت كل واحدة منها تكمل سابقتها. وأول تلك الحضارات حضارة عرب اليمن في
الجنوب، وثانيها حضارة عرب الشمال في تدمر والجزيرة والشام، وثالث تلك الحضارات حضارة
عرب الحجاز ونجْد التي يبدأ عهدها من أواسط المائة الثالثة بعد الميلاد إلى ظهور
الإسلام في المائة السابعة للميلاد.
ولقد كُتبت عن الحضارتين الأوليين كتب كثيرة، وقامت بعض البحوث العلمية المتعلقة
بحضارتَي الشمال والجنوب العربيين، وإن تلك الكتب والبحوث على الرغم من قلتها أبانت
طرفًا لا بأس به من التقدُّم العلمي والعمراني والسياسي الذي بلغه أسلافنا في تلك
الديار، ولكن حضارة وسط الجزيرة العربية لا نعرف عنها إلا معلومات ضحلة لأسباب
كثيرة.
منها: أنه لم يصلنا أي أثر مكتوب موثوق عن تلك العصور وعن مدارك أهلها في النواحي
العقلية والعلمية إلا الشعر وبعض الأقوال والحِكم المنثورة التي لا تغني كثيرًا في هذا
الباب.
ومنها: أن كل من كتبوا في هذا الموضوع من المسلمين أو أكثرهم قد صوَّروا تلك العصور
صورة قتيمة مغرقة في الجهالة والحمق ليبيِّنوا فضل الإسلام وقوة أثر الحركة
المحمدية.
ومنها: أن دراسات علمية صحيحة تعتمد على دراسة الآثار وبحوث طبقات الأرض وعلم الأجناس
فيما يتعلق بعرب وسط الجزيرة لم تُجرَ حتى الآن، ولم يَقُم بها أحد من علماء الاستشراق
فضلًا عن الشرقيين والعرب أنفسهم.
ومنها: أن طول العهد بيننا وبينهم، وامتزاج تاريخنا العربي بكثير من الأساطير
والخرافات، وعدم قيام دراسات تاريخية علمية صحيحة تعتمد على أصول النقد، لَمِمَّا يجعل
التعرف إلى حقيقة تاريخ تلك الحقب أمرًا عسيرًا.
ومنها: أن كتاباتِ من كتب في هذا الموضوع من المستشرقين والمبشرين وبعض شعوبيي
الكُتَّاب الشرقيين والمسلمين والعرب كتاباتٌ لم تَخْلُ من الغرض أو الجهل.
١ ولهذا كله عزمت في دراستي هذه أن لا أعتمد إلا على نصوص ثابتة لا يمكن أن
يتطرق إليها الشك ولا يمكن أن يُطعَن في صحتها، لثبوت وصولها إلينا بطرق موثوقة، أو على
أخبارٍ تناقلها الرواة المأمونون الذين تعضد أقوالَهم الشواهدُ التاريخية الموثوقة
والبحوث العلمية الحديثة.
وإن أول تلك النصوص وأوثقها بلا ريب هو «القرآن»؛ فإنه خير ما يمكن الاعتماد عليه
في
تبيُّن الحياة العقلية والحضارة العربية قبل البعثة النبوية. ويليه في المرتبة بعض
القصائد الشعرية المروية عن شعراء ما قبل الإسلام أو عن شعراء الإسلام؛ فإنهم قوم
نشَئُوا قبل الإسلام، وتربَّوْا في البيئة العربية التي سبقت الإسلام؛ فهم من نتاج تلك
البيئة، وأقوالهم تمثلها تمام التمثيل على الرغم من تأثرهم بالإسلام.
وسأتناول في بحثي هذا ما يتعلق بالحياة العقلية وما إليها، وأصرف النظر عن الخوض في
شأن الحضارة العربية قبل الإسلام؛ فإن لهذا مجالًا آخر. وسيرى القارئ فيما نُورِدُ من
الأدلة أن أكثر الكُتَّاب الذين كتبوا عن تلك العصور، والتي أرادوا أن يَسِمُوا أهلها
بِسِمَة «الجهل» ويطبعوها بطابع «الجاهلية»؛ لم يكونوا منصفين في أحكامهم، وأن فيما
قرَّروه عنهم جنايةً على الحقيقة والتاريخ. وإنه لَمِن السخف أن يُسمَّي ذلك العصر ﺑ
«الجاهلية»؛ لأنه بعيد كل البُعد عن الجهل، وأن ما ورد في القرآن من ذكر الجاهلية لم
يكن مقصودًا به إلا الدين وما إليه.
يذهب بعض الباحثين من المستشرقين مثل الفيلسوف المستشرق كارَّا دي فو في كتابه «مفكرو
الإسلام»
٢ والبروفسور غولد زيهر في كتابه «العقيدة والشريعة في الإسلام»
٣ والبرنس كايتاني في كتابه الضخم «تاريخ سني الإسلام»
٤ إلى أن نمو الإسلام وتكوينه كان متأثرًا تأثرًا عميقًا بالأفكار والآراء
الهيلينية، وأن نظامه التشريعي متأثر بالفقه التشريعي الروماني، وأن تصوُّفه وفلسفته
ليسا إلا تمثُّلًا لتيارات الأفكار الهندية والأفلاطونية الحديثة، وأن الإسلام قد صهر
ذلك كله وأخرج للناس مجموعة أفكار نشرها فيهم على أنها دين جديد … ويغالي غولد زيهر
فيقول: «إن تبشير النبي العربي ليس إلا مزيجًا منتخبًا من معارفَ وآراءٍ دينية عرَفها
أو استقاها بسبب اتصاله بالعناصر اليهودية أو المسيحية التي تأثر بها تأثرًا عميقًا،
والتي رآها جديرة بأن توقظ عاطفة دينية حقيقية عند بني وطنه … لقد تأثر بهذه الأفكار
تأثرًا وصل إلى أعماق نفسه وأدرك بإيحاء قوَّته التأثيرات الخارجية، فصارت عقيدة انطوى
عليها قلبه، كما صار يعتبر هذه التعاليم وحيًا إلهيًّا، فأصبح — بإخلاص — على يقين بأنه
أداةٌ لهذا الوحي …»
٥
ويقول البارون كارَّا دي فو: «إن المسلمين يرَوْن أن التشريع الإسلامي — أي الفقه
ومباحثه — ذو علاقة قوية بالدين، بل هم يذهبون إلى أنه جزء منه وأن الفقه كله مأخوذ من
الوحي — أي من القرآن — كسائر أجزاء الدين. ولمَّا كان في القرآن شيء من الإيجاز فقد
عمدوا إلى توضيحه بالآثار؛ أي بسنن النبي والصحابة والتابعين. هذه هي النظرية
الإسلامية؛ وبِناءً عليها ذُكر الفقه في الكتب الإسلامية على أنه وليد القرآن والآثار
الإسلامية، من غير إشارة إلى أصول أجنبية قط.
وهذه النظرية لا تثبت عند النقد، وإذا قرأ إنسان بعض آيات الأحكام ثم قرأ صفحتين
من
إحدى مبسوطات الفقه، رأى الفرق الواضح بين الاثنين؛ فذلك نص ساذج عليه مسحة البداوة،
وهذا تحليل منطقي علمي دقيق على آثار الثقافة، ذاك شبه مسودة جافة بالية قائمة في
الصحراء، وهذا بحث ممحَّص مصقول متَّسق مع التطور المدني. هاتان هما حالتا الإسلام
اللتان ينبغي شرحهما، فمن أين جاءت قوانين القرآن، ومن أين جاءت قوانين الفقهاء؟! ولست
أريد أن أنكر — بادئ الرأي — طرافة القرآن، ولكني لا أرى مساغًا من الإشارة إلى أن تلك
القوانين الفقهية متأثرة تأثرًا عميقًا بالتلمود والقوانين المسيحية، وقد تكون هناك بعض
بقايا العادات العربية القديمة التي وجدت لها منفذًا في بعض الأحوال.»
٦ فأنت ترى من هذه الأحوال أن الفقه وما إليه ليس للعقلية العربية فيه من أثر
إلا بعض بقايا العادات القديمة العربية، أما ما فيه من منطق وبحث وتشريع فهو إما مأخوذ
من تلمود اليهود أو قوانين النصارى. وليس البارون كارَّا دي فو وغولد زيهر وحدهما
اللذين يقولان هذا القول الظالم؛ فإن كثيرًا من المستشرقين قد قالوا مثله، كالبروفسور
ديمومين في كتابه عن النُّظم الإسلامية، والسنيور سانتلانا في مشروعه للقانون المدني
التونسي الذي وضعه سنة ١٨٩٩، والبروفسور فون كرامر في كتابه «المباحث الإسلامية»؛ فإنهم
كلهم ذهبوا هذا المذهب ووصفوا العقلية العربية بالقحط والنضوب، لا قبل الإسلام فقط بل
بعده كما ترى. وواضح من هذا أن روح التعصب قد أملت هذه الأقوال لأن صلات النبي
ﷺ
والمشرِّعين الإسلاميين بعده باليهود والنصارى لم تكن صلاتٍ قويةً بحيث يتدارسون هذه
الأمور مع اليهود والنصارى، ويفيدون منهم الفوائد العقلية التي تجلَّى أمرها في القرآن
والحديث من سنة وآثار. ثم إن اليهود في الجزيرة العربية ونصاراها كانو يهودًا ونصارى
مستعربين أو بداة يعيشون معيشة العرب ويفكرون مثل تفكيرهم، ولم يكونوا قط أرقى منهم في
مستوى الفكر، ولا أفضل منهم درجة في العلم. ونحن إذا قرأنا الشعر اليهودي العربي الذي
خلَّفه لنا يهود الجزيرة قبل الإسلام أو في صدر الإسلام، نرى أنه شقيق الشعر العربي في
أفكاره وألفاظه ومعانيه؛ وفي هذا دليل على أن القوم من عرب ويهود — بل ونصارى — يعيشون
على صعيد فكري واحد، وأن تمسُّك اليهود والنصارى بدينهم لم يكن تمسكًا متينًا، ولا كانت
معرفتهم بالنصرانية واليهودية إلا معرفة ضحلة، وإلا ظهر ذلك في أقوالهم
وأشعارهم.
وبعدُ فإن مذهب المستشرقين في تبيين العقلية العربية قبل الإسلام وبعده مذهب خاطئ
مغرض، ولم يفكر واحد منهم — على كثرتهم — بدراسة أوضاع العرب قبل الإسلام والفحص عن
حالتهم العقلية ومستواهم الفكري، وإنه لَمن المعقول جدًّا أن يتأثر النبي وكبار الصحابة
وفقهاء عصره والتابعين من بعده بالبيئات الأجنبية القريبة منهم؛ ولهذا نرى أن من واجب
الباحثين أن ينصرفوا إلى دراسة عصر ما قبل الإسلام ليُثبتوا حقيقة ما كان عليه القوم
والدرجة العلمية والثقافية التي كانوا عليها.
إن أركان الدين المحمدي هي خمسة: التوحيد، والصلاة، والصوم، والزكاة، والحج.
فلنبحث عما كان عند القوم قبل ظهور الإسلام من هذه الأمور حتى نتبيَّن الأثر الجديد
الطريف الذي جاء به الرسول من التالد الذي أحياه مما كان عليه حنفاء العرب قبل الإسلام؛
فإن في الكشف عن ذلك تبيُّنَ حقيقة عقلية القوم ومستواهم الفكرى والثقافي، وليس في هذا
القول غضٌّ من قدر الإسلام ولا انتقاص من رسالة محمد — عليه السلام — فإن الله يقول:
وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُوا ۗ قُلْ
بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ،
٧ وما جاء محمد بغير الحقيقة التي كان جاء بها رسل الله من قبلُ إبراهيم
وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم.
أما التوحيد فقد عرفه عرب الجاهلية لا خاصَّتهم فحسْب، مثال خالد بن سنان الحكيم
المتأله (٤٠ق.ﻫ)
٨ وأكثم بن صيفي الواعظ الرشيد (٩ﻫ) وغيرهما، بل عامتهم. وليس هذا القول
بالقول العجيب؛ فإن الحقيقة التي جاء بها إبراهيم وابنه إسماعيل — عليهما السلام —
والتي تقول بتوحيد الله وتصفه بالكمال والجلال والقدرة والعلم وغير ذلك من صفات
التنزيه؛ كانت معروفة — بل وشائعة — بينهم، وإن الأصنام والأوثان والآلهة المتعددة ما
اخترعتها عقول العرب إلا للتقرُّب بهم إلى الله العلي القدير، قال تعالى:
وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ،
٩ وقال أيضًا:
وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ
لَيَقُولُنَّ اللهُ ۖ فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ،
١٠ وقال:
وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لَا
يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَٰؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ
اللهِ،
١١ وقال:
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ
طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن
كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ۙ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ
لَهُ الدِّينَ،
١٢ وقال:
وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ ۖ فَأَنَّىٰ
يُؤْفَكُونَ،
١٣ وقال:
اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ
عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ ۚ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ *
وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ
مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللهُ ۚ قُلِ الْحَمْدُ لِلهِ ۚ بَلْ
أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ،
١٤ فهذه الآيات وغيرها تدل على أنهم كانوا مؤمنين بالله القوي العزيز العليم
الخالد الضار النافع الرزَّاق، وأن هذه الأصنام والتماثيل وسائط وشفعاء إليه.
وأما الصلاة، فما هي إلا أدعية وحركات تعبدية مع التوجُّه إلى الكعبة. وقد كانت للعرب
قبل الإسلام صلاة ذات طقوس وحركات وأدعية كما تدل عليها آية:
وَمَا
كَانَ صَلَاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً ۚ فَذُوقُوا
الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ،
١٥ قال القاضي البيضاوي في تفسير هذه الآية: «المكاء الصفير، والتصدية
التصفيق. رُوي أنهم كانوا يطوفون عراة الرجال والنساء مشبكين بين أصابعهم يصفِّرون بها
ويصفقون.»
١٦ وكلمة «الصلاة» في هذه الآية تعني أن العرب كانت لهم في جاهليتهم صلاة ذات
طقوس معينة كما يُفهم من كلام القاضي البيضاوي؛ وبهذا يتبيَّن خطأ ما يقرره الفقهاء من
أن كلمة صلاة بمدلولها الديني المعروف إنما هي من الكلمات الإسلامية التي استحدثها
الدين الجديد؛ فليس صحيحًا ما يقرره الفقهاء واللغويون من أن هذه الكلمة كانت تعني في
الجاهلية الدعاء فحسب، وأنها خُصصت في الإسلام فقط بهذا النوع المخصوص من العبادة. ثم
إن ذكر المكاء والتصدية يُفهم منه أنه كانت لهم حركات وأنغام وإشارات في صلواتهم، وليس
هذا غريبًا؛ فقد أمر الله سبحانه إبراهيم وإسماعيل أن يطهرا بيته للطائفين والعاكفين
والركع السجود؛ فلعلَّ بعض هذه الطقوس «الصَّلوية» قد بقي عند العرب مما قبل الإسلام،
بل نكاد نجزم بذلك لِما رُوي أن زيد بن عمرو بن نُفيل — أحد العبَّاد الحنفاء الموحدين
قبل الإسلام — كان يقوم ببعض الحركات التعبدية أمام الكعبة، وأنه كان يسجد
أمامها.
وأما الصوم، فهو الإمساك عن الطعام أو الشراب أو الحديث أو غير ذلك،
١٧ وقد كان العرب في جاهليتهم يصومون في العاشر من المحرم، وروى الخارق عن
عائشة بنت أبي بكر أم المؤمنين أنها روت في حديثٍ لها أن قريشًا كانت تصوم في الجاهلية
يوم عاشوراء؛ أي اليوم العاشر من المحرم، وأنه كان يوم ستر الكعبة، وأن النبي
ﷺ
كان يصومه قبل بعثته، ويروي السيوطي في كتاب الوسائل عن الخطيب البغدادي أن أول من صام
آدم — عليه السلام — ثلاثة أيام في كل شهر، وعن أبي حاتم الضحَّاك أن الصوم الأول صامه
نوح فمن دونه حتى صامه النبي محمد
ﷺ وأصحابه، وكان صومهم في كل شهر ثلاثة أيام
إلى العشاء، وهكذا صامه النبي
ﷺ.
١٨
وأما الزكاة، فهي صدقة تُعطى لبيت المال كما تُعطى للفقراء بشرائط معيَّنة. وقد كان
للعرب قبل الإسلام أنواع من الصدقات يعطونها للفقراء أو الحكام. قال المجد الفيروزآبادي
في القاموس: ««مكس» في البيع إذا جبى مالًا، والمكس الظلم ودراهم كانت تؤخذ من بائعي
السلع في الأسواق في الجاهلية، أو دراهم كان يأخذها بعد فراغه من الصدقة.» وقال ابن
الأثير في النهاية في شرح قوله
ﷺ «إذا لقيتم عاشرًا فاقتلوه»: أي إن وجدتم من
يأخذ العشر على ما كان يأخذه أهل الجاهلية مقيمًا على دينه،
١٩ وأخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن زيد قال: سمعت رسول الله
ﷺ يقول: «يا
معشر العرب، احمدوا الله الذي وضع عنكم العشور.» وقال الرسول
ﷺ: «ليس على المسلم
عشور، إنما على اليهود والنصارى.» ففي هذه النصوص والأحاديث ما يدل على أن العرب قبل
الإسلام كانوا يزكون أموالهم، ويدفعون جزءًا من أموالهم للحكام.
وأما الحج، فكانوا يقومون به، وهو مما ورثوه من ديانة إبراهيم — عليه السلام — فقد
كان العرب يعظِّمون الكعبة — ولو كانوا نصارى أو متهوِّدين أو متمجسين — فكانوا يحجون
ويعتمرون ويُحرِمون ويطوفون ويمسحون الحجر الأسود ويسعَوْن بين الصفا والمروة ويلبُّون
ويقفون المواقف كلها ويهدون الهَدْيَ ويرمون الجمرات وغير ذلك من مشاعر الحج
٢٠ التي تبنَّاها الإسلام واستبقاها من طقوسه.
فإذا كانت هذه هي حال أركان الإسلام الخمسة، تبيَّن لنا سخف نظرية هؤلاء المستشرقين
الذين يريدون أن ينسبوا كل شيء جاء به الرسول العربي إلى تقاليد اليهود والنصارى
ومحاكاة الأمم الأخرى ناسين أو متناسين أنه ﷺ نشأ في بيئة لها ثقافتها، وتربى في
إقليم له حضارته، فيجب أن يظهر أثر ذلك في تعاليمه، كما يجب أن يتجلى طابع بيئته في
طقوس دينه، وليس في هذا ما يضير الدين السماوي، ولا ما يضع من قدر النبي، أو يغضُّ من
سمِّو رسالته؛ فإن لله نواميس لا يخالفها.
بعد هذه المقدمة التي بيَّنت لنا أن العرب لم يكونوا في جاهلية دينية عمياء، وأن مَن
وصموهم بها كانوا مخطئين، ننتقل إلى بيان الحالة العقلية للعرب قبل الإسلام فنقول: إن
أبرز ما تتجلى به العقلية العربية هو: نظرات أهلها العميقة في الألوهية، وتفوقهم
اللغوي، ورُقي مستواهم الأدبي، وسعة نظراتهم في بعض نواحي العلم، ونشوء الكتابة بينهم
على ما بيَّناه آنفًا.
(٣) لمحة من تاريخ التعليم في القرون الإسلامية الخمسة
إن صح ما نقلناه عن الرسول والخلفاء الراشدين من أحاديث الحضِّ على العلم، وما سننقله
في الفصول الآتية من أخبار الكتاتيب ودور العلم والتدريس في عهد رسول الله والخلفاء
الراشدين، فإن التعليم بدأ بقوة عند المسلمين منذ فجر الإسلام؛ فقد أثبتت هذه النصوص
أن
الرسول وخلفاءه الراشدين اهتموا بالتعليم ونشر مبادئ الكتابة وقواعد الدراسة على ما
سنفصله بعد.
ولما استولى بنو أمية على الخلافة زادت عناية المسلمين بالتعليم وابتدأ الناس بدراسة
القرآن والحديث والفقه والأدب وعلوم الأوائل،
٣١ وقد انتقص بعض العلماء من نصيب بني أمية في العناية بالعلم ونشر التعليم،
وأبرز هؤلاء العلماء أستاذنا المرحوم أحمد أمين في كتابه القيم «فجر الإسلام»؛ فقد جزم
بأن الأمويين لم يُعنَوْا أصلًا بالدراسات العلمية والبحوث الدينية والتاريخية، وإنما
كان همهم الشعر وما إليه؛ لأنهم لما بنَوْا دولتهم على الدكتاتورية اضطُروا إلى جذب
الشعر إليهم لتمجيد أعمالهم والتغني بأمجادهم، لما كانوا عليه من حبِّ التقاليد
الجاهلية، فقد قال بعد أن ذكر أنه قامت في صدر الإسلام ثلاث حركات علمية، هي: الحركة
الدينية، والحركة التاريخية، والحركة الأدبية، وأن هذه الحركات الثلاث كانت تتساند؛
فأصحاب المذاهب الدينية اعتمدوا في تعليمهم على الفلسفة والكتاب والسنة، والمؤرخون
والقصَّاصون كانوا يستمدون بعض معلوماتهم من القرآن والحديث، والمفسرون والمحدثون كانوا
يستعينون بالشعر والأدب على تفهُّم القرآن: «والذي يظهر لي أن الأُمويين لم يشجعوا من
هذه الحركات الثلاث إلا الحركة الأدبية والقصص الرسمي؛ ففتحوا أبوابهم للشعراء
والخطباء، وبذلوا الأموال وعيَّنوا القصَّاص في المساجد ولم يفعلوا شيئًا من ذلك
للعلماء والفلاسفة. ولعل السبب في ذلك أمران؛ الأول: أن حكم الأمويين بُني على الضغط
والقهر، فكانت حاجتهم إلى الشعراء والقصَّاص أشد؛ لأنهم هم الذين يُبشرون بهم ويشيدون
بذكرهم، ويقومون في ذلك مقام الصحافة … والثاني: أن نزعة الأُمويين نزعة عربية جاهلية
لا تتلذذ من فلسفة ولا من بحث ديني عميق، إنما يلذ لها الشعر الجيد، والخطبة البليغة،
والحكمة الرائعة. قال المسعودي: كان عبد الملك بن مروان يحب الشعر والفخر والتقريظ
والمدح، وكان عماله على مثل مذهبه. وشأن أكثر بني أمية شأن عبد الملك نستثني منهم خالد
بن يزيد بن معاوية؛ فقد كانت له نزعة فلسفية كما أسلفنا فوق نزعته الأدبية … كما نستثني
عمر بن عبد العزيز؛ فقد كانت له نزعة دينية وقد شقي به الشعراء … إذا عدونا هذين —
خالدًا وعمر — لم نجد كبير أثر للأُمويين في تشجيع الحركة الفلسفية والدينية والتاريخية
كالذي نجده عند العباسيين مثلًا، ومع هذا فقد نشطت هذه الحركات من نفسها …»
٣٢
وقول أستاذنا هذا مردود لأمرين؛ أولهما: أن الاستبدادية التي كان عليها بنو أمية
لم
تكن لتمنعهم من الانصراف إلى العلم، فأية علاقة لنشر العلم والحضِّ عليه وتعميمه بين
طبقات الناس باستبداد الحكَّام، فقد كان ممكنًا مع استبداد الخلفاء الأمويين وضغطهم على
الناس وقهرهم … وحبهم للشعر وتشجيعهم للشعراء والمادحين أن يهتمُّوا بنشر العلم ويشجعوا
العلماء والفقهاء كما شجعوا الشعراء وعطفوا عليهم؛ فإن هؤلاء أيضًا يكونون ألسنةً لهم
في المجالس العامة والخاصة، بل إنهم أكثر صلةً بالناس من أولئك، ثم إنه لا مانع من أن
ينتشر أحد الأمرين إذا ما انتشر الأمر الثاني. وثانيهما: أن البداوة التي كان يميل
إليها بنو أمية والنزعة العربية التي كانوا يتعشقونها لا يمكن أن تَحُول بينهم وبين حب
الفقه والعلم والفلسفة، كما أحبوا الشعر والأدب؛ فقد حفظت لنا المصادر نصوصًا كثيرة
تدلنا على أن منهم مَن كان يحب العلم والفلسفة والدين غير مَن ذكره الأستاذ، كما تدل
على حبهم للعلم وتشجيعهم أهله وعطفهم على الفقهاء وأهل الدين بصورة خاصة،
٣٣ فهناك أدلة كثيرة تثبت ما ذهبنا إليه، وتنقض رأي الأستاذ؛ فمن ذلك ما يرويه
لنا المؤرخون من أن عبد الملك وابنه سليمان وعمر بن عبد العزيز كانوا يرعَوْن الإمام
رجاء بن حَيْوَة، ويقدِّمون إليه كل ما يحتاج إليه في سبيل نشر العلم وتوطيد أركان
الثقافة، ومن ذلك أن خلفاء بني أمية أحاطوا الإمام الأوزاعي بكل ضروب الإكبار والرعاية،
وأعانوه على إتمام بحوثه العلمية ونشر مذهبه الفقهي في أرجاء البلاد، وقد كلَّفوه
بإقامة حلقات الدرس في جامع دمشق، بل وفي قصورهم فيها.
٣٤
ثم إن نشاط بني أمية في الحركة الفلسفية والعقائدية لم يكن أقل من نشاطهم في تشجيع
الحركة الفقهية؛ فقد رَوَوْا أن معاوية بن أبي سفيان أحضر البطريرك اليعقوبي تيودوروس
وأسقف قنسرين ليُناظرا نصارى لبنان في حضرته وبحضور نفر من العلماء، حين أخذوا يدْعون
إلى بعض عقائدهم ويدَّعون أنها الصحيحة وحدها.
٣٥ كما رَوَوْا أيضًا أن عمر بن عبد العزيز كان يناقش بنفسه بعض الخوارج في
معتقداتهم المذهبية.
٣٦ وقالوا أيضًا إن هشام بن عبد الملك كان أوصى غلامه سالمًا الرومي بالتنقيب
عن بعض كتب الحكمة اليونانية القديمة لجمعها وترجمتها إلى اللغة العربية، وإن مما تَرجم
سالم هذا بعضَ آثار أرسطو … وإذا صح هذا كان أول ترجمة عربية للفلسفة اليونانية،
٣٧ ورَوَوْا أيضًا أن سليمان بن عبد الملك قال: «عجبت لهؤلاء الأعاجم! ملكوا
ألف سنة فلم يحتاجوا إلينا ساعة، وملكنا مائة سنة فلم نستغنِ عنهم ساعة.»
٣٨ ولا ريب في أن سليمان لم يقصد بالاستعانة بالأعجام إلا في النواحي الثقافية
والحضارية والإدارية، أما فيما عدا ذلك فإن بني أمية معروفون ببُغضهم لكل ما هو غير
عربي. وقال الراغب الأصفهاني: إن المنصور بعث إلى مَن في الحبس مِن بني أمية مَن يقول
لهم: ما أشدُّ ما مرَّ بكم في الحبس؟ فقالوا: ما فقدنا من تأديب أولادنا …
فهذه الأقوال وغيرها تدل دلالة قوية على أن للأُمويين نشاطًا في ميادين العلم والحكمة
والفلسفة والتشريع، وعنايةً بوضع بذور الحركة الثقافية والعقلية في الإسلام.
فليس من العدل أن نغمط حق بني أمية — غفر الله لهم — في هذا المضمار، وليس من الحق
أن
نعدل عن إنصافهم في هذا الباب، وليس من الإنصاف مقارنتهم ببني العباس، فأين زمان هؤلاء
من زمان أولئك؟ وهل يقاس القرن الأول للهجرة والإسلام غض الإهاب، رطب العود، مبتدئ
الحركة، بالقرنين الثالث والرابع اللذين اكتملت فيهما قوى الإسلام واشتد ساعده؟
والحق أنه لما تولى الخلافةَ بنو العباس وجدوا الطريق معبدة أمامهم؛ فقد كان سابِقوهم
من بني أمية وبني مروان شرعوا في أمر الترجمة عن كتب اليونان والفرس والهند، وبدءوا في
وضع بذور غراس العلم والحكمة والجدل وعلوم الدين، فتمم بعدهم بنو العباس ما كانوا
شارعين به، وعُنُوا عناية زائدة بنشر علوم الدين والحكمة، وبخاصةٍ علوم الأدب وما إليه
من شعر ونثر وعربية، حتى ازدهرت العلوم والفنون وبلغت أوجها في عهدهم مما لا مجال
للتحدث عنه الآن، ولكن لا يسعنا أن نهمل ناحيةً من نواحي نشاطهم العلمي في هذا الصدد،
ألا وهو تأسيسهم لبعض المؤسسات الثقافية، كدور الكتب ودور الحكمة التي كان يتولى أمرها
بعض كبار العلماء كالفيلسوف الترجمان سَلْم الذي أخذ ينقب عن مهرة التراجمة وكبار
الفلاسفة، ويعهد إليهم بالعمل معه لوضع أسس الحركة الفلسفية المنظمة على ما سنفصله فيما
بعد،
٣٩ والحق أن ما عمله سلم هذا كان نواة للحركة العلمية الرسمية إن صح هذا
التعبير.