الذكرى الخامسة
وبدأ لنا عيش رغيد، إذ كنا نجتمع كل مساء فشعرنا بمتانة صداقتنا ورسوخها وأضحى ضمير الجمع «أنتم» طفيليًّا بيننا فعمدنا بالمخاطب المفرد «أنت» نستعمله كأننا لم نفترق منذ الطفولة أصلًا. لم تصف عاطفة إلا تهادى خيالها في نفسي ولم أبسط فكرة إلا أشارت مصادقة كمن يقول «هذا فكري أيضًا.» كنت سمعت أعظم أساتذة الموسيقى في عصرنا يرتجل وشقيقته ألحانًا على البيانو فأذهلني أن يتآلف فكر شخصين اثنين ويتوحد شعورهما فيوضحان إلهامهما الموسيقي في آن واحد على أتم انسجام لا تخونهما شاردة ولا تشد في إبداعهما واردة. أما الآن فقد اتسع فكري فأدركت. اتسع فكري فعلمت أن روحي لم تكن فارغة مدقعة قاحلة، وإنما توهمتها كذلك لاحتجاب الشمس عنها وهي كفيلة بإخراج البراعم والأزهار إلى الوجود والحياة. ورغم ذلك كان الربيع حزينًا وخيمت منه فوق نفسينا أوشحة رمادية لأن شهر مايو/أيار ورونقه لم ينسنا أن الورود سريعة العطب وأن كل مساء ينزع من زهرة اجتماعنا ورقة. سبقتني هي إلى الشعور بذلك وذكرته يومًا دون أن تبدي أسفًا أو ألمًا، فانقلبت أحاديثنا جدية هادئة ينيلها كل مساء يمر رصانة وجلالًا.
قمت أودعها مرة فقالت: «ظننت الموت قريبًا عندما أعطيتك الخاتم، ولم أتوقع أن أعيش هذه السنوات. ولكني عشتها وتمتعت بالجمال كثيرًا. كذلك تألمت شديدًا. إنما المرء ينسى هذا في السعادة. والآن وقد قربت ساعة الفراق فكل دقيقة توازي كنوزًا. مساء الخير. لا تبطئ غدًا.»
دخلت عليها يومًا وعندها مصور إيطالي. كان حديثهما بالإيطالية، ومع أن الرجل كان أقرب إلى العامل منه إلى الفنان كانت لهجتها لطيفة وديعة يخالطها شيء من الاحترام، فتجلى لدي عندئذ شرفها الحقيقي أي شرف النفس لا شرف المولد. وبعد ذهاب المصور قالت: «أريد أن أريك صورة أصلها في قصر اللوفر في باريس. قرأت وصفها فشئت أن تنقل لي.» ثم أرتني الصورة وانتظرت حكمي. وكانت تلك صورة كهل في الزي الألماني القديم، تلوح على محياه سيماء التفكر والامتثال لقوة عليا، وقد بدا في هيئته وأوضاع جسمه معنى الحياة العميق، فلم أرتب قط في أنه عاش يومًا ولم تبدعه مخيلة مصور. كان اللون البني القاتم متغلبًا في الصورة، على أن الجزء الخلفي استحضر مشهدًا طبيعيًّا نيرًا وظهرت في الأفق أشعة الفجر الآتي. لم يذهلني من تلك الصورة شيء إنما أوحت إلي عاطفة هادئة استطعت معها التحديق في الرسم طويلًا. فقلت: «لا صدق يفوق صدق الهيئة البشرية. وإن روفائيل نفسه ليعجز عن إبداع صورة صادقة كهذه إن لم يعش صاحبها يومًا.»
أجابت: «صدقت. أما الغرض من هذا الرسم فهاكه: قرأت وصفه فعلمت أن اسم راسمه مجهول كما جهل اسم الأصل الذي نقل عنه، لعله من فلاسفة القرون الوسطى، فرغبت فيه ليتم به معرض الصور في غرفتي. ولما كان مؤلف «اللاهوت الألماني» مجهولًا وليس لدينا منه صورة رأيت أن صورة وضعت لشخص مجهول بريشة مصور مجهول يصح أن تنوب عن مؤلف مجهول، فإن وافقت علقتها بين ألواحي ودعوتها «اللاهوت الألماني».»
