الذكرى الثالثة
غيوم الحزن لا تبقى طويلًا في جو حياة الطفل بل تتبدد بتدفقها من عينيه دموعًا. لذلك عدت بعد أيام إلى القصر فأعطتني الأميرة يدها وأتيح لي تقبيلها. وجاءتني بأولادها الأمراء والأميرات فأنشأنا نتقاسم الألعاب ونتشارك في الملاهي شأن الذين يرجع عهد تعارفهم إلى سنوات خلت. تلك أيام هنيئة لأني بعد ساعات المدرسة، وكنت بدأت أذهب إلى المدرسة، كان لي أن أتوجه إلى القصر فأجتمع برفاقي وبين أيدينا ما يشتهي قلب الطفل من لعيبات ودمى كثر ما أرتنيها والدتي وراء زجاج الحوانيت الكبيرة، قائلة: إنها باهظة الثمن قد تكفي الواحدة منها لإعالة العيلة الفقيرة أسبوعًا كاملًا. ومثلها كتب الصور الجميلة التي أبصرت أبي يقلبها عند أصحاب المكاتب ويقول: إنها لا تشترى لغير الأولاد الصالحين. ها هي لي الآن في القصر أقرؤها وأتمعن في صفحاتها ساعات طويلات، لأن كل ما يخص الأمراء الصغار يخصني، أو بالأحرى هذا ما أزعمه. إذ لا تقصر حريتي على استعمال ذلك المتاع الصبياني عند أصحابه. بل أنا مخير في أخذ ما أريد منه إلى البيت وفي التصرف به وإهدائه إلى أولاد آخرين. وزبدة القول أني كنت اشتراكيًّا بأوسع معاني الكلمة.
وكانت الأميرة تلبس يومًا أفعى ذهبية التفت حول زندها التفاف الحياة والإحساس، فدفعت بها إلينا لنلهو. وعند الانصراف لويت الأفعى حول ساعدي لأرعب أمي في الظلام، فلقيت في طريقي امرأة توسلت إلي أن أريها الأفعى ففعلت، فتنهدت وقالت إنها لو ملكتها لخلص بثمنها زوجها من غيابات السجن. فلم أتردد لحظة في مساعدتها، ومضيت أعدو تاركًا المرأة والسوار الذهبي بين يديها.
وحدث في الغد جلبة وضوضاء إذ جيء بالمرأة إلى القصر تبكي وتنتحب وقد اتهمت بأن اغتصبتني الأفعى، فاستشطت غضبًا وصرحت بتحمس وحدة: إني وهبتها السوار ولا أروم استرداده. لا أدري ماذا جرى بعدئذ. على أني صرت منذ ذلك اليوم أعرض على الأميرة كل ما أحمله معي إلى البيت.
مر زمن قبل أن تتسع أفكاري فأدرك معنى خاصتي وخاصتك. وطال اختلاط المعنيين في ذهني كما طال عجزي دون التمييز بين اللونين الأحمر والأزرق. وآخر مرة ضحك مني أصحابي لمثل ذلك، كانت يوم أعطتني والدتي نقودًا لأبتاع تفاحًا. أعطتني عشرين بارة وكان ثمن التفاح نصف هذه القيمة. فقالت البائعة بصوت خلته حزينًا أنها لم تبع شيئًا منذ الصباح وليس لديها من النقود ما ترده إلي، وتمنت أن أشتري تفاحًا بعشرين بارة، فتذكرت أن في جيبي قطعة نقود أخرى من ذوات العشر بارات، وسررت أن أحل المشكل بنقدها تلك القطعة قائلًا: «الآن تستطيعين أن تردي العشر بارات الباقية.» فلم تفهمني المرأة المسكينة بل أعادت إلي قطعة العشرين بارة واستبقت لنفسها قطعة العشر بارات.
كنت أذهب كل يوم أشارك الأمراء في ألعابهم وأتعلم معهم الفرنساوية. ومنذ ذلك الحين أرى صورة ترتفع من أعماق ذاكرتي، هي صورة ابنة الأمير الكبرى الكونتس ماري التي توفيت والدتها إثر وضعها، فتزوج الأمير بعدئذ بالأميرة الحالية. تتصاعد تلك الصورة في شفق ذاكرتي بتمهل وإبهام، فهي في البدء خيال سابح في الهواء يتشكل ويتكيف قليلًا قليلًا مقتربًا مني، حتى يقف أخيرًا أمام نفسي ساطعًا كالبدر يشق حجاب الغيوم بعد زوبعة شديدة ويبرز فينير وجه الليل. كانت الفتاة أبدًا مريضة تتألم صامتة. ولم أرها حياتي إلا ملقاة على سرير نقال يحمله إلى غرفتنا رجلان، ويحملانه منها إذا هي تعبت وأشارت. هناك كانت ترقد بين الأنسجة البيضاء شابكة يديها على صدرها، ووجهها شاحب وإنما مليح لطيف وعيناها عميقتان لا قرار لغورهما. فأقف حيالها مشتت الفكر، وأحدق في عينيها متسائلًا ما إذا كانت هي الأخرى من «الغرباء». فتضع يدها على رأسي فتعتريني هزةٌ وألبث جامدًا صامتًا بلا حركة ولا كلام، وكل قواي تطل من حدقتي على تينك العينين العميقتين اللتين لا قرار لهما.
كانت تكلمنا نادرًا غير أن نظرها يرقب كافة ألعابنا. ولم تكن تتذمر مهما أفرطنا في رفع الصوت وإكثار الجلبة بل تنقل يديها إلى جبهتها العاجية وتغمض عينيها كمن يستسلم للنوم. وتشعر بتحسن صحتها في أيام أخرى فتستوي فوق مضجعها ونرى على وجنتيها نضرة الفجر الباكر، فتحدثنا الأحاديث المسلية وتقص علينا الحكايات المدهشة. لست أدري كم كانت سنها، على أنها كانت باعتلالها الطويل وضعفها شبيهة بالأطفال يداريها الجميع، ويذكرونها برفق واحترام وينعتونها «بالملك» ولم أسمع عنها يومًا سوى الكلمة الطيبة. أما أنا فكنت أقف حيالها خاشعًا، وعندما أراها صامتة بائسة وأفكر في أنها لن تعرف يومًا لذة النهوض والسير من مكان إلى مكان بمجرد دافع الإرادة، وأنها ليس لديها من عمل تؤديه ولا من مسرة تتمتع بها، بل إن سريرها هذا في الحياة إنما هو رمز نعش يضمها في الممات، إذ ذاك أسائل نفسي لماذا جاءت هذا العالم وهي أهل لأن تذوق راحة رضية في حضن الله، أو أن تحمل على أجنحة الملائكة البيضاء على ما نراه ممثلًا في الصور المقدسة. ثم أشعر بوجوب مقاسمتها آلامها لئلا تقاسي وحدها جاهلة أن قربها قلبًا يتألم لها ويحتمل معها. ولكن كيف أبوح لها بما يجول في خاطري وأنا غافل عن وجوده؟ كل ما كنت أعلم أنه لا يجوز لي أن ألقي بنفسي على عنقها لئلا أسبب لها كدرًا وغمًّا، فأكتفي بالابتهال إلى الله من أعماق قلبي أن يريحها من سقامها.
أدخلت علينا في يوم حار من أيام الربيع وهي شاحبة كل الشحوب، أما عيناها فكانت أشد لمعانًا وأبعد غورًا، فجلست على مضجعها ونادت بنا وقالت: «اليوم تذكار مولدي. حبذا العيشة معكم طويلًا، ولكن قد يدعوني الله إليه في القريب العاجل. ولما كنت راغبة في أن لا تنسوني تمامًا بعد رحيلي جئت كلًّا منكم بخاتم يلبسه الآن في السبابة ويظل ينقله إلى الأصبع المحاذي كلما مرت الأعوام حتى يستقر في الخنصر وهناك يبقى مدى الحياة.»
وعمدت إلى خواتم خمسة في أصابعها فنزعتها الواحد بعد الآخر وعلى وجهها أمارات حزن عميق يمزجه حبٌّ ولين، فأغمضت عيني كيلا أبكي، فأعطت أخاها الأكبر الخاتم الأول وقبلته، ودفعت الخاتمين الثاني والثالث إلى أختيها الأميرتين، وكان الخاتم الرابع نصيب الأمير الأصغر، وقبلتهم جميعًا. وكنت أقف قربها محدقًا في يدها البيضاء وفي الخاتم الوحيد الباقي في أصبعها. ثم استقلت على سريرها منهوكة القوى فتبع حركتها نظري والتقى بنظرها ففهمت بلا ريب ما يدور في خلدي وسمعت ما يهمس به قلبي لأن ألحاظ الأطفال شديدة التعبير بليغة المعنى. حزنت لإعراضها، ولو حاولت مراضاتي الآن ما رضيت أن أنال الخاتم الأخير لأن التخلف إنما يدل على أني غريب لا تخصني بإعزاز ولا تحبني محبتها لإخوتها وأخواتها. وصرت متوجعًا كمن فتح أحد عروقه أو قطع بعض أعصابه، ولم أعد أدري أني أوجه نظري لأخفي كربتي.
فجلست من جديد ولمست جبهتي مرسلة في عيني نظرة استقصاء واستقراء أشعرتني بأن ما من سر فيَّ إلا اكتنهته الفتاة وما من فكر إلا قرأته. وسحبت الخاتم الأخير من يدها متمهلة وقالت: «وددت أن يصحبني هذا الخاتم يوم أفارقكم ولكن البسه أنت فذلك خير. وفكر فيَّ عندما أصير بعيدة عنكم. اقرأ الكلمات المنقوشة عليه «كما يشاء الله». أما قلبك هذا فمفعم حرارة ورقة، ألا فلتروضه الحياة وتنمه دون أن تقسيه!» ثم قبلتني كما قبلت إخوتها وأعطتني الخاتم.
ما أصعب الوصف وما أعصاه! يومذاك كنت أكاد أكون صبيًّا، فكيف يتفلت قلبي من سحر ذلك الملك المتألم ولطفه؟ كنت أحبها كما يحبها الصبي، والصبيان يحبون بحرارة وصدق وطهارة قل منهم من يحب بها في الشبيبة والرجولة، على أني ذكرت أنها من «الغرباء» الذين حرمت علي المجاهرة بحبهم. إنما شعرت بتقارب روحينا وبتلامسهما بأرق ما تتلامس به أرواح البشر. زالت المرارة من قلبي ولم أعد أشعر بأني وحيد في العالم، ولم أعد أشعر بأني غريب عنها تفصل بيننا هوة أو مرتبة. كنت معها، كنت قربها، وكانت روحي تلمس روحها، فحسبي.
ثم رأيت أن استبقاء الخاتم الذي ودَّت أخذه إلى القبر، رأيت أن استبقاءه معي حرمانً لها، وتعالت في نفسي عاطفة طغت على كل عاطفة سواها فقلت مضطربًا: «احتفظي بالخاتم إن شئت أن يكون نصيبي. لأن ما لك هو لي.» فأطالت النظر في وجهي دهشةً متأملة، ثم تناولت الخاتم ووضعته في أصبعها وقبلت جبهتي مرةً أخرى وقالت بصوتها العذب الرقيق: «أنت لا تدري ماذا تقول، أيها الفتى، فحاول أن تفهم نفسك لتسعد وتسعد الآخرين».