الذكرى الأولى
للطفولة أسرار ومميزات ولكن من ذا الذي يستطيع وصفها! من ذا الذي يستطيع تعليلها، لقد اجتاز كلٌّ منا ذلك العمر الذي تشبه ذكراه ذكرى غابة هادئة مسحورة، وخَبَرَ يومًا فيه فتح عينيه المملوءتين بدهشة السعادة على سناء الحياة الجديدة الفائضة في روحه. يومذاك لا ندري أين نحن ومن نحن: بل العالم كله يخصنا ونحن ملك العالم بأسره. حياة تخال دائمةً بلا بداية ولا نهاية لا هم فيها ولا ألم. القلوب عندها صافية كسماء الربيع، عذبة كعرف البنفسج، مطمئنة قدسية كصباح أيام الأحد.
ماذا يطرأ على الطفل فيقلق فيه هذا السلام الإلهي، وكيف تنتهي تلك الحياة المشبعة سذاجة وطهارة؟ أي العوامل يحول معاني كيانه، ويميت فيه الشعور بالاتحاد والتضامن؟ أي العوامل يعلمه تمييز المفرد من الجمع، فينتبه ليجد نفسه في معترك الحياة وحيدًا كئيبًا؟
لا تقل، يا ذا الوجه العبوس، إن ذلك العامل هو الخطيئة! أو هل يجني الطفل إثمًا ويقترف ذنبًا؟ بل حري بك أن تعترف أننا لكل شيء جاهلون وإنه ما علينا سوى الاستسلام والامتثال.
أهي الخطيئة التي تنبت البذرة زهرة، وتنضج الزهرة ثمرة، ثم تفنى الثمرة وتذرها هباءً؟
أهي الخطيئة التي تحول الحشرة دودةً وتجنح الدودة فراشةً، وتذر الفراشة هباءً؟
أهي الخطيئة التي تسير الطفل رجلًا، وتشعل منه الرأس بشيب الشيخوخة، ثم تهمد الشيخ جثةً، ثم تذر الجثة هباءً؟
وما هو هذا الهباء الذي تضيع فيه الصور؟ ألا فاعترف بأننا لكل شيء جاهلون وإنه ما علينا سوى الامتثال والاستسلام!
ولكنه يحلو التلفت إلى ربيع الحياة وإلقاء نظرة على هيكل التذكار، سواء أكنا من العمر في قيظ الصيف أو حزن الخريف، أو زمهرير الشتاء. بل لا بد من ساعات فيها يناجي القلب ذاته قائلًا: «وأنا أيضًا أشعر بالربيع متيقظًا في!»
هذا ما أشعر به اليوم. وتراني مستلقيًا على ندى العشب في الغابة العطرية لأريح جسمي المضني. أرفع بنظري إلى زرقة السماء البادية من خلال الوريقات الخضراء وأفكر: «ترى كيف كانت طفولتي؟»
أخالني ناسيًا كل شيء لأن صفحات الذاكرة الأولى تشبه التوراة القديمة المحفوظة في العائلة أي أن أوراق الاستهلال منها ذابلة متجعدة ملوثة، ولا تتيسر القراءة إلا بعد صفحات وصفحات، عند السطور المحدثة عن طرد آدم وحواء من الفردوس.
طفولتي بعيدة العهد يفوتني كثير من حوادثها ولا أعي أيامها القصوى، أعود بأحلامي إليها، وأنتقل منها إلى الأبدية التي سبقتها، وتظل البداية المبهمة متراجعة أمامي كلما تتبعها فكري القاصر، لأن فجر الحياة يختفي في ظلمات الغفلة والحداثة. وأنا في ذلك كالطفل يبحث عن نقطة ارتكاز السماء على الأرض فيعدو حثيثًا وتلبث السماء مجددة آفاقها، فيتعب الطفل وتكل قدماه ولا ينال من بغيته شيئًا.
على أني ما زلت أذكر أول مرة رأيت النجوم وكانت النجوم تعرفني منذ زمن طويل. كنت في ذلك المساء على ركبتي والدتي، ورغم ذلك سرى البرد في جسدي واستولى عليّ الخوف، فانتبهت لذاتي الصغيرة انتباهًا غير عادي. ورفعت والدتي أصبعها مشيرة إلى النجوم اللامعة، فدهشت وفكرت «بأي لباقة صنعت أمي كل هذا!» وعادت الحرارة إلى جسدي وأظنني استسلمت للنوم.
وأذكر كيف اضطجعت مرة على العشب الأخضر وكل ما حولي يموج ويهتز ويطن ويهمهم، فاقتربت مني جماعة مخلوقات صغيرة مجنحة ذات أقدام متعددة وحلت على جبهتي قائلة: «نهارك سعيد.» فشعرت بألم في أجفاني وصرخت مناديًا أمي، فجاءت وقالت: «يا بني المسكين، ها قد لسعتك البعوض.» ولم أتمكن من فتح عيني لأرى زرقة السماء. وكانت أمي تحمل طاقة بنفسج نضير فأحسست بالأريج المسكن ذي الزرقة القاتمة يخترق دماغي. ومنذ ذلك اليوم ما رأيت باكورة البنفسج إلا انتعشت تلك الذكرى في حافظتي فأغمض عيني لعل سماء ذاك العمر تخيم علي مرةً أخرى.
شفيت، فانبسط أمامي عالم لم أعهده يفوق منه الجمال جمال الكواكب ويفضل منه العطر عطر البنفسج. وكان صباح عيد الفصح، فأيقظتني والدتي باكرًا فوقفت أنظر إلى الكنيسة القديمة القائمة إزاء النافذة. لم تكن جميلة كنيسة طفولتي، إنما كانت شاهقة، جدرانها ذات منظر مهيب، باذخة قبتها يعلوها صليب مذهب، وتبدو أقدم جميع المنازل المجاورة.
ولطالما تمنيت تعرف من يسكنها فنظرت من شباك الباب الحديدي، وأطلت النظر مرة وكان الداخل خاويًا خاليًا رطبًا وليس ثمة نفس واحدة، فصرت أفزع كلما مررت بها فأعدو طلبًا للهرب.
ولكن في ذلك الصباح، صباح عيد الفصح، أمطرتنا السماء في الضحى رذاذًا ثم بزغت الشمس في أبهى حلة من الأنوار فبهجت جدران الكنيسة القديمة وتألق سطحها المصفح الأشهب، ولمعت نوافذها الكبيرة، وسطعت القبة بسناء صليبها الذهبي سطوعًا مدهشًا تناول كل شيء منها وحواليها. وبدا النور السائل من النوافذ الكبيرة حيًّا متموجًا وأبهى من أن يمكن التحديق فيه، فأغمضت عيني. إلا أن النور العجيب ما زال يفيض على روحي جاعلًا جميع الأشياء لامعة عطرة ترن وتنشد.
خلت حياة جديدة تنبض فيَّ، كأن شخصي الأول تبدل بشخص آخر، وإذ سألت عن الأصوات الفخمة المتصاعدة من أعماق الكنيسة قالت والدتي: إن هذا نشيد الفصح. لم يتسن لي إلى اليوم معرفة ذلك النشيد الذي هبطت أنغامه على روحي، ولا ريب أنه من تلك المزامير الرائعة التي تسربت إلى روح لوثر الصارمة. ولم أعد أسمعه مرة أخرى. أما الآن فعندما أصغي إلى موسيقى بيتهوفن أو مزامير مارسلو، أو أجواق هيندل، وأحيانًا عندما أسمع الأغاني الساذجة في جبال اسكوتلندا والتيرول، أشعر بأن نوافذ كنيستي القديمة تسطع بنور باهر، وأن عالمًا جديدًا ينفتح أمامي من عالم الكواكب وأعذب من عرف البنفسج.
هذا ما علق بذهني من تذكارات طفولتي يتخللها وجه أمي الحنونة وعينا أبي العميقتان، وحدائق وأشجار أعشاب مخملية الخضرة، ودالية تحمل العناقيد الناضجة، وكتاب جليل حافل بالصور الملونة، التوراة. هذا كل ما أميزه على الصفحات الأولى من ذاكرتي الذابلة.
لكن ما يعقبه واضح جلي. أرى ملامح الوجوه التي اعتدت مشاهدتها وأنادي أصحاب هذه الوجوه بأسمائهم: أبي وأمي، وأخواتي وإخوتي، والأصدقاء والمعارف والمعلمون وبعض الغرباء …
أواه! يا لحلاوة تذكار تركه الغرباء في فؤادي! ويا لعمق موضع روحي نقشت فيه أسماؤهم!