قلت: «فكرة غاية في الحسن. ولكن ربما مثلت الصورة شخصًا أقوى من دكتور فرنكفورت وأعبس وجهًا.»
قالت: «ربما كان ذلك. ولكني أنا الفتاة المتألمة السائرة إلى الموت استقيت من هذا الكتاب قوة وتعزية، ولمؤلفه علي فضل كبير لأنه أعلن لي جوهر المسيحية في بساطته العجيبة. شمتُني إزاءه حرة في أن أومن أو أن أجحد لأنه لم يرغمني على أحد هذين، وقبض علي بشدة فخيل إلي أني أدركت معنى الوحي للمرة الأولى. وأنت تعلم أنه مما يحول دون ولوج باب المسيحية الحقة أن التعاليم تبسط أمامنا كوحي علينا أن نؤمن به قبل أن يهبط الوحي على نفوسنا. وطالما قلقت لذلك: لست أعني أني شككت في حقيقة الألوهية وفي الألوهية عقيدتنا. غير أني لم أكن لأكتفي بإيمان خلعه علي الآخرون، وحسبت أن ما تعلمته وتقبلته طفلة على غير فهم واختيار لا يستطيع أن يكون خاصتي ولي. الإيمان لا يعار واليقين لا يستعار ولا يجدي التمويه نفعًا. ولا بد من اقتناع شخصي نستند إليه ونتعزى به إذ لا أحد يحيا ويموت عن أخيه.»
قلت: «لا ريب أن كثيرًا من المنازعات العنيفة والمناقشات الحادة ترجع إلى أن تعاليم المسيح عوضًا عن أن تكتسب قلوبنا شيئًا فشيئًا بلا إرغام كما تملكت قلوب الرسل والمسيحيين الأولين، فإننا نجابهها منذ حداثتنا كنصوص كنيسية قوية لا تقبل ترددًا ولا ترضى جدالًا، وتضطرنا إلى الامتثال لأوامرها امتثالًا مطلقًا تسميه إيمانًا، فلا بد من تولد الارتياب عاجلًا أو آجلًا في كل نفس تميل إلى التأمل وتجل الحقيقة. وعندما نصل إلى تلك الخطوة من السبيل فيتيسر لنا تحرير إيماننا المستعار المزعوم، تنتصب في وجهنا أشباح الشك والإلحاد والكفر وتوقف فينا نمو الحياة الجديدة.»
فقاطعتني قائلة: «قرأت حديثًا في كتاب إنجليزي أن الحقيقة تتجلى بالوحي وليس الوحي يتجلى بالحقيقة. وإني لأشعر بذلك تمام الشعور لدى قراءة «اللاهوت الألماني». قرأته فشعرت بقوة حقيقته القاهرة وأرغمت على الاستسلام. أوحيت إلي الحقيقة. بل أوحيت أنا إلى نفسي، وفهمت للمرة الأولى معنى كلمة إيمان. أصبحت الحقيقة ملكي بعد أن أطالت التملص مني لأن أقوال المعلم المجهول اخترقت كياني كتشعع الضياء وأنارت خفاياي جاعلة حيرتي اقتناعًا، وظنوني المبهمة إيضاحات جلية، فصممت على قراءة الأناجيل كما لو كانت هي الأخرى مكتوبة بقلم المعلم المجهول، وأبعدت عني ما استطعت كونها أوحيت من الروح القدس بأعجوبة إلى الرسل، وأنها صودق عليها من مجامع الأساقفة والأحبار فاحتضنتها الكنيسة باعتبار أنها الآية الفريدة العليا للدين المنقذ الوحيد. عندئذ بدأت أكتنه مع معنى الإيمان المسيحي معنى الوحي المسيحي.»
أطرقت لمحة ثم قالت: «يصعب الجواب. وطالما فكرت في كيفية استجلاء معاني الحب والتثبت من حقيقتها. كيف ندري أن شخصًا يحب أو لا يحب؟ ما وجدت إشارة واحدة من إشارات الحب إلا كانت عرضة للتزوير والتقليد، فاهتديت أخيرًا إلى أن المحب وحده يميز بين الصادق والكاذب من تلك العلامات وأنه إنما يثق من حب القلب الآخر لأنه واثق من حب قلبه. ولما كانت موهبة الحب شبيهة بموهبة الروح القدس (الوحي) كان الملهمون وحدهم إن هم سمعوا الرياح العاصفات حسبوها أصواتًا من السماء، وإن أبصروا زهرات القرنفل زعموها ألسنة نارية. والآخرون يخافون، أو يغضبون، أو يسخرون قائلين: «كلام عتيق! أما نحن فنفوسنا ملأى بخمرة جديدة.» بيد أني أعود إلى ما أسلفت وهو أن كتاب «اللاهوت الألماني» هداني إلى إيمان استخرجته من حاجات نفسي فوجدت قوتي العظمى في ما يراه غيري خطأ وعيبًا، وهو أن الأستاذ لا يبسط رأيه كقانون منظم بل ينثر أقواله كالزارع أملًا أن تقع بعض البذور على أرض صالحة فتتضاعف الغلة ألوفًا. كذلك أستاذنا الإلهي (المسيح) لم يحاول إثبات تعاليمه بالبرهان، لأن من حوى الحقيقة الكلية استخف بالمظاهر وأعرض عن جميع صنوف المباهاة والتعنت.»
ليس كل ما تدفق من منهل الكمال بالجوهر الحق وليس له من جوهر في غير الكمال. ما هو إلا حدث أو بهاء، أو مظهر محسوس. ليس هو الجوهر ولا جوهر له إلا في النار مبعث النور، شأن شعاع الشمس وضوء الشمعة.
ولئن كان ما فاض من الكيان الإلهي كلهيب النار إلا أنه لا بد أن يكون حقيقة إلهية في ذاته إذ قد يسائل المرء نفسه «وما هي النار بلا لهيب، والشمس بلا نور، والخالق بلا خليقة؟» وقيل إن الطامع في استجلاء هذه الغوامض وتفهم حكمة الله إنما رغبته هذه كرغبة آدم والشيطان.
حسبنا علمًا أننا نعكس الكائن الإلهي لنجتهد في صقل مواهبنا حتى يوم الكمال. يستحيل إخفاء النور الإلهي من نفوسنا تحت المكيال، فلندعه إذنً يلمع ويشرق ويضيء ما يحيط بنا ويبعث فيه الحرارة، لنشعر بأن دماءنا تطهرها نار الحياة. وإذ يحل فينا معنى قدسي رفيع يقوينا على اقتحام معارك العالم، وتذكرنا أصغر الواجبات بعلاقتنا بالله، لا يلبث أن يصبح الأرضي في تقديرنا سماويًّا، والزمني أبديًّا كأن حياتنا بأكملها حياة فيه تعالى، ليس الله الراحة الدائمة بل هو الحياة الدائمة. وأنجيليوس سليزيس مخطئ بزعمه أن الله لا إرادة له، في قوله: «نحن نصلي أيها الرب إلهنا لتكن مشيئتك المقدسة! ولكن اسمع وعِ: أيها المبتهل، لا إرادة لله لأنه الراحة والسكون.»
كانت الفتاة تصغي إليَّ بهدوء وانتباه، فتأملت دقيقة ثم قالت: «القوة والصحة ضروريتان لمن كان له مثل اعتقادك، وفي الأرض نفوس متعبة تعاني رهقًا شديدًا وتصبر إلى الراحة والطمأنينة لأن وحدتها تثقل عليها. تود أن يضمها السبات والسكينة إلى أحضانهما فلا يخسر العالم بذهابها ولا تأسف هي لفراقه. تلك النفوس تتعزى في هذه الدنيا بالاتحاد بالله والاستغراق في ذاته الصمدانية، وهي تفعل ذلك بداهة إذ لا رباط يربطها بالعالم وليس لها من الأطماع ما يزعج ويقلق، فتتوق إلى الراحة وتراها — كما يراها الشاعر الألماني — الخير الأسمى وترى الله راحة والراحة فيه. ثم إني أجدك ظالمًا في نقد «اللاهوت الألماني» لأنه إن قال ببطلان الحياة الأرضية فهو لا ينادي بحذفها. ويقول في مكان آخر إن السكينة والراحة لا يلقاهما الإنسان قبل الموت، إلا أنه بارتقائه الروحي يصير شبيهًا بيد الله، لا يأتي أمرًا بإرادته الذاتية بل بإرادة الله، كأنه عز وعلا اختاره ليسكن فيه. ويقيني أن من امتلأ بروح الله شعر بتلك الحضرة الإلهية فيه، غير أنه يكتم هذا السر الجليل في نفسه كما يكتم العاشق عن الملأ أسرار غرامه. أما أنا فطالما شعرت بأني كشجرة الحور المنتصبة أمام نافذتي. هي ساكنة في المساء لا تهتز وريقةٌ من وريقاتها ولا يتحرك من أغصانها غصن، وعندما يمر بها نسيم الصباح فتترنح أوراقها، يظل الجذع راسخًا هادئًا. وإذ يعود الخريف وتتناثر أوراق كانت بالأمس مفعمة حياة فيعتريها الذبول يبقى ذلك الجذع في مكانه بلا حراك مترقبًا مجيء ربيع آخر …»
لقد ألفت الفتاة هذه الحياة الروحية فمحاولة إخراجها منها إثم. أليس إني أنا أيضًا لم أفلح في التملص من هذا العالم السحري إلا بعد جهاد عنيف؟ ومن يجزم بأنه ليس هو النصيب الأفضل الذي لا يفنى وأننا لسنا بضالين نحن الذين نعدو ونكد لاقتناص منافع تحط منا الهمة وتذبل القلب وتقرض الروح؟
وهكذا كان كل اجتماع يثير مذاكرة جديدة تكشف لي وجهًا مجهولًا من نفس لا تسبر ولا تحد. لم يكن حديثها سوى تفكر وإحساس ينسجان كلامًا مسموعًا بدلًا من أن يتعاقبا في وحدة الوجدان. ولم تكن آراؤها آراء بل أجزاء حية منها عاشت معها أعوامًا لأنها كانت توردها بلا إجهاد، كبنية ملأت حجرها أزهارًا وقامت تلقي بها على العشب الأخضر. كان يسوءني أن لا أفتح كتاب روحي تقرأ فيه مليًّا كما أقرأ في كتاب روحها، ما أندر المحتفظ منا بفطرته الأصلية في وسط أكاذيب اتفاقية نقبلها مكرهين، سمها ما شئت عادات، أو أدبًا، أو تكتمًا، أو مراعاة، أو حكمة اجتماعية! وما أقل من يفلح في التلفت منها بين المخلصين المجاهدين! بل ما أندر من يذكر أن حركاته إنما هي وجه عارية، ونقاب سخرية أسدل على ملامح الحياة! نحن نكذب في كل شيء حتى في الحب، حتى في الحب الذي نسكته قهرًا، وننكر عليه التنهد والتلوي والارتعاد، ونحرجه إلى التواري عوضًا عن التجلي في الإشارات وتقديم النفس ضحية في النظرات، نكذب في الحب الذي نسكته على أن يهمس في همهمة الشعراء. كم من مرة كدت أقول لها «أنت لا تعرفينني يا بنية» ولكني كنت أشعر بأن كلماتي لا تصدق الصدق كله، فعولت على أن أترك بين يديها مجموعة أشعار أرنولد التي وردت إليّ حديثًا، وسألتها أن تقرأ قصيدة الحياة الدفينة: وكان مغزاها الاعتراف بحبي. ثم جثوت قرب سريرها وقلت «مساء الخير». فردت بقولها «مساء الخير» ووضعت يدها على رأسي، فجرت في أعصابي تلك الهزة المستحبة وهب ما رقد في جوانحي من تذكارات الطفولة، ولم أعد أستطيع حراكًا بل ظللت أنظر في تينك العينين اللتين لا قرار لغورهما حتى أفاض سلام روحها على روحي سلامًا. ثم نهضت ومضيت صامتًا، ورأيت تلك الليلة في أحلامي حورة طويلة تتلاطم الرياح حولها دون أن تهتز عليها ورقة أو يتحرك منها غصن.
الحياة الدفينة
النور يعلو ويغمر حروبنا الكلامية: انظري، ها إن عيني تراودها الدموع وأشعر بكآبة مبهمة تلتف حولي وتتمدد. أجل، نحن نعلم أننا نستطيع أن نمزح ونعلم، نعلم أننا نستطيع أن نبتسم! ولكن في مهجتي حرقة لا تلطفها كلماتك الرقيقة، ولا تسكنها منك البسمات.
أعطيني يدك واصمتي قليلًا، ولتستقر على عيني نظرة عينيك الصافيتين لأقرأ فيهما، يا محبوبتي، آيات روحك!
أواه! هل يقصر الغرام دون فتح فؤادك واستماع صوته؟
هل يحظر على المتيمين إظهار ما تكن قلوبهم؟
كنت أعرف الناس يضنون بأفكارهم لئلا يتلقاها الآخرون ببرود وجفاء، كنت أعلم أنهم يحيون ويتحركون مخدوعين خادعين، متنكرين متسترين، غرباء عن البشر، غرباء عن ذواتهم! إنما القلب بعينه ينبض في كل صدر بشري!
ولكن نحن، يا محبوبتي، أيسكت ذلك النهي الوهمي قلوبنا؟ وأصواتنا؟ أيجب أن نخرس نحن أيضًا؟ آه! ما أسعدنا إذا حررنا قلبنا، ولو لحظة، وحللنا قيود الشفاه لأن السر الذي أطبقها وختم عليها تقدس في أعماقنا!
القدر الذي سبق فعلم كيف يكون الرجل طفلًا وكيف يكون زهوقًا، وكيف تتقاذفه المطامع فيخوض ميادين الشقاق والنزاع حتى لتكاد تتحور شخصيته، فلا يتمكن من وقاية النفس الطاهرة من تلاعب الأهواء وإن أرغمها على الخضوع لناموس الكيان؛ ذلك القدر هو الذي يأمر نهر الحياة في صدرنا استطراد السير إلى الأمام.
فننسى حركة ذلك النهر الدفين وإن لازمناه وهو يجتاز عرض البحار وكنا مثله مسوقين على الدوام.
ولكن كم من مرة في ازدحام السبل.
وكم من مرة في جلبة المصارعة وضوضاء التقاتل.
يتصاعد فينا الشوق فننتبه لحياتنا الدفينة.
ويتيقظ لدينا احتياج لصرف نار قوانا التي لا تعرف السكون.
ويضنينا توق إلى البحث عن أسرار القلب النابض بعنف في أعماقنا لنعرف من أين تأتي أفكارنا وإلى أين تقصد!
كثيرٌ هم الذين يحفرون في قلوبهم وينبشون.
لكن، وا أسفاه! قل من يشغل القلب وقل من يفعمه ويكفيه!
عالجنا كل شئون الحياة فأظهرنا في كل فن حذقًا ومهارة.
على أننا لم نكن كما نحن في ذاتنا القصوى ولم نسر في سبيلنا الواحدة سريعة، ولم نفصح عن عاطفة من العواطف المتضاربة في صدرنا.
وباطلًا، حاولت أن تتكلم وتتحرك خلال تلك العواطف ذاتنا الخفية الصادقة!
فكانت أقوالنا وأفعالنا بليغة وحسنة، ولكن غير صحيحة!
وإذ يثقل الألم علينا وطأة الجهاد نسأل صغائر الحياة قدرتها المدهشة للوصول إلى النسيان والسلوان فتلبي طلبنا إذ نلتجئ إليها!
ولكن رغم كل مغالبة وكل قهر تنهض، الوقت بعد الوقت، من عمق أعماق الكيان كما من أرض قصية مجهولة، تنهض أصوات ملتبسة بائسة، وتنتشر أصداء طائفة سابحة فتملأ أيامنا كآبة وغمًّا.
إنما — وهذا نادر الحدوث — عندما نضم في يدنا يدًا محبوبة ونقرأ بعينين يعذبهما دخان الساعات ولهيبها، نقرأ بجلاء في عيني شخص آخر، وتداعب سمعنا الذي أصمه ضجيج العالم نبرات صوت عزيز.
إذ ذاك تنبسط الأنوار في أرجاء جناننا وتضرب من جديد نبضات العاطفة الدفينة وتستقر لواحظنا في محاجرها.
وينفتح كتاب القلب فنعني ما نقول، ونقف على ما نود معرفته، ويرقب الواحد منا فيض حياته ويسمع همسها الشيق، ويلمس حركتها المتتابعة، فيتمتع بالحقول اللامعة، ويتمتع بالشمس والنسيم. وأخيرًا، أخيرًا يداهم ذلك الفيض الحار هدوء حبس فيه الخيال المراوغ المدعو بالراحة: نسمة باردة تهب على وجهه، وسكون غير مرغوب فيه يهجع في صدره.
إذ ذاك تتخيله عارفًا آكامًا أشرقت عليها حياته وبحرًا تسير إليه أعمار الأنهار